نبيل محمد درويش
القيم الجمالية والإنسانية فى العطاء الخزفى لنبيل درويش
- كانت الآنية الفخارية تعتبر على مر الأزمان تحفاً يقبل الذواقة على اقتنائها ، ويلجأ الأباطرة والملوك قديما إلى تبادلها كهدايا .فالخزاف يجب أن يكون مصوراً ورساما ونحاتاً قبل أن يبدأ فى تعلم الخزف وممارسته ، كما يدخل فى انشغالاته الكيمياء والتكنولوجيا والرياضيات ، لذلك كان الطريق الذى يوصل إلى القطعة الخزافية الفنية طريقا ً أكثر طولاً ومشقة ، وعديدون ممن بدأوا خزافين يغيرون طريقهم إلى مجالات أخرى .ومن ثم كان المجيدون المبدعون من الخزافين فى العالم يعدون على الأصابع .إن ممارسى الخزف كثيرون ، ولكن الخزاف الحقيقى الباحث فى أسرار الفن والصنعة قليل ونادر ، ومن هذا الصنف النادر الدكتور نبيل درويش المولود فى الخامس من سبتمبر 1936 والحاصل على دكتوراة الفلسفة فى الفنون التطبيقية من جامعة حلوان عام 1981.
- البداية الأولى والمسيرة:
- عندما سألت نبيل درويش عن بداياته فى الفن، سرح بباله بعيداً ثم قال : عندما كنت صغيراً ، أرسلونى إلى الكتاب ، فأنا من مواليد قرية من قرى الوجه البحرى هى ` السنطة ` القريبة من طنطا بمحافظة الغربية ، وفى الكتاب كان شيخنا يشتد فى معاملته على ، إذ كنت أشول فعمد إلى ربط ذراعى الأيسر إلى جنبى ربطاً محكماً حتى أكف عن استخدامه فى الكتابة . كان ذلك يؤلمنى ويرهقنى فلجأت إلى الهرب من الكتاب .ورحت أهيم بالحقول ، وأعتلى شجرة مفضلة لى ، أكمن بين أغصانها القوية ،أتأمل الحقول الممتدة أمامى خضراء نضرة ، وأسمع زقزقة العصافير ، وأرقب الحركة الدائرة من حولى حيث يلتحم الإنسان والحيوان بالطبيعة فى توحد متقن وأحسست بأن ما يجرى فى الكتاب نشاز ، وأن الصواب بالنسبة هو أن أرشف الطبيعة بحواسى كلها ، وأمسكت راحتاى الصغيرتان بتراب الأرض وطين الترع ، فاعتملت فى نفسى منذ الصغر الرغبة أن أصبح فنانا ، ورحت أرسم وأنحت ، ثم تبينت أننى متجه بكل جوارحى إلى فن الإنسانية الأول ، وهو الإبداع بالطينة المحروقة، فاخترت لنفسى الخزف ، والتحقت عندما شببت عن الطوق بكلية الفنون التطبيقية حيث كان من حسن حظى أننى التقيت هناك بالأستاذ الرائد سعيد الصدر ، وقد أولانى رعايته وعلمنى على أحسن صورة.
- ولكننى أيضاً رأيت أن الخزف شديد الأرتباط بفنى النحت والتصوير ، فالتحقت فى أوقات الفراغ بالقسم الحر بكلية الفنون الجميلة ، حيث كان من حظى أن درست التصوير على يدى الأستاذ أحمد زكى .كما كان من حظى أن درس لى المثال جمال السجينى الذى تعلمت منه الكثير مما أفادنى فى الخزف ، وجعلنى أيضا نحاتا ناجحا ، فقد حصلت بعض تماثيل على جوائز مثل تمثال ` الأمومة الذى هو الآن من تقنيات متحف الفن الحديث ، وقد كتبت الناقدة روضة سليم فى صحيفة المساء عن هذا التمثال تقول ` كتلة من الأبيض الناصع ، تجذبك وتشدك حتى تصل إليها وتقف فى مواجهتها وما إن تقف حتى تشدك انحناءاتها واستداراتها ومرونة الفورم ، فتجد لزاما عليك أن تدور دورة كاملة حول المرأة الملقاة أمامك بحنان مثير`
- ولئن كان النحت الخزفى يختلف عن النحت بأية خامة أخرى، وذلك لأن عملية التشكيل فى النحت الخزفى تجرى كلها عن طريق ` الدولاب ` ، وذلك بعمل كل عنصر أو جزء من التمثال على حدة ، ثم تجميع هذه العناصر أو الأجزاء معاً ، ويتم بذلك تركيب العمل النحتى الخزفى ، إلا أن نبيل درويش قد أبدع أيضا نحوتا خزفية عديدة ، استقى أشكالها من الفنون الشعبية ومفرداتها مثل الحمامة والقلة والإبريق وعروس المولد وجنية البحر و المئذنة والهلال والمشربية ، وقد استخدام فناننا هذه الرسوم الشعبية أيضا على الأوانى والأطباق ،ولكنه مارس على كل من هذه الأشكال الشعبية معالجة ذاتية فجاءت أشكالاً حرة وإن أوحت بأصولها أيضاً .
- وقد حازت مجموعة العرائس الفخارية المعلقة إعجاب مشاهدى معرض نبيل درويش فى أوائل السبعينات ولفتت أنظارهم بأسلوبها الجديد ، والجرأة فى تناول الشكل المجسم ،بعيداً عن قاعدة التمثال التى اعتاد كل من تصدى للنحت أن يلتزم بها.
- ويستطرد الخزاف نبيل درويش فيقول عن خطواته الأولى فى الإبداع الفنى ومع عظيم الفضل الذى طوقنى به أساتذتى ، فقد اتجهت إلى الطبيعة ، واعتبرتها على الدوام معلمى الأول ، فى كل صيف كنت أحمل أدواتى وألوانى وأوراقى ، وأمضى أجول فى ريف مصر، وأحط خيمتى هنا أو هناك بقرى الوجهين البحرى أو القبلى، ورسمت فى نواح كثيرة منها السنطة وكفر الزيات والفيوم وبحيرة قارون . وفى عام تخرجى ، عام 1962 ، بل قبل تخرجى بشهرين أقمت بقصر هدى شعراوى حيث كان مقر متحف الفن الحديث معرضى الأول، ولقيت رسومى وتماثيلى وأوانىَّ إقبالاً من جمهور المتفرجين مما كان باعثاً لى على بذل الجهد الشاق كى أصبح فناناً حقيقياً .
- ونظرت إلى الطبيعة ، فوجدت أن الجمال هو تعبير عن نشاط خفى ينمو ويتطور وفقاً لنظام ،والنظام يتضمن معانى التوافق والتماثل والتجدد وتوازن العلاقات وانسجام النسب .ولئن كان للظروف المحيطة بالإنسان من نفسية واجتماعية أثرها الكبير فى تقدير ما الجميل وما القبيح ، إلا أن الجميل يظل فى نظرى نشاطاً حياً ولكنه موزون.
- ونظرت إلى طينة بلدى وعشقتها فقررت أن أصنع منها شيئاً ، أن أنفث فيها من روحى ، وأبدع منها جمالاً . واستيقظت بداخلى أصوات أجدادى من خزافى ما قبل الأسرات ومن بعدهم .
- ونظراً لعراقة تراثنا فى فن الخزف أصبح الجمال بالنسبة لى على علاقة وطيدة بتراثنا المصرى فى المنتجات الخزفية .
- وقد بدأت مسيرة نبيل درويش على طريق الخزف فى كلية الفنون التطبيقية التى تخرج منها عام 1962 ثم ورشة أستاذه سعيد الصدر التى أنشأها فى الفسطاط ، كمؤسسة من مؤسسات وزارة الثقافة باسم ` مركز الخزف ` ثم لمع اسم نبيل درويش عندما قدم رسالة الماجستير فى الخزف عام 1971 مكتشفاً فيها الأسرار التكنولوجية ` لشباك القلة ` الذى برع فى صنعة خزافو العصر الإسلامى، ومضى من بعدهم سراً مستغلقاً على الباحثين.
- وفى السنوات الثلاث من 1973 إلى 1976 أعير للعمل فى تدريس التربية الفنية بالكويت .فطاف أنحاء الكويت حتى اكتشف الأماكن التى تحتوى على طينة ذات طبيعة رملية صالحة للإبداع الخزافى المحلى ، ودعا إلى أن تعتمد الكويت على خاماتها تلك كما اتجه إلى إيران والعراق وتركيا وسوريا ولبنان سعيا وراء منابع فن الخزف الإسلامى والعربى الذى هو على حد قول الناقد مختار العطار ` الأصل الحقيقى للتجديدات التى تشاهدها أوروبا الآن `.
- ثم عكف نبيل درويش على دراسة ` الخامات المحلية وإمكانية الحصول على أجسام خزفية سوداء منها تنتج فى درجة حرارة عالية ` وقد حصل عن نتائج دراستة هذه على درجة الدكتوراة من جامعة حلوان عام 1981.
- وعندما يبدأ العام الجامعى ، يمضى الدكتور نبيل درويش كل صباح إلى كلية الفنون التطبيقية ليدرس لتلامذته بقسم الخزف مادة الرسم ، ويعطيهم من تجاربه فى الخزف والرسم والنحت الكثير.
- التطعيم :
ومن أعمال الدكتور نبيل درويش الخزفية الملفتة للأنظار بألوانها التى تجمع بين الحلاوة والوقار مجموعة من الأوانى ، الرسوم التى تراها على سطحها الخزفى ليست رسوماً ظاهرية مدونة بالفرشاة ، بل هى رسوم أضحت من صميم جسم العمل الخزفى . فإذا أجريت مقطعا فى الاناء ستجد هذا اللون وهذا الخط واصلين إلى الوجه المقابل للجسم ، أى أن الخط الملون ليس رسماً على واجهته الخارجية فحسب ، بل هو من ذات الطينة الخزفية.
