جمال الدين رأفت السجينى
- يمثل فن جمال السجينى مرحلة متميزة فى تطور فن النحت المصرى الحديث. كان منهجه فى أول حياته الفنية منهجا رومانتيكيا أسوة بأستاذه ( كلوزيل ) ولكنه سرعان ما اندمج فى أحداث مصر التى كانت مدوية وصراعات عنيفة بين القوى الوطنية وبين قوى الاستعمار ومن يسانده وتركت هذه الأحداث والصراعات فى نفسه الحساسة آثاراً عميقة ظهرت فى إنتاجه ويقول السجينى عن هذه المرحلة من حياته إن ما كان يشغله حالات البؤس والأسى .
- ثم بعد سفره الى فرنسا ومعايشته لأعمال المثال ( رودان ) الموجودة فى باريس ولكن القدر لم يمهله فقد قامت الحرب العالمية الثانية فحولت بعثته الى إيطاليا ثم إلى مصر وبدأ يظهر اتجاه السجينى فى فن النحت وبدأ يغزو الرمزية بعد الرومانتيكية، والرمزية أسلوب يلجأ اليه الفنان اذا لم يستطع ان يصرح بما يريد ويدفع الرائى الى التفكير العميق للوصول الى فهم الرمز .
- أول من أدخل الاتجاهات الحديثة ( الرمزية والتعبيرية ) فى فن النحت بمصر، وخلال مراحل السجينى المختلفة نجد فناناً اصيلاً متمكناً من فنه جاداً الى اقصى حدود قادر على بذل الجهد غزير الانتاج وكان السجينى فى أغلب أوقات حياته حزيناً قلقا ربما لأن طموحه الفنى بلا حدود ورؤاه الفنية بعيدة الأفق .
- وكان السجينى طوال 30 عاما من أبرز الأسماء، كان دائم التجريب والبحث وقد تميز بغزارة الإنتاج وكانت أعماله تثير الكثير من الجدل والمناقشات لكن أجمل ما انتجه هو أعمال الميداليه والنحاس المطروق التى كان رائدا فيها .
د. صبحى الشارونى
السجينى .. وتمثال العبور
- جمال السجينى (1917 : 1977 ) حصل على دبلوم مدرسة الفنون الجميلة عام 1938 بالقاهرة .. كما حصل على ليسانس أكاديمية الفنون الجميلة تخصص فن الميدالية بروما 1950، وعمل مدرساً لفن النحت بكلية الفنون الجميلة بالقاهرة عام 1951 ورئيساً لقسم النحت عام 1964 ونال منحة التفرغ فى مارس 1964 ثم تركها وعاد لشغل منصبه كرئيس لقسم النحت حتى إحالته للتقاعد عام 1977 .
- يمثل فن السجينى مرحلة متميزة فى تطور فن النحت المصرى الحديث .. وقد أخذ على عاتقه جملة حية من القضايا الوطنية التى أصبحت محوراً لأفكاره الفنية، وشغلته قضية بناء التماثيل الميدانية، ومن منحوتاته التى تحمل شحنة المشاعر القومية والوطنية تماثيل `النيل` من النحاس المطروق الذى تميز به عن فنانى عصره وحتى الآن كرائد عظيم فى هذا الفن، ` الحرية ` `هذه أرضنا ` `صحوة الفلاح ` `وجه الزعيم جمال عبدالناصر` `فلاحة` `مصرية` `أمومة` `العربى` .. وهو من المثالين القلائل الذين سبكوا تماثيلهم من خامة البرونز، كما برع السجينى وذاعت شهرته فى فن الميدالية لاستيعابه لخصائص هذا الفن .. وتعمقه فى دراسة النحت البارز والغائر فى الفن المصرى القديم.وتمثال العبور الذى نحته وصبه من خامة الحجر الصناعى عام 1975بطوله الأفقى خمسة أمتار ونصف وبارتفاع مترين والذى استقر فى إحدى الحدائق بمدخل مدينة بنى سويف ثم نقل فيما بعد ليستقر فى أحد الميادين الهامة بذات المدينة ليعيش بين الناس يستنهض حب الوطن.. فالتمثال عبارة عن جندى فى حركة انطلاق أفقية ممتد اليدين والكفين كرأس لحربة أو كمقدمة لصاروخ مصوب نحو العدو الصهيونى والجسد ممشوق مشدود متحد ومكتمل القوة واللياقة .. تجمَّع فيه نبض مصر وطاقتها الخلاقة فى حركة دفع توجهها إيماءة الوجه القوى الشجاع كأنه يحمل هذه الطاقة النادرة والكامنة فى جسد الأمة .. إن تأمل هذا التمثال النادر فى حركة الفن الوطنى.. يحرك فينا الإنتماء والتضحية.. والتمثال نموذج فريد على المستويين الإبداعى والوطنى فى زمن تلاشى فيه النموذج الملتزم بقضايا وهموم الوطن والإنسان، والتمثال الطاقة والصاروخ فى حالة وهج يطير مندفعاً من قلب الوطن مصوباً إلى عدو الأمة .. والعمق التعبيرى فى عموم هذا البناء الأفقى المائل إلى أعلى قليلاً تحكمه جماليات الدلالة والمعنى .. تكمن فيه علاقة البناء المعمارى المتوازن وحركة الجسد السابحة المنطلقة كالصاروخ فهذه العلاقة التبادلية والتكاملية فى آن واحد هى علاقة تضاد لقانون الجاذبية ومن هنا تتألق الفكرة وتتعاظم الخبرة الإبداعية والتقنية .
أ.د. احمد نوار
جريدة الحياة - 2005
السجينى للبيع فى الزمالك
- فى ظل رقة حال أسرته ، كان وجود كلية الفنون الجميلة إنقاذا لمستقبل هذا الفتى حيث لم تكن تشترط مجموعا محددا ولا تتقاضى مصروفات كبيرة فالتحق بها وتتلمذ على يد الفنان الرائد يوسف كامل ، أستاذ المدرسة التعبيرية ، وبعد الكلية سافر السجينى إلى فرنسا حيث استكمل دراسته هناك ، وكان ساعتها معيدا بالفنون الجميلة ، فى قسم النحت .
