عطيات سيد أحمد
عطيات سيد الفنانة الأم
- ظلت سنوات ترسم للصحافة.. يومياً.. تغطى بريشتها كل الأبواب والمجالات.. للطفل.. والقصة والمرأة والحوادث.. تقرأ ثم ترسم فى سرعة خاطفة تمرست عليه لملاحقة ما يطلب منها.. والرسم الصحفى يحول صاحبه المحترف إلى `حرفى` يقدم `الموتيفة` أو مشهداً سريعاً يتخيله لقصة أو حادثة .
- هكذا تمر السنوات والفنانة عطيات تواصل هذا الأداء اليومى الذى لا يتوقف ويتحول إلى عملية آلية إلى حد كبير..
- ولا شك أن طاقة الفنانة التشكيلية الإبداعية الكامنة لم تجد الفرصة للإنطلاق إلا بعد أن تحررت من العمل اليومى وأصبحت تمتلك وقتها أخيراً ..
- هنا انطلق المارد الكامن بالفعل وتدفق المخزون، وظهرت فى المعارض الأخيرة العامة بأداء يلفت الأنظار ويثير الدهشة أين كان كل هذا الإبداع ..
- تمتلك عطيات رؤية تعبيرية عارمة.. تصعد وتهبط بالمنظور.. تضغط النسب والأشكال والعناصر أو تبسطها.. تلامس المدرسة التعبيرية برؤيتها الذاتية الخاصة.. الأسود والأبيض عندها يضارع اللون.. تتحول الماكينة والدراجة وأى آلة إلى كائن متحرك- شقى- يكاد يشعر المتلقى بالضجيج وصخب الحركة.. فهى تمرر العناصر بانحناءات والتواءات محسوبة بإرهاف، فتحيل الدراجة إلى عربة ` شقية` ..
- بعد هذا `الانفجار` الإبداعى عند الفنانة عطيات.. والذى يبدو أنها تشعر بعده بأنها كانت فى سباق `محموم` .. نراها تبحث عن لحظة رومانسية، فتجلس أمام الورود والزهور تعالجها بأكاديمية رقيقة.. وأيضاً فى منظورها الخاص.. وبخاصة فى تكوين اللوحة التى تغمرها بعناصر كثيرة من النباتات وتحولها إلى `باقة` من الألوان ..
الناقد/ كمال الجويلى
حنيـن لأشكـال موحيـة
- ضمت صحراواتنا وجبالنا الشاسعة الممتدة شمالا فى سيناء، وشرقا بمحاذاة البحر الأحمر، وجنوبا على جانبى النيل، وغربا: وما زالت تضم أغلب الخامات الطبيعية، ومناجم الحديد والنحاس والفيروز والفوسفات والمنجنيز، وبدأت الصناعة مع بداية تاريخنا، باستخدام النار فى صهر السيليكا ( الرمال الصفراء)، وأكاسيد وكبريتات الحديد والنحاس : ومعدن اللازورد الأزرق الذى يتواجد فى مناجم النحاس، وألوان المغرة الحمراء وأشكال الفحم ، وتراكمات الأتربة المختلطة، إلى لون الصناج الأسود، المستخرج من ترسيبات دخان المشاعل الموقدة فى ردهات وأروقة آلاف المعابد القديمة، ويحكى لنا ( إ . لوكاس) و( ج.هاريس) فى كتابهما الضخم الشهير: ( الخامات والصناعات المصرية القديمة) : عن المصادر الطبيعية الواسعة الغنى والتنوع منذ القدم على أرض مصر، وصحراواتها، وفى جوف جبالها : وعن الوسائل التقنية القديمة، وعمليات التصنيع المعقدة التى قامت على استغلال كل إمكانيات المنتجات الحيوانية، ومواد البناء، وخامات دهانات الشعر والبشرة ، وتقطير العطور، وتصنيف أنواع البخور، والألياف، ومختلف أنواع وأشكال الأوانى المزججة، والمطلية بالخزف والمينا، والزجاج ، وأسرار تقنيات وأشكال وألوان صناعاته، وتشكيلاته، والخامات المستخدمة فيها جميعا بالصهر فى درجات الحرارة العالية فى النار، والنفخ و` فورمات` القوالب ، وأفران التحميص ، وكل الأسرار التى كان يحيط بها ( القمراتى ) النافخ فى عجينة الزجاج ، وريث صائغ الأشكال خنوم (غنم) الكبش الذى كان ( فى أساطيرنا القديمة) يشكل هيئات ( بنى آدم) من الطين الأسوانى، عجلة الفخار الدوارة ، وصانع الأوانى المرمرية من بعده باستخدام (المثقاب)، فى ثقب وتجويف كل أنواع الصخور الصلبة من الكوارتزيت والجرانيت والأحجار الجيرية الصلبة، انتهاء بأنواع المرمر المصري ( الألاباستر ) .