- ويسمى هذا النهج فى معالجة الأعمال الخزفية بين المتخصصين ` بالتطعيم ` ، ويتحقق بخلط طينة ملونة فى الجسم الخزفى كله ، وبعد الحرق فى الفرن يظهر هذا التباين الخطى اللونى ، أو بعبارة أوضح (التشكيل فى نسج الكائن الخزفى) .ولئن كانت أوساط الخزف فى العالم كله تعرف طريقة التطعيم، إلا أن نبيل درويش توصل فيه إلى درجة فائقة من الإتقان والتحكم ، وذلك بعد الدراسة الدؤوب والممارسة .وقد وضع خزافنا المصرى نصب عينيه ، وهو منكب على تجاربه كيف يمكن أن تنضج الخامة فى الفرن وتتشكل بالأشكال التى تظل تحملها غائرة فى نسيجها من سطحها إلى سطحها الآخر.وكان هذا الموضوع أحد انشغالات نبيل درويش الكبيرة إيان إعداده رسالتى الماجستير والدكتوراه .وقد أعلن عن بعض نتائج أبحاثه فى المجلات المتخصصة ، ولكن ما زالت أوراقه تحمل من الأسرار الكثير أيضاً. ويكفى أن نقول فى هذا المقام إن لكل طينة ملونة درجة انكماش معينة تختلف عن درجة انكماش الطينة الأخرى ، ويتعين التوصل إلى طريقة للتحكم فى توحد الطينات المختلفة الانكماش فى جسم خزفى واحد وفى عملية التوحد هذه يجب التحكم فى تطعيم الطينات الملونة كى يتحقق فى الكيان الخزفى انسجام الخط الرفيع والخط الغليظ ، وتعايش المساحات اللونية الصغيرة والكبيرة معاً. وقد توصل نبيل درويش فى مضمار ` التطعيم ` إلى سبق يعتبر إضافة جادة فى تاريخ الخزف ، لا على المستوى المحلى فحسب ، بل وعلى المستوى العالمى أيضاً.
- التحكم فى الاختزال :
الاختزال مشكلة تواجه الخزافيين حتى الكبار منهم ، وإذا كان الاختزال معروفاً فقد توصل الفنان نبيل درويش من ناحيته وعبر ثلاثين عاماً من العمل المتواصل فى مجال الخزف إلى مالم يتوصل إليه خزاف آخر، وحقق تحكما فى الاختزال فى إناء واحد.
- ويتم الاختزال بنزع الأوكسجين من داخل الفرن ، ومن الطينة الخزفية والطلاءات ، وذلك بإضافة الكربون إلى داخل الفرن .أما التحكم فيتم عن طريق التراكيب الكيميائية للطلاءات الزجاجية ( الجليز ) وطينات الأجسام.
- وإذا كان كل من مصور اللوحات والنحات مطالبا بأن يحقق القيم التشكيلية لعمله عن طريق الأبعاد والتوازن والملمس وشتى العلاقات الأخرى فإن الخزاف يحقق ذلك لعمله بمعاناة أشق ، فهو مقيد ثم عليه أن يمضى بعد ذلك فى معاناة الخلق الفنى من خلال فيزياء الخزف وكيميائيته ومعادلاته وتكنولوجيته ، وشتى العلاقات بين الخامة ومؤثراتها ، وعلى الأخص درجات الحرارة داخل الأفران ،متى يشعل النار ويرتفع بها ، ومتى يخفتها ، ويوصلها إلى الهمود والانطفاء ، وهكذا روابط شتى بين زمن وحيز وخامة ، على الخزاف أن تكون لديه بشأنها خبرة ، وأى خبرة ! فقد تستننفد -كى يسيطر عليها- عمره كله.
- فالمنتج الخزفى كعمل فنى متميز الجمال ، لا يكفى له أن يكون الخزاف على إلمام بمسارات الثقافة والفن عبر العصور والأوطان بل يحتاج أيضا وربما فى المقام الأول إلى المعرفة والخبرة بالمواد الطبيعية للتعرف على خصائصها وتأثيراتها .ويكون ذلك مرتبطا إلى حد بعيد بدرجات الحرارة التى تتعرض لها تلك المواد أثناء تجهيزها .وكذلك أيضا بنوعية الحريق ومن ثم نوعية الأفران وأحجامها وما تحتاجه من وقود.
- وقد بدا ذلك كله فى تميز الإنتاج الخزفى للشرق الأقصى ، الذى ارتبط بأساليب ما كانت لتنجح إلا بمراعاة نوعيات من الخامات وجدت فى أرض تلك البلاد التى اختلفت عن أرض الشرق الأوسط حيث ظهر الخزف الإغريقى والرومانى ومن قبله الخزف الفرعونى فقد أتاحت خامات الشرق الأقصى للخزاف أن ينضجها على درجات عالية من الحرارة تفاعلت معها ، فأعطت نتائج لم يتسن لخامات الشرق الأوسط أن تعطيها بسبب احتياجها إلى حرارة ذات درجات منخفضة .مما أوجد اختلافا فى الأساليب لمناسبة مقتضيات الحال.
- الطينة الزرقاء :
توصل إلى الطينة الزرقاء من قبل الخزاف الإنجليزى جوزيف ويدجورد منذ مائتى عام تقريبا.وفى الطين أيضا توصل التقليديون إلى طينة زرقاء خاصة بهم . وهذه الطينة تركيبة كيميائية خاصة تكتسى بعد الاحتراق بلونها الأزرق الذى أخذت عنه اسمها وقد أسهم نبيل درويش فى مجال هذه الطينة فتوصل إلى أزرق يعد جديداً فى درجته وعمقه ، وقد توصل ويدجوود إلى ` الأزرق السماوى` أما نبيل درويش فقد توصل إلى أزرق غامق خاص به تماماً.
- وكما توصل ويدجوود إلى طينة زرقاء سماوية ، توصل أيضا إلى لصق طينة بيضاء على طينة سوداء أو زرقاء . أما نبيل درويش فلم يقنع بما توصل إليه الخزاف الكبير ويدجوود وعمد إلى تحاشى اللصق ، دافعا ببعض أجزاء الجسم الخزافى إلى البروز باللون الأبيض وبغيره من الألوان على ` الدولاب ` ذاته .
- سر الفوهة السوداء:
- فى أواني ما قبل الأسرات أوان حيرت علماء الآثار وفنانى الخزف كيف توصل الصانع المصرى فى ذلك العصر السحيق إلى آنية ذات فوهة سوداء، جسمها بلون الفخار وقيمتها سوداء؟
- أولى نبيل درويش هذه النقطة اهتمامه في دراسته لنيل الدكتوراه التي انصبت على`الخامات السوداء ذات الحرارة العالية` فتوصل خزفيا إلى كشف اللثام عن الطريقة التى اتبعها قدماء المصريين فى صنع فوهات سوداء لآنيتهم. وكان ذلك الذى توصل إليه نبيل درويش كشفاً علمياً على مستوى الآثار وفن الخزف.
كما توصل فناننا المبدع في دراسته الجامعية تلك التى اسغرقت منه السنوات من 1977 حتى 1981 توصل إلى الرسم بالدخان على الإناء أو الطبق الخزفى، وهو ما يعتبر بدوره إضافة جديدة لفن الخزف، ويتم ذلك بالتحكم في الدخان فى أثناء عملية الاختزال. وهذه العملية ذات علاقة كبيرة بتصميم الفرن وبتركيبة الطينة ورص الأشكال داخل الفرن وعملية الحريق ونوعية الوقود ومصدر الكربون، سواء كان من الخشب أو من خامات أخرى مثل حطب القطن أو الذرة أو مصاصة القصب وهذه كلها متوفرة فى الريف المصرى.
- الإناء القديم يبوح بسره:
- ويقول الدكتور نبيل درويش في صدد اكتشافاته وإبداعاته الخزفية: إن متحف الآثار هو أستاذى، في الصالة الخاصة بمجموعة ما قبل الأسرات التقيت بسلطانية استحوذت على حبى وشدت انتباهى كنت أذهب لأراها فأنجذب إليها يوماً بعد يوم، ولو طال بعادى عنها أصاب بالقلق والاكتئاب، كما لو كان ينقصنى شىء حيوى كالهواء. كنت لا أعرف سرها حتى بعد تخرجى بعشر سنوات. ولطول رؤيتها لى أحملق فيها متمعناً، عطفت على وباحت بمكنونها جريت إلى الاستديو، وطبقت النظرية التى أسرَّت بها إلىَّ فنجحت، ولم أنم طوال الليل من شدة انفعالى، إلى أن طلع النهار فى صبيحة اليوم التالى فهرعت إلى أستاذي الكبير سعيد الصدر ، وأعلنته بما توصلت إليه ، فأخذنى إلى حضنه ، كما يفعل الأب الحنون مع ابنه ، وهنأنى لنجاحى فى اكتشاف سر من أسرار الصنعة ، كان مستغلقا السنوات الطوال قبل ذلك.
- طوق الحمامة :
- وفى صدد استخدام الرسم بالتدخين توصل نبيل درويش إلى ما أسماه` طوق الحمامة` ونجح فى أن يجعل الكائن الخزافى يكتسب ألوان الطيف مثلما على رقبة الحمامة ، وذلك عن طريق توجيه الدخان إلى الجسم الخزفى حتى تظهر فيه تلك الألوان بتفاعل الكربون وخامة الطين تحت درجة حرارة متحكم فيها ، بغير إضافة أية ألوان أو أكاسيد معدنية إلى الكتلة الطينية.
- وقد لفت هذا الكشف أنظار العالم، وبخاصة لأصوله الفرعونية الموغلة فى القدم ، فطلب متحف الفنون الشرقية بغرناطة إقتناء قطعتين من هذه الأعمال .وطلب عمدة برلين اقتناء قطعة لمتحف برلين .كما اقتنى متحف زيوريخ قطعة أخرى.
