السيد صالح السيد القماش
- إن العمل الفنى نتاج كلى للاشعور وظاهرة إبداعية للآنا اللاشعورية العميقة . تلك الآنا التى تغوص فيها كل المكبوتات وغوامضها . وإنتماء الفنان المصرى منذ طفولته الى بيئته بحسه، هام ، كى ينتمى الى ذاته وينمى شخصيته . والالتزام بالمعايير الأثريه قد لا يؤدى الى الشخصية المصرية وانما ذلك الخيط الرفيع الجمالى الابداعى الذى ينشا مع طفولته ، وقد يتوه منه ليمسك به من جديد اذا وجد ذلك العبقرى الذى يكتشفه وظروف مواتيه. وبعيد عن الفوضى المقدسة يقدم لنا القماش نموذجاً فريداً رائعاً لمزيج من السيريالية البنائية والنيورومانسية الحالمة التى تعتمد على ذلك الخيط العقلى واللاشعورى العميق فى رفاهية حسية تواكب اللحظة . أن أعماله الفنية تعد استمرار للمدرسة السيريالية المصرية منذ بدئها فى أواخر الثلاثينات فى مصر . حين رفعت عصا العصيان فى وجه القوى الغاشمة والفاشية وخاصمت البرجوازية الاوروبية ، لتواكب اللحظة المعاصرة والولادة الجديدة بعيداً عن الغامض المبهم .
حامد ندا 1988
حبكة درامية مدهشة من الجداريات - لا يمكن لنا أن نفلت من أثر إبداعات الفنان الكبير تلك الإبداعات الحافلة دوما بالمفاجآت الفنية السارة وها هو فى معرضه هذا يقدم لنا بانوراما عامرة من الجدرايات تحتوى على مالذ وطاب من الفن والإحساس والخيال ولأن الفنان حصل على الماجستير فى بحثه القيم عن سمات التصوير الجدراى فى ( مقابر بنى حسن ) أو إقليم الغزال قديماً بالدولة الوسطى ولأن (القماش ) أيضاً قد نال شهادة الدكتوراه فى مظاهر التجديد فى التصوير الجدارى بقوة وامتياز بعد ان أمتعنا سابقاً برسومه السيريالية المبهرة والتى أفصحت عن براعة فى الرسم ووفرة فى الخيال ويبدو لنا من مشاهدة هذه التجربة الأخيرة امتنان الفنان (ببلاط السيراميك) وقطع الفسيفساء بالإضافة إلى كوكبة مثيرة من العناصر والخامات المساعدة مثل قطع ( المرايا ) ألوان اللاكيه - ألوان الزيت - الباستيل - الحبر الشينى - قلم الجاف الأسود - قلم الرصاص إن القماش يصر على صنع عمل فنى ممتع للعين ومثير للأسئلة ليس من خلال حاصل جمع هذه العناصر المتنافرة السابقة بل من خلال تنسيق وحذف وإضافة تستند على خبرة عقلية فريدة وذوق فنى وخيال خصب حيث تتحقق فى النهاية أعلى كفاءة فنية ممكنه .
ناصر عراق
ذكورة الرجال فى عالم المجهول
-الفنان القدير السيد القماش، فناناً واعياً ، ومبتكراً فريداً راجعت نفسى وأنا منجرف ناحية لوحاتك فوجدتنى أكتب اليك أن لوحاتك تملك رقة فى التنفيذ وحداثة فى الفهم واستخدام الخامة، وعلى الرغم من ذلك فقد عدت بى لتراثنا التشكيلى الذى كنا نراه فى رسومات عنترة بن شداد وأبو زيد الهلالى والزير سالم وغيرهم .
- نعم أحسست أن خطوطك من خطوط هذا التراث الشعبى المجيد، ولكنها موصولة بأرقى ما وصلت إليه مثل هذه الرسومات فى العالم .
- إن التحدى الكبير الآن ليس فى الألوان إنما فى النور والظلال وفى جدل الأبيض والأسود وفى دراما درجات الأبيض ومثلها من الأسود لقد عشت معك لوحاتك بهذا الفحم المتدرج وسط هالات الأبيض جيد التوزيع . - وكنت أرى نفسى فى هذه الملوك الرجال الذكور الذين يربطوننا بذكورة الفعل العربى وشجاعته، إنها لوحات تعيد الى نفوسنا قوة الشرق وبأس العرب إذا فهموا هذه الرموز الشعرية الجميلة .
- لقد تحمست لهذا العالم المحارب ضد الظلام وضد الجهل . إنك تثور فى لوحاتك على خنوثة الفعل، بوضوح شنبات الرجال الملوك الذين كنا نحبهم فى رسومات الشايب والملك والكومى والسنيورة فى لعبة الورق التى لم تعد تحمل هذا الجهل الآن . فأن الرجل رجلا والأنثى أنثى، وها أنت تعيد لنا ما نتمناه رجولة الرجل وأنوثة الأنثى. ولم تنس أن تنوع موضوعاتك وأن تغوص فى الحلم بين الحقيقة والخيال .- واعترف أن الخيال لديك جزء من الواقع ورسومك واقع عربى جديد .
أ.د / مدحت الجيار أستاذ النقد الأدبى
كتالوج معرض ` السفر فى المجهول ` بالمركز المصرى للتعاون الثقافى الدولى مارس 2000
أمنا الغولة فى عصر الكمبيوتر
-الفنان الدكتور السيد القماش يرجع بنا إلى أيام جدتى التى كانت تحكى لأحفادها حكايات أمنا الغولة.. وتضيف إليها ` مغامرات نص نصيص ` وأخوته الذين يتورطون فى مشاكل قاتلة بسبب عدم طاعتهم لأمهم فيسقطون فى أحضان أمنا الغولة !!
- وتدفعنا لوحات هذا المعرض إلى أيام `عصر السحر ` عندما كانت التعاويذ والرقى والكلام غير المرتب ترتيباً منطقياً هو الذى يملأ حياة البشر ، إلى الحد الذى جعل إحدى اللوحات تتسلط على الكمبيوتر فى عصرنا الحاضر وتعترض عمله حتى يحتضن الفنان الجهاز الحديث ويفك أسره ويطلق طاقاته التى قيدتها أمنا الغولة بالتوسلات ونداءات التهدئة التى أطلقها الفنان لترضيتها بعد أن رسمها .
- ورغم هذا المناخ العام المفرط فى السريالية فإن كل لوحة تمثل موضوعاً قائماً بذاته ..فبعد معرض آلات النفخ النحاسية المرتفعة الصوت، والقباقيب الطائرة والمفصلات والترابيس ذات الأجنحة التى تحوم حول `غية الطيور `فوق السطوح ، رسم الفنان فى هذه المرة وجوه جميلة عندما أقترب منها أفقد ثقتى فى جمالها واكتشف أنها غولة رغم جمالها.
- وفى لوحة المصيدة تصور الفنان أنه حبس أمنا الغولة فى مصيدة الفئران عندما تنكرت فى شكل فأرة كبيرة ..ثم يجعلنا نكتشف أنها لم تدخل المصيدة بل تطير بأجنحة خارج المصيدة.. ويعترف أنه لن يستطيع الهرب من أمنا الغولة .
- فى بعض اللوحات ظهرت كلاعب سيرك تقفز فى الهواء لتهبط واقفة على قاعدة مرتفعة لتنتزع تصفيق المشاهدين ، فالغولة تستطيع أن تتنكر فى أشكال مختلفة ، ولها كفاءات رياضية وتنكرية لا حدود لها .. ولا تظهر على حقيقها إلا إذا ضيطتك على انفراد !!
