ملتقى الأحجار .. بين محمد عبده ورياح الخماسين
- تظل الأفكار -فى الإبداع الفنى- ممتدة عبر الزمن، من جيل إلى جيل لا تتوقف، وتبقى الرؤى الفنية-بما تحمله من مخزون ثقافى مملوء بشحنات مرئية -هى الفيصل فى صياغة ومعالجة هذه الأفكار ليس كونها موضوعات مطروحة بطبيعة الحال ولكن كونها تحمل جانباً فكرياً تدفعه مبادىء وعوامل اجتماعية وسياسية تختلف من زمن إلى آخر، ففظائع الحرب التى تناولها `فرنشيسكو جويا 1746-1828` تختلف عن كوارث الحرب التى تناولها `بيكاسو1881-1973 ` لاختلاف المؤثرات والمضامين ومفارقات الزمان والمكان ، وكدليل على صحة ذلك نرى أن المثال محمد عبده عابدين المولود فى الشرقية فى العام 1973 قد لفحته رياح الخماسين العاتية والآتية من عمل فنى نادر لمثالنا الرائد `مختار1891 - 1934` مع أن الفارق بينهما عقود من الزمان . ونجمنا هنا حاصل على بكالوريوس تجارة العام 1996 - وشارك فى معارض محلية نذكر منها صالون الشباب فى دوراته الخمس الأولى ومعرض الطلائع أعوام 1999 ،2000 كما شارك فى أربع دورات للمعرض القومى، وشارك فى مؤتمر الشعلة بلبنان العام 2000 - كما حصل على جوائز عديدة أهمها الجائزة الأولى فى معرض مسابقة الرواد (وزارة الشباب) - الجائزة الثانية من بينالى بورسعيد العام 2003 ، ولم يحصل على دراسات أكاديمية فى الفنون ، ولكنه علم نفسه بإصرار العاشق للفن، فالثروة النحتية الرائدة فى فنونا المصرية القديمة جديرة بالتأثير فى فنانينا على مر الأجيال كونها تراثاً غنياً بالقيم الفنية والجمالية لاتحده حدود، وهى مدرسة تعلم منها الكثيرون وفى مقدمتهم المثال الرائد محمود مختار ، بالإضافة إلى الثقافة البصرية للفنان التى تدفعه وتحرضه على التأمل والبحث المستمر . ومثالنا محمد عبده هجَّن أفكاره الفنية فى خامات الحجر الصلدة لينتج أعمالاً رائعة نذكر منها تمثال (ودّ) والذى نحته من رخام كرارة تركى - وتمثال (لحظة حزن) من حجر رملى - وتمثال (الأرض) نحته من رخام كرارة إيطالى ، ويبدو أن الفنان اختار عالم المرأة كرمز للتعبير عن مكنوناته الإنسانية ، وللرياح قسطها الوافر فى عالمه التعبيرى، ونلمس هذا فى تماثيله التى تصمد أمامها فى حالة ثبات- بعكس رياح الخماسين التى تواجهها المرأة الرامزة للتحدى فهى تندفع عكس الرياح بإرادة وإصرار- فامتدت عبقرية الإبداع لدى مختار فى معالجة الجسد المواجه للرياح بالتفاصيل التى حددتها الرياح ورسمتها بقوتها مع امتلاء جلبابها بالرياح -فى الخلف- فى مقاومة عنيفة الاندفاع المضاد للرياح فى بناء جمالى يحده قوس علوى -متجها من الرأس إلى أسفل- وقوس مقعر من الأمام -عكس الرياح- فى تجانس وتوحد حركى تعبيرى غير مسبوق ، فالثبات فى الحركة لدى المثال محمد عبده يبدو وكأنه صمت واحتواء وحوار نحو الداخل ، أما طائره المجنح الذى انتفخت أجنحته بفعل الرياح وأطلق عليه اسم (الأرض) فهو كتلة رخام كرارة مرتكزة على مركز القدمين للطائر كأنها مزروعة فى الأرض وممتدة كالجذور فى باطنها ثم تنفرج إلى أعلى ويميناً ويساراً كالهرم المقلوب ليتوسطها جسم الطائر الممدود الرجلين، ويحدها بروز ممتد فى هندسية مختزلة، ورأس الطائر ذات إيماءة لأعلى، ويتوسط الجسم من أعلى انفراج كالقلب المفتوح فى توازن بليغ ، أما فى هذا الملتقى فقد اقتحم المثال الكتلة الحجرية والتى تزن أطناناً، وكان لتمثاله الصغير (موقف) تأثير مباشر عليه، فقد اختصر الأجسام الثلاثة إلى امرأتين اثنتين فى حالة ثبات حركى ممتد إلى الأمام واستقامة ممشوقة وتحدٍ يظهر فى الأرجل الممدودة والذراعين الحاضنين للقلب تحت عباءة منسدلة حتى الوسط- فى حركة لينة كأنها جسد صمد وتحجَّر بفعل طاقة الإرادة المتوازنة فى الاندماج الرأسى - وهنا تكمن فكرة التمثال -بعكس الرياح التى أتت برياح الخماسين لمختار والتى انقضت على الجسد فانحنى للأمام فى حالة مقاومة شديدة- ويأتى توحد الكتلة فى ثباتها وهرميتها الرصينة وقمتها، والمتمثلة فى الرأسين والمعالجة باختزال بليغ- على هيئة كروية مشطوفة كقرص الشمس فى استدعاء جمالى لضوء الشمس، ويتألق إحساس المثال وقدرته على إبراز شفافية وانكسار الجلباب فى المواطن التشريحية الهامة للجسم بتلخيص بليغ أدى إلى تطويع خامة الحجر لدرجة الإحساس بالملمس والجسد فى آن واحد فى كتلة متوالية التكرار المتعمد والتعبير الذى يستنهض الهمم من إحساس صادق لنجم جديد .
أ.د. احمد نوار
جريدة الأخبار - 2004