- الجوهرة :
- اذ مازلنا فى مجال الرسم بالدخان داخل الفرن ، نشير إلى أن نبيل درويش استطاع بتسليطه الكربون على جسم الكائن الخزفى أن ينفذ على بعض الأوانى رسوماً لأسكال متنوعة ، منها على الأخص ما هو أشكال آدمية
- ومنها ما هو أشكال نباتية مثل فروع الشجر، أو أشكال حيوانية مثل أحصنة وثيران ، ومنها أيضاً ما هو أشكال مجردة ، ولكنها تتحاشى على الدوام الهندسيات الجافة والزخارف المكرورة .
- وقد تسنى لنبيل درويش ، للتوصل إلى إبداعاته فى هذا المضمار، أن يدرس الرسوم والأشكال التى عرفها` فن الآنية` على ممر العصور والحضارات .واستوقفنه بالأخص الرسوم الفرعونية والإغريقية والرومانية والقبطية والإسلامية .واستقى من هذه الرسوم والأشكال الأصيلة ما يناسب متطلبات الإناء المعاصر .
- على أن نبيل درويش حقق بتعمقه فى استعمال الأسود ،أى الرسم بالدخان انتصاراً تشكيلياً وخزفياً آخر ، وهو إعطاء إحساس ` الكاراكليه ` للجسم الفخارى ، وهو ما يعنى الإحساس بأن الجسم الفخارى تشوبة تشققات بفعل الزمن والقدم .ويعد` الكاراكليه` بحق جوهرة القرن العشرين فى فن الآنية .كما عرف` البريق المعدنى` جوهرة الفن الإسلامى فى عصوره الغابرة.
- الرسم بالكربون وليس بالأكاسيد :
- يتوصل الفنان إلى الأجسام الخزفية السوداء إما باستخدام طينة تركب من أكاسيد مثل الحديد والمنجنيز تصبح بعد الحريق سوداء ، وإما باستخدام عملية الاختزال.
- وقد استخدم الصانع الفرعونى الأكاسيد كما استخدم الاختزال، ففى مجموعة ما قبل الأسرات المعروفة بالأوانى ذات الفوهة السوداء كان جسم الفوهة الأسود ناتجاً عن عملية اختزال ، أى معالجة السطوح بالكربون، أما المجموعة التى تعرف ` بمجموعة البدارى ` وقد عثر عليها فى أقصى جنوب الصعيد ، فقد تضمنت آنية رسمت عليها زخارف بالأوكسيد الأسود كما كانت مجموعات الخزف الإغريقى والرومانى مرسومة بالأوكسيد الأسود.
- وقد استخدم الكربون فى مجموعة ما قبل الآسرات بطريقة تعايش فيها الأسود مع الشكل فنياً واستعمالياً، لأن الطلاءات الزجاجية لم تكن قد اكتشفت لتطبق على الأوانى بعد.
- أما بالنسبة لآنية الأغريق والرومان ، فقد كانت سطوحها الخارجية فى أغلب الأحيان تصقل ـ ثم يرسم عليها باللون الأسود رسوماً مستقاة من ظروف البيئة وتقاليدها وأساطيرها وانشغالاتها وكان اختيار الأغريق والرومان للون الأسود اختيارًا موفقا من الناحية التشكيلية ، لأنه كان يوضع على أرضية فخارية حمراء ، وقد أجاد الخزاف الرومانى فى إعداد طينته وتجهيزها كى تصلح أرضية يرسم عليها رسومات تميزت من ناحية أولى بالوضوح الشديد .حيث كانت باللون الأسود على خلفية طوبية اللون، ومن ناحية ثانية بالثراء المضمونى إذ إنها صورت مختلف النشاط الاجتماعى والأسطورى والقصائدى لذلك العصر.
- وقد استوعب الدكتور نبيل درويش التجربتين الفرعونية من ناحية، والإغريقية الرومانية من ناحية آخرى ، واستطاع أن يرسم على الإناء مثل الرومان والإغريق ، ولكن بالكربون وليس بالأوكسيد، ويعتبر ذلك إضافة جديدة فى تاريخ الخزف .
- التطعيم والتدخين معاً :
- هل يمكن استخدام التطعيم مع التدخين فى إبداع العمل الخزفى الواحد ؟
- ليست هذه المهمة سهلة ، ولكن نبيل درويش الذى باح ` فن الآنية ` إليه بأسراره وصارت الخامة طوع بنانه ، توصل إلى الجمع بين التطعيم والتدخين فى العمل الخزفى الواحد رغم صعوبة ذلك تكنيكياً ، واستطاع بذلك أن يزاوج بين أسلوبين فى الخزف، أسلوب فرعونى صميم هو التدخين ، وأسلوب له أصول فى العصر الإسلامى، وهو التطعيم .والدكتور نبيل درويش فى كل هذا يلتقط خيوطه القومية ويمضى بها قدما إلى إرساء دعائم فن مصرى أصيل.
- إنه على الدوام يسعى إلى إبراز شخصية للخزاف المصرى فى القرن العشرين على أساس من الوعى الفنى والثقافى المتكامل القائم على حب حقيقى للعمل مع ثقة بالنفس بأن الجمال صفة غير محدودة ، ومع اعتماد كل المواد المحلية وحدها .وقد ركز أبحاثه لسنوات طوال على الفخار المحلى فى محاولة لإعطائه لمسة فنية .
- الجليز الأسود :
- فى بعض الأعمال الخزفية التى أبدعها نبيل درويش عام 1957 سعى إلى إعطاء الإحساس بالألوان المائية برهافتها وشفافيتها ورقتها .وقد سبق أن برز فى هذا الأسلوب الخزاف اليابانى هامارا الملقب بأبى خزافى العالم.
- وقد توصل الدكتور نبيل درويش فى أعماله الخزفية هذه لا إلى مضاهاة هامارا فحسب بل وإلى إكمال مسيرته ، إذ أنه عجز عن تحقيق ذلك الإحساس بالألوان المائية على الطلاء أو الجليز الأسود المعروف ` بالبلاء ميرور` فنجح نبيل حيث أخفق هو ، وسوف نرى أن اللون الأسود فى أعمال خزافنا المصرى لم يستطع أن يتغلب عليه ،حيث يقتل الألوان الأخرى الشفافة من حوله ، فاشتركت معه فى النسيج الخزفى للأطباق والآنية.
بقلم: د.نعيم عطية
مجلة إبداع ( العدد 3) مارس 1985
الخزاف نبيل درويش(1936 - 2002) من طين الأرض المصرية .. إلى رحاب العالمية
- لحظة ميلاد قطعة الفخار أو الخزف أشبه بلحظة خروج الوليد من بطن أمه ... فوسط آلام المخاض التى تكابدها الأم يخرج من رحمها ليستقبل الحياة، عندئذ تنسى كل الآلام التى قاستها منذ لحظات قليلة، بل وما سبقها عبر تسعة أشهر،وقد تملكتها فرحة طاغية بمرآه - قطعة من اللحم الأحمر - وهو يصرخ باكيا، إنها لحظة تعادل عذاب الحمل والولادة بقدر ما تعادل عطاء الدنيا كلها ... كذلك حال الفنان وهو يفتح فوهة الفرن بعد أن نضجت أوانيه على نيرانه فى درجة مئوية تزيد على الألف على مدى يوم وليلة، مزيلاً من الفوهة الواسعة للفرن قطع الطين وقوالب الطوب التى تسدها بإحكام، متحملا لسع حرارتها، مدفوعا بلهفة الأم على رؤية وليدها، وعندما تخرج الأعمال الناضجة قطعا وردية كلون اللحم البشرى، تستبد به السعادة حتى يكاد يحتضنها ولو احترق بسخونتها !
- غير أن هذه السعادة لا تتحقق إلا لمحب عاشق لإبداعاته الطينية من نوع الفنان الكبير نبيل درويش إبن قرية `السنطة` بمحافظة الغربية بدلتا النيل فى مصر، التى كانت ثقافتها المتوارثة وطبيعتها الفطرية وقيمها المتواصلة منذ آلاف السنين هى زاده الأول الذى وصل به - فى نهاية مشواره مع الفن - إلى رحاب العالمية، حيث احتلت أعماله مكانها فى أكبر المتاحف الدولية شرقا وغربا، وأضحت نظرياته العلمية فى تقنيات الخزف تدَّرس فى بعض أكاديميات الفن، فضلا عن قيامه بتدريسها بنفسه بكلية الفنون التطبيقية بالجيزة كأستاذ بها تخرجت على يديه أجيال من الفنانين منذ أواسط الستينيات حتى يوم رحيله.
- بدون هذا العشق لم يكن يستطيع أن يفض سر تقنية الخزف التى أبدعها قدماء المصريين ودفنت معهم منذ أكثر من خمسة آلاف عام ، خاصة مايتعلق بصنع الآنية ذات الفوهة السوداء والجسم الفخارى الأحمر، ولقد استدعى وصوله إلى ذلك السر أن يجلس لعدة ساعات كل يوم على مدى سنوات منصلة بعد تخرجه فى كلية الفنون التطبيقية عام 1962 .. أمام إحدى هذه الأوانى بمتحف الآثار المصرية بالقاهرة مسلوب اللب، وقد تحول بكل كيانه إلى عينين وإحساس مرهف كالوتر المشدود ، يسألها ويتوسل إليها بلهفة العاشق الولهان، يوما بعد يوم وعاما فى إثر آخر، أن تفضى إليه بسرها . وكيف يمكن أن يجمع جسمها بين اللونين من خلال حريق واحد لقطعة الطين، وكل منهما يتطلب ظروفا مختلفة كل الإختلاف أثناء الحريق ، من درجة الحرارة ونوع الوقود ودرجة الأكسجين والكربون ، كل ذلك بدون إضافة أية أكاسيد معدنية ، وعندما اكتشف السر متمثلا فى عملية إختزال الأكسجين وتصاعد الكربون إلى دخان يتم التحكم فيه وتوجيهه إلى الأماكن التى يريدها صانع الآنية وإبعاده عما سواها، جن جنونه من الفرحة، وظل مستيقظا طول الليل يحصى الدقائق حتى طلوع الفجر، لينطلق إلى أستاذه ومعلمه ` سعيد الصدر` فى مرسمه بالفسطاط يبلغه بالحدث الجلل .. لقد حقق التلميذ مالم يحققه الأستاذ وهو الرائد الأول لفن الخزف فى مصر، حيث عاش ` الصدر` عمره كالعابد فى محرابه، مستلهما تراث أجداده وحضاراتهم المتعاقبة من العصر الفرعونى إلى العصر القبطى إلى الاسلامى والشعبى ، ومكملاً خبراته الأكاديمية فى إنجلترا على يد أكبر أستاذ للخزف بها وهو البروفيسور برنارد ليش، كأول مبعوث مصرى إلى الخارج فى هذا المجال عبر تاريخ مصر الحديث.