- ونرى من النظر فى هذا كله،أن الزجاجات (القوارير)، وقوالبها، وأشكال صناعاتها، وألوانها، رغم هشاشة الخامة، ورهافة وشفافية وتألق ورقة كيانها، قد تقدمت على صناعة الحديد الذى عرفناه فى العصر المتأخر .
- عرفنا قبله البرونز طبعا، لكن كان الزجاج والـ `ألماظة` `الماسة` التى تقطع ألواح الزجاج هى أقدم أدوات أو مشارط القطع وأمضاها فى الحسم والبتر، على الرغم من سبق الفخار والمسارج الخزفية، وتوغلها رجوعا فى أعماق ما قبل التاريخ، تاريخنا الممتد الموغل المهيب .
- وها هى (القوارير) الزجاجات أمامنا تختلف باختلاف أشكالها وألوانها ومحتوياتها ( السوائل ـ المضمون أو المحتوى ) زجاجات الزيت بلون الزيتون الأخضر(الأخضر الزيتونى) ، وأوانى `الجعة` القديمة، اتخذت لنفسها قوارير معتمة تعلوها النجمة (سوبد) التى كانت تعلو سماء ( سيناء) من قبل، والتصقت فوقها على ( تيكيت) أسطوانى أو بيضاوى من الورق، يتمسح للإيحاء بعراقته، بعلامته التجارية (الأهرام).
- وزجاجات الخل، والسبرتو، والجاز الكيروسين، لملء وابور الجاز، (وتنك) البنزين لتزييت ماكينة الخياطة، وملء (السبرتاية) لزوم صناعة (عقار) القهوة السادة أو المضبوطة .
- كان التشكيل بعد عجلة الفخرانى، وبعد استخدام المثقاب فى تجويف الأحجار قد تابع تطوره حتى بلغ مرتبة التشكيل والتنظيم المبرمج على الكمبيوتر فى حقبة ` ما بعد الحداثة ` الحالية التى ما زلنا نحياها .
- لكن يرجع (الحنين) الذى نكابده الآن فى هذا المعرض، إلى حقبة أخرى سابقة للحداثة: تقع فى زمن ما بعد العصور الوسطى المعتمة : وقبل حداثتنا التى امتدت منذ منتصف القرن التاسع عشر، وحتى قرب نهاية القرن العشرين المنتهى . حنيننا هنا يتلفت الى أشكال من عصر (البخار)، شغلت موضوعات لوحات التصوير الزيتى للفنانة (عطيات) التى أنجزتها بمقدرة تلوينية، وتمكن فى السيطرة على(الفورم) ، تفوقها جميعا قدرتها الفائقة على إرساء وترسيخ (الكتلة) فى الفراغ ..
- أشكال غابت عنا بعدما عايشناها، وتآلفنا طويلا معها، فلما غابت عنا (العين) تلفت (القلب) كما قال الشاعر العربى القديم فى وحشة بيدائه ..
- فى بيدائنا الحاضرة البالغة الوحشة، والتوحش، المغرقة فى تصنعها وفبركتها . وافتقار(ما بعد حداثتها) إلى كل حساسية: يتلفت الحنين إلى عصر البخار، وإلى ( الأشكال) التى راجت، وانتشرت وتمطت فى تكاسلها الفاتن على امتداد لياليه وأيامه .