- إنها ترجع إلى أيام جدتى التى كانت تستخدم ( اللمبة الجاز ) أو مصباح الكيروسين .. وفى نفس اللوحة تحمل على كتفها المصباح الكهربائى فهى معاصرة أيضاَ تعرف كيف تضئ طريقها إلى فريستها.
- أتمنى أن يكون السيد القماش قد أفرغ ما عنده من مشاعر بدائية فى هذا المعرض ، ليحس أنه شفى من خداع أمنا الغولة .. وأرجو ألا يتضخم إحساسنا بأمنا الغولة بعد مشاهدة هذه اللوحات فيشمل الوطن فنحن نقول ( مصر أمنا ) أو يشمل بعض نساء الأسرة الذين نناديهم ( ماما ) ليتعلم الأبناء كيف ينادون أمهم .. لكننى أعرف أن فناننا السيريالى النشيط لن يشفى من عالم السحر وعصر المعجزات.
د .صبحى الشارونى
فبراير 2008
صرخة أساطير القماش
- أكاد أجزم بصحة ما قاله المؤرخ الكبير د. صبحى الشارونى بأن الفنان د. السيد القماش هو السريالى الأول فى مصر الآن، بل أضيف أنه نجح فى تحقيق ما فشل فيه غالبية من حاول الدخول إلى عالم السريالية دون قدرة متأنية على قراءة أساطير ذلك العالم السحرى، ولكن اسمحوا لى أن ألقى الضوء عن السريالية قبل أن أستطرد معكم فى الحديث عن أعمال الفنان سيد القماش، أصدر أول بيان عن السريالية عام 1924 فى باريس اصدره ` اندريا بريتون` وأول من أصدر بيان السريالية فى مصر كان جورج حنين عام 1938 وكان من روادها فى ذلك الوقت فى مصر الفنانون عبد الهادى الجزار وحامد ندا ، وسمير رافع ، وإبراهيم مسعود ..
- والسريالية اسم يطلق على الفنون التى تستمد أشكالها ورؤاها من نبضات عوالم العقل الباطن الغامض `اللاشعور ` فتسفر عن خيالات لا علاقة بينها ولا أساس لها فى دنيا الواقع والفنان القماش فى كل معرض له يشعرك وكأنه ما زال لدية الجديد الذى لم يقدمه بعد، فهو نموذج للريادة والقوة الروحية والقناعة الفلسفية التى تحولت عنده إلى سلوك يومى ونبض حياة أن فى أعماله الفنية تفاصيل ذات دلالة منتقاة من اللاشعور فجرت مظاهر الفكر الإبداعى لديه، ولذلك نجد رسوماته تثير الحوارات فى الوسط الفنى التشكيلى فأعماله تشعر وكأنها كتلة من الحديد ومع ذلك لا تفتقر إلى الحرارة والحماس والعاطفة وهذا أكسب أعماله الفنية أصالة ونضارة وحقق الوحدة بين الشكل والمحتوى وكشف عن منهاجية المعارض لأسلوب الشكل الوصفى واحدث عمقا إبداعيا بين النظام الاجتماعى والنفسى والتفريق بين التلقائية والسريالية بمعنى تجاوز الواقع، فالفنان لم يكن يوما ما بعيدا عن الحياة الاجتماعية أو منعزلاً فى صوامع الفن بل هو فنان منغمس فى المجتمع المصرى حتى الأعماق ، لذلك أجد بعض النقاد يخشون من مواجهة أعماله السريالية ولا يعالجها معالجة نقدية صرفة أجدهم يقتصرون على التقييم الجمالى والملاحظة الشكلية السطحية كالتى يكتبها بعض النقاد فى كتالوجات الفنانين التشكيليين فكيف يستطيع ناقد نقد عمل سريالى وهو لم يتذوق جماليات الفكر ولا تاريخ الفنان الذى أبدعه فلم يكن الفنان سيد القماش يرسم عملا سرياليا عبثياً أو ينتحل موضة فنية بل كان له تطور فكرى قادر على الإبداع والتحدى للنمطيات السائدة جعلته يغرد على الساحة الفنية وحده، هذه التفاصيل لدية ذات الدلالة عمقت الفلسفة السريالية لدية وبالتالى اجتذبت عددا كبيراً من المتلقين لفهم قيمة هذا العمل، فأعماله فى معرضه الأخير تنشأ من تكوينات وترتيبات من الخطوط والأحجام والمساحات اللونية من حيث بعدها عن اللون الأسود أو قربها منه والشعور بنسبة الانسجام والتوازن بين العناصر التصويرية المختلفة التى تدخل فى تركيب الصورة وتشكيلها فتجدها أحجاما متصلة ببعضها منفصلة عن بعضها البعض فأعماله الفنية تبدو لك كتلة من الحديد الصامت وتبدو مسكونة بإشارات مقسمة سلفا بسبب الاتساع المرعب التى تمتلكه هذه الإشارات، فأعماله لها تفسير درامى لا تترك عيونا أو أحلاما دون أن تدرك مفردات إبداعاته الفنية ، فأعماله هندسة مثالية التكوين الإبداعى تتألق فى لوحاته أضواء وحشية لا تحصى فهى لا ترى حدثا ماضيا بل حدثاً ذاتيا لذلك تشعر فى أعماله باللذة البصرية الدكتور سيد القماش ادخل مصطلحات فنية جديدة وآثار قضايا بشكل جديد ورؤية إبداعية ثاقبة، أطلق جرس إنذار للآخرين بأن الفن السريالى ليس نوعاً من الفوضى التشكيلية بل هو نضج لفكر جديد له نظرة فلسفية عميقة تتعدى حدود التقليدية والقدرة على التحليل النفسى واللاشعور ومعرفة هذا العالم الرهيب المختبئ وراء أسرار النفس البشرية التى تعتمد على الغموض التى يفرزها اللاشعور . فالدكتور الفنان السيد القماش لم يغرق الروح فى غمرة الحياة ولم يقم فوضى مقدسة مثل الآخرين وإنما يتمتع بالأناقة الأخلاقية فى عمله ويطلق صيحة التغير وعدم التبعية وأن ممارسة السريالية تكون فقط أكثر خطورة عندما تكون الأنظمة الإدراكية أقل قدرة على استيعابها .
د. إسماعيل محمد عبد المنعم
جريدة الحياة المصرية 2/ 2/ 2008
القماش يغوص بين دهاليز العقل الباطن متحديا الوعى
- فى قاعة الأوبرا بالمسرح الصغير يغوص الفنان السيد القماش فى أعماق نفسه الهائمة فى فضاءات الوجود تبوح خطوطه المعقدة والمتشابكة بما يجول فى عقله الباطن ليعلن عن أسراره الغامضة محاولين نحن المشاهدين اختراق اللاشعورى دون جدوى فمازال البعض يحاول جاهدا الكشف عن هذه الأسرار التى نعجز عن تفسيرها.