- وبدأت رحلة السجينى مع النحت فى المعادن ، وخصوصا النحاس والبرونز ، وابتدع التوقيع على تماثيله ، بعد أن كان الرسامون فقط هم الذين يوقعون على لوحاتهم ، فكان أول فنان فى العالم يوقع على منحوتاته ؟
- وفى حجرة على سطح عمارة فى الزمالك تزوج جمال السجينى من ابنه استاذه ، الآنسة هدى يوسف كامل ، فى أحد أيام سنة 1944 ، وانجبا ابنهما الوحيد ` مجد `!
- وبدأ السجينى فى هذه المرحلة الدخول فى عالم التصوير والرسم بالزيت والنحت فى الخزف ، مع مواصلته لعمله الأكاديمى فى كلية الفنون الجميلة .
معاناه !
- ويبدو أن السجينى كان شديد المثالية على المستوى الشخصى ، فقد كان يتفادى - فى حياته - العمل من أجل إنشاء متحف لتخليد ذكراه وجمع أعماله فيه .. وكان ينادى بوضع أكبر كم ممكن من منحوتاته العملاقة فى الميادين العامة ، ورفض ترشيحه لنيل التفرغ سنة 1963 ، فى مؤتمر صحفى عام أعلن فيه أن الفنان لا يمكن أن يبدع منعزلا فى بيته عن الجمهور .
- ولأن إنتاجه كان غزيرا للغاية ، فقد امتلأ بيته بالزمالك ، بأعماله النحتية والتصويرية إلى درجة لم يعد هناك معها أى مكان لوضع لوحة أو تمثال واحد .. ولأن أحدا لم يستجب لنداءاته فقد قام السجينى عام 1969 بحركة احتجاج فى مواجهة تجاهل مطالبه فى شكل إلقاء عدد من تماثيله فى مياه النيل ، عندما زاحمته هذه التماثيل فى مسكنه ، ولكن ظلت بهذا المسكن أعماله التى لم يرمها فى النيل ، وتقتنيها الدولة .. وهى الأعمال المعروضة الآن للبيع فى الزمالك .. على الرغم من مرور 22 عاما على رحيله .
- وحتى الآن يتناثر تراث السجينى ضائعا ويعرض للبيع فى إحدى صالات العرض بالزمالك بأثمان مرتفعة ، وهذا حقيقى ، لكنها لا تساوى شيئا إلى جوار الأعمال التى قال عنها أحد النقاد الفرنسيين ` المنحوتة الواحدة لجمال السجينى لا تقدر بثمن ، ثمنها الوحيد هو وضعها فى ميدان عام تتطلع إليها الأجيال ويتحسسونها ويلتقطون إلى جوارها صورا تذكارية ، ويبكون أمام معانيها ! ` ..
- مايعرض فى هذه الصالة ، هو آخر ما يمكن إنقاذه من أعمال جمال السجينى ، والغريب أن هذا لم يحرك أحدا من أعضاء لجنة المقتنيات التى تشترى من الكل ، ولا تشترى من السجينى .. أو ابنه ! مع أن ميزانية لجنة المقتنيات ليست صغيرة ، بل هى تقدر بالملايين ، وهى نشيطة فى الاقتناء لدرجة أن متحف الفن الحديث - مثلا - امتلأ بالأعمال حتى صار أشبه بمخزن الانتيكات !
الأخطر أن ` مجد السجينى ` - الابن الوحيد للراحل - كان قد أقام معرضين من قبل لأعمال والده ، رفض أثناءهما بيع قطعة واحدة من أعمال أبيه ، وهو ما اعتبره البعض تذكيرا لأعضاء لجنة المقتنيات بأن أعمال والده مازالت صالحة للاقتناء ، ومازال بعضها سليما لم يغرق فى النيل أثناء غضبة السجينى من الرأى العام !
- لكن مع ذلك لم يتحرك أحد لا فى وزارة الثقافة أو فى أجهزة المحافظات والمدن ، لاقتناء أعمال السجينى بعد هذين المعرضين ، وفاجأنا جميعا ` مجد ` بالمعرض الحالى الذى يعرض فيه أعمال ابيه للبيع ، وهنا يمكن أن يشترى ` سماسرة ` الفن هذه الأعمال ، أو أولئك الذين تحولوا إلى هواة اقتناء للفن داخل بيوتهم وقصورهم ، وهم مستعدون للسفر بالطائرات من بلادهم إلى القاهرة ، كى يشتروا أعمال السجينى !
- مجد يتكلم !
- التقيا مجد السجينى فى المعرض- الذى كان يرفض الحديث مع الصحافة- فقال: لست جاهلا بالفن كى `أتصرف` فى أعمال أبى عن جهل أنا ابن السجينى وأستاذ للتصوير فى الفنون الجميلة، وجدى لأمى هو الفنان الرائد يوسف كامل، وزوج خالتى هو الفنان الرائد كامل مصطفى عميد الفنون الجميلة الأسبق بالاسكندرية، وزوج خالتى الثانية هو الفنان والمصور المعروف`حسنى البنانى` وابنه عمى هى `زينب السجينى` الاستاذة بالكلية نفسها التى أعمل بها.
- أما المعرض فهو مفتوح للجميع، والاقتناء ليس مقصور على الأفراد الذين يتواترون على المعرض ، أهلا وسهلا بلجنة الاقتناء والدكتور عطية حسين رئيسهما ، ولم يعرض أحد شراء أعمال أبى ورفضت على الإطلاق !
- ومعظم الذين زاروا المعرض حتى الآن محترفو شراء ، وأصحاب أسماء فى عالم الاقتناء وليسوا جاهلين بقيمة ما يعرض ، ولا أعرف لماذا يلومنى الجميع ، مع أن هذا التراث فى يدى وحدى ، وأنا أعرف فيمته .
- وردا على تساؤل `المصور` حول أن تراث السجينى يعد ملكا للشعب كله، قال مجد منفعلا : أين هؤلاء منذ 22 عاما مضت على وفاة أبى ؟ الأعمال مكدسة فى البيت لدرجة لا يتصورها إنسان ، وفكرت عدة مرات فى أن أرميها فى النيل كما فعل أبى منذ ثلاثين عاما، هل هذا أفضل من أن يقتنيها الناس ؟ !.. مع الأسف أنتم تلومون شخصا لا لوم عليه، فهذا آخر ما فى يدى من وسائل لحماية تراث أبى ، ثم بعد أن أموت، من يضمن لنا أن أعمال السجينى المكدسة بالمنزل ستصان وتقدر ؟!