- المحيط الأزلى الذى خرجت منه الحياة بأكملها، والذى دفع بخار مائه كل الخليقة إلى الأمام ، وواصل بخاره التصاعد والتكاثف عندما اشتعلت تحته جهنم ( الفحم)، وجحيم الأحجار، وغليان الغابات.. فتحركت القطارات فوق القضبان وشقت السفن والبواخر أمواج البحار والمحيطات، و( تكتكت) فوق `وابور الجاز` (البريموس الأصلى) كل أشكال وأحجام ( برادات الشاى) الصلب، والصاج المطلية بـ ` المينا ` بكل ألوان ( القطع الذهبى ) ، وكل ترتيبات ( المثلث الذهبى ) اللونين ، وكل تجاورات ( قوس الطيف) حول `الطاسة` السوداء المعتمة التى تضيئها، (من أسفل) دائرة الوهج البرتقالى المنتهى إلى اللونين الأصفر ثم الأبيض، حتى يتراقص غطاء البراد برفارفه الملونة المتماوجة بفعل `البخار` ضبابا مغبشا، شبورة (تأثيرية) فوق كل الأشكال منذ أواخر القرن التاسع عشر.
- وكانت حرارة، وضوء الشمس تزيح ذلك الضباب فى أشكال من الألق والتلألؤ، اتخذت هيئات هندسية وأسطوانية ودائرية فوق قماش لوحات مسطحة مفرودة كسطوح ألواح الزجاج .
- اتضحت بعد هذا الانقشاع ، أشكال، كانت تتشكل فى تمهل، وتتمطى فى بطء، وتتثاءب… كان تقدما حساسا خجولا متأنياً..
- حركة متأملة فى سرحان، لكن تتقدم .
- `وابور الجاز` الذى يشير إلى معانى العمل الحالم، والتأثير المتئد، بتكوينه الخيالى، وأذرعه (أرجله) الثلاث القائمة إلى أعلى تحت `الحلة` الكبيرة التى تتخذ هيئة دائرية أفقية أسطوانية مجوفة من النحاس الأحمر، وغطائها الأحمر النحاسى المتماوج يتراقص وتتذبذب حوافه برفارفها المبرقشة بقطرات الماء المغلى ورذاذه فوق نيران الشعلة الدائرية البرتقالية .
- خيط `الجاز` المندفع عند تسليك (الفونية) بإبرة ( الباجور) .
- التكوين؟ أم (الكتلة)؟ الكتلة، متماسكة وملمومة وسط ثلاث سيقان نحاسية مرفوعة إلى أعلى تجأر أقدامها على حواف حريق (الطاسة) بتركيبها المتفرد، وفتحات دائرة النيران على جوانبها .
- بالمناسبة تم تشكيل ( قوارير) زجاجية ثلاثية المقطع، لكى تتناسب فى استخدامها (ما بعد الحداثى) مع كؤوس الشراب ثلاثية المقطع التى ترتفع ساقها الوحيدة الرشيقة الممطوطة فوق قاعدتها المثلثة إلى أعلى، كما تواجدت فى حقبة `التكعيبية` أنابيب زجاجية مربعة المقطع، تم رفضها هى أيضا لتعارضها مع تشكيلات الطبيعة البشرية الحية المتمثلة فى أسطوانية العروق والشرايين بداخل الجسد الإنسانى.. إلا أن كل ألوان (باجور) الجاز، ألوان ساخنة، دافئة، وملتهبة، ومعتمة، تتخللها إضاءات لونية تتوزع بين ألوان الحرائق الثلاثة الأبيض والأصفر والبرتقالى ..
- `وابور الجاز` آله أسطورية صغيرة الكتلة متقدمة الصناعة `اليدوية`، ومعدة على أكمل وجه للاستعمال الإنسانى، بالإضافة إلى أنه `موبايل`. هدد نجاح هذه الآلة الغريبة وانتشار نفوذها وجود (الفرن الريفى)، وذلك (الكانون) الطينى الفلاحى اللذين كان وقودهما أكوام الحطب الجاف (حطب القطن والذرة) : واستغنى`الباجور` عن تلال الحطب التى كانت تتوج أسطح بيوت الريف وتتعالى بعد كل حصاد فى وجود الجاز الذى كان يصرفه البقال ضمن التموين إلى جانب زجاجات (الزيت) و(الخل) وقطع الصابون وأقماع السكر المخروطية الضخمة التى نوعت على تشكيل الهرم وتعمدت إلغاء وجوهه الأربعة، وتسويحها فى شكل مخروطى مستدير القاعدة ، صاعد إلى قمته المدببة فى استعباط ( ضد ـ هرمى) مريب . كانت صناعة السكر المحلية المصرية، على هيئة أقماع صلبة مخروطية معروفة لنا كلنا فى أيام الاحتلال التى صورتها رواية ( زقاق المدق )..
