سوزان مصرى اسحق المصرى
الحلى من دلالات الجسد
- شاهدت جانبا من أعمال (الحلى) لسوزان المصرى منذ زمن بعيد. إذ ذاك كانت رفيعة المستوى، وعالية القدر، وجسورة فى كسر الاطر التقليدية، والثورة على النمط . أدركت منذئذ أن ذلك الفن (الحلى وعالمه) لا يحتاج الى الحرفة بقدر ما يحتاج الى الفن، ولا يحتاج الى التقنية بقدر ما يحتاج الى الخيال، ولا يحتاج الى المحاكاة بقدر ما يحتاج الى التفرد. - انما (الحلى) دلالات تضاف الى دلالات الجسد ويصل الهمس بينها وبين صاحبها حتى ( قرينا) للعشق، وللخط ، وللصحة والعافية، وللمستقبل، وللماضى، وللعقيدة، وللقلب الفعال، وللحلم، وللثقافة، ولدفع الشر. - تتصل تلك الدلالات (الحلى) بجسد صاحبها حتى تموه فيه، وتصير نفساً معبرة عن ذات صاحبها، فلا نخالنا نرى الحبيب والعدو والصديق مجرداً من تلك الدلالات التى صارت فى الجسد من علامات الاشارة . - هكذا كانت الحلى منذ القديم، وهى هكذا الان حين عركها جانب من بين اساطين القرن العشرين من أمثال بيكاسو، وسلفادور دالى، وبومودورو، وماتيس، وغيرهم، فاستقام العود على أصله، فمنذ شكل الإنسان ( ودعه) العشق والخط، وألقى بشباكه بحثا عن الصدفة المتحورة فى بطن البحر، ما يزال يروم فى (الحلى) تميمة الغموض والشجن الانسانى فى زماننا هذا. - وأما سوزان المصرى، فانها تقدم (حليها) وقد حفلت بشريحة من ذلك التاريخ مع الحلى. تضيف مسحة القديم، وتحقنه بالضباب الرمادى، وتحور بالشكل من حيث لا ندرى كيف بدأ وكيف انتهى، وتموه السطح حتى نرى تعاريج الصمت فى الصحراء وفى الحجر، فكأنها بخيالها الاثير اللامع تخرج بطن (الودع) وتجسده للناظر من حيث أتى، وتقدم همسة التزين للمجهول وللغامض .
أحمد فؤاد سليم
- معرض للحلى؟ بدا لى الأمر ( نافلاً ) كان على أن أدخل إلى الأتيلييه (49) وأتفرج على القطع الفنية التى تعرضها سوزان المصرى كى أكتشف عالماً ما كنت أعرفه من قبل: صناعة الحلى فنٌّ ملئ بالجمال، متطلب لكثير من الدقة والعمل الدؤوب، معتمد على الدراسة والتعلم والخبرة و.. الموهبة . - تحكى لك سوزان بداياتها واكتشافها البطىء لموضوع حبها : الحلىّ َ. كانت تترك مقاعد الدراسة فى كلية الهندسة فى القاهرة كى تذهب إلى ورشة تعيش مع عمالها وتتعلم معهم `مبادئ الصنعة` كما تقول . سافرت إلى الولايات المتحدة الأمريكية لتتلمس أكثر فأكثر عالم الفن. ( كانت تجربة غنية مع كثير من المحرضات) الاختيار يفرض نفسه بعد فترة من القلق . وداعاً للهندسة إذن، للمهنة ( الموثوقة) وأهلاً بالفن وتأرجحاته . - تحكى لك سوزان وتحب شبه الابتسامة على وجهها الجميل، تتوارى أحياناً وتتحول إلى ضحكة صريحة أحياناً أخرى . هذا كله قد يكون (عادياً) ؟ ربما . ولكن عليك أن ترى ـ مثلى ـ الوجه الآخر لهذه الفنانة عندما دخلت معها إلى مشغلها وأمسكت بآلة من تلك الآلات التى تستعملها ( والتى لا أعرف أسماءها ). وقتها رأيت امرأة أخرى : تعبير من الجدية والمتعة مع شئ من القلق سكن العينين وشد الوجه الأسمر، تعبير غريب مفاجئ . - فى الحلى التى تصنعها سوزان المصرى كل ما تعلمته خلال سنوات فى كلية الهندسة وفى دراسة الفنون الجميلة والرسم والتصوير، كل ما رأته من لوحات ومنحوتات ومعارض ، كل ما تلتقطه عيناها من جمال أو تفرد. كل هذا ينصهر ليخرج فى تصميماتها خطوطاً متميزة . - مصرية سوزان تتسرب من بين أصابعها إلى حليها، ومهما كان التصميم الذى تصنعه، ومهما كانت (حداثته) فإن رائحة مصرية تفوح من مسامه. - هذه الفنانة الشابة تصنع الحلى