-فبعيدا عن رقابة العقل وفى ممرات الأحلام وسلطانها تبدو الحقيقة الكامنة بين براثن العقل ودهاليزه وقد فسر فرويد السريالية أنها امتزاج بين حالتين تبدوان متناقضين وهما الحلم والواقع وعندما نتأمل عناصر القماش فى لوحاته الصغيرة المرسومة بالحبر الصينى التى لا تتجاوز مساحة ورقة الكراس وهو يتعامل مع تلك المساحات الصغيرة لأن فكرة ينطوى على أفكار غزيرة فهو يريد أن يستكمل فكرته سريعا لينتهى منها وهو فى نفس حالة الانسجام العاطفى الذى يعيشة مع بداية العمل وهو يستثمر وقته كلما تمكن من ذلك فهو يملك سيل من السريالية الذى أصبح هو أحد رموزها وان كنت عاتبة على الفنان عدم استخدامة لأنواع راقية من الورق المقوى الذى يحفظ إبداعة لأكبر فترة زمنية وتقل مرات تعرضه لعوامل التلف خاصة أن ترميم الورق من أصعب أنواع الترميم لذلك كنت أحبذ اختيار نوع جيد من الورق والعمل على مساحة أكبر وتحضير سطح الورقة قبل استخدامة وفى نظرة متأملة على لوحات القماش تدور أعييننا على السطح فى حيرة شديدة تنتقل فيها العين من عنصر إلى خط إلى متاهات عميقة لتعود إلى نفس النقطة وتنطلق منها أخرى ومحاولة جديدة للغوص فى عالم الفنان الذى يعيش حالة من الاغتراب لنتعرف أولا على رموزه التى قد نراها متفرقة فى أعمال كثيرة من الفنانين ولكننا نراها مجتمعة عند القماش الشجرة والبوق والمصباح الكهربائى والسهم والعين والتمساح والسد والمفتاح والقط والهلال وشفايف المرأة معلقة فى قلادة حول العنق والنافذة المفتوحة وسياج من القضبان وحبال ملتفة وحصان مقيد مؤنس هل يريد الفنان أن يرتدى قناع الخيل بصفاته الجسدية والأدبية، مساحته الصغيرة مزدحمة بالخيالات ففى أفل اللوحة نزدحم العناصر التى عادة تتفجر من الأرض لتتناثر فى الفضاء لتلتقى فى حالة من التوازن المدرك ليكسر حدة الفوضى والعبث ليستقر أكثر فى الفضاء المحلق وأحيانا يضيف الفنان عنصر لونى خشبى أو مائى كالبرتقالى ليوجد علاقة بين كل هذه الخطوط الكثيفة وهذا اللون الذى يأخذ وضعا ضعفيافى مساحة العمل الفنى ونسأل أنفسنا هل مازال الفنان يبحث عن الحرية رغم اجتيازه كل هذه المسافات؟ هل الفنان مقيد بوسائل التكنولوجيا والبعد عن الطبيعة؟ وهذا الوحش المسكين القابع الساكن خلف قضبان النفس التائهة كيف يعود هذا السجد للحياة وقد أهلكته النفس؟
- أن رؤية الفنان هنا تدفعنا للتفكير والتوغل فى أعماق النفس البشرية الحائرة والمثيرة للجدل أحيانا وعندما يرسم الفنان البورترية فهو يشير للعقل فهو لا يعبر عن ملامح الوجه التقليدية فملامحة تحمل روح الإنسان المعاصر فى ظل ثورة المعلومات فيتجاوز تلك الملامح لتصبح الرأس بكاملها هى محور العمل الفنى وقد لا يكتفى لإنسان هذا العصر أن تكون له عين واحدة فترى الفنان يرسم له خمس عيون أو سبعا وفى عمل آخر نراه يرسم الوجه على هيئة كف اليد وبين الأصابع تقبع عيون حزينة وهذا الوجه الإنسانى لجسم طائر يحمل جناحين فى وضع الهبوط بينما تحلق حواليه تلك العيون الصغيرة المجنحة فى حين أن العيون السجينة بين أصابع اليد تحملق فى انكسار مستنجدة باآخر المهزوم ويتصدر اللوحة ذلك البناء المجسم من تحت مستوى النظر يحمل أعلاما كأنها ورقية ترفرف فى اتجاه واحد فى حركة حادة شبه منتظمة وفى نفس الوقت نرى فى الخلفية ذلك العلم الذى يرفرف فى حركة التوائية مختلفة عن باقى الأعلام أسفل اللوحة فى اتجاه آ خر عكس اتجاه تلك الأعلام الصغيرة ياترى ماذا يريد أن يقول ؟ هكذا نخرج من معرض السيد القماش محاولين حل هذا اللغز تلتصق مشاهد العمل بذاكرتنا ونحن نأكل وأثناء السير وأثناء الحوار تصطدم ذاكرتنا درما بتلك المشاهد المثيرة والمعقدة لتأخذنا داخل منحنى آخر من الحياة فنبدو فيها نقطا وخطوطا رقيقة تتناثر مع الرياح الآتية من المجهول .
د/ أحلام فكرى
القاهرة - 12 /3/ 2013
المصري سيد القماش رسام بين ثنايا الأبيض والأسود
- كائنات تُحلق بلا أجنحة عيون مُحدقة. أكُف مرفوعة وأجساد مصلوبة مخلوقات عجيبة تمر مشتعلة في سماء المدينة. المدينة كلها تبدو في الأسفل أشبه بغابة من المكعبات. متاهة كبيرة نسكنها وتسكننا، تحلق فوقها الكائنات وتسقط مرة أخرى، ثم تحلق وتسقط من جديد، في آلية لا تنتهي. هي صورة قريبة ومختزلة من داخل هذا العالم الذي ينسجه الفنان المصري سيد القماش بمفرداته وكائناته الخيالية. هذا العالم العجيب الذي يرسم ملامحه بسن قلم الرسم الصغير. ينشئ عناصر متجاورة بالغة الدقة، تتكاثف هنا، وتتباعد هناك، لتشكل في النهاية ملامح هذا العالم الأسطوري المسكون بالدهشة. جانب من عالمه هذا تضمنه معرض أقامه أخيراً في القاهرة تحت عنوان `إرهاصات نهاية العالم`. يحمل العنوان جانباً من تلك الرؤية التي يحملها القماش ويشعر بها تجاه ما يحدث من حوله، أو ذلك المجهول الذي تندفع إليه البشرية مُغمضة العين، كما يقول. إنها نهاية العالم كما رسمها وتخيلها، وهي ليست نهاية مادية، كما يقول القماش، بل هي نهاية لمنظومة من القيم السائدة من أجل إحلال أخرى مكانها.
- يبنى القماش عالمه الأسطوري عنصراً تلو الآخر، بطريقة أشبه بتداعي الأفكار، فهو حين يضع سن القلم على مسطح الورقة البيضاء، لا يدرك في كثير من الأحيان ملامح هذا العالم الذي هو بصدد إنشائه على مساحة الرسم. هو يبدأ في الرسم فتأتيه الصور في تتابع، الصورة تلو الأخرى، لتشكل هذا العالم الفسيح من المفردات المدهشة التي تحتفظ بقوانينها الخاصة، عالم تنتفي خلاله حسابات العقل والمنطق في بنائه وتراكيبه الخيالية. في هذا العالم تنهض الجمادات من رقدتها الأبدية لتتحول إلى طيور وفراشات، تُبعث فيها الروح كي تسيطر على مجريات الأمور، بينما نلمح أجساداً لكائنات من لحم ودم تمددت مستسلمة لحال الموات التي حلت بها. تتبادل العناصر أدوارها في مساحة الرسم التي يقدمها سيد القماش على اختلاف مساحاتها. تتقاطع المساحات وتتداخل بينها المفردات، يشترك بينها خيط واحد ظاهر، هو الاستحالة التي يفرضها المشهد.