- `المدق` أو (الجرن)، وهو صيغة تدليل وتصغير لجرن دراس القمح الذى كان يدور فى دائرته مقعد النورج بعجلاته المشرشرة القاطعة لدرس أعواد القمح الصفراء الجافة وتحويلها الى تبن. كان `المدق` المنزلي لهذا أيضا يسمى بـ (الهون) عندما يتشكل فى (كتلة) من النحاس الأصفر الثقيل : وهو آله (سحق وتحطيم) منزلية داجنة، كانت لها مكانتها وسطوتها قبل بزوغ نجم بديلها الكهربائى (الحداثى) المسمى بـ (الخلاط) ..
- أما عجلات (النورج) الرباعية فقد تم تلخيصها منزليا فى آله حاسمة قاطعة مقتضبة تسمى (المخرطة) ، قامت بعمل (النورج) فى تقطيع أوصال أعواد الملوخية وتحويلها إلى كتلة من التبن الأخضر اللون . مقصلة تتحرك باستخدام اليدين فى حركة كحركة عجلة قيادة السيارة فوق قاعدة تسمى ( طبلية ) ، لها دورها الذى لا يمكن إنكاره أيضا فى سياق تحضير طبخة الملوخية، و`طشة` تقليتها الموسيقية برائحتها النفاذة التى تندفع صاخبة فى ( كرشيندو) يتدافع إلى آخر ( الحارة) .
- كانت ( الطبلية ) قاعدة أيضا ( للمفرمة ) وهى آله لفرم اللحم تمهيدا لصناعة ( الكفتة ) ، أو على أسوأ الأحوال لـ ( فرم ) الفول المبلول، والمنقوع فى ماء الخجل لاستبداله باللحم والدجاج، و .. للدخول مع أشكال نباتية أخرى مفرومة فى سياق طقس صناعة `الطعمية` الوثنى المهيب...
- الزجاجات بكل ألوانها ومقاساتها، والمخروطة والمفرمة، ومضرب البيض، وفتاحة علب السردين، والسبرتاية، وبابور الجاز وماكينة الخياطة كلها (أشكال / موضوعات)، اتخذت وجودا خالصا صافيا تصويرا، ينتمى فى مضمونه التشكيلي إلى البيوريزم Purisme التى أعلن عنها، وعين معالمها وهويتها التصويرية والتلوينية الفنانان `اوزنفان Ozenfant` وشارل ـ إدوارد جينيريه Jeanneret الذى عرف منذ عام 1921 كفنان معماري عالمي شهير باسم لوكوربوزييه Le Corbusier وقد ظهر مفهوم البيوريزم عام 1920 فى العدد الرابع من مجلة الفكر الجديد L `Esprit Nouveau ، وحدد مفهومه بتصوير الإنسان وعلاقته بما صنعت يداه من أدوات وآلات تتوافق وتتكامل معه فى استخدامه البشرى لها ، وتمد مدى وتوسع مجال إمكاناته، وتكثف طاقاته، وتركز جهده فى استخداماته اليومية الفعالة لهذه (الآلات ـ الأدوات) التى صنعها بيديه، متسقة ومتناسبة فى مقاييسها مع نسبة البشرية .
- أدوات محسوسة تستخدم لغايات حسية، ويحيطها غموض حسي ترتبط به مشاعر متقاطعة فى اتجاهات عديدة عملية وعقلية وشعورية، وتتخذ أشكالها ألوانا حميمية دافئة، قاتمة ، متألقة: برع من قبل فى الإيحاء بتأثيراتها الحسية والشعورية العنيفة من خلال (موضوعات/ لأشكال)، مماثلة لها فى أسطورتها (الأوروبية)، وإيحاءاتها البشرية( دروع ، وسبايا، ومحاربين، وبحارة ، وألوان مغوية للفتنة تتمثل فى رشاقة أجساد ساحرات سيرسى، وأقنعة ، وخوذات، وأشكال عديدة للبلطه، ومناجل، وصوارى للسفن وأشرعة) فى لوحات الفنان التعبيرى الألمانى المعجز (ماكس بكمان)، الذى تشاركه (عطيات) فى الإحساس الحاد بالكتلة واللون والملمس والمفهوم ..