- قد يسأل القارىء مندهشا : وعلام كل ذلك ؟ .. ما أهمية أن تكون فوهة الأنية سوداء أو حمراء أو أى لون آخر ؟ .. أليست فى النهاية مجرد آنية لحفظ وسائل أو لوضع الزهور بها مثل أى آنية استعمالية أخرى ؟.. والإجابة هى نعم ولا فى الوقت ذاته ... نعم لأن آنية الفخار( التى تتحول إلى خزف عندما يضاف إليها الطلاء الزجاجى ذو البريق المعدنى) ارتبطت منذ فجر البشرية بالغرض النفعى: من ضرورات الحياة إلى وظائف السحر والعقائد الدينية ( مثلما نراها فى المقابر الفرعونية حافظة لأغراض المتوفى مع موميائه إلى يوم البعث) ، ولا ... لأنها قد تسمو فوق الوظيفة النفعية إلى مستوى الفن الرفيع الخالص لذاته ، لو تحققت فيها القيم الجمالية العالية : من كتلة وإتزان وتناسب وملمس وإيقاع نغمى لخطوطها الخارجية وتناغم لونى وظلى، فتلك هى العناصر الأساسية التى تمنحها فرادة التميز والإبتكار، وسحر العلاقة بين الشكل والمضمون ، والمضمون هنا ليس المادة التى يحتويها الإناء، بل هو القيمة الإنسانية والجمالية المضافة إليه عبر لمسات الفنان الحانية ، وهو يحتضن كتلة الطين بين راحتيه فوق القرص الدوار الذى يحركه ، ليس بقدمه فحسب ، بل بكل جوارحه وأنفاسه ونبضات قلبه ، فإذا بهذه الكتلة الطميية المبلولة برضاب الماء تتخلق رويدا رويدا .. تنبعج .. تتكور .. تكتنز .. تتطاول .. تضيق فوهتها ككاتمة الأسرار .. أو تتسع كحافة الكأس .. أو تتفتح كأوراق الورد .. وعندما تجف فى الهواء على مدى عدة أسابيع تدخل الفرن الذى يُشعَل بمواد عضوية ، من مُصاصة القصب أو حطب القطن أو خشب الجميز، أو من نباتات جافة على حواف الترع .. إلخ . وهنا يكمن سر التنوع فى نتائج الحريق .. فكل شكل أو لون للفخار يتطلب درجة حرارة معينة لايحققها إلا نوع معين من الوقود ، وفترة معينة لنضج الأوانى داخل الفرن ، ثم تبدأ مرحلة الرسم والتلوين فوق السطح الخارجى للآنية، بأكاسيد معدنية تحدث طلاء زجاجيا شفافا وهو الجليز، وكل لون منه يتطلب نضجه فى الفرن درجة حرارة تختلف عن الآخر، كما يتطلب تسييل الألوان أو تثبيتها فى مكانها المرسوم، وكذا إحداث الملامس الناعمة أو المجعدة أو المشققة .. أنواعا خاصة من الوقود ودرجات معينة من الحرارة ... وهكذا فإن تاريخ الفخار والخزف رهن بتاريخ كل فنان فى التجربة والخطأ والاستنتاج والتقنين ... أى البحث العلمى .. وتلك هى الخاصية التى تميز فنان الخزف عن غيره ، إذ يعمل بروحين : روح الفنان وروح العالم ، ومن ثم فإن أى نتيجة تكنولوجية يبتكرها الفنان فى مجال التقنيات تعد كشفاً علميا مهما يتسابق الباحثون لمعرفته ومحاولة تطبيقه ... ولنُحْن رؤوسنا إحتراماً لأجدادنا الفنانين منذ ماقبل عصر الأسرات الفرعونية حتى العصور الإسلامية ، لأنهم حققوا بالفن والعلم معا ما يعجز فنانو العصر الحديث عن تحقيقه. - وربما استطاعت الأفران الكهربائية والمواد الكيماوية حسم الكثير من مشكلات التقنية فى حريق وتلوين الفخار والخزف، بالتحكم فى درجات الحرارة ومدة الحريق عبر استخدام منبهات الوقت الآلية ، وماينتج عن ذلك من ألوان ودرجات وتحولات لونية وملمسية غير أن الحريق بالوقود العضوى فى الأفران الطينية - أو البلدية - مايزال مصدرا لاينفذ للاكتشافات التقنية حتى أن أحد الاكتشافات الهامة للفنان نبيل درويش تعود إلى استخدامه نبات ` ذيل القط ` المنتشر على حواف الترع بالريف المصرى فى الحريق ، فقد نجح فى تحويله إلى مادة كربونية سوداء يرسم بها فوق سطح الآنية أشكالا مدهشة لكائنات آدمية وحيوانية ومن الطير، وذلك بتسليط الكربون على الجسم الخزفى، وكانت تلك هى أطروحته لنيل درجة الدكتوراه بكلية الفنون التطبيقية عام 1981، وهذه الطريقة عرفت بالرسم بالدخان ، كما استخدم أنواعا أخرى من وقود الحريق للحصول على تشققات ` الكراكليه` فوق الآنية ، فإذا بها تبدو بهذا الكساء المشقق مثيرة للخيال متضمنة الإيماء الرمزى إلى الزمن . واشتق أنواعاً أخرى من أصباغ الأكاسيد الشفافة ليرسم بها على سطح الآنية لوحات تصويرية تشبه فى تأثيرها الألوان المائية ، بما تعرف به من رقة وشفافية كأنما يرسم بالضباب.
- كما توصل إلى نتائج مبهرة من خلال ما يعرف بالطينة الزرقاء، وهى تقنية قديمة ظهرت فى الصين من قديم الزمان ، فأعاد إحياءها رائد فن الخزف الإنجليزى المشهور ود جوود منذ أكثر من مائتى عام ، واستطاع درويش أن يتوصل إلى طينة زرقاء بدرجة أكثر عمقا وقتامة من الطينة الزرقاء المعروفة ، وتطور بتقنية تطعيم الطينة العادية بأنواع أخرى من الطينة البيضاء أو ذات ألوان أخرى، ولايتم التطعيم من فوق سطح الطينة الأساسية ، بل بإدخال الطينة المضافة فى صلب الجسم الأساسى للآنية، بحيث يظهر التباين بين ألوان الطينات عند حرقها، متجنبا لصق قطعة بأخرى، مثلما كان يلجأ الفنان الإنجليزى ودجوود، ومتحاشياً كذلك مخاطر تعرضها لدرجة حرارة واحدة بالرغم من أن كل طينة تتطلب درجة حرارة مختلفة عن الأخرى وهو ماكان يجعله يحصل على تأثيرات خلابة من ألوان الآنية الأصلية قبل إضافة الجليز إليها، وقد بلغ فى أسلوب التطعيم فى الخزف بالطينات المتباينة درجة فائقة من الإتقان والتحكم، من خلال دولاب الفخار ذى القرص الدوار. ومما استطاع اكتشافه أيضا أسلوب التموج اللونى بألوان قوس قزح الذى عرف بأسلوب رقبة الحمامة ، بما يتميز به من بريق مراوغ للبصر بين الأزرق والبنفسجى والرمادى الفضى .. كما تميزت بحوثه وإبداعاته الفنية فى أعمال الفخار الأسود الذى كان معروفا فى مصر الفرعونية ، بتوظيف الخامات المحلية فى التشكيل والتلوين والحرق بدون استخدام أية أكاسيد ، مما يعد طرازا خاصاً به وسط طرز الفخار العالمية.
- ومن بين التقنيات التى أعاد اكتشافها من تراث الفخار الإسلامى تقنية شبابيك القُلل المخرَّمة .. إن المتحف الإسلامى بالقاهرة يقتنى عددا كبيرا من هذه القطع الزخرفية الشهيرة التى حيرت الباحثين عبر القرون حول كيفية إدخالها داخل عنق الآنية وإلتحامها بها، بحيث تعطى عند الشرب صوتاً مميزاً كتغريد الطيور أو كالزغرودة الرقراقة بدرجات صوتية متغيرة من قلة إلى أخرى ، أما رسومها المشكلة بثقوب متجاورة تكون خطوط التصميم، فتجعل من كل منها تحفة فنية فريدة بعناصر الزخرفة الإسلامية أو المشخصات الإنسانية والحيوانية، فى تكوينات معقدة تحتاج إلى أضعاف قطر عنق القُلَّة ليستطيع أى خزاف أن يتحكم فى نتيجتها لكن درويش أستطاع أن يفض أسرارها ببحث دءوب حصل عنه على درجة الماجستير بكلية الفنون التطبيقية عام 1971 .