- معرض `إرهاصات نهاية العالم` هو استكمال بناء لتلك الأسطورة التي ينسجها القماش عبر تجربته منذ تخرجه في كلية الفنون الجميلة العام 1982، تلك الأسطورة التى تستقى عناصرها الفنية من مخزون الذاكرة لديه،فهو ابن صاحب مصنع المسامير المولع بتتبع أجزاء وقطع الحديد وهي تتشكل أمام عينيه. تتداخل ذكرياته الطفولية مع حكايات جدته وحواديتها الخرافية عن `ست الحسن` و `الشاطر حسن` و`أمنا الغولة`، وغيرها من الحكايات، يمتزج ذلك ليشكل لديه مخزوناً لا ينتهي من الصور الخرافية. عالم كبير وواسع من المفردات والحكايات التي تتدفق من الذاكرة على مسطح الورق كلما عنّ له أن يرسم. بين المفردات التي تتداعى لتشكل هذا العالم الرمادي بالأبيض والأسود، دائماً ما نلمح بقعة اللون التي يضعها الفنان في جانب ما من جوانب العمل ليستثير بها الحواس، ويؤكد بها تلك الحالة الدرامية التائهة بين الحلم والحقيقة .
- وعن تجربته الجديدة يقول القماش : `إرهاصات تعني التمهيد والمقدمة والبداية، كما تعني أيضاً علامة أو دلالات، أو توقعات وتلك الفكرة سيطرت على مخيلتى منذ أوائل التسعينات فنهاية العالم فى تصورى قد تكون نهاية عوالم متعددة، ودول وحكومات وأفراد وماديات، وقد تكون نهاية أخلاق ونهاية استقرار ونهاية خداع، وغيرها من هذه الأشياء التي يتمنى الفنان أن تزول، بخاصة بعد تطور الإنسان وتغير سلوكه وأفكاره، وكذلك سيطرة الآلة على مقدراته وتراجع القيم. تلك العناصر تحولت إلى عناصر فنية تعبر عن مفهوم نهاية العالم، وتحتوي على عناصر فنية متعددة كالإنسان والنبات والطيور والحيوانات والجدران والفراغ والنار، في أشكال وحجوم ورموز على غير حقيقتها، وفي غير مواضعها في الطبيعة، متخذاً من البُعد الدرامي للدرجات اللونية وحركة الإيقاع واللغة الكامنة للعناصر في مسافات فاصلة متحركة، متلاقية متدابرة جامعة في مفهومها الرمزي والتعبيري.
- ويضيف القماش : `يأتى المعرض استكمالاً للحالة الدرامية بين أعمالى وما يحدث في كثير من المجتمعات الإنسانية عموماً وذلك منذ بداية التسعينات والتى تناولتها في عدد من المعارض، منها معرض ضد الحرب، ورؤية لإنسان القرن الواحد والعشرين والسفر في المجهول ورحلة الصمت والسكون والأسطورة وأمنا الغولة والخيال الجامح .
ياسر سلطان
الحياة - 1/ 4/ 2013
ما يكاد المرء ينتهى من مشاهدة رسوم فنان وينتقل الى رسوم فنان آخر ثم يغمض عينيه لتستريح ويهنأ باله قليلا عن التفكير فيما علق به من مشاهد رومانسية وتعبيرات درامية مختلفة.. وإذا بأحلام كابوسيه.. تيقظنا من غفوة الاسترخاء العابرة التى لم ننعم بها لمجرد أن ننتقل إلى مشاهدة رسوم الفنان (السيد القماش) التى عبر فيها بشكل عام عن الآلية الصناعية، ونفايات المدن المتصدعة ومأساة الإنسان المعاصر.. وأحلام الغربة والاغتراب ومسخ الكائنات واحتراقها وتبدلات الزمن الى آخره من المواضيع الإنسانية التى تشغله مثل باقى زملائه الرسامين فى أنحاء كثيرة من مصر والعالم ... و(السيد) هنا حين يبادر بالرسم للتعبير عن تلك الأشياء التى تختلج فى صدره أو عالقة فى ذهنه لا يلجأ إلى عمل دراسات تمهيدية من الواقع أو النقل ولا الاستعانة بصورة فوتوغرافية، قط يعتمد على رصيد من الرسوم والدراسات التي حصلها أثناء وبعد سنوات الدراسة وعلى ملاحظته الدقيقة للأشياء فى الطبيعة والبيئة المحيطة، وعلى قدرة خاصة للاحتفاظ بتلك الأشياء فى الذاكرة دون أن تبارحها ودفعها إلى خارج الذاكرة وقتما يريد، ولهذا عندما نشاهد رسومه المنفذة بالقلم الحبر الاسود (الرابيدو جراف) بتقنية الاسود والأبيض سوف نلمس على الفور تلك القدرة النادرة على استدعاء صور الاحلام ومخزون الذاكرة وتداعيات اللاشعور المليئة بالتفاصيل المدهشة.. لذلك يجب علنا تأمل العمل الفنى على مهل للإلمام بعناصر الاشكال ومفرداته الرمزية والتفاصيل الدقيقة التى يعنى بها عند بناء الصورة حتى يمكن أدراك المعانى التى تدل عليها وقيم التعبير المختلفة، وإلا قد يعتقد البعض أن الصورة فى سياقها البنائى والجمالى نوع من الهذيان أو الهلوسات غير المقبولة عقليا لكثرة ما بها من مضامين أدبية ومبالغة، وتحريف فى الاشكال يجعلها غير مترابطة وغير متوازنة.. على العكس فإن الإيقاع الدينامى لعناصر الاشكال الواقعية المحورة والمتراكبة فى جمل إنشائية متعددة غير تقليدية وإدراك علاقات التباين والتداخل والمفارقة بين بعضها وبعض سوف تساعدنا تدريجيا على استيضاح البناء الشكلي للصورة وما تدل عليه من دلالات ومعان.. انه يريد لنا أن ندرك الفارق بين الخيالي والحقيقي والوهمى والمعقول من اللامعقول والمرئى من اللامرئى.. من خلال تلك الرؤية الثنائية المتناقضة يمكننا أن نتجاوز مع الفنان حدود مستويات النظرة غير التقليدية للعالم، وأن نكشف ونعرف مغزى أسطورة الحياة التى تتستر خلف أقنعتها الزائفة وطقوسها الوثنية التى تستبيح فيها كل أشكال العدوان المبرر على المقدس وشيوع الفوضى والهيمنة غير المشروعة على الحقوق والحريات الإنسانية، مما يعنى قلقا وحزنا وعدم استقرار الإنسان.. انظر الى لوحاته: (مائدة القرابين، وانهيار مائدة، وحلم فى الغربة، وأحلام فوق سطح منزل، ووجه معصوب خلف الجدران، والزمن يطير، والإنسان والطاووس، ورؤية مستقبلية) وغيرها من الرسوم سوف نجد فيها جميعا (الإنسان) محورا من المحاور الأساسية التى تشكل موضوعاته وتكويناته، فهو إما قد تحول الى (حمار) مقيد المعصمين، صامت غير قادر على الحركة، وإما قد تحول الى هيكل من نفايا المعادن - مسامير وصواميل وقضبان حديدية وأسلاك كهربائية.. تتلوى وتلتف كالحيات من حوله لتغطى الوجه أو الرأس بالكامل حتى بات من الصعب تمييز ملامحه الآدمية التى فقدها.. أو قد تحول إلى إنسان آلي فقد السمع والحس والنطق على الكلام وإذا حاول أن يتفوه بكلمة فسرعان ما ينطلق القبقاب المجنح الى فمه ليخرسه !. لقد تغيرت الحياة وتغير الإنسان وتحول إلى مخلوق غير أدمى - خرافى - ينتمي الى عالم أسطوري غريب ومثير يذكرنا بعوالم.. هيرونيموس بوش وبروجل و(الجزار) وللسرياليين عوالم ترتكز على تركيب بنائي معقد، دينامى، حاشد بالتفاصيل والرموز التى يصعب معها حصرها وأدراك علاقاتها الجمالية والدرامية، فى بعض الأحيان مما قد يتسبب معه إرباكا بصريا وذهنيا لدى المتلقى إذا لم يترو فى تأملة للعمل. إنه تشاؤمي، ساخر عدمى.. ورغم هذه النظرة المليودرامية للعالم الذى يكاد ينذر بنهايته نتيجة للتقدم التكنولوجي الهائل فى العلم ووسائل التسليح التى تفتك بالإنسان فى كل مكان، وانتهاك الحرمات والمقدسات وشيوع الفوضى وانسحابها على واقعنا العربى المعاصر التى تجعل من تلك الرسوم وثائق احتجاج، أو تعبير عن حالات غضب وتقريرا مما آل إليه الحال، إلا أن وفرة الضوء على الاشكال واحتفاظ خلفيات الصورة بمساحات متدرجة من الظلال أو تركها ناصعة البياض يخفف نسبيا من كثرة عناصر الاشكال المتداخلة، المربكة للبصر من ناحية، كما تساعد على توازن التكوين تشكيليا وجماليا مع تكثيف وابراز المحتوى الدرامي للموضوع، وتذوقة والاستمتاع به.