- لكنها مع ذلك فى لوحات (عطيات) أساطير ملموسة واقعية، وأشكال حية ما نزال، نحن إليها وإلى ايامها العزيزة الخوالى، أيام بائع العرائس الشعبى ( شكوكو بإزازة، وسميحة بإزازة)، كانت (الإزازة) `القارورة` (عُمْلة) فى أيام الحرب، وما بعدها، وما قبلها حتى يمكن أن تشترى بها وهى فارغة تمثالا (عملا فنيا يدويا من أعمال النحت): قالب شعبى أو عروسه مبرقشة الملابس والأصباغ فى مقابل زجاجة فارغة. الزجاجات أشكال، وألوان، قد تتفق مع، وقد تخالف ألوان ما تحتويه بداخلها من سوائل (مضمونها) ، حامض كبريتيك ( مية نار) ، داخل زجاجة رقيقة هشة احتوت من قبل عطورا أو بخورا أو (كولونيا) أو ( ماء ورد)..
- واحتاج تصويرها ( زيتيا) فى لوحات (عطيات) المحكمة الواقعية التى تنتمى إلى روح الـ ( بيوريزم) فى إفراطها فى التدقيق فى لغة التشكيل، وإعجازها، و .. طبعا صفائها اللونى، إلى شحنات ( تعبيرية) أيضا ، تتهور لتقف على حافة ` التكعيبية ` للحظات خاطفة، وألوان كثيفة كألوان `باجور`الجاز المعتمة، وألوان `المدق` بتنويعاتها الحمراء والمفرمة والمخرطة موحية وقاطعة حادة كإيحاءات أجساد ( سيرينات) ماكس بكمان ، الرقيقة البضة، وهن يتلوين أنصاف عاريات فى لوحاته المخيفة تصويريا: المرعبة لونيا، الفائقة الروعة والجرأة فى التناول بضربات فرشاة ` بكمان` التى تشبه فى حساسيتها اللونية ضربات فرشاة وألوان `عطيات` .
- تتميز `عطيات` بقدرتها `الفورية الخاطفة على قراءة مكونات كل مركب لونى سواء فى الطبيعة أو على `الباليته`، بنظرة واحدة إلى اللون من على البعد، تتلو فورا وحالا كل مكونات تركيبه، ونسب مقاديرها إلى بعضها البعض، بالإضافة إلى `توابل` لونية عارضة موجزة جدا، فقط لكى تمنح اللون `طعمه` أو مذاقه ` الخاص .
- وماكينة الخياطة (سنجر)، والمرأة أمامها، بالفعل ، أو .. `بالخيال`، وتنك البنزين و `مارجونة` بكرات الخيط والمقصات ، وأصوات الـ ( زن) مع حركة (الدواسة) ، وصوت ( كر) المكنة، صورة حية لـ (المرأة) مع الشكل المكمل لها فى تركيبته ووظيفته فى لم إمكانات البشر، وصولا إلى أهداف بشرية خالصة! .. لوحة زيتية بالأسلوب الواقعى، تؤكد القدرة على استخدام ( الماكينة) والقماش كموديلات، طبيعة حية : ولوحات أخرى ` تعبيرية ` ، تقوم بترجمة الحركة والحنين ، والصوت والمعنى إلى صياغة تشكيلية ( تصويرية) بألوان زيتية أحيانا : أو ( جواش) فى أحيانا أخرى، تمد الرؤية الفنية، وتُنٌوع التناول، وترتجل العزف الذى أوحى بألحانه هذا الشكل الآلى الفعال ، الذى يجمع عنف الحديد ، ووخز الإبرة ، إلى رقة القماش الحرير ، واندغام الخيوط : صياغة مزدوجة بالقماش والآلة ، والألوان على ` التوال ` .
- هناك آلات أخرى ( قطع خردة ) مفككة ( طبيعة صامتة ) ، لكنها حية بتجمعها الفعال الديناميكى .. الذى كان !
- وهناك آلات حية متحركة ( بذاتها ) فى لون أزرق بحرى سائل ` يسيح ` فوق قماش اللوحة ، ويتكثف حول وتحت سيقان ( الكابوريا ) التى تعكس مشاعر البرودة ومعانى الأعماق .