- هكذا استحدث درويش - أو أعاد اكتشاف - عشرات الطرق والتقنيات التى ارتبطت باسمه، وأنتج من خلالها آلاف القطع النادرة ومن فرط اعتزازه بها كان يضن ببيعها ويفضل الاحتفاظ بها فى مرسمه الواسع المطل على ترعة المريوطية فى الطريق إلى هرم سقارة بالجيزة، حتى حوَّله إلى متحف مفتوح للزائرين ، من مصريين وأجانب ، قبل سنوات طويلة من رحيله المفاجىء، مع أنه يضم فى جناح منه البيت الذى يقيم فيه هو وأسرته لكنه ، لكى يواجه ضرورات الحياة وينفق على أبحاثه ، كان ينتج ويبيع أعمالاً خزفية أخرى لها نظائر أو متشابهات مع أعماله المتحفية التى تربو على الألف .
- مع ذلك كله فقد تأخر التقدير الذى كان جديراً به فى وطنه كثيرا، وكان ذلك يحز فى نفسه ، خاصة عندما يلقى التقدير فى محافل دولية، وكان يظن أن قيامه بوهب متحفه للدولة بكل مقتنياته كفيل بإلتفاتها إليه ووضعه فى المكانة اللائقة به، وعندما كان يأتيه اعتراف دولى بقيمته من خارج وطنه، مثل حصوله على الجائزة الكبرى لبينالى تونس الدولى عام 1986 ، أو حصوله على الجائزة الكبرى لبينالى الشارقة الدولى عام 1993 ، أو اختياره مستشارا دوليا لفن الخزف بمنظمة الخزف الدولية بنيويورك ، كان يتجدد لديه الأمل فى حصوله على إحدى جوائز الدولة فى مصر، لأن تكريمه فى وطنه لا يعادله تكريم العالم كله له ،هو الذى عشق ترابه وأفنى عمره فى العطاء له وإعلاء شأن الفن فيه، لكن ما حصل عليه من الدولة لم يتعد اختياره قومسيرا لترينالى الخزف الدولى بالقاهرة قبل رحيله بعام أو عامين .
- إلى من يدين درويش بكل إبداعاته الفنية وإكتشافاته العلمية ؟.. الفضل الأكبر يرجع إلى أستاذه سعيد الصدر (1909 - 1986 ) الذى كان له بمثابة الأب الروحى والمعلم والمرجع فى كل شىء، ومن جانبه لم يبخل الأستاذ عليه بكل دقائق وأسرار خبرته وكفاحه الطويل، حتى أنه أشركه معه فى أبحاثه ، بل إنه انتقل إلى مرسم درويش بالمريوطية ليشترك معه فى بعض تجاربه الفنية كزميل لا كأستاذ ، ولم يكن ` الصدر` مجرد خبير ورائد فى التقنيات الفنية والحرفية ، أو مجرد مبدع فى فن الآنية وفى فنَّى النحت والتصوير، بل كان قبل ذلك داعيةً للإنتماء الحضارى المصرى والعربى ،وهاضما لكل مراحل التراث ، ما أهَّله لأن يستخلص منه رحيق الروح المصرية والعربية الصميمة... هذا هو الدرس الأول الذى استوعبه التلميذ من أستاذه ، والطريق الذى سار عليه معه ثم أكمله من بعده.
- يضاف إلى هذا دَيْن آخر يدين به درويش إلى تراث قريته ` السنطة ` من عادات وتقاليد شعبية وقيم أخلاقية ومعرفة بالوجود والحكمة وقدرة على الصبر والتأمل العميق ... إن كل ذلك كان الأساس المتين فى تكوين شخصيته الميالة إلى التأمل والحكمة والصبر بغير حدود ، مثل صبر الفلاح على حقله الذى بذر فيه الحَب فارتبط به وبالأرض ، كقيمة لايُعلى عليها ومعنى لا يقايض عليه بكنوز الدنيا .
- أما الدَيْن الثالث فيرجع إلى ` سيدنا ` .. وهو شيخ كُتَّاب القرية الذى كان يُحفظه القرآن الكريم طفلا ويعلمه مبادىء الكتابة والحساب ، إن فضل هذا الشيخ جاء من فرط قسوته عليه بسبب لا دخل للطفل فيه ، وهو أنه ولد أعسر فلا يستطيع الكتابه بيده اليمنى وكان ذلك يثير غضب `سيدنا` ويدفعه إلى عقابه الشديد حتى يرغمه على استخدام يده اليمنى .. وفى يوم فارق فى حياة الطفل نبيل بلغ العقاب حدا غير إنسانى ، إذ ربط الشيخ ذراعه خلف ظهره بإحكام كى لايستطيع استخدام يده اليسرى فى الكتابة ويضطر إلى الكتابة باليد اليمنى ، مما سبب ألما فظيعا له ودفعه إلى الهرب من الكُتَّاب واللجوء إلى الحقول البعيدة، وهناك استطاع أن يفك وثاقه، وأن يتسلق شجرة عالية ويربض بين أغصانها خائفا مرتعدا، وبعد أن استعاد جأشه بدأ ينظر من موقعه الشاهق إلى المحيط اللانهائى من الخضرة ، والمقسم إلى خطوط متوازية لأحواض المحاصيل الزراعية ، وأخذ يلاحظ النظام الدقيق الذى تتجمل به الأرض والطبيعة ، واستغرق فى حالة من التأمل وهو يشعر بقوة غامضة تأخذه إلى ملكوت أبعد من حدود المنظر الطبيعى الذى يتراءى له ، هنا خفتت أحزانه وإنجلى قلبه وبدا ينظر به وليس بعينيه، فكان ذلك مولداً للبصيرة الجوانية فيه .. وهكذا تلاشت من خاطره صورة ` سيدنا` أو بالأحرى انزوت فى ركن سحيق بداخله وحل محلها شعور بالطمأنينة والسلام وهو يسبح فى رحاب هذا الكون الفسيح مستمعاً إلى زقزقة العصافير، وربما إلى نداء الغربان والحيوانات، ومن وراء هذا كله : ذلك الطنين الغامض عبر موجات أثيرية تحمل همهمات مجهولة لدبيب الحياة فى قلب الوجود .
- وعندما نزل من فوق الشجرة ، وجد نفسه جالسا على حافة قناة يعبث بكتلة من الطين ويحاول أن يشكل منها عملا نحتيا يحقق من خلاله التوازن النفسى الذى ينشده ... ومنذ ذلك اليوم لم تعد للشيخ هيمنة على روحه التى تحررت وذابت فى ملكوت الكون ، ولم يتوقف عن ممارسة النحت والرسم ، إلى أن وجد طريقه فى النهاية إلى كلية الفنون التطبيقية، حتى صار بعد ذلك هو الفنان الذى انتهى إليه .. عميق الجذور فى الأرض المصرية ، وارف الظلال على الساحة العالمية.
بقلم : عز الدين نجيب
من كتاب ( الفن المصرى وسؤال الهوية بين الحداثة والتبعية)
الفخار الأسود
- الفن أى فن له وجهان . الصنعة والموهبة . وربما زادت الأولى درجة عللى الثانية . و مهما بلغت الموهبة من قدرة فهى بلا قيمة إذا لم تمكنها الصنعة من الظهور و التجلى . و الفنان الموهوب بلا صنعة . كالكنز المدفون . يمضى الزمان دون أن ندرى عنه شيئا أما متقن الصنعة بلا موهبة فهو حرفى وليس فنانا . ولقد امتلك فنان الآنية نبيل درويش ناصية الموهبة والصنعة معا . فجاء إبداعه جديرا بالاقتناء العالمى والمتاحف الكبرى.
- الفخار كما نعلم .. هو تلك المادة الهشة التى تصنع منها القلل والقدور والأزيار المسامية بوجه عام . مازالت تلك الأوانى الفخارية تستخدم حتى اليوم على نطاق ضيق ، بعد أن كانت واسعة الانتشار منذ أكثر من مائة عام ، و فى أطلال مدينة الفسطاط القديمة بالقاهرة ، تنتشر الفواخير .. أى أفران إنضاج الفخار ، وإن كانت تتحول تدريجيا إلى سبك المعادن ، بعد انحسار السوق وشيوع الثلاجات والمخابز الآلية ، وأدوات البلاستيك التى كانت تصنع من الفخار ..
- لاشك أننا شاهدنا تلك الأوانى الفخارية بلونها الأحمر الوردى أو الطوبى أو الأصفر السمنى . لكن قلما رأيناه بلونها الأسود الفاحم ، الذى تخصص فيه بعض المناطق فى بلادنا مثل ` أشمون جريس ` و ` سمنود ` .
- لا يستلزم الفخار عناء كبيرا فى إنتاجه . فهو شعبى .. رخيص .. سريع الكسر .. يعتمد صانعوه على خامات محلية متوفرة ، كالطين الأسوانى والطمى العادى .
- يتبادر إلى الذهن و الأمر هكذا سؤال :
- هل تتطلب هذه الأوانى الفخارية التافهة ، دراسات مستفيضة للحصول على درجة الدكتوراه ؟
- الاجابة ليست بالبساطة التى تبدو لنا لأول وهلة ، ينبغى أن نلقى نظرة إلى الوراء عبر عشرة آلاف عام ، لنعرف أن الإنسان البدائى المصرى فى عصر ما قبل الأسرات ، كان ينتج الفخار الأسود، وأن آثاره التى وجدناها فى مدينة البدارى فى الصعيد ، لفتت أنظار العالم بلونها الأسود وتشكيلاتها الجميلة ، وعلينا أن نعرف أن إنتاج الفخار الأسود لم يتوقف حتى اليوم فى بلادنا ، مما يؤكد أنه حرفة تقليدية عندنا ، وفن أصيل ينبغى لفنانى الآنية أن يتأملوه ويدرسوه ويطوروه، فيكونوا بذلك قد أحيوا التراث حقا ، وأضافوا شيئاً جديداً للثقافة العالمية بدل الجرى خلف الثقافات الأوربية والأمريكية التى تشيع فى إبداعهم .