- والآن ماذا يقول الفنانون والنقاد ردا على أسئلة مجد السجينى ؟
* الناقد محمود بقشيش يقول إن ` مجد ` لم يجد فى يده وسيلة أخرى ، خصوصا فى ظل شعوره باضطهاد ذكرى والده وتراثه ، وتجاهل وزارة الثقافة ولجنة المقتنيات - عبر 22 عاما بعد رحيل الأب - لهذا التراث ! ولكنى استطيع أن أجزم بأن تراث جمال السجينى هو ملك لوجدان الشعب المصرى ، وهو بما يمثله من قيمة فنية رفيعة وقيمة تاريخية كبيرة ، فوق البيع والشراء ، مهما كان ثمن هذا البيع ، فهل نقبل مثلا بأن يباع تمثال نهضة مصر ولو بمليار جنيه ؟!
- ويضيف بقشيش : يبدو أن قدر السجينى وعائلته هو الخلاف مع وزارة الثقافة ، فأثناء حياة السجينى - الأب لم يلتفت أحد إلى أعماله المكدسة بمنزله حتى اضطر لإغراقها فى قاع النيل ، وها هو ابنه يعانى من المشكلة نفسها ، والغريب أن أحدا لا يتحرك على الإطلاق !.. وفى رأيى أن لجنة للدفاه عن تراث السجينى يجب أن تشكل فورا لملاحقة العمال التى تهدر ، وإنقاذ ماتبقى منها ، ومطالبة جميع الأجهزة المعنية - وليس وزارة الثقافة فقط - باقتناء هذه الأعمال ، وعرضها فى ساحات عامة وميادين ومتاحف .
* ويتساءل د .محمد العلاوى أستاذ النحت بكلية الفنون الجميلة ، وأحد أبرز المتأثرين بفن جمال السجينى : ما الغريب فى بيع أعمال السجينى ؟ ..
- رموزنا الخالدة فى الفن التشكيلى تسكن أعمالهم الآن مخزنا يسمى ( متحف الفن الحديث ) ، ولجنة المقتنيات تشترى أعمال الفنانين بأسلوب يخلو من التخطيط ، مع أن هذه اللجنة تعاقب عليها عدة فنانين منذ السنة التى رحل فيها السجينى وحتى الآن ؟!..
- ويضيف د .العلاوى : الحل فى نظرى إنشاء متحف للخالدين من فنانينا التشكيلين فى الرسم والتصوير والنحت والخزف وفى كل مجالات الإبداع الفنى .
- ويضيف د .العلاوى منفعلا : ما يحدث هو إهدار لمجموعة من الأعمال الفنية تشكل قيمة كبرى لمصر كلها ، و ` المريب ` أن معظم الألسنة سكتت فى مواجهة هذا الهدر ..
* الفنان التشكيلى ` محمد عبلة ` يقول : ما يضيع لا يعود أبدا تراث السجينى الذى أبدعه بذراعه الموجوعة ، يتوزع فى ` شتات ` مخيف بين قاع النيل ، ومتاحف لا يرتادها أحد ، وأقل القليل منها يسكن مكانه الصحيح فى الميادين والمبانى ، والآن يباع الباقى ، ومن منا يستطيع منع ` مجد ` ابنه من بيع هذا التراث ؟ .. قانونا لا يجوز ، ومن الناحية الأدبية لا حق لأحد فى منعه بعد أن شاركنا جميعا فى تجاهل تراث الرجل بعد وفاته وربما قبلها !
* د .حسين الجبالى نقيب الفنانين التشكيليين يرى أن لجنة المقتنيات يرأسها الآن د .عطية حسين ، وهو بلا شك يستطيع أن يقدر قيمة السجينى التى تهدر بهذا المعرض .. ويستطيع أن يقرر مايراه صالحا لإنقاذ مايمكن إنقاذه .. وتراث السجينى فوق البيع ، وأنا ضد بيعه بضميرى كفنان وضميرى كنقيب ، ولكن البديل لا يزال غائبا ، والنقابة على استعداد لاقتناء جزء من هذا التراث المعروض للبيع ، ومبنى النقابة سينال شرفا عظيما بهذا الاقتناء ولكن على باقى المسئولين أن يتحركوا ، سواء فى لجنة المقتنيات أو وزارة الثقافة أو الأحياء والمدن ، فلو اشترت كل جهة من هذه الجهات قطعة واحدة للسجينى لأنقذنا كل ما تبقى من هذا التراث .
* د .أحمد نوار رئيس المركز القومى للفنون التشكيلية يقول : عرضت على حرم المرحوم السجينى السيدة ` هدى ` منذ سنوات طويلة إهداء تراثه إلى الدولة وتوفير مكان لإقامة متحف لأعماله .. ولم تحدث تطورات بعد ذلك ، ولم تهدنا السيدة هدى أية مقتنيات للسجينى ، وكان فى نيتى ساعتها - عندما كنت رئيسا للجنة المقتنيات - إنشاء متحف للسجينى على غرار متحف محمود مختار ومتحف محمد ناجى .
- ويضيف د .أحمد نوار : وأنا أعلن عبر ` المصور ` وعلى مسئوليتى الشخصية عن أننى مستعد لإنشاء متحف لتخليد تراث السجينى ، على أن يهدينا ابنه الوحيد ` مجد السجينى ` أعماله المتبقية فى المنزل ، والمهم أن يكون عدد هذه الأعمال كفيلا بإنشاء متحف خاص ، وفى حالة عدم كفايتها لذلك ، فنحن مستعدون لتخصيص قاعة أو جناح كبير فى متحف من متاحفنا الحديثة لعرض هذه الأعمال ، وأعتقد أن أفضل مكان لعرض هذه الأعمال هو الأقصر على أحدث طراز عالمى ، وسيكون فن السجينى - المستوحى من حضارة مصر القديمة - منسجما تماما مع هذه البقعة من مصر ، ونحن فى انتظار رد ` مجد السجينى ` ومستعدون للتنفيذ فورا .
أحمد النجمى
مجلة المصور - مارس 1999
جمال السجينى يحتج على القبح من جديد
* معرض استعادى لأعماله التى لا تجد متحفا إلى الآن ..