د. رضا عبد السلام
من كتاب الرسم المصرى المعاصر
التشكيلى المصرى السيد القماش ... فارس الأبيض والأسود
غيَّب الموت الفنان المصري السيّد القمّاش عن عمر يناهز الخامسة والستين بعد صراع مع المرض. ويعد القماش واحداً من فرسان فن الرسم بالأبيض والأسود، ولا يخفى منجزه البصري كأحد الفنانين المصريين المتميزين في هذا المجال. تخرج القماش في كلية الفنون الجميلة في القاهرة وعمل أستاذاً لمادة التصوير الجداري في كلية الفنون الجميلة في مدينة المنيا جنوب القاهرة والتي كان أحد مؤسسيها.
أكثر ما يميز تجربة الفنان الراحل هو ذلك الخيال الجامح الذي غلَّف أعماله، والفضاءات المسكونة بالدهشة التي كان ينسج تفاصيلها وملامحها على الورق من طريق أقلام الرسم الصغيرة. فقد عاش القمَّاش مستغرقاً في خيالاته إلى الحد الذي كان يخاف فيه من نفسه أحياناً حين يلامس خياله الجامح شيئاً من الحقيقة. فأعماله كانت ترتسم في مخيلته قبل البدء في إنجازها، وحين يجلس إلى مساحة العمل الفارغة إنما ينقل هذه الصورة المرتسمة بكل تفاصيلها في ذهنه ويجسدها على مساحة العمل. كان القماش يحوّل أحلامه وخيالاته تلك لوحات مليئة بالذكريات والأساطير وتفاصيل أخرى كثيرة. آخر هذه الأساطير والحكايات عرضها القماش تحت عنوان `إرهاصات نهاية العالم`، وهي تجربته الفردية الأخيرة التي حملت كثيراً من مخاوفه ورؤيته الفنية للعديد من القضايا والصراعات البشرية، كما تضمَنت استشرافاً للصراعات التي اندلعت في المنطقة. فقد كان يستشعر في داخله تراجعاً لهذه القيم النبيلة والمبادئ الإنسانية، وتدفعه مخاوفه إلى التساؤل الدائم حول مصير العالم والبشر في ظل تلك الصراعات والحروب والاختلافات الأيديولوجية، وكان لهذه المخاوف أثرها على كثير من أعماله اللاحقة.
اتسمت أعمال القماش بثرائها البصري والغني في العناصر والمفردات، واستندت إلى مخزون بالغ الثراء استجمع مفرداته عبر السنوات، منذ كان طفلاً يستمع إلى حكايات جدته. كان في صغره ككل الأطفال مغرماً بالاستماع إلى الحكايات والحواديت التي ترويها جدته، يقف مشدوهاً بهذا العالم الذي ترسمه الكلمات المسجوعة في ذهنه. كانت الكائنات والوحوش والشخصيات التي تمتلئ بها تلك الحواديت تقفز رغماً عنه إلى مخيلته، تزوره في أحلامه ويقظته، وظلت طوال رحلته مع الفن تمثل جزءاً كبيراً من نسيج خياله، محتفظة كما هي برونقها وطزاجتها ودهشتها الأولى. كان القماش ينتقي من هذه الحكايات كيفما شاء: مفردات وعناصر وأشكالاً وكائنات خرافية ومشاعر متوهجة لا حصر لها.
كل هذا الوهج الخرافي الذي أثارته في داخله حكايات جدته، يشتبك مع عالم آخر عايشه أيضاً في طفولته وتشكَّلت معالمه في ذهنه مع مرور الوقت، إذ كان يعمل مع والده في ورشة لتشكيل المعادن. كانت ألواح الصاج وقطع الحديد تتشكل أمام عينيه مفاتيح وأقفالاً ومسامير وأشياء أخرى كثيرة ظل يراها ويستحضر ملمسها لتتسلل دون وعي إلى تفاصيل لوحاته وتلتحم بكائناته الخرافية مشكلة أجواء ذلك العالم الذي يسكنه.
يصنف كثيرون أعمال القماش في ما يمكن أن يطلق عليه `السريالية المصرية`. ويرى بعضهم أن تجربته تعد امتداداً طبيعياً لهذا التوجه الذي ظهرت ملامحه في مصر مع فناني جماعة `الفن والحرية` التي أسَّسها جورج حنين في مطلع أربعينات القرن العشرين. غير أن القماش لم يكن يحب هذا النوع من التصنيفات، فهو لم يسع إلى إدراج أعماله تحت أي مسمى أو قالب، ولم يكن يحبذ ارتباطه بمدرسة أو اتجاه بعينه حتى لو كانت طبيعة شخصيته ومعالجات أعماله تتلامس في شكل ما مع ذلك الاتجاه الذي يغلب عليه التعامل مع الأحلام والأفكار الميتافيزيقية.
مثَّلت رسوم الأبيض والأسود التجربة الأوضح والأكثر تأثيراً في حياة القماش، على رغم تجاربه اللونية وتخصصه كأستاذ في قسم التصوير الجداري في كلية الفنون الجميلة. وقد يكون عمله لسنوات في أحد المكاتب الهندسية قبل الالتحاق بالفنون الجميلة، أثَّر في علاقته على نحو ما بهذه الأدوات. فقد تدرَّب على رسم التفاصيل واستعمال أقلام وأحبار حتى صارت تلك الأدوات جزءاً من تركيبته اللاواعية في تصور الأشياء. وبلونين اثنين ظل ينشئ عالماً كاملاً من الظلال والمفردات والعناصر التي لا تنتمي إلى أحد سواه. عاش القماش ورحل مخلصاً لمساحة الرسم، تلك المساحة الصغيره التي شيَّد فوقها عالمه الشاسع والمدهش والتي ستظل بعد رحيله شاهدة على تجربته الفريدة في الرسم بالأبيض والأسود.
ياسر سلطان
الحياة 2016/10/17
سيد القماش .. ودراما الأبيض والأسود
عن عمر ناهز 65 عاما رحل الفنان د.سيد القماش استاذ التصوير الجدارى بكلية الفنون الجميلة بالمنيا وصاحب الاعمال السريالية التى تخاطب الوجدان وتتعانق مع دنيا الخيال واجملها ما قدمه الابيض والاسود فى ملاحم درامية متفردة تعد مساحة فى السريالية المصرية (( ما فوق الواقع )) وتمثل استكمالا لروادها الاوائل خاصة وهو ينتمى لجيل السبعينات فى الفن المصرى المعاصر .. ومع تميز عالمه وتفرده فى فن الرسم تمتد اعماله فى التصوير الجدارى والتى قدم لها أكثر من معرض.