- أشكال .. قدمتها ريشة ( عطيات ) بأكثر من خامة ، لأكثر من مرة ، بالحبر الشينى ، وبألوان ( الباستيل / الزيت ) للصحافة ، جريدتى ( الجمهورية والمساء ) فى الستينيات والسبعينيات ، وحتى عام 1995 من القرن ( الماضى ) . و.. بألوان الجواش أو الزيت على مساحات أوسع فى أكثر من تكوين لأكثر من تشكيل تصويرى فى معرضها الحالى :
حنين لأشكال موحية
- لا يمكن مطلقا أن توجد لوحة التصوير بدون ( الألوان ) كما قال أوزنفان ولوكوربوزييه : فلا التكعيبية ، مرحلة ( الأسود والأبيض ) عند بيكاسو من بين آخرين من رواد التكعيبية ، ولا لوحة الحساب الأخير فى ( قبة السستين ) أمكن أن يكون لها وجود بدون الألوان ، أعنى بدون القدرة على إدراك حتمية ودور اللون . وقد حل بعض المصورين هذه الحتمية ، عن طريق تحقيق ( التآلف اللونى ) harmony لإيجاد ( الوحدة ) التى لابد من وجودها فى داخل العمل التصويرى ، ( بتنغيم ) وتنسيق درجات نصوع اللون ، أى خلق وسيلة ( للتجانس ) ، واستخدامها كخيط رابط لتحقيق ( الوحدة ) الداخلية : وهى شئ آخر غير ( الكتلة ) طبعا .
- بينما أدرك آخرون ، حتمية الحرص على ( وجود الكتلة ) Volume فى أى عمل تصويرى يراد له البقاء ، وفى العمل يكون ` الفورم ` هو العنصر الذى يتحتم أن تكون له الصدارة ، ولابد لأى عنصر آخر أن يكون تاليا وتابعا له : لابد أن يعمل كل عنصر فى اللوحة على ترسيخ ( الفورم ) المعمارى البنائى ، لهذا كان مقلدو ( سيزان ) على صواب فى رؤيتهم لما فاته فى بحثه الجنونى العنيد عن ( الكتلة ) ، حتى لقد تبدت لوحاته بكل تنويعات ألوانها الخضراء ، وكل تنغيمات الأحمر القرمزى ، وكل تنويعات الأصفر الكروم ، والأزرق اللازوردى والسماوى التى حفلت بها باليتة ألوانه : وكأنها لوحات من أكثر أعمال فن التصوير الزيتى فى أى مرحلة من مراحله الحديثة افتقارا إلى الثراء والحضور اللونى ، بدت وكأنها لوحات اقتصرت على التصوير بلون واحد فقط ( مونوكروم ) ! .. يعنى ذلك أنه لابد من وجود موهبة وقدرة غامضة أخرى فذة يفتقر إليها مصورون ، حتى من طراز ( سيزان ) نفسه !
- فإذا كان لنا أن نمعن ( الرؤية ) فى أعمال ( عطيات ) ، فلا ينبغى أن تفوتنا قدرتها الفائقة على الإدراك الفورى ، والجرأة المعجزة على خلط الألوان بما يحقق لها جميعا حضورا لا يلغى فيه لون وجود أو تأثير أو نصوع أو حضور أى لون آخر .
- لابد من إدراك إمكانات وقيم كل لون برؤية فورية واثقة ، وبنسب محسوبة لأول وهلة ، ونقلها بضربات فرشاة حساسة محكمة إلى مكانها الصحيح المحدد فى الحال ! .. من أهم نقط ( عطيات ) التصويرية فى هذه اللوحات قدرتها على ترسيخ ( الكتلة ) فى لمحة خاطفة : إضافة الى ضربات فرشاتها العنيفة ، بتركيبات لونية ، وحسية حية سريعة متتابعة فى احتلال أماكنها الصحيحة ومساحاتها المنضبطة فى كل لوحة …
- ومع هذا الجهد المتصل الذى لايكل ، والذى يكاد يتتابع يوميا وبلا انقطاع : مع كل هذه الشحنة المتجددة من الحساسية والانفعال.
الدسوقى فهمى
الفنانة القديرة عطيات سيد ... زوايا للرؤية المتحولة
منذ سنوات وفى قاعة خان المغربى أقيم معرض رباعى لعائلة الفنان الدسوقى فهمى الفنية قدم له الفنان الدسوقى فى كتالوج المعرض لأسرته الزوجة الفنانة عطيات سيد والابن الفنان إبراهيم الدسوقى وزوجة الإبن الفنانة هند عدنان ولنفسه وقد قدم الكتالوج تحت عنوان يعنى أن أسرته تكون هرما فنيا بأسطحه الأربعة بعنوان ` أربع وجهات للهرم ` .