- فى العام 1969 قام المثال الشهير جمال السجينى بإلقاء تماثيله فى النيل احتجاجا على عدم تخصيص أماكن له ولزملائه النحاتين لعرض أعمالهم فى ميادين وشوارع مصر، كان احتجاج السجينى قاسيا عبر عن رغبة فى استمرار مسيرة نحاتى مصر للخروج بالفن من المتاحف إلى الناس البسطاء، اللافت للنظر أن الدولة آنذاك لم تهتم باتخاذ رد فعل من اى نوع برغم ما فى الحادثة من دلالات مؤلمة، دفعت بسطاء الناس الذين كانوا يمرون إلى جواره للبكاء أو النقاش معه لمنعه هو وابنه مجد من مواصلة الاحتجاج .
-السجينى أغرق يومها نحو 25 تمثالا من أعماله المتميزة منها تمثال `الجلاء` الذى فاز بجائزة الإنتاج الفنى للدولة، وتمثال `النيل يموت` وطلعت حرب والدراويش وأم صابر .
- منذ أن قرأت عن تلك الحادثة وأنا منشغل بمسيرة هذا الفنان الذى أقدم على فعل درامى حافل بتلك القسوة النادرة، لكنى لم أتمكن من رؤية أعماله فى عرض حى إلا خلال الأسبوع الماضى، حيث تقيم قاعة الزمالك معرضاً لأعماله يتضمن 22 تمثالا و 8 لوحات من النحاس المطروق وفيها تتجلى السمات الأسلوبية التى تميز بها، وهو الذى عاش بين أعوام ( 1917- 1977 ) كانت كلها حافلة بالعطاء والإنجازات التى وجدت استجابات مختلفة، بداية من الفوز بجوائز وميداليات أو قدر كبير من الشهرة أحاط بتجربته التى عدها البعض علامة فى مسيرة النحت المصرى المعاصر، فما الذى دفعه إلى لحظة `اليأس` التى قادته إلى إلقاء تمثيله فى النيل؟
- الإجابة كانت فى دراسة للناقدة فاطمة على ظهرت ضمن حوار أجرته مع ابنه مجد فى مجلة آخر ساعة قبل سنوات وفيها إشارة إلى أن السجينى عندما أقدم على هذا الفعل كان يرى أنه `فعل خلاص` وضمانة لاستمراره وقدرته على ابتكار `بدائل ` إذ قال ( لابد وأن تذهب تلك التماثيل إلى قاع النهر بعيدا عن وجهى لكى أبتكر غيرها، لأن وجودها كان يدفعنى للتوقف والجمود والانتحار).
* أما الناقد عز الدين نجيب ففى كتابه `فنانون وشهداء` دراسة عن السجينى يرى فيها أن المثال الكبير أراد عبر هذا الفعل ` كسر عزلة الفنان` بعد النكسة، فهو يرفض أن تبقى اعماله محاصرة فى قاعات عرض لايدخلها إلا المثقفون والأرستقراطيون هواة الاقتناء، فقد صنعها للناس وبالتالى لم يرض بسجنها فى مرسمه ولم يقبل معها دور السجان ففضل رميها فى النيل لإطلاق صراحها .
- وحسب دراسات كثيرة أبرزها ما كتبه صبحى الشارونى فإن فن جمال السجينى يمثل مرحلة متميزة فى تطور فن النحت المصرى الحديث. دخل إلى مدرسة الفنون الجميلة فى العام 1933 ثم نال جائزة مختار للنحت 1937 وهو طالب، وتخرج عام 1938 وسافر فى بعثة، وكان منهجه فى أول حياته الفنية منهجا رومانتيكيا أسوة بأستاذه (كلوزيل) ولكنه سرعان ما اندمج فى أحداث مصر التى كانت مدوية وصراعات عنيفة بين القوى الوطنية وبين قوى الاستعمار، ومن يسانده وتركت هذه الأحداث والصراعات فى نفسه الحساسة آثاراً عميقة ظهرت فى إنتاجه، ويقول السجينى عن هذه المرحلة من حياته إن ما كان يشغله حالات البؤس والأسى، ثم بعد سفره إلى فرنسا ومعايشته لأعمال المثال (رودان) الموجودة فى باريس ولكن القدر لم يمهله فقد قامت الحرب العالمية الثانية فحولت بعثته إلى ايطاليا ثم إلى مصر وبدأ يظهر اتجاه السجينى فى فن النحت وبدأ يغزو الرمزية بعد الرومانتيكية، والرمزية أسلوب يلجأ إليه الفنان إذا لم يستطع أن يصرح بما يريد ويدفع الرائى إلى التفكير العميق للوصول إلى فهم الرمز .
- يعتقد البعض أن السجينى أول من أدخل الاتجاهات الحديثة (الرمزية والتعبيرية) فى فن النحت بمصر، وخلال مراحل فنه المختلفة نجده فناناً أصيلاً متمكناً من فنه جاداً إلى أقصى حدود قادر على بذل الجهد غزير الإنتاج وكان السجينى فى أغلب أوقات حياته حزيناً قلقاً ربما لأن طموحه الفنى بلا حدود ورؤاه الفنية بعيدة الأفق .