ولد الفنان سيد القماش بمحافظة الغربية عام 1951 والتحق بالفنون الجميلة جامعة حلوان وبعد تخرجه بتفوق عين معيدا بكلية الفنون الجميلة بالمنيا وشارك فى تأسيسها .. وكانت رسالتة لنيل درجة الماجستير ( سمات التصوير الجدارى فى مقابر بنى حسن ) .. ونال درجة الدكتوراه فى فلسفة الفن عن ( مظاهر التجديد فى التصوير الجدارى عند جويا ) .. وقد تولى رئاسة قسم التصوير بالفنون الجميلة.
فى أعماله السريالية نطالع اعملا تجابه المجهول انطلاقا من اخيله العقل الباطن ودنيا اللاشعور ومن الوهلة الاولى نلمح فيها ما يؤكد عمق معناها ومفاجات ما تحمل من الغرابة والاغراب والدهشة والحلم وليس اجمل مما كتبه الفنان حامد ندا احد اعمدة السريالية .
الشعبية حول عالم فناننا الراحل : `ان العمل الفنى نتاج كلى للاشعور وظاهرة إبداعية للأنا اللاشعورية العميقة . تلك الأنا التى تغوص فيها كل المكبوتات وغوامضها . وإنتماء الفنان المصرى منذ طفولته الى بيئته بحسه مهم كى ينتمى الى ذاته وينمى شخصيته .. والالتزام بالمعايير الاثريه قد لا يؤدى الى الشخصية المصرية وانما ذلك الخيط الرفيع الجمالى الابداعى الذى ينشأ مع طفولته.
وبعيدا عن الفوضى المقدسة يقدم لنا القماش نموذجا فريدا رائعا لمزيج من السريالية البنائية والنيورومانسية الحالمة التى تعتمد على ذلك الخيط العقلى واللاشعورى العميق فى رفاهية حسية تواكب اللحظة .. ان أعماله الفنية تعد استمرار للمدرسة السريالية المصرية منذ بدئها فى أواخر الثلاثينات فى مصر . حين رفعت عصا العصيان فى وجه القوى الغاشمة والفاشية وخاصمت البرجوازية الاوروبية .. لتواكب اللحظة المعاصرة والولادة الجديدة بعيدا عن الغامض المبهم .
ولقد جاءت لوحة ` اسد محلق وكرسى يحترق ` للقماش بما يعكس تلك الحالة من الغرابة يجسد فيها اسدا طائرا فى الافق يحمل شعلة واسفل ركام من العناصر مع كرسى مشتعل فى الوسط .. انها تلك الروح الوثابة روح الخيال المجنح الذى يتودد الينا فى الاحلام والكوابيس والرغبات الدفينة رغبات العقل الباطن ودنيا اللاشعور.
ومع عالمه السريالى له اعمال فى فن الجداريات تشدو بسحر اللون وبلاغة التكوين وتتميز بتنوع وثراء التشكيل وقد حملت معارضه فى فن الجداريات ما يوحى باهتمامه وتاكيده هذا الفن الذى جعل منه قضيته الاساسية ربما فى هذا الوقت الذى نحتاج فيه الى لمسة جمال على ابنيتنا مثل ` ايقاعات جدارية ` و ` جداريات خزفية ` خاصة وهو فن يرجع تاريخه الى اكثر من 18 الف سنة حين صور الانسان البدائى على جدران مغارات التاميرا باسبانيا رسوما لدواب متوحشة وجياد وبعد ذلك جاء التصوير الفرعونى على جدران المعابد صورة حضارية عكست لقيمة التعبير وارخت لحياة المصرى القديم فى ذلك الوقت .. وامتد التصوير الجدارى فى الزمن حتى الفن المعاصر.
وقد تالقت اعمال الفنان القماش فى عشرات الامتار من الجمال المسكون باللمسات العصرية فى تلخيص شديد وايجاز بليغ لا يقع فى هوة التجريد اللاموضوعى لكن ينتمى الى تعبيريته الدافئة الخاصة والتى جاءت خلاصة تجربته الطويلة فى فن التصوير والتى حلق من خلالها فى افاق جديدة من التصوير الجدارى من حيث الجمع بين الهندسى والعضوى وبين حيوية العناصر مثل الاسماك والمياة والمراكب الشرعية وتلك الالوان التى تتصاعد وتخفت من الطوبى والاحمر النارى والاسود والازرق البحرى والكحلى.
وهناك كتاب حول عالم سيد القماش للناقد صبحى الشارونى بعنوان ` عالم المفردات المدهشة فى رسوم سيد القماش `.
كما ان لفناننا الراحل كتاب ` جويا .. كنيسة سان انطونيو ` يضيف الكتير لمكتبة الفن التشكيلى .. وهو يتناول بالنقد والتحليل والتحقيق تلك اللوحة الجدارية الهائلة التى نفذها جويا بالفرسك على قبة سقف كنيسة القديس انطونيو فى مدريد .. ويعقد المقارنات بينها وبين كنيسة السستينا لمايكل انجلو وكنيسة سان باولو لانطونيو كوريجيو.
كان الدكتور سيد القماش مع شخصيته الفنية هادئا دمثا .. سنفتقده كثيرا لكن مايعزينا ماترك من بصمة فنية سوف تتاكد مع الزمن .. تحية الى روحه وسلام عليه بعمق ابداعاته وشخصيته الانسانية .
صلاح بيصار
القاهرة 2016/10/18
رحيل القماش وقطب فى أسبوع واحد
تميز سيد القماش بالهدوء والتأمل، واستطاع أن يؤكد نفسه من خلال حياته التى عاشها مع عائلته، فقد مزج حكايات الجدة بالعديد من مفردات الحديد الخردة التى كان يجمعها والده فى ورشته الخاصة. هذا بخلاف تأثره الكبير بنشأته بطنطا حيث مقام السيد البدوى، ولجوء الدراويش والبسطاء للتبرك، والاحتفال السنوى بمولده، وما يحدث فى ليالى الاحتفال من ذكر وتودد حول المقام. كل هذا شكل ثقافة الفنان وتوجهه الفنى أيضا، وأضاف حالة من التصوف وحتى حالة اللاوعى فى تناول الموضوعات.
مزج القماش عددا من المذاهب الفنية مثل السريالية والتعبيرية والواقعية فى إنتاجه الفنى، ونجح فى تكوين أسلوب خاص به فى التشكيل، وربط العضوى بالمفردات الصامتة مثل المسامير والمفصلات والأدوات الموسيقية المعدنية ليخلق عالما غريبا يجسد فيه حكايات لكائنات خرافية تحلق فى أرجاء لوحاته.
وأعمال القماش بالأبيض والأسود لها قراءات عديدة لما تحتويه من فلسفات رمزية لأفكار يريد أن يطرحها الفنان من خلال التشكيل والإيقاعات والحركة وعلاقات الظل والنور مع فوضاه المرتبة، أو قلقه الذى يترجمه فى معظم لوحاته فى حكايات لا تنتهى.
فى لوحاته الملونة وجدارياته تشعر بإيقاعات سريعة وألوان كأنها لم تجف بعد. تشعر أن الألوان وضربات الفرشاة متلاحقة بإيقاعات مرتبطة بضربات قلب الفنان، ففى معظمها تشعر بحالة الحماس والسرعة التى تختلف عن أسلوبه فى الأبيض والأسود وكأنه يخاف من هروب الفكرة فيلاحقها.
