عبد الحكيم يبحث عن الحقيقة في الخيال
- عارف إنك شبه توت عنخ آمون.. مش إخناتون؟.. يمكن فى استطالة الوجه.. عشان كده عشت في الحقيقة مع نجيب محفوظ، والوله بالحاكم المارق.. تفتكر `ماري مون` وصل للحقيقة.. خاصة إنها من أفواه رواه يقدسون `آمون`؟!.. عندما ترك لى الفنان عبدالحكيم مصطفى دعوته لمعرضه `زاد الخيال` ترك معها ذكرى ترجع لسنوات كُثر مضت عن لقائنا عند المخرج على بدرخان، ولم أعلم سر التذكير إلا بعد أن تقابلنا، فى قاعة `مصر` مقر عرض أعماله، حينما تحدث عن صلاح أبوسيف وشادى عبدالسلام وصلاح مرعى.. فهو مولع بالتفكير والحديث عن السينما رغم أن فعله الفني والذي تخصص فيه الفوتوغرافيا، وهو الآن مُنتج أحادى، له وحده، بعدما يتأمل. على خلاف السينما جمعية العمل. وعند مقولة صلاح أبو سيف الناجزة الوافية توقفنا `مافيش أستاذ فالفن`.. هل كان أبو سيف يتحدث عن الفن التشكيلي أم الفنون البصرية عامة؟.. فاسمه يذكرنا بصلاح ابو سيف صاحب الرحلة الفنية المُرتبطة بالتشكيل تاريخيا؛ حينما اشتغل الفنان الرائد عبدالسلام الشريف فى إعداد الديكور لأفلام السينما، حيث اعترف صلاح أبو سيف بنفسه أكثر من مرة بأنه كان يقوم بدق مسامير الديكورات التى أعدها الشريف، كما كان أبو سيف - الذي يحبه كثيراً عبدالحكيم- يحضر مع المخرج كمال سليم ليشاهدوا مغامرة عبدالسلام الشريف مع صناعة السينما في عام 1935، والتى بدأت بفيلم `تيتا وونج` والذى كان يمثل قفزة جديدة تشكيلياً بإبداعه فى المقدمة المتحركة لأول مرة والإعلانات والديكور وكان الشريف - الفنان التشكيلى - قد مثل فى هذا الفيلم البطولة الثانية أمام أمينة محمد وحسين صدقي. إذاً هناك ارتباط بين الفنان التشكيلي والعمل السينمائى ، لكنه فى حالة الشريف - دون التفكير فى مقارنات- ينحو مباشرة جهة العمل والفعل اليدوى، أما بالنسبة للمصور الفوتوغرافى فتكون مشاركته خارجية بعد اكتمال المشهد، إلا في حالة أن يكون في مساحة مُكتسبة من المخرج لصُنع مشهد أو كادر أو اختيار موقع أو تحويل السيناريو إلى لقطات تصويرية كما الاستورى بورد..
- لكن عبدالحكيم هنا لا يلعب ذلك أو ذاك، إنما هو عاشق السينما أو بالأحرى تفكير وأفكار مبدعيها من جهة الصانع الأول `المؤلف` وجهة المترجم للقصة أو الرواية، دون أن يفقد أحلامه قائلاً: `إن هان الحلم هان العمر` فيتحدث عن أبو سيف وشادى عبدالسلام، وعن نجيب محفوظ، خاصة ما يرتبط بالفكر التأريخى، في رواية `العائش فى الحقيقة`، وإن كان عبدالحكيم لم يرتحل كبطل نجيب محفوظ من أجل البحث عن الحقيقة، إنما رحلته من أجل شحن `الخيال`، فهو يرتبط بمشاهدة الواقع لجذب خياله، ونجيب يقرأ الواقع القديم لشحذ همة بطله بحثاً عن أصل الحكاية. ربما هنا كان لقاء إعجاب عبدالحكيم مع محفوظ، فالمشهد المُلفت لديه ليلتقطه؛ أحياناً تجد له مرادف لدى محفوظ حينما يصف المدينة الغابرة قائلاً: `وذات أصيل مررنا بمدينة غريبة، مدينة تطل من أركانها عظمة غابرة، ويزحف الفناء بنهم على جنباتها وأشيائها، مترامية بين النيل غرباً ومحراب الجبل شرقاً، متعرية الأشجار، خالية الطرقات، مغلقة الأبواب والنوافذ كالجفون المسدلة.. يجثم فوقها الصمت`، فهذه المشاهد أحياناً تراها فى صحارى عبدالحكيم. وأعتقد أن ما يؤكد ذلك ما استقطعه من الرواية ووضعه مع لوحاته بالمعرض ليربط بنفسه بين حقيقة إخناتون وبين الخيال: `وهناك عبر ألف خيال وخيال بزغت الحقيقة للفؤاد أقوى من أي منظر تراه العين.. كيف تجسد له ذلك الإله المزعوم؟.. سمع صوته فقط.. لا شمس ولانجم ولا تمثال؟.. لاشىء البتة.. لقد حطمنا الجدران بما سجلت من أكاذيب، ولكن الحقيقة يجب أن تُسجل`.