- علمنا الفنان الإسلامى كيف نرفع من شأن الخامات التافهة ونمنحها قيمة معنوية وروحية حين ابتكر الطلاء المعدنى على الأوانى الخزفية وحفر التوريقات وزخارف الأرابسك على الخشب والحجر ، ولون الزجاج المعشق بالجص .. ليضفى الجمال والشاعرية على أضواء الشمس والقمر من خلال الشمسيات والقمريات ، معتمدا فى كل ذلك على خامات محلية رخيصة متوفرة ، تحولت بين يديه إلى روائع تتهافت متاحف العالم على اقتنائها .
- الأصالة .. استلهام التراث .. والإضافة الشخصية ، كانت هى أهداف الفنان الدكتور نبيل درويش : الأستاذ بكلية الفنون التطبيقية إستطاع فى رسالته أن يحول الطين المحلى الرخيص المتوفر ، إلى شئ جميل ثرى ، محققا بذلك روح الفن الإسلامى ومضيفا إلى فنوننا الأصيلة . ليس مقلدا لأوانى إيطاليا وألمانيا وفرنسا .. كما نشاهد فى واجهات محلات الهدايا المستوردة .. أو فى إنتاج مصانع الخزف والصينى ، حيت تأتى القوالب من الخارج عليها رسومات روميو وجولييت .
- إن فخاريات نبيل درويش مصرية عربية وجميلة فاتنة ، صالحة للانتشار والإنتاج العريض . استطاع فيها أن يتحكم فى اللون الأسود بتصميمات مبتكرة للأفران ، أفسحت المجال للإضافات الجمالية من الزخارف والألوان ..
- كشف عن نوعيات الوقود المحلى المستخدم فى الانضاج ، و المواد و النباتات المضافة إلى الطين الأسوانى و كيفية وضع ألوان أخرى مقصودة فوق اللون الأسود .. و غير ذلك من وسائل التنفيذ التى لم تكن معروفة من قبل إنها تكنولوجيا جديدة تؤدى إلى إبداع أوان فخارية ذات طابع مصرى يضرب بجذوره فى الأصول الشعبية .. و العربية .. و الإسلامية ، استحق عليها درجة الدكتوراة بجدارة .
- عرفنا نبيل درويش فى معارضه الخاصة النادرة ، و المعارض الدولية فى فينسيا و باريس ، منحته الدولة التفرغ الفنى و اقتنت بعض روائعه لمتحف الفن الحديث بالقاهرة ، و عرفناه الثانى بين فنانى الآنية فى مصر .. بعد الرائد : سعيد الصدر ` من حيث الريادة و التفرغ و البعد الكامل عن كل ما يمت بصله للفن التجارى و الصناعى ، منذ البداية .. تبين طريقه ووعى دوره فى مسيرة الإبداع الإنسانى مفضلا الاعتزال فى بيته و مشغله و معرضه الدائم وحديقته ، على شاطئ المريوطية فى طريق سقارة على بعد ثلاثة كيلوا مترات من شارع الهرم ، زرع حديقته بأزهار عباد الشمس و أعواد النعناع و العتر و الريحان ، و شيد فى قاعها أفرانه و دولابه الدوار و من حولها صناديق الطين المخمر و المصفى .. و المعد للتشغيل ، و أكوام الوقود من مصاصة القصب و أعواد الحطب و كسر الخشب .. بنى أفرانه بيديه الخبيرتين و درايته الواسعة و تصميماته المبتكرة ، و معاونة زوجته و تلميذه السابقة الفنانة رجاء راشد ، و أبنائه الثلاثة . أما كلاب الحراسة ، فقد ألفت رائحة الدخان و مشهد إشعال النار . حين يبدع نبيل أوانيه المثيرة .. يعلق بعضها فى فروع الأشجار من حوله كأنها الثمار .. و يزرع بعضها فى الحديقة كأنها تنبت فى الأرض ، تتلألأ بألوانها فى أشعة الشمس صيفا .. و تستحم بماء المطر شتاء .. فتزداد بهاء و روعة .
- ربما كانت نشأته الأولى دفاعا إلى بناء عشه هناك ، فقد ولد فى قرية السنطة من أعمال مدينة طنطا ، وترعرع فى أسرة يلفها وشاح الفن من تمثيل وإخراج و غناء و رسم ، لم ينزح إلى القاهرة إلا بعد أن ملأ قلبه وعينيه ببهاء الحقول و روائح الفجر البكر ، و اعتادت أذناه شقشقة العصافير و دعاء الكروان .
- نزح وفى جعبته شحنه لا تنفد من الخيال والأحلام .. والإيمان بأن غدا ستتفتح الأزهار .
- الطيور والنباتات .. والحيوانات ، التى أحبها نبيل فى طفولته وأحبته ، هى التى نراها الآن مرتسمة على آوانيه الخزفية الساحرة ، بألوانها البهيجة وأشكالها البليغة ، كأنها كلمات متقنة الصياغة .. مفعمة بالحكمة والعبرة ، خطوط بسيطة مناسبة كالنسيم عبر الأطباق والفازات والسلاطين، التى يبدع أشكالها بحنان بالغ على قرصه الدوار ، لا يرضى بغير طين بلاده بديلا ، ولا يستخدم فى ألوانه غير ما يتوفر من حوله من مواد فى ربوعنا العامرة بكل جميل ، حتى أنك لتدهش أن كل هذه التنويعات اللونية من تراب بلادنا .
- حين لتحق بكلية الفنون التطبيقية سنة 1957 ، التقى بعملاق ` فن الآنية ` : سعيد الصدر . لكن الدرس والبحث والعمل الشاق لم يكن داخل الكلية . فالكلية لا علاقة لها بفن الآنية ، لأنها بحكم تخصصها لا تضم سوى شعبة للخزف فى إطار ` التصميم الصناعى ` ، الذى ينحصر فى وضع التصميمات لأدوات الاستعمال اليومى ، التى تصلح للإنتاج الميكانيكى العريض عن طريق القوالب كأباريق الشاى والفناجين وأطباق الطعام والأدوات الصحية والعوازل الكهربائية ، وما إلى ذلك من الفنون التطبيقية التى تبعد كل البعد عن ` الفنون الجميلة ` ذات الوظيفة الروحية والنفسية ، و ` فن الآنية ` من فنون القطعة الواحدة شأنه شأن فن الرسم التصويرى ، دوره فى الحياة الإنسانية كدور فنون الموسيقى والشعر والأدب والفنون الجميلة بوجه عام .
- يبدأ رحلة العمل الشاق بعد تخرجه بعامين ` 1964 ` خارج جدران الكلية ، مع أستاذه الصدر فى ` مركز الخزف ` فى الفسطاط ` مصر القديمة ` . يقطع المشوار من بيته فى الجيزة - آنذاك - إلى الفسطاط فى عز الشتاء .. فى الرابعة صباحا من كل يوم .. فوق درجاته حينا .. ومصاحبا لها حينا آخر فى المعدية عبر النيل . يمضى فى الظلام .. ويعود فى الظلام ، حتى يتمكن من السيطرة على الدولاب الدوار ، و نوعيات الطين والطلاءات .. معدنية كانت أو عادية .. و البريق المعدنى و أسرار الأفران ، كل فرن له سر مكنون ، لا يبوح به إلا لمحب عاشق مثل نبيل درويش ، كل فرن له شخصية خاصة يكسو بها آوانيه .. فتخرج من فوهته بعد آخر عملية إنضاج ، كأنها العرائس فى ليلة الجلوة ، قد وشتها الألوان والزخارف ، قطيفية تارة لامعة تارة تجمع فى لطف بين درجات لونية .. وملامس شكلية .. وبريق معدنى لا تجد له مثيل فى غيرها . تنظر إليها فيخيل إليك أنها تترنم فرحة بميلادها الجديد ، من فرط ما أروعه فيها نبيل من ` حيوية ` ، تلك الحيوية التى تحدث عنها كبار النقاد والفنانين ، والتى لا يحسها إلا كل ذواقة مرهف المشاعر .. مشبوب العاطفة .. شريف القلب ..
- إبداع الآنية عند نبيل درويش أصبع جزءا من سلوكه العادى ، لا يعيه بحسابات دقيقة إنما يمارسه ، كما يمارس النسر تحليقه فى كبد السماء ، باسطا جناحيه دون أن تشغله اتجاهات الريح و تياراته و درجة حرارته . تراه لا يكاد يحرك جناحيه .. لكنه يعلو ويهبط ويميل ويستقيم كما يشاء .. هكذا نبيل مع أدواته وخاماته وأفرانه تولد الآنية فى مخيلته .. ثم تبدأ عملية التحول - ميتامورفوزس .. ويصبح الخيال حقيقة .
- قضى نبيل تسع سنوات طوال فى مركز الخزف ومشغل الصدر ، حتى اكتسب هذه القدرة على التحكم بحريسة وطلاقة فى أدواته وخاماته ، ويتمكن من الأسقاط الفورى لخياله على الطين والألوان والأفران ، دون اعتبار لأى عقبات تكنولوجية تحبط طلاقته الإبداعية ، الآنية التى يبدعها ، هى التى كانت كامنة فى أعماقه ، مرتسمة فى خياله ، أصبحنا نراها رأى العين .. و نلمسها لمس اليد .. ونتحسس أنحناءاتها وملامسها .. ونستمتع بألوانها وزخارفها .. ونتأمل خطوطها الوهمية .. ونعيش معها فى نشوة روحية .
- من قال إن تنويعات الإبداع الفنى لها نهاية ؟
- تباديل وتوافيق العلاقات التى تتحكم فى الألوان و الزخارف و الملامس و الأشكال فى فن الآنية .. ليست لها نهاية .