لكنى أرى ومنذ تعرفى على أعمال الفنانة القديرة عطيات سيد انها هى بمفردها هرم فنى لا يضاهى أعمالها أعمال أى فنان آخر فى الرؤية والمعالجة المتفردة شديدة الإبداع حتى أنها تمثل بمفردها مدرسة فنية خاصة بها .
وحاليا مقام للفنانة معرض استيعادى كبير ومهم فى قاعة بيكاسو بالزمالك فى لوحات معرضها تقدم بطريقة ما أوجه الشبه بين العناصر المختلفة مثل ماكينة الخياطة - مروحة المكتب - إبريق الشاى - المقعد - العجلة ومن وسائل الحياة اليومية تعيد إلينا الفنانة الإنتباه إلى الجمال فى الشئ ذاته بعيدا عن وظيفته رغم أن هذه الماكينات لم تعد تستعمل إلا نادرا وقد تمكنت بخبرتها كيفية تحرير العناصر وهى تحاول المط والحزف والإضافة والضغط والتصغير وما بين التبسيط والتعقيد يكون طرحها الخاص فى التعامل والأشياء حولها وداخل ذهنها وقبل التمثل أمامنا فى لوحات ولأن لذهنها عاملا كبيرا لذا نرى تناولها للمنظور الذهنى فى فكرة الإحاطة بالشئ من كل مداخلة ربما يعود هذا لعملها الطويل فى الصحافة وما يدعو لتناول الموضوع أو المشهد من عدة زوايا وهذا ببساطة قرارها فى رؤية عالمها وعلاقته بالمحيط حولها وهذا المفهوم يبدو الأكثر حقيقة فى تعاملنا والأشياء الملقاه فى حياتنا فهى وجهة نظر شخصية لا تتبع قواعد منظورية كلاسيكية ومن المثير أنه ليس فى لوحالتها نقط تلاش لزاوية الرؤية كما يحدث عادة خلال التعامل والمنظور الذى نراه فى لوحات الفنانة القديرة معقدا ومربكا وقراءته مرهقة ومع أنه فى وجود المنظور لا بد من وجود مسافة مرتبطة به إلا انه فى أعمالها لا وجود للمسافات الداخلية وهذه هى التأثيرات الرئيسية فى القرن العشرين فهى كالتكعيبيين ترفض المساحة التصويرية وتعدد زوايا الرؤية يحدث توترا بين الواقع والتمثل من واقع اللوحة وهو يعد تحديا للفنانة لم يناظرها فيه أحد فى هذا الأسلوب الذى أوجدته وتفردت به محققة هيكلية تتحرك داخله كيفما شاءت وبالتجريب والابتكار جاوزت عطيات سيد المنظور التقليدى لتنطلق بقوتها الذاتية فى إدارك الأشياء كقوة دافعة فى ذاتها لتحقق لنفسها مجالها الخاص فى رؤية وتصوير ماذا ترى وتوظيف ميكانيزم المنظور لتحقيقه دون التركيز على العملية الميكانيكية فى ذاتها بل على جمالية توقع أشكال حركة الساكن الجامد حين يعمل تحت ضغط طاقة غير مرئية فهى تفكر من خلال أشكال لوحاتها وهذا يعكس ذهنية ديناميكية فى نفس المكان وفى لوحاتها السيمولتانيوسنيس وتعاقب المشهد رغم ثبات اللوحة ورؤية التناقضات الأساسية كاللغة المتزامنة فى المعنى والمحرك له .
وإلى درجة ما تهتم الفنانة الكبيرة بالدلالات البصرية كأنها تتناول أشكال مختلفة من الإستعارة البلاغية فى تعاملها مع الصورة ومفهومها وتقليديا الإستعارة تعرف كنوع من المجاز كانتقال من خصائص الكائن أو جانب من جوانب وجوده إلى آخر بسبب التشابه بينهم فى أى جانب ولو ضمنيا وهذا ينشط تصور المشاهد كما أن الآلية تخلق استعارة تصويرية خلال التسلسل الزمنى وقد توحى ماكينتها المعدنية إلى ليونة الحركة وأن الزمن يتحرك متدفقا ببطء أو متعجل بشكل حاد فقد تعجل أشيائها المتحركة تتفاعل إيجابيا بين الزمانية والمكانية والسببية على وجه التحديد .