- عز الدين نجيب يعتبر أن فن السجينى مر بمراحل مختلفة لكنه ظل يركز على محورين، الأول هو قيمة الحرية والرغبة فى تحطيم الأغلال والثانى هو التجذر فى الأرض والاحتماء بالتراث فهو كما يراه `مزيج من التمرد والأصالة الحضارية` لذلك فهو رائد تيار الواقعية الاجتماعية فى حركة النحت المصرى المعاصر أو كما وصف تقرير لليونسكو بأنه نموذج للفنان الملتزم المباشر أى وضع الفن فى خدمة الفكر، ومكمل لسلسلة من الفنانين عملوا على استكمال جهد محمود مختار فى إحياء النحت المصرى القديم ومن بينهم أحمد عثمان ومنصور فرج وعبد القادر رزق وأنور عبد المولى . لكن السجينى حسب كمال الملاخ الذى أعد السجينى كتيبا صدر ضمن سلسلة وصف مصر التى كانت تنشرها هيئة الاستعلامات كان ثوريا على صعيد الموضوعات التى تناولها فى إطار واقعيته الاشتراكية، لكن الأسلوب استمر على نهج مختار، فضلا عن أنه تميز عن معاصريه بأشتغاله على مادة النحاس المطروق حتى إن أعماله على هذه الخامة تشبه `قطع الدانتيلا` كما عبر عن ذلك الناقد الراحل كمال الملاخ وعالج بهذه الخامة موضوعات الحياة اليومية فى مصر وبعض لوحاته فى هذا الاتجاه معروضه فى المعرض إلى جوار تماثيله لشخصيات مصرية معاصرة مثل أم كلثوم وأحمد رامى وعبد الحليم حافظ والأخوين أدهم وانلى وسيف وانلى كذلك على ومصطفى أمين ونجيب محفوظ والرئيس السادات ويفسر الملاخ انشغال السجينى بهذا الموضوع معتبراً أنها تعبير عن انشغال الفنان بـ`الطابع الصرحى` فهى تجعل من يراها يتمنى لو نفذت بالحجم الكبير وهذا الإحساس تملكنى بالفعل وأنا أنظر لتمثال أم كلثوم الذى سماه: `أنت عمرى` أما تمثال عبد الحليم فقد استكمله بعد وفاة العندليب .
- فى الكتالوج المصاحب للمعرض مقالة للدكتور أحمد نوار تعتبر السجينى مثالا لمبدع أهتم كثيرا بأن فن النحت ضرورة ملحة لتعميق الحس الوطنى للمتلقى، لكنه لم يتمكن من عرضها على الناس داخل بلاده بينما وجدت متنفساً لها فى الغرب، فتمثاله `أمير الشعراء` والذى فاز به فى مسابقة عامة وكان لأمير الشعراء المسبوك من خامة البرونز ويجلس على قاعدته يوجد فى قمة حدائق `فيلا بورجيزى` بروما قرب أكاديمية الفنون المصرية بروما .
- فى حقيقة الأمر ثمة إنصاف وجدته أعمال السجينى، فقد أقتنت محافظة الجيزة منذ أكثر من عشر سنوات نسخة أخرى من خامة البرونز لتمثال شوقى موجودة أمام حديقة الأورمان، والتمثال فى جلسته الرائعة ونظرته التى تتجه إلى جامعة القاهرة ثم أهرامات الجيزة. أما التمثال الثانى الذى عرف طريقه إلى الشارع فهو `العبور` الكائن الآن بمدينة بنى سويف وسط أحد ميادينها، وأبدع هذا التمثال عام 1975 من خامة الحجر الصناعى بطولة الأفقى خمسة أمتار ونصف المتر وارتفاع مترين .
- فالتمثال كما يشرح نوار مكون من كتلة أفقية مندفعة كالصاروخ قوامها جندى فى حركة انطلاق أفقية، ممتد الذراعين والكفين كرأس الحرية أو كمقدمة لصاروخ مصوب نحو العدو الصهيونى والجسد ممشوق ومشدود متحد ومكتمل القوة واللياقة ، تجمع فيه نبض مصر وطاقتها الخلاقة فى حركة دفع توجهها إيماءة الوجه القوى الشجاع الجسور كأنه يحمل هذه الطاقة النادرة والكامنة فى جسد الأمة .
- إن تأمل هذا التمثال النادر فى حركة الفن الوطنى كما يقول نوار - يحرك فينا الانتماء والتضحية والتمثال نموذج فريد على المستويين الإبداعى والوطنى .. أراد السجينى توجيه رسالة بمعنى مصر ترسل السلام إلى العالم، ومازال مدخل قناة السويس فى انتظار التمثال كما كان يحلم السجينى الذى يكشف ابنه مجد فى حواره القديم مع فاطمة على أنه توجه لوزارة الثقافة وقدم طلبا لوزير الثقافة يطلب منه إقامة التمثال بمدخل القناة، لكنه لم يتلق ردا حتى الآن. ومنذ أن مات السجينى وأنا أطالع فى أرشيف `الأهرام` مقالات تطالب كلها بتأسيس متحف يحمل اسمه ولكن من دون فائدة ؟
سيد محمود حسن
الاهرام العربى - 13/ 11/ 2010
بعد ثلاثين عاما من رحيله .. أعمال جمال السجينى تبعث فى قاعة الزمالك
- داخله طفل يعتلى قبقابه الخشبى، ورأسه يحمل كومة من الشعر الفاحم الأسود تنطلق شعيراته فى كل اتجاه كأحلامه التى كانت تتوقف أحيانا عند طرقة ( قادوم ) أو سحبه ( فارة ) بهذا الرسم البسيط جسد الناقد الكبير الراحل كمال الملاخ ملامح نحات مصر الكبير جمال السجينى فى كتابها الصادر عنه. هذه البدايات المبكرة وسط شوارع وحارات القاهرة القديمة جعلت جمال السجينى يلتفت لخامات لا يألفها الفن التشكيلى ذو الطابع الأكاديمى فان التفت اليها فإنه يعاملها بمعايير تختلف عن تلك التى استلهمها السجينى من الفنانين الذين يبثون الحياة فى النحاس فى شوارع القاهرة القديمة ليجمع فى فنه بين القيم الأكاديمية ومعاييرها الرصينة التى تمرد عليها ليسكن فنه بالتراث الحضارى المصرى الجامع بين فنها القديم والفنون الإسلامية التى تجلت فى أعمال السجينى النحتية فى تمايل النحاس والبرونز ولوحات النحاس المطروق.. كل هذا الزخم الفنى يوجد فى المعرض المقام حاليا بقاعة الزمالك للفنون لاستعادة ابداع الفنان الكبير الراحل بمجموعة من أشهر لوحاته وتماثيله . -فى قاعة الزمالك تقف أعمال السجينى شامخة على منصات العرض لتجسد قيمة ومفاهيمه التى يلخصها السجينى نفسه بقوله: `هذه المعاناة التى أعيشها خلقت فنا لا أزعم أنه مرتبط بالجماهير تماما، بل أقول الصدق إننى اجتهدت دائما فى أن أعبر عن الجماهير `هذا الاجتهاد تمثل فى توحد `جمال سجينى` مع الحس الجماهيرى المنتصر للتحولات السياسية الوطنية. فبمجرد قيام ثورة يوليو عام 1952 أمسك السجينى بأدواته ليطرق لوحته الأشهر ` الخطوة ` والتى ينطبع عليها وجه باشا ضخم مهيب طمست اغلب معالم وجهه تحت طبعة قدم حافية لفلاح هذه اللوحة التى يتضمنها المعرض المقام