- نبيل فنان ذو عقل مبدع ، مغترب فى عالمنا .. يقدم لنا آيات من دنياه التى لا نراها ، و أمارات من رحلته فى الضمير الإنسانى .. بعيدا عن عروض الحياة .
- هكذا يحيا مع دولابه و طيناته و أفرانه ، يعرف لغتها و يستنطقها أسرارها ، ليس كل من صنع آنية فنانا مبدعا .. مهما حمل من ألقاب .. و مهما تبوأ من وظائف . نبيل يبدع أوانيه للمتاحف والتاريخ .. و لكل مثقف حساس .
- ليس لفترينات الشارع و الأرصفة .. أو للعرض الرخيص .
- حتى الآن .. لا يوجد تعريف أجرائى دقيق لاكتساب الخزف بريقا معدنيا معينا ، لا توجد ضوابط ثابتة لعملية ` الاختزال ` . أى سحب الأوكسجين من الأكاسيد المعدنية بحيث تشكل طبقة رقيقة من المعدن فى أماكن محددة على جسم الآنية ، طبيعة الاختزال تتغير بتغيير نوع الوقود .. و تصميم الفرن .. و مسار التدخين . كل ذلك مرجعه إلى موهبته و عبقريته . ذلك هو ما نسمية التكنولوجيا أو أسلوب التنفيذ .. و ليس فى الخزف ، لأن الخزف ليس فنا . و فنان الآنية خزافا . كما أن من ينحت التماثيل فى الخشب مثالا وليس خشابا ، الخزف مجرد خامات ، تتحول إلى آنية من يدى نبيل ، و إلى مجرد أحجار صناعية بين أيدى الآخرين .
- عرف نبيل الكثير عن تكنولوجيا الخزف حتى وصل إلى هذا المستوى الرفيع من التوافق بين الحجم .. والخط الوهمى .. واللون .. والبريق .. والملمس .. والبروز أو الدسامة .. والتصميم الزخرفى . وكل ما هو مرئى كآنية فى نهاية الأمر ، بارتفاع معين وقطر وسعة معينة ، كل هذا كان مرتسما فى خياله مسبقا .. ثم بدأ عملية ` تحقيق ` أو ` تجسيد ` هذا الخيال .. منذ لحظة جلوسه إلى القرص الدوار وكتلة الطين بين راحتيه ، ثم مشوار التكنولوجيا المضنى المعقد ، حتى يخرج الوهم من فوهة الفرن .
- كأنها كائن حى .. يشاركنا عالم الجمال الذى نعيش فيه .
- يتوالى تغير شكل الآنية عبر عمليات الإنضاج التى تزيد على ثلاث أحيانا تتدخل عوامل طبيعية لا ارادية فى كل مرة ينبغى أن يكون على علم مسبق بها وأن يتوقعها جميعا ، الأمر الذى يستلزم الأيام والسنين وسهر الليالى حتى تصبح فى نطاق أرادته الحرة ، تلك المسيرة الشاقة هى السبب فى ندرة فنانى الآنية والتجاء معظمهم إلى ما يسمى ` التشكيل الحر ` ، أو استخدام عامل صناعى يقوم عنهم بالتشكيل على الدولاب الدوار ثم الهروب من التكنولوجيا إلى ما يسمى ` تلقائية الخامة ` أى الخضوع لتعامل أى خامات مع أى فرن مع أى وقود ، إلا أن التشكيل الذى لا يتدخل فيه الإنسان لا يسمى فنا ، و إذا غاب القصد عن العمل .. غابت صفة ` الفنان ` عن صانعه . وإذا تدخل عامل صناعى فى تشكيل الآنية ، أصبح الناتج إبداعا مشتركا بين الفنان والصانع .
- تحقيق القصد .. أو الهدف .. أو الخيال .. أو الرؤية ، من خلال عدة متغيرات ، كما يحدث فى أوانى نبيل درويش ، هو ما نسميه ` فن الآنية الخزفية ` . لذلك ترفع قيمته الجمالية فى لغة النقاد ، ويرتفع ثمنه فى لغة الاقتصاديين وسوق الاقتناء .. توفر عامل الندرة وعدم إمكان التكرار غياب هذه الصفات هو سبب انخفاض قيمة الأوانى الاستعمالية كالأكواب والفناجين وأحواض الزهور والأدوات الصحية ، لأنها سهلة الإنتاج لا يتطلب إنتاجها هذا المهرجان التكنولوجى .. والموهبة الفذة .. والاغتراب المتواصل فى عالم الإبداع . إن ` فن الآنية ` بعيد عن الفنون التطبيقية بعد السماء عن الأرض ..
- تمكن نبيل درويش من تكنولوجيا الخزف ، يتيح له الدخول فى حالة اللاوعى لأى إبداع فنى .. أكدت جميع المراجع التى أوردها جان برتيليمى - عمدة علماء الجمال - أن الفنانين البارزين كانوا يستعينون بمؤثرات خاصة للدخول فى حالة اللاوعى وإضاءة النور الأخضر للعقل الباطن ليصدر أوامره الإبداعية للفنان .. ويستحضر نبيل هذه الحالة عن طريق ` التسخين ` الطويل ، بإعداد الطين وإدارة الموسيقى أو ربما التدخين القليل .. والامتزاج النفسى بالجو المحيط وما به من طيور وأشجار وأزهار سرعان ما يختفى كل ذلك ولا يبقى سوى هدير القرص الدوار لم يدخل عالم الأوانى .. رويدا رويدا .. ينسلخ الحلم من خياله ليستوى آنية منظورة .
- لست أدرى من هو صاحب الشعار الخبيث الذى ينادى بعالمية الفن بمعنى الانفصال عن التراث المحلى نبيل يرفض هذا الادعاء ويدرك أنه هو الطريق الشرعى للعالمية ، وأن متاحفنا الفرعونية والقبطية والإسلامية وآثارنا ، هى تراثنا الفنى ، يمضى يتأملها ويدرسها حتى يوصل إبداعه ويخلع عليه هذه النكهة الشرقية التى تلمس شغاف قلوبنا ، كانت زيارته للمتاحف متعة ودراسة .
- سجل بالرسم كل ما لفت نظره وفتن لبه واستثار فكره .. من العناصر والوحدات و أساليب التنفيذ .. ليستكشف أسرار التراث ويبدأ من حيث انتهى الأسلاف .. يعرف أن أستاذه الصدر ، ما كان ليصبح الفنان المصرى الوحيد الذى فاز بالجائزة الأولى والميدالية الذهبية مرتين على دول العالم جميعا ، لولا ارتباطه بالتراث المحلى بقوة ، فمضى على نفس الدرب .. ترافقه موهبته الخصبة ، حتى أصبح ولا نظير له بين فنانينا . فأوانيه تتضمن النكهة المحلية .. والمذاق الشرقى .. مع الإضافة الشخصية .. والبصمة الذاتية التى تحول ` الانتاج ` إلى ` إبداع ` .. وكوب الماء إلى آنية فنية ، نثقف الروح .. وتزيل الهم .. وترفع من شأن الإنسان ..
- ينبغى لفنان الآنية أن يتحلى بقدرات خاصة فى فنون الرسم والنحت ، وقدرت نبيل فى هذا المجال لم تأت من فراغ ، تعلم النحت فى كلية الفنون الجميلة مساء فى القسم الحر .. على يد الأستاذ الراحل جمال السجينى ، والرسم التصويرى على أستاذه أحمد زكى .. بالإضافة إلى المعلم الأكبر : الطبيعة . كل صيف .. كان يحمل خيمته و أدواته و ألوانه و أوراقه على ظهره ويمضى ، جوالا فى قرى بلادنا و حقولها . السنطة .. كفر الزيات .. الفيوم و بحيرة قارون .. و وجه بحرى والصعيد . قبيل تخرجه بشهرين .. أقام معرضا لآوانيه ورسومه وتماثيله ` 1962 ` فى متحف الفن الحديث الذى كان منزلا عربيا جميلا لراعيه الفنون هدى شعراوى حينذاك لفتت أعماله الأنظار .. إلى النجم المطل من أفق الفن.
- ليس صحيحا ما يتردد من أن الفن نوع من اللعب .
-أى عمل فنى رائع .. أجمع عليه جمهرة النقاد و الفنانين المعترف بهم ، من الصعب أن نتصور أنه مجرد لعب ، الفن ` كلمة ` ذات مغزى و معنى و حكمة . الفن ` بحث ` فى أعماق الذات .. و الناس .. و الحياة .. و الطبيعة .
- بدأ نبيل مشواره بالبحث عن إجابة لتساؤل يبدو بسيطا لأول وهلة ، كيف أبدع الفنان الإسلامى شباك القلة ؟ ذلك القرص الدائرى المثقب المستخفى فى عنقها ؟ كيف صور بالثقوب طيورا ونباتات ، و كتب الآيات و الدعوات و الحكم ؟
-كلما مر الماء من الثقوب إلى الفم الشارب صدرت إيقاعات تختلف من قلة إلى أخرى ؟ أجاب عن هذه التساؤلات ، و نال درجة الماجستير ` 1970 ` بإشراف الرائد الصدر ، الاحتكاك الفكرى والعمل الإبداعى بالصدر أفاد نبيل كثيرا ، إذ كان بحرا من المعرفة .. و كنزا من الخبرة .. و قدوة فى الريادة المخلصة .. ثم اتخذ نبيل طريقه .. و تبلورت شخصيته الفريدة .. وأصبحنا بيسر بالغ ، نلتقط إبداعه من بين آلاف الأوانى الفنية ، طرق فى آوانيه أبوابا لم يطرقها أحد من قبل مضى يستكشف عالم الأوانى وهو عالم فاتن مثير ، استوعب جهود مئات الفنانين عبر التاريخ .. وعبر العالم .. تتميز أوانيه بالأناقة والدقة وإحكام العلاقات .. وتعدد الأساليب ، سواء فى التلوين .. أو تصميم الأفران .. أو إعداد الطين ، أو الوشائج الحميمة التى تصل إبداعه بالشخصية العربية , أما الفخار الأسود الذى يتحكم فيه بالزخرفة و التلوين .. فسيظل منسوبا إليه على مدى الأيام .