ولد الفنان سيد القماش بمحافظة الغربية عام 1951، ورحل عن عالمنا يوم 14أكتوبر 2016، وحصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية من إيطاليا وبينالى الإسكندرية والكويت وترينالى بولندا وألمانيا. وشارك فى أكثر من60 معرضا عالميا فى اليابان، إيطاليا، إسبانيا، ألمانيا، النمسا، هولندا، بولندا، تركيا، الهند، باكستان، بيلاروسيا وغيرها من دول العالم المختلفة. وأعتقد أن أهم جائزة حصل عليها القماش هى حب المقربين له وشهادتهم له حين فاز بجائزة الأستاذ المثالى لجامعة المنيا عن عام 2008 التى تضم 17 كلية، وذلك عن مجمل نشاطاته العلمية والفنية والثقافية المختلفة والمؤثرة.
د. سامى البلشى
الإذاعة والتليفزيون 2016/10/29
عالم الفنان السيد القماش .. سريالية تناضل من أجل الإنسان
- مائدة خيالية تحلق فوق رءوس البشر. وفى القلب منها: أسماك وعناقيد عنب وأسلاك وأشلاء. رءوس بشرية. طواطم عملاقة تنتصب فى الفضاء. طواطم حديثة لكائنات تمزح بين البشر والآلات، وأخرى بدائية تمزج بين البشر والحيوانات. قبقاب بأجنحة يحلق فى الفضاء..وأخر فى طيرانه يتحول إلى نصف طائر مسامير تمتد وتتلوى كالأفاعى، ثم تستطيل اكثر وتتداخل كشبكة من الحبال ثم تدق وتصغر وتنبت لها اجنحة تسبح بها فى الفضاء وجوه بشرية معدنية جامدة لكنها تتألم وتكاد تطفر منها الدموع. مومياء ملفوفة الوجه نقف أمامنا شاخصة وكأنها تشهد على شيء ما. أسلاك معدنية تتفرع وتتداخل ككتلة من أعشاب بحرية. أسماك حية تطير، وطيور معدنية تنتصب بلا حراك. مدارات فلكية بها شموس وأقمار. تربطها اسلاك ومسامير وتحيطها شباك معدنية. غزالة وحيدة معصوبة العينين تحترق.
- تلك هى مفردات عالم الفنان السيد القماش. فكيف ننظمها؟ وماذا تقول؟. يتسم عالم القماش بكثرة المفردات وزحامها وتوالدها الذاتي، ولا تمثل الصور السابقة سوى مساحة رئيسية منها. مساحة يفترض فيها قدرتها على تلخيص الموضوع واقتناص ما هو جوهرى فيه، عبر وحدة مفترضة داخل كل صورة وعبر الصور جميعها. إلا أن العالم نفسة يظل أكثر تنوعا. مما تحتويه تلك المساحة بالمعنى الجامع لمكوناتها. فهو يحتوى على عناصر عديدة. عصية على التنظيم العقلى، وبالتالى عصية على التفسير. وليس من الضرورى أن نحاول تنظيمها وتفسيرها. فالحرية والعفوية هما بالتحديد علة وجودها. حرية مصدرها الذاكرة وترسباتها. وكشوف الأحلام، وقوة الأشكال البصرية فى حد ذاتها. ولحظة المباغتة فى الإبداع، والتداعى العفوى للمفردات إذ يجر بعضها بعضا دونما علة منطقية. والرغبة فى توليد التناقضات والمفارقات البصرية دونما سعى لتوليد دلالة محددة.
- وإذا نظرنا إلى تلك الصور السابقة نلاحظ أن ما يجمعها هو كونها جميعا تنطوى على تناقض محدد تتولد منه دلالة ما تناقض يمكن أن نصفه كثنائية تناقضية توحد فى الشكل الواحد بين شكلين متناقضين، وبالتالى تنقل لأحدهما دلالة الأخر أو تنقل لكل منهما دلالة ما مصدرها الآخر.
- ولكن ما الذى ينظم تلك الثنائيات التناقضية كلها؟ ووفقا لأى منطق؟ وماذا تقول؟. نجد الإجابة على مستويين من التحليل. يتناول الأول الرسالة العامة للأعمال كلها. ويحاول الثانى اكتشاف وبلورة نمط اخر من الثنائيات التناقضية المجردة. يقف فى موقع الوسيط بين الرسالة العامة وتلك السلسلة من الأشكال الخاصة.
- خلف تلك اللوحات بكثافة أشكالها المتداخلة. من السهل ان نكتشف وجود رسالة محدده ترفع راية الإنسانى فى مواجهة ما هو غير إنسانى. يتوحد
الإنسانى مع قيم محددة، هى: الحرية والطبيعة والفطرة والعمل اليدوى والسيطرة على الوجود الذاتى ونجد تلك القيم حاضرة بذاتها بجلاء وقوة. كما نجدها حاضرة فى قلب الحضور المسيطر لنقيضها، أى فى قلب الحضور المهيمن للشكل الدال على نقيضها. ويحمل هذا الهدف سيريالية من نمط اجتماعى مقاتل. نعم لازالت مثل كل سريالية تستمد مفرداتها وتكويناتها. من مجالات الحلم والمفارقة ومخزون الذكريات ولكنها تنطلق من تلك المصادر بمفرداتها واليات توالدها العفوية صوب هدف ورسالة واعية وسوف نرصد توتراً بين هذين العنصرين، عنصر القصد بما يحتويه من معان إرادية وعنصر العفوية بما ينطوى عليه من بساطة ومفارقة.
- وفىما بين تلك الرسالة العامة وسلسلة الصور والأشكال الخاصة يقف ما سبق أن سميته بالثنائيات التناقضية المجردة. لا ينحصر دور تلك الثنائيات. فى محض نقل المعنى العام إلى مجال الصور الخاصة التى تحكمها وجهة واحدة. وهى أيضا تولد نظاماً من المعانى الجزئية الخاصة بها والمتمايزة وجهه المعنى العام. هنا يمكننا رصد ثلاث ثنائيات مجردة: الميت والحى البسيط والحديث الكبير والصغير.
- إذا نظرنا للثنائية التناقضية الأولى سنلاحظ عند تحليل مفردات اللوحات دورها الهام يتحول الميت إلى حى. فنجد القباقيب الخشبية المبتة الملتصقة بالأرض. قد تحولت إلى كائنات حية تهجر الأرض وتحلق فى الفضاء. وفى تحولها هذا تجسد قيمة الحرية والذات وسمو الالتصاق بالأرض. كما تتحول المسامير الحديدية الصغيرة المستقيمة إلى أفاع طويلة تتلوى، تهبط من اعلى وتنبثق من الأرض وتسبح فى الفضاء. ثم تنبثق من رءوس البشر وأعينهم وكأنهم ثعابين رأس ميدوزا الشهير فى الميثولوجيا اليونانية وتركض الموميات من مقابرها ملفوفة الوجه بلفائف متتالية. تنظر إلينا بأعين لا نراها وكأنها ترغب فى الشهادة على مأساة أجبرتها على النهوض من توابيتها العتيقة. وفى المقابل يتحول الحى إلى ميت. ينصت البشر بقوة وجبروت داخل مساحة اللوحة. ولكن الآلات الميتة بتروسها وأسلاكها وسيورها وقوائمها وعوارضها تتحدبهم. تنبثق من داخلهم. وتقتحمهم من الخارج. وتحيطهم مشكلة الأفق الذى يحتويهم. لكى تحيلهم إلى ألات ميتة تنتصب كطواطم حديثة فى قلب احراش كثيفة وتنتشر الأعشاب والنباتات حول الطواطم الألية. وكأنها تشيد بقوة الحياة والطبيعة فى مواجهة الموت الكامن فى سيطرة الألة. ولكننا عندما نمعن فى التأمل سنلاحظ هنا وهناك الأشواك الحديدية الصلبة وقد خرجت منها والسطوح قد استدارت وتصلبت واكتسبت لمعان الصلب الميت. وخلف تلك التحولات من الميت إلى الحى ومن الحى إلى الميت. سنعثر بالتأكيد على الوجهة العامة للرسالة سابقة الذكر. ولكن تلك التحولات بتمايزاتها عبر الصور النوعية لوجودها. لا ينحصر مغزاها ودلالاتها فى إطار وجهة الرسالة العامة. فتظل تحمل داخلها وبحضور قوى دلالات خاصة. ومفارقات لا يمكن تأطيرها عقليا. وسطوة المفاجأة العقلية. ومنطق خاص للبناء البصرى لمفردة بعينها فى مساحة خاصة.