بجاليرى الزمالك، تمثل إعلانا مبكرا عن عقيدة السجينى السياسية التى تظهر ملامحها فى باقى معرضه. - فأول تمثال يواجهك فى مدخل القاعة هو ` رجل عربى ` كتلة متوسطة من النحاس يتشكل فيها رجل جالس فى وضع الاستعداد للنهوض، التمثال المؤرخ بعام 1962 يشير إلى إيمان السجينى وقتها بمشروع النهضة العربية الموحدة، المشروع الذى كان لتحطمه فى هزيمة عام 1967 أثر كبير على الفنان انعكس على أعماله ويظهر هذا لوحة من النحاس المطروق ضمتها جنبات المعرض، واختار لها السجينى شكل `الصينية ` الإسلامية التقليدية التى اشتهر بها صناع خان الخليلى وتحت عنوان `المعدة العمياء ` شكل السجينى بمطرقته عفريتا ذا رأس ذبابة يرتكز بحافرية على آخر جملة فى تلك الصرخة الطويلة التى دونها السجينى على لوحته بينما يرفع بيده التى التفت حولها حية تخرج لسانها المشقوق خنجرا يمزق قلب الشمس المحتضرة فوق رأس العفريت القاتل، ذى المعدة المتخمة هذه الصورة المخيفة ترتص حولها كلمات السجينى التى يقول فيها : `يا مدمرى الحضارة، يا منبت القذارة، يا من ماتت ضمائركم وجلودكم ومالت أنيابكم وقويت الحوافز، مات اخصابكم منذ زمن، ولن تنبت بين أناملكم زهرة، ولن تشجيكم نغمة، ولم يهزكم لون..حواسكم مسدودة، فى الدهن مدفون رأسكم ..فى المعدة فى الخصية فى حوض اللحم والدعارة ` تمضى كلمات السجينى حافلة بالألم والغضب فى لوحته فى جرعة قاسية تتوسط تماثيل اختار منسقو المعرض أن تبتعد بالمتلقى عن هذا الألم سريعا.إلا أن هذا لم يسهم الا فى جعل اللوحة كنغمة نافرة وسط محيط هادىء من الوجوه الهادئة التى حملت ملامح توفيق الحكيم وأحمد رامى ومصطفى وعلى أمين وعبد الحليم حافظ. وتلا اللوحة تمثال رقيق من البرونز يمثل امرأة تلتف حول نفسها متخذة شكل البيت أو الحضن وقد علتها حماماتها ثم تمثال السلام وغيره. وكأن منسقى المعرض أرادوا أن يخففوا عن المتلقى هذه الجرعة المركزة العنيفة من الغضب والألم الذى انعكس فى لوحة أخرى اقدم للسجينى تحت عنوان `هيروشيما ` يقف فيها انسان عملاق تساقطت أطرافه وتشوهت واستحال عظاما يكسوها بعض من الجلد إلا أنه وقف شامخا وسط الحطام والدمار . - من الصعب أن يلم هذا التقرير بما فى معرض جمال سجينى الذى يقام بعد ثلاثة وثلاثين عاما من رحيله. ويستمر حتى نهاية نوفمبر الجارى. ولكن تبقى الاشارة إلى وصيته التى اختار لها أن توضع على لوحة من النحاس المطروق ايضا تلك الوصية التى طرقها الفنان عام 1954قبل رحيله بما يقرب من عشرين عاما، ووضع فيها قيتارة ومحبرة وشجرة وطائرا مجنحا فى وضع مرى قديم. تتخذ الوصية كلها شكل نقوش على ورقة بردى ترتكز مكوناتها على `ختم ` الفنان الذى وقع به أعماله النحتيه حاملا حرفى اسمه الأولين. ويقول السجينى فيها عن نفسه : `عاش من أجل مجتمعه عدوا للاستغلال والعبودية نصيرا للحرية والسلام.. جمال الدين السجينى ، بن عبد الوهاب سجينى ، ولد فى يناير 1917.
عزة مغازى
2010/11/15 - الأهرام المسائى
`السجينى` و 35 سنة إبداعا
-على طريقتها الخاصة تحتفى قاعة الزمالك بالفنان الراحل القدير جمال السجينى كواحد من أعظم نحاتى مصر المعاصرين ` خلال معرض شامل يضم نخبة من أهم منحوتاته التى أبدعها عبر مشواره الفنى الممتد عبر 35 عاما من الإبداع المتفرد..أثرى فيها الحركة التشكيلية المصرية بروائع أعماله سواء فى النحت بالخامات المختلفة أو الطرق على النحاس . - يضم المعرض ستين قطعة فنية هى تجسيد رائع لنبض الحياة الاجتماعية والسياسية والإنسانية فى مصر خلال القرن الـ 20 ترصد مواقف وأحداث هامة عاشها طوال سنوات عمره ( 1917- 1977 ) وكان لها تأثيرها الواضح على أعماله وشخصيته الفنية ` فالمؤكد أنه فنان وطنى حفر لنفسه مكانة خاصة ليس فقط كنحات يجيد تطويع خاماته وبث نبض الحياة بين تشكيلاته.. ولكن ايضاً كفنان شامل يجيد التعبير عن أرائه الجريئة بأكثر من لغة ومجال من تصوير خزف أوغيره. - إنه فنان صاحب رأى أشتهر بموافقة العنيدة فهو قادر على التحدى واختراق كل المحظورات.. حتى أنه رفض تسلم جائزة كبرى عن تمثاله `بقطة أفريقيا ` لإيمانه بأنها جاءت متأخرة كثيراً عن موعدها وذلك فى عام 1961 بعدها بثلاث سنوات احتج بشدة على تجاهل طلبه بإنشاء متحف خاص لإبداعاته لكن تبقى منحوتاته وأعماله هى تعبير صادق لنبض الشارع المصرى والأحداث والصراعات بين القوى الوطنية والاستعمارية التى اعقبت ثورة يوليو وحتى نصر أكتوبر وما بعده ..إلا إنه ايضا تأثر بوجوده فى أوروبا حيث استكمل دراسته وتابع اعمال مشاهير الفنانين العالميين وتأثر بإسلوب ` هنرى مور` فحرص على تأكيد العلاقة بين الكتلة والفراغ .ووجود تجاويف فى منحوتاته تسمح أن يتخللها الضوء والظل والهواء .. ليضفى احساساً بالحيوية والحركة والتفاعل مع البيئة المحيطة. - تناول فنانناً الراحل أعماله برؤى تعبيرية رمزية وقد استمد عناصرها من وحى البيئة والتراث والعمارة المصرية والاسلامية فإبداعاته دائماً تهتم بإبراز الطابع البنائى والزخرفى والاستعانة بحروف وجماليات الخط العربى وكلماته المبهمة وغير المقروءة تعاونت كل هذه العناصر فى تحقيق قيم جمالية وفنية متفردة. - إذا كان فناننا واحدا ممن امتلكوا أسرار الحجارة والخامات المختلفة إلا أنه كان أيضا ملكاً فى الطرق على النحاس والتمرد على الشكل التقليدى وبقديم حلول مستحدثة يتلاقى فيها الحس الوطنى والتراثى والشعبى مع الحس الأوروبى المعاصر . - ومن أهم اعماله `العبور`، `سيد درويش` `الأمومة `، `الارض` `عروسة المولد` ` القرية ` وغيرها من الموضوعات والقضايا الانسانية والاجتماعية والسياسية التى ترصد حال المجتمع المصرى والعربى والافريقى منذ بداية مشواره الفنى الثرى بإنجازاته ونجاحاته وحتى رحيله فى عام 1977.