بقلم : مختار العطار
من كتاب (رواد الفن وطليعة التنوير- الجزء الثانى )
حوار بين الخزف والهوية في فلسفة الإبداع
- ويمكننا أن نتخيل علاقة الفنان `نبيل درويش` بالهوية المصرية كحوار دائم بين الماضي والحاضر ، كتفاعل حي بين روح التراث وديناميكية الواقع المعاصر ونجح في استخدام الخزف كوسيلة للتعبير عن الهوية والتراث المصريين بطريقة حديثة ومبتكرة.
- في محرابه الفني الملئ بالأدوات والتفاصيل ، يسافر عبر الزمن كلما جلس أمام كتلة الطين يمزج في أعماله عناصر من الحضارة الفرعونية والزخارف الإسلامية ، مستلهما من جداريات المعابد القديمة ومن زخارف المساجد التاريخية ، ألوانه تفيض بروح النيل الخصبة `درويش` لا يكتفي باستحضار الماضي، بل يضيف لمسته العصرية مستخدما تقنيات حديثة تتيح له دمج الأسلوب الكلاسيكي مع الأسلوب الفني الحديث تتداخل في أعماله الألوان والتفاصيل ، لتروي قصة مصر بعمقها الحضاري وتنوعها الثقافي ، مستلهما من يوميات المصريين البسطاء من حياتهم في القري والمدن تنعكس في أعماله رؤية ملحمية للهوية المصرية فكل قطعة من خزفه هي أشبه بمقطع شعري يتغني بقيم التراث وروح العصر.
- ينجح درويش في جعل الطين يتحدث ليصبح كل إناء وكل تمثال ساحة لحوار يروي حكايات الماضي ويعبر عن تطلعات الحاضر ، بهذا يظل رمزا للتفاعل الفني مع الهوية المصرية يجسدها بشكل نابض بالحياه ، بحيث يحمل كل عمل من أعماله بصمة الفخر والانتماء ، ويظل شاهدا علي حيوية الهوية المصرية وتجددها المستمر.
- وميلاد أعماله الفنية الفريدة هو عملية تحول وإبداع تتجاوز الحواس لتصل إلي الروح في البداية ، يولد العمل كفكرة أو ومضه إلهام في ذهن الفنان ، تحمل في طياتها رؤي وتجارب ومشاعر متداخلة تلك الفكرة تتخذ شكلا مبدئيا ، كما تتخمر في العمق ليولد كيان جديد متفرد فى جوهره.
- ويمثل كل عمل وكل لون وكل تدرج تعبيرا عن الصراع الداخلي والتأمل العميق الذي يخوضه الفنان وتكامل بين العناصر ، وحوار مستمر بين الظلال والنور بين البسيط والمعقد ، الألوان لا تكون مجرد أصباغ بل هي نبضات وإيقاعات تعكس عمق الروح وطبيعة الوجود.
إنه مرآة تعكس حالة الفنان في لحظة محددة من الزمن وتروي قصة لا تنسي ، هذا العمل الفني يصبح كيانا حيا ، يحمل في طياته أسرار الإبداع والفكر ، ويظل يتحدث إلي من يشاهده ويستفز فيه مشاعره وأفكاره ، ويكون بمثابة رحلة وجودية تمزج بين الخلق والابتكار حيث يعيد الفنان تشكيل الواقع وفقا لرؤيته الخاصة ، إنه احتفاء بالحرية والتعبير وتجسيد للإنسانية في أبهي صورها، وتلك هي الخاصية التي تميز فنان الخزف عن غيره إذ يعمل بروحين00روح الفنان وروح العالم0
- وفي طيات عوالم `درويش` نتصور لحظة الميلاد الفني لأنية الفخار خاصته والتي تمر الساعات في جو من الترقب والانتظار داخل الفرن الحارق ، الحرارة تلتف حول الطين تتحول الجزيئات وتجتمع معا كما لو كانت تتحدث مع بعضها 0 تعيد تشكيل نفسها تحت تأثير تلك الحرارة العالية يبدأ الطين في التحول من مظهره الخام العادي إلي شئ آخر تماما ، ينضج ويتحول من طين بسيط إلي قطعة فنية ذات شخصية وقيمة داخل الفرن تظهر الخطوط والزخارف التي نقشها الفنان علي الطين بإتقان ، كل خط يحمل معه قصة وتفاصيل حياة ، تنبض الألوان تدريجيا بالحياة مع تزايد درجات الحرارة تتحول من ظلال باهته إلي تدرجات زاهية ، كما لو كانت تسرد قصة تحولها ونضوج ومع اقتراب اللحظة الحاسمة يفتح باب الفرن ببطء ، ويخرج الفخار إلي الهواء البارد لأول مرة حيث الأشعة الأولي من الضوء الطبيعي تلمس سطحها تعكس بريقا ولمعانا لم يكن موجودا من قبل وتخرج الآنية في أبهي صورها ، متألقة بجمالها وعراقتها تشع كأنها ولدت من جديد، تعكس في تفاصيلها جهد الفنان وصبره، وتحتفظ بحكايات التحول والنضوج في طياتها جاهزة لتحكيها لكل من ينظر إليها ويتميز درويش بتقنياته الفريدة ، حيث يستخدم خزفا عالي الجودة يتميز بلونه الأنيق وتفاصيله الدقيقة ، خزفا يشبه الزجاج مما يعطي لونه الأكثر تألقا وشفافية ممزوج بالذهب لإضفاء لمسة فاخرة ومميزة علي أعماله حتي ان أحد الاكتشافات المهمة للفنان `نبيل درويش` تعود إلي استخدامه نبات `ذيل القط` المنتشر علي حواف الترع بالريف المصري في الحريق فقد نجح في تحويله إلي مادة كربونية سوداء يرسم بها فوق سطح الأنية أشكالا مدهشة لكائنات أدمية وحيوانية ومن الطير وذلك بتسليط الكربون علي الجسم الخزفي وكانت تلك هي أطروحته لنيل درجة الدكتوراه بكلية الفنون التطبيقية عام 1981 ، وهذه الطريقة عرفت بالرسم بالدخان كما استخدم أنواعا أخري من وقود الحريق للحصول علي تشققات `الكراكليه` فوق الآنية فإذا بها تبدو بهذا الكساء المشقق مثيرة للخيال واشتق أنواعا أخري من أصباغ الأكاسيد الشفافة ليرسم بها علي سطح الآنية لوحات تصويرية تشبة في تأثيرها الألوان المائية بما تعرف به من رقة وشفافية كأنما يرسم بالضباب ، كما توصل إلي نتائج مبهرة من خلال ما يعرف بالطينة الزرقاء ومما استطاع اكتشافه أيضا أسلوب التموج اللوني بألوان قوس قزح الذي عرف بأسلوب رقبة الحمامة بما يتميز به من بريق مراوغ للبصر بين الأزرق والبنفسجي والرمادي الفضي كما تميزت بحوثه في أعمال الفخار الأسود الذي كان معروفا في مصر الفرعونية بتوظيف الخامات المحلية في التشكيل والتلوين والحرق بدون استخدام أي أكاسيد مما يعد طرازا خاصا به وسط طراز الفخار العالمية .
- وفي ختام هذا التأمل النقدي في أعمال الفنان التشكيلي الخزاف `نبيل درويش` نجد أنفسنا أمام فنان يمتلك رؤية فنية عميقة وحساسية جمالية تتجاوز حدود المعتاد أعماله تحمل في طياتها روح الأصالة والتجديد حيث يمزج بين التقاليد الفنية القديمة والتقنيات المعاصرة ليقدم أعمالا تحمل دلالات ثقافية وانسانية قدرته علي استلهام التفاصيل اليومية البسيطة وتحويلها إلي أعمال فنية رائعة تجعل منه أحد أبرز الفنانين في مجاله ومن خلال رحلته الفنية ، أثبت نبيل درويش أن الخزف ليس مجرد مادة ، بل وسيلة قوية للتعبير والتواصل أعماله تعكس تجارب الإنسان وعمق العلاقات الاجتماعية والثقافية، مما يضفي عليها طابعا خاصا من الأصالة والتميز ، ويبقي درويش فنانا يحترم تراثه ويطوع المواد ليحكي قصصا جديدة ، مما يجعله نموذجا يحتذي به في الفن التشكيلي المعاصر في قلب مصر ينبض فن نبيل درويش التشكيلي بروح وجدان يحمل مشاعر فياضه تتجاوز الزمان والمكان الفنان الذي استطاع أن يعبر عن التراث المصري بأعمق معانيه وأبهي تجلياته يروي لنا قصصا مكتوبة بيد الطبيعة والمصير علي سطح خزفي تتلألأ بألوان العشق الأرض والإنسان.
- كل قطعة من أعماله هي رحلة في عوالم من الخيال مغمورة بنور الحقيقة والمشاعر الإنسانية الصافية ، فدرويش لا يقدم لنا مجرد أعمال فنية بل يفتح نوافذ إلي أرواحنا لنري أنفسنا والعالم من حولنا بعين الحلم والحنين بتجديده وتطويره لمفاهيم الفن الخزفي يجمع بين الأصالة والتحديث بين الدفء والعمق ليخلق لنا لوحات خزفية تنبض بالحياة وتشع بالأمل.
- تلك هي حكاية نبيل درويش الفنان الذي جعل من الطين لسانا يتحدث بجماليات مصر وأسرارها مستعينا بروحه المفعمة بالإبداع والتجديد ليبقي اسمه لامعا في سماء الفن مشعلا قناديل المحبة والانسانية في كل زمان ومكان.
بقلم :إيستر فادى
جريدة : القاهرة ( العدد 1268) 5-11-2024
|