والفنانة عطيات سيد تصور الأشياء البسيطة فى حياتنا التى قد تدفع للملل لدى البعض إلى أنها فى جانب آخر تخلق انطباعا بالفوضى والارتباك انها مثل نظرة من أعلى من الفنانة الى البشر وميكانيكيتهم الحياتية .
وكما فى الأساطير اليونانية يحدث التجسيد حيث صورة لجماد أو كائن غير حى يمتلك صفات الكائنات الحية فالجماد قد يمتلك الصفات البشرية أو بمعنى أصح تمتلك صفات المفهوم نفسه كمماثلات مرئية .
وأعتقد أن الفنانة فى استخدامها الآلات المميكنة هو من أجل إنشاء مشاهدة مثالية من الفن الحقيقى وليس فقط حول رؤية عمل فيه من التكنولوجية الآلية والثقافة الميكانيكية قد تؤثر فى العمل الفنى لتقديم لوحة غنية بالطاقة والمعلومات أو كمحاولة انتاج الأطار الأكثر واقعية لعالم آخر ممكن وربما تحب الفنانة أن تركز على العناصر التركيبية مقابل الأيقونة فى الفن وهى تتحدى بأسلوبها الخاص كى تخلق عمق زمنى وعمق وهمى والتى تجعلنا منتبهين كمشاهدين لنرى الفرق بين ما كانت عليه الآلة ساكنة والشحنة التى نراها فى العمل بفعل إدخال فكر الفنانة فهنا ندرك الفرق بين الشكل بذاته والشكل بعد ذلك ممتزجا والفكرة ومثلما هناك ميكانيزم للمعانى كذلك هناك ميكانيزم للبصريات لابتكار الفكرة وهذا ما تفعله الفنانة القديرة فلوحاتها تدعو المشاهد لإقامة عملية تفكيكية بصرية فى تركيب الأجزاء ومفاصل الإتصال والسياق وفك الدمج والإتصال وخلخلة الأجزاء بما يؤدى إلى تعبئة التوترات البصرية نسبيا لإدراك التحكم فى الحركات التصويرية للشئ أمامنا ومدى قوة الصورة وبما توحيه من تكرار الحركة والإيحاء بالتدرج وقدرة بث الحركة فى الجماد بالتفكير فيه كموجود عاطفيا من أجل تركيب كائن جديد مراوغ فى حقيقته حيث أنه جماد وله سمة الحركة العضوية وهذا الإلتباس يخضع المشاهد لتفاسير مختلفة تتوائم والوئام البصرى والإدراكى وهذا التحول وتحرير آلاتها من الجمود يتغير بالتالى تكوينه البصرى ومفهومه الفكرى مما يدفع بشكل أعمق للتفكير فى أنواع التحولات والشيخوخة والتعاقب للعملية الحركية الميكانيكية فى تعاقب هيكلى وربما تدفع لبناء ميثولوجى أسطورى حول العنصر المعدنى .
الناقدة / فاطمة
جريدة القاهرة 2014
- إطلالة مهمة للفنانة القديرة عطيات سيد تشرف بها قاعة ( راغب عياد) .. إطلالة تبرهن على عظمة العطاء وثراء الموهبة التى اسهمت من خلالها فى كثير من مناحى العمل الفنى ما بين أعمال تصويرية ورسوم صحفية فى العديد من الإصدارات .. مشوار طويل يبرز قيمة الفنانة القديرة وإنصهارها الكامل مع تجربتها شديدة الخصوصية..
- المعرض يسلط الضوء على هذه الجوانب من شخصيتها الإبداعية ويقدم للمتخصصين والجمهور ملامح هامة من تجربتها الجديرة بالتسجيل والتوثيق .. وترصد عطاء أحد رموز التشكيل المصرى وواحدة من جيل الكبار الذين حملوا الراية من الرواد الأوائل من منتصف القرن الماضى واستكملوا المسيرة لتصل للأجيال التى تلت ، راية تعلن عن الريادة والسبق المصرى فى مجال الفن التشكيلى إقليمياً وبين الأوائل عالمياً.. وما زال العطاء مستمراً يدعو للتأمل ويحض على الأقتداء..
بقلم : أ.د. خالد سرور 2018
|