التى ترغب هى نفسها أن تتزين بها : من مادة نبيلة (الفضة غالباً)، هاربة من التصميمات التى يحدها الذوق العام إلى مناطق من الحرية، وهذه الحرية هى التى تجبرك على الاقتراب من هذه الحلى الفنية . - فى هذا اللقاء مع سوزان المصرى محاولة للتعرف عليها وعلى ( مخلوقاتها الجميلة ) كان لابد من العودة إلى البدايات : قد تدهشين إذا قلت لك أنه لم تكن لى أية علاقة بالفن أبداً ، وأنا طالبة فى كلية الهندسة، كانت لى صديقة سويسرية تصنع الخزف، وكنت أذهب معها إلى الأسواق والخانات لتبحث عن الحلى القديمة التى تحبها. أنا أيضاً تعلمت شيئاً فشيئاً تذوق هذا النوع من الحلى التى تخرج عن الذوق البرجوازى الصغير السائد. يومها قررت أن أتعلم حرفة واخترت صناعة الحلى لأننى كنت أحب الفضة . وفعلاً دخلت إحدى الورش التى تصنع الحلى وبقيت فيها فترة أتفرج وأراقب . تعلمت المبادئ الأولية فقط .
مها فارس
سوزان المصرى تجارب متعددة وخط واحد
- داخل الأحجار الكريمة والمعادن النفيسة تكمن طاقة طبيعية مؤثرة ومتفاعلة مع طاقة الإنسان، كما أنها تتحول الى مركز للإشعاع الجمالى عندما يترصع بها الإنسان، تأخذ العين وتعبر عن ذوق من يرتديها وربما تكون نافذة على شخصية صاحبها فن صياغة الحلى فن تجتمع فيه كل عناصر الفنون التشكيلية الأخرى، بالإضافة الى الدقة التى تحتاجها هذه القطع الفنية الصغيرة الحجم، واقتناء قطعة الحلى مصل اقتناء أى عمل فنى آخر تقدر قيمته باسم الفنان الذى أبدعه، والفنانة سوزان المصرى واحدة من مبدعى هذا الفن الدقيق وصاحبة أسلوب خاص وتجارب تصميمية متنوعة، تتميز تصميماتها بتوافق خاص تمتزج فيه عناصر التراث المصرى وعناصر التصميم العصرى الحديث ، علاقات تناغمية بين الجزء المشغول والمساحة التجريدية، علاقات بين خامات طبيعية شكلتها الطبيعة ومعادن نفيسة شكلتها قدرتها الفنية ودقة صنعتها ، منحوتات تجريدية صغيرة رسمت عليها لوحات ملونة الميناء . سوزان المصرى بدأت حياتها الفنية بدراسة تصميم النسيج ودراسة التصوير فى نيويورك ، كما أنها تدربت فى ورش صياغة الحلى بخان الخليلى، وظلت تعمل وتجرب وتصوغ وتبدع حليها لمدة ثلاث سنوات بعيداً عن أعين مريديها، ومع بداية الثمانينات بدأت تعرض فنها فى صياغة الحلى من خلال معارض الفن التشكيلى الجماعية ، إلى جوار لوحات وتماثيل كبار فنانى مصر التشكيليين ، وسرعان ما بدأت تتوالى معارضها الفنية الخاصة فى أهم قاعات العرض المصرية . سوزان المصرى امتدت بها مجالات التصميم لتشمل جوانب أخرى من مستعملات الحياة، فتجرى تجاربها على تصميم الأوانى النحاسية ووحدات الإضاءة والمعلقات النسجية، كما أنها تشترك فى المعارض الفنية بقطع من النحت ولوحات التصوير التى تقدمها فى شكل فنى معاصر ينتمى إلى الأعمال التصويرية فى الفن التشكيلى المعاصر .
- البداية...
- تجربتى الخاصة بها الكثير من الخطوط المتنوعة والمتشعبة لمنها فى النهاية مرتبطة ببعضها البعض وتنبع من أصل واحد، فالتراث المصرى نبع وأصل والفن الحديث مرحلة تمتد جذورها إلى هذا النبع الأصيل، وقد كان سفرى ومشاهدتى التصميمات الحديثة وإبداعات الآخرين فى باريس ونيويورك علامة فارقة فى حياتى ، وأدركت بعد ذلك ما يجب أن أسلكه من أسلوب فنى ، والآن عندما أعرض هناك أفهم جيداً ما يجب أن أقدمه، خاصة أننا فى زمن انفتاح على العالم، والعمل الذى يخرج إلى الخارج لابد أن يكون مميزاً فى هذا العالم الكبير، هذا العالم المفتوح سوف يساعد على إتقان ما ننتجه، ومقاومة الاستسهال والأنماط.