ثريا درويش
أخر الأسبوع - 18/ 11/ 2010
( السجينى.. يحرر شكل الحجر فى ( قاعة الفن
- تمثل أعمال السجينى مرحلة مهمة من مراحل فن النحت المصرى الحديث، فهو يحظى بمكانة متميزة فى الحركة التشكيلية، بالإضافة إلى ممارسته مجالات كثيرة منها فن التصوير والخزف الزخرفى والنحت بأنواعه، كما اكتسب شهرة عالمية نتيجة حضوره الفعال والإيجابى فى الحركة الفنية، ومشاركاته المكثفة فى المعارض المحلية والدولية، حصد فيها العديد من الجوائز . - حفلت رحلة السجينى التشكيلية بالكثير من المواقف والاعتراضات والاحتجاجات التى عكست شخصيته الفنية الأدبية، والتى لم يقم بها أى فنان قبله، ففى عام 1961 رفض جائزة عن تمثاله `يقظة إفريقيا `واعتبرها قد جاءت متأخرة، وفى عام 1969قام بالاحتجاج على تجاهل مطالبه بإنشاء متحف خاص لأعماله، ووضع منحوتاته فى مكان مناسب فى الساحات والميادين . - تمثل أعمال السجينى فى مجملها الاتجاهات الفنية الحديثة فى النحت من رمزية وتعبيرية، بذل فيهما جهدا وفيرا، حيث استمد واستلهم فى رموزه من العمارة الريفية والإسلامية، تماثيله ذات الطابع البنائى، بعضها من النحاس المطروق بأداء تعبيرى، حيث استخدم أسلوب الطرق على النحاس، لاستخلاص أقصى طاقة تعبيرية كامنة لهذه الخامة، ونجده قد لجأ فى بعض أعماله إلى تحويل المعانى المجردة إلى رموز، يميل بها إلى الزخرفة أحيانا، كما استخدم حروف اللغة العربية وكلماتها كعناصر جمالية غير مقروءة. - وظف السجينى منحوتاته للتعبير عن الموضوعات الاجتماعية والسياسية، وتناول أحداث مصر وصراعاتها بين القوى الوطنية وبين قوى الاستعمار، تلك الأحداث التى تركت فى نفسه تأثيرا قويا ظهر على إنتاجه، كما قدم فى أعماله موضوعات النيل، والفلاح، والحياة فى الأحياء القديمة، ومن أشهر أعماله المعروضة تمثال `العبور`، وتمثال `سيد درويش`، وتمثال `أمومة `، و` عروسة المولد `، و `الأرض`، واستمد السجينى أفكار أعماله من تراث مصر ودمجها مع الفن المعاصر، متأثرا بمعايشته لفنون أوروبا ودراسته بالخارج، كما اهتم السجينى بعلاقة الكتلة النحتية بالفراغ المحيط بها من خلال وجود تجويف فى كتل فراغ بتماثيله ، يتخللها الضوء والهواء ، متأثرا فى أعماله تلك بالمثال هنرى مور .
سوزى شكرى
روزاليوسف -17 /11 / 2010
لم يحظ السجينى بما يستحق من تكريم يليق بريادته المطلقة فى النحت الحديث بمصر
- كانت ثورة 1919فى مصر شلالا هادرا جرف الكثير من المسلمات، وفجر مخزون المقاومة والإبداع، وخلق أيضا السدود المولدة للطاقة المعنوية من طلائع المبدعين والثوار، متلاحمة مع جسد الأمة، وكان فن مختار الذى تعانق مع اللحظة التاريخية ومع يقظة الأمة،هو التجسيد الحى لأحد هذه السدود المولدة للطاقة..
- وكان بزوغ نجم النحات جمال السجينى ( 1917 - 1977 ) أوائل الخمسينيات بعد أقل من عشرين عاما من رحيل مختار، هو أنضج ثمرة لتلك الطاقة الإبداعية، وقد استمد منها حسها الثورى وتطلعها إلى مشروع للنهضة الوطنية وبعث روح الجماعة واللحاق بالعصر الحديث فى آن .
- وبالرغم من مرور ثلث قرن على رحيل السجينى، فإنه لم يحظ بما يستحق من تكريم يليق بريادته المطلقة فى النحت الحديث بمصر خلال النصف الثانى من القرن العشرين، وقد خرجت من عباءته أجيال تلو أجيال من النحاتين الذين درسوا على يديه بكلية الفنون الجميلة حتى آخر حياته.. وفى أوائل الشهر الماضى تذكرته قاعة الزمالك التى تديرها داعية الفن السيدة ناهده الخورى، فأقامت له معرضا استعاديا ضم مجموعة متميزة من أعماله على مدار رحلته الفنية، وأصدرت بهذه المناسبة `كتالوجا` ضخما فاخر الطباعة باهظ التكلفة -على نفقة القاعة - لأعمال الفنان، وهى بهذا تقوم بما كان ينبغى أن تنهض به وزارة الثقافة.. لو كان على أجندتها الوفاء للرواد.. وهذه قصة أخرى!