- تعمل الثنائية التناقضية الثانية: البسيط والحديث على ذات المنوال السابق: إن البسيط ينبغى فهمه عبر معان متعددة مترابطة: الفطرى والقديم والأول والبدائى، مع الاحتفاظ بالمعنى النبيل لا التحقيرى داخل كلمة بدائى. يمتلك البسيط قوة كامنة فيه، قوة إنسانية بناءة وحرة. فى داخل تلك الأشياء الصغيرة العادية المحتقرة، قوة كبيرة لا تلفت نظرنا أو تستحوذ على وعينا. وها هى عين الفنان وبصيرته تكتشفها وتفض أمامنا سرها. هكذا يكتسب القبقاب البسيط دلالة نبيلة غير متوقعة، فيتحول إلى طائر يحلق بحرية فوق البشر والآلات العملاقة. ويصبح تميمة مقدسة تتدلى من عنق الإنسان لتربطه رمزيا بكون أعلى وأسمى، ووشم صغير منقوش فوق يده يحصنه ضد شرور العالم. أى تنسب إليه قوة أسطورية نبيلة ظاهرة أو كامنة. وفى المقابل يتحد الحديث الذى تجسده هنا الألة مع معان سلبية تماما. تنتصب الآلة فى قلب اللوحة كوحش ضار. فيه الكثير من التنافر والعنف والقبح. تقف كوحش يستعد لالتهام ضحاياه. من حوله تتحرك كائنات أخرى صغيرة عنيفة تنجذب إلية بقوة التماثل فى الهوية وبالرغبة فى المشاركة فى وليمة قادمة. وفى الوقت نفسة تبدو كطوطم بدائى لوحش حديث، يتعين عبادته وتقديم القرابين إليه. قرابين تتوسطها رءوس البشر المقطوعة. هنا يتناقض الحديث مع البسيط فى الدلالة الإنسانية. وفى تناقضه هذا نراه يكتسب سمه من سمات البسيط هى سمه البدائية بمعنى الفطرى النبيل. إلا أن تلك المماثلة بين قطبى البساطه. الحرية الحداثة العبودية ليست مطلقة. ففى المقابل هناك المسمار البسيط الذى يقف على أرض الدلالة العامة للآلة الحديثة. وهى مفارقة دلالية نجد تفسيرها فى طبيعة السريالية. بما تحرص علية من مفارقة وتناقض ولا انتظام فى اختيار المفردات ونظام المعانى المرتبط بها.
- إن الثنائية الثالثة هى الصغير والكبير إذا نظرنا إلى لوحات القماش سنلاحظ كيف تتجاوز فيها، المفردات ذات الكتل الضخمة والمتوسطة فى مركز اللوحة. مع عدد كبير من المفردات الصغيرة المتناثرة من حولها وأيضا داخلها،. تمارس تلك الثنائية وظيفتين: تشكيلية، ودلالية فى إطار الوظيفة الأولى التشكيلية البحتة تساهم فى التركيب البنائى للوحة، من خلال كسر حدة استواء السطح وتماثله. داخل كتل الأشكال الكبيرة. وعبر موازنة تلك الكتل بصريا بكثرة من الأشكال الصغيرة، وتوليد تيار من الحركة تمثله الأشكال الصغيرة السابحة فى الفضاء يناقض ويوازن الثبات المسيطر على الأشكال الكبيرة. وفى إطار الوظيفة الثانية تساهم تلك الثنائية فى توليد الدلالات وتوزيعها فالمفردات الكبيرة تتحد مع الآلات والإنسان الآلى المجمد، ومع الإنسان المفتت المنهار والأجوف ومع نتائج سطوة الآلة مثل مائدة القرابين. أما المفردات الصغيرة فتتحد مع الطبيعة. بعد أن جرى نفيها وإخضاعها وتجريدها من مضمونها الحى النابض. أى تتحد مع الطبيعة الآلية كالنبات والأعشاب الصلبة. ومع الطبيعة المقفرة من الحياة كالجبال التى لا تنبت فى أرضها سوى المسامير وحتى الصبار لم تعد تعرفه. ولكن مرة أخرى لا يتحد الصغير حصراً مع الدلالة السلبية، فلا تزال هنا وهناك نباتات وأعشاب وزهور حية، ولا تزال تلك القباقيب الصغيرة تسبح وتحلق فى الفضاء بحرية.
بقلم : صلاح أبو نار
مجلة : إبداع (العدد 3) مارس 1996
الفنان السيد القماش ( 1951 - 2015 ) .. على ضفاف السريالية
- هو أحد البارزين فى التعبير عما ` فوق الطبيعة ` فى حركة الفن المصرى المعاصر، التى تم الاعتياد على تسميتها بالسريالية المصرية ، وهو امتداد عصرى لجيل الجماعات الفنية فى مصر فترة الأربعينيات فى هذا الاتجاه ( جماعة الفن والحرية وجماعة الفن المعاصر ) خاصة الجزار وندا ، ومثلهما أيضا اتخذ من رموز الحياة الشعبية المصرية مدخلا إلى العالم السفلى لثقافة الطبقات المطحونة بما تشمله من خرافة وسحر وأسطورة ، حيث يعبر عن هذا العالم الرسم على الورق بسنون الحبر الشينى والقلم الرصاص .
- غير أنه جعل من مهاراته فى فن الرسم منطلقاً إلى رؤية تشريحية لما تحت جلد الواقع ، مستعيداً من ذاكرة التاريخ الآركيولوجى - ومن ذكريات الطفولة فى بيئته الشعبية والريفية برموزها ومخاوفها وأحلامها، ومن وسط ركام ` الروبابيكيا ` و` الخردة ` من التروس والمسامير والمخلفات والخشبية - رؤى مجازية عن معاناة الإنسان وتفكك أوصاله تحت القهر والحصار والخوف من المجهول الذى بات متأصلاً فيه ، وتمثل ذلك الخوف فى انقضاض وحوش ضارية أو زحف ألسنة النيران.
- غير أنه يتصاعد بهذه الرؤى ليعبر عن نبوءة بوضع الإنسان فى المستقبل ، الذى سوف تحكم عقله ونوازعه التكنولوجيا الآلة والميديا وثورة الاتصالات وفى العقد الأخير من حياته اهتدى الفنان إلى وسائط تعبيرية مختلفة .. من التصوير الجدارى إلى الفسيفساء إلى المرايا والخامات الصناعية ، مستكشفا عن طريقها رؤى جمالية تتحرر من ثقل المجهول وتنحو نحو التجريد فى متتابعات أرابسكية الطابع ، ولا شك أن لتخصصه فى تدريس التصوير الجدارى بالكلية إنعكاس مباشر على اتجاهه نحو التجريب بالخامات غير التقليدية لما تحدثه من تأثير لحظى على عين المشاهد عبر مساحات بعيدة .
بقلم : عز الدين نجيب
من كتاب ( الفن المصرى وسؤال الهوية بين الحداثة والتبعية )
|