- الخصوصية...
- أحب أن أصنع كل قطعة حلى كقطعة فنية مستقلة وبطريقة يدوية. وقد أطلقت لنفسى الحرية فى التصميم وفى توليف الخامات، أحب الملمس الخشن مع الناعم، والثقيل مع الخفيف، واللامع مع المطفى، والشفاف مع المعتم .. كل هذه التوليفات بين المتناقضات يمكن أن يخرج منها شئ جميل. أطلق لنفسى حرية الحركة داخل التصميم، وأبدأ بفكرة أتوقع شكلها النهائى، وأظل أعمل حتى تخرج فى الشكل الذى كنت أتصوره فى البداية، وهذا المظهر الطبيعى والعفوى فى بعض الأعمال التى جاء عبر تجارب أنفذها دون تردد ونتيجة للعمل اليدوى الذى أحبه .
- الموضة...
- الموضة شكل من أشكال استغلال مناطق فى التراث أو حضارات الشعوب، يتم استهلاكها فى وقت زمنى قصير، وأنا لا أحب فكرة التغيير السريع ، ونحن فى مصر محاطون بالتراث المصرى الغنى، والنظرة لهذا التراث بعين جديدة لابد أن تثمر شيئاً جديداً وباقياً فى نفس الوقت .
- التراث المصرى عندما نراه بشكل عقلانى نخرج منه منتجاً أصيلاً ومنتمياً وحديثاً، والمنتجات الفنية الغريبة تعتمد على التشطيب العالى والتكنولوجيا المتفوقة والذهنية، وأنا أشعر بأن هذه الطريقة تختلف عن طبعى التلقائى وحبى للتشكيل الطبيعى وانتمائى.
- الخامة...
- الخامات الحقيقية لها قوة وتأثير فيمن يستعملها، وقد تضيف للإنسان قوة ما، ولكل إنسان معدن أو خامة تتوافق معه، والأشياء الطبيعية لها رونق، والوقت يضيف إليها جمالاً خاصاً. والأحجار لها قوة طاقة على الإنسان وتتعامل مع مجال طاقته وتؤثر فيه بالسلب والإيجاب، بالإضافة إلى أن الأحجار كانت تستعمل قديماً فى العلاج، وهذا علم مستقل بذاته، ولكن الارتياح مع خامة معينة يمكن أن يقدره كل إنسان متبعاً إحساسه وحالته مع هذه الخامة.
- التنوع ...
- بعد سيطرة التكنولوجيا الحديثة على صناعة الحرف، أحببت أن أعيد إنتاج تصميمات تعتمد على العمل اليدوى، صممت مجموعة من الأوانى النحاسية استخدمت فيها طريقة الطرق القديمة، التى تعطى شكلاً وملمساً فريداً، بالإضافة إلى استخدام النحاس مع الحديد كتوليفة جديدة، كما أدخلت النحاس المطروق مع (الشفتشى) شرائح النحاس المقصوصةـ فأعطت شكل (دنتيلا) معدنية أمام الإضاءة. وقد استخدمت النحاس مع الألومنيوم ومع الألبستر فى وحدات إضاءة. وأنا أميل إلى الشغل الشرقى فى التقنية الحرفية التى تبدو بسيطة فى النظرة الأولى ولكن مع التدقيق تكتشف حرفيتها العالية .
- الخط...
- أحاول استخدام الخط العربى فى التصميم خاصة الخط الحر التلقائى، وأحاول أن استخدم هذه الطريقة على الأحجار والعظم والفضة ، وهى طريقة مستوحاة من التصميم العربى القديم ، والاختلاف فى حالة العفوية ، الطريقة العفوية تظهر شخصية الإنسان وقدرته على التعبير، والخط العربى له شكله الجمالى حتى دون معرفة معناه ، كما أن للحرف قوة ، وهذا علم معروف فى التراث، كما أننى أستخدم الخط العربى فى تصميمات النسيج والمعلقات والورق، تصميمات تحتوى على أبيات الشعر الصوفى القديم والحكم الشعبية، وقد أعطت هذه التصميمات ذات المعانى جمالاً قريباً إلى النفس يمكن الاستمتاع به شكلاً ومضموناً.
مصطفى خليل
مجلة البيت اكتوبر 2000
|