- وحينما يتحدث عبدالحكيم عن أعماله التى ينشرها على موقع تحوت، يصفها بالفوتوغرافيا التعبيرية، ويقول: وبها من الأفكار التى رصدتها الكاميرا تحاكى ثنائية المكان والزمان فى مصر، إن الشوارع فى الأحياء القديمة، والقرى فى الريف البعيد وأناسها البسطاء، وفى صحاريها الممتدة يحملون مخزوناً ثقافياً يجسد بعمق إرثاً مادياً ومعنوياً وتقاليد تليدة، تُأصل لديمومة ومسيرة حيوات مستدامة.. و`زاد الخيال` هو حصاد سنوات للذاكرة الشخصية، حاولت أن أسجلها في لوحات فوتوغرافية، لتعبر عما دار بخلدى من أفكار أو أحداث أو شخصيات قابلتها فى الحقيقة، أو لم أرها رؤية العين، طوقتنى بسبل المعرفة والهداية، في مشروع نتجت عنه 42 لوحة مربعة في الأسود والأبيض، من خلال زيارات متعددة من الفترة 2012 إلي2019 للصحراء البيضاء بواحة الفرافرة، وواحة البويطى. فكانت موضوعاتها عن المنحوتات الطبيعية المتغايرة من الصخور الجيرية وشخوص الأفرع الجافة لنباتات وأشجار الواحة، وما تشكلها من واقع افتراضي، تحفز المخيلة بتداعيات وانطباعات وجدانية مرتبطة بالتاريخ الشخصى للمشاهد فى صورة ذهنية خاطفة..
- وقد تلازمت فكرة أعماله بصرياً مع الطرح الفلسفي لنجيب محفوظ عن شخصية أخناتون لدى قراءته رواية `العائش فى الحقيقة`، وعلى الجانب السمعى حضرت موسيقى صديقه الأرمنى جورج كازازيان بعوالمها الموحية `الجنوب - سجايا - سبيل - مناجاة`.
- أيضاً ما يُشبك أعمال عبدالحكيم مع رواية محفوظ هو استخدام الأخير لتقنية السرد متعدد الأصوات، اعتماداً على وجهات نظر مختلفة للحقيقة يرويها أكثر من راوٍ، فهى كما تأويل الرؤية لصور عبدالحكيم تبعاً للمتلقى، وهو ما يتركه له الفنان في آخر الأمر، فنحن أحرار فيما نراه، على الرغم من وضعه أسماء لأعماله، باعتبار أن البداية كانت له؛ وهو ما حدث عندما التقيته فى معرضه، وبدأ يحكى عن أعماله وبعض اللوحات التى تحمل معنى يراه هو نفسه. فحكيم عندما قرأ وتأثر برواية نجيب بدأ يأخذ دور الراوى الأول لديه أو `مرى مون` الذى هو محفوظ نفسه.
فنحن نجد أسماء لما تخيله حكيم من أفعال الطبيعة بالرمال أو الصخور أو الأشجار، منها `جسد أبى الهول- معبد - السيد الرئيس -إيزيس تُطعم حورس - تل العمارنة - رياح الخماسين`، لكنه يترك لخيالنا الاختيار مثله، فكما رأى فى حوار صخرتين بخلفية السماء `حوار الغيوم` ذكرتنا كلتاهما بالفيلم الكارتونى الشهير UP حينما تخيل العجوز الصخور على شكل كلب وإنسان حتى فوجىء باقترابه بأنه فعلياً كلب أمام صخرة، لكن حكيم هنا ينقل إليك تخيله عن الواقع المرئي أمامه طبيعياً.
- إن رحلة الصورة الفوتوغرافية في مصر تزيد على الـ 184 عاماً، بدأت بالمصور الفرنسي فردريك جوبيل، لكنه آنذاك لم يكن المالك أو المُتحكم في النتائج وحده، حيث كانت الصورة تُلتقط على ألواح من الفضة يتم نقشها يدوياً فيما بعد من خلال أحد الرسامين، حتى أصبح المصور الفوتوغرافي مبدع أوحد لعمله، وربما شغف الفنان عبدالجكيم مصطفى برواية محفوظ يُعيدنا إلى المصور الفرنسي الآخر `ماكسيم دو كامب`، والذي كان قد قرر أن يخوض أول رحلة للتصوير في العالم بصحبة صديقه الأديب `جوستاف فلوبير`، بدعم من الحكومة الفرنسية في عام 1849، فتوجها إلى بلاد الشرق، بداية من ميناء الإسكندرية، ومنذ ذلك الحين أطلق المصور لنفسه العنان، فإما تسجيلياً بشقيه العلمى أو الجمالى وإما إعمال العقل مع الخيال لينتج لنا أعمالاً ترى الحقيقة فى ألغاز الخيال.
بقلم : مجدى عثمان
جريدة : القاهرة ( 11-4-2023 )