- لقد عانى جمال السجينى فى حياته مثل هذا الموقف، خاصة بعد هزيمة يونيو 67 وهو يرى آماله التى توحدت مع آمال الأمة، تتحطم دفعة واحدة، وبلغ شعوره بالإحباط منتهاه عام 1969، وفى غروب أحد أيام ذلك العام اصطحب مجموعة كبيرة من قوالب تماثيله الجصية إلى شاطئ النيل عند طرف جزيرة الزمالك، وراح يغرقها فى النهر الواحد تلو الآخر، وعندما انتهى جلس يراقب دومات المياه وهى تبتلعها وتلتمع الفقاعات بأشعة الغروب، ثم انخرط فى البكاء!.
- كان فى ذلك الوقت صاحب أكبر اسم فى النحت المصرى، وكان ينظر إليه كخليفة لمختار لهذا كان يتطلع إلى أن تخرج أعماله من المرسم إلى الهواء الطلق، فى الساحات العامة والحدائق والميادين مثل أعمال مختار، وهو ما نادى به كثيرا حتى تبددت صيحاته سدى، لم يكن طالب مال، ولو أراد لتدفقت عليه أموال الراغبين فى عمل `بورتريهات ` شخصية لهم، وكان يملك مقدرة متميزة فى ذلك، لكنه كان يفضل عمل بورتريهات لرموز الوطن من قادة - مثل جمال عبد الناصر، الذى أحبه وآمن بمشروعه - ورموز الفن والأدب والصحافة، مثل أمير الشعراء أحمد شوقى وأم كلثوم وعبد الحليم حافظ وسيف وأدهم وانلى وتوفيق الحكيم وعلى ومصطفى أمين، ومن قبلهم جميعا تمثاله لسيد درويش عام 1962 الذى كان صيحة جديدة فى الفكر التشكيلى الحديث.. ولم يكن طالب منصب أو جاه، فقد كان مؤمنا بدور واحد هو دور الفنان، وبمسؤليته فى تعليم أجيال من الفنانين القيم الحقيقية للفن، ولم يكن طالبا للعيش فى برج عاجى يطل من عليائه على الواقع والمجتمع، بل على العكس، فقد حصل على منحة للتفرغ للفن مرتين ثم تنازل عنهما مفضلا العودة إلى وظيفته كأستاذ، وإلى الشوارع والتجمعات الإنسانية التى يحبها ويستلهم منها أعماله، وهو يقود دراجته البسيطة التى ظل يتحرك بها يوميا إلى عمله ومشاويره حتى النهاية.
- إنما الأهم من الثروة والجاه والرفاهية والمنصب والتفرغ الانعزالى للفن، هو وصول رسالته إلى عامه الناس، لترتفع بأذواقهم ومشاعرهم الوطنية، ولتشارك فى صنع الأجيال والنهوض بالمجتمع.. وقد تحطم الأمل فى كل ذلك بهزيمة 1967 لهذا استرد السجينى روحه وكرامته وإرادته كما استردها جميعا الوطن بعد حرب أكتوبر 1973، وكان أول فنان يعبر عن العبور وانتصار أكتوبر فى عدة تماثيل صرحية، تم تنفيذ أحدها بميدان المحطة ببنى سويف، والآخر صممه خصيصا ليقام عند مدخل قناة السويس بمدينة بورسعيد فوق القاعدة التى كان يقف عليها تمثال ديليسبس، وبعد أن تمت جميع الترتيبات لإقامته تدخلت عوامل غامضة وأوقفت تنفيذه حتى اليوم !
-إن تمثال `العبور` هو التمثال الميدانى الوحيد فى مصر حتى الآن الذى عبر عن هذا الحدث التاريخى العظيم وهو منفذ بالحجر الصناعى ويصل طوله الأفقى إلى خمسة أمتار ونصف فى ارتفاع مترين، ويمثل جنديا أسطورى الطابع على رأسه وشاح يطير فى الهواء لحظة العبور فى وضع أفقى أقرب إلى وضع السباحة، مادا ذراعية فى اندفاع قوى إلى الأمام محتشدا بطاقة هائلة للعبور، ويمثل الرداء الأسطورى، بنسيجه المعبأ بالهواء، وما يشبه موجات البحر العارمة التى يركبها الجندى، وقد تحول جسده إلى قارب يحمل عددا من الجنود يقومون بالتجديف بسواعدهم القوية، وتبدو حركة المياه الزجزاجية مستوحاة من الفن المصرى القديم.. والشكل فى مجمله يوحى بالقذيفة الصاروخية العابرة للمكان والزمان. مختزلاً تلك الملحمة الوطنية الخالدة فى بناء جمالى فذ..
- أما التمثال الآخر الذى صممه ليقام عند مدخل القناة، فهو بناء رأسى شاهق كالمنارة الهادية للسفن، لكنه يبدأ من قاعدة هرمية نرى فيها قاربا يحمل جنودا يجدفون بمجاديفهم رمزا للعبور، وفى المستويات التالية المتصاعدة إلى أعلى نجد نماذج من أبناء الشعب ومن الجنود، وطيورا هائلة فاردة أجنحتها وهى تشبه الطائرات المنطلقة إلى السماء وفى مقدمة التمثال بكامل ارتفاعه نرى فتاة شابه ترمز إلى مصر محتضنة أحد الجنود، وتبدد الهالة فوق رأسها كالتاج مكونة من وجوه الجنود، أما يداها فمضمومتان فى الاتجاه نحو الأمام بنفس حركة الجندى فى تمثال `العبور` ببنى سويف..
- إن السجينى فنان ارتبطت حياته بحياة شعبه وواقعه، وقد عاش - حتى تخرجه من الكلية وسفره فى بعثه إلى فرنسا وإيطاليا من أواخر الأربعينيات حتى أوائل الخمسينيات - حياة متقشفة فى شقة بسيطة مع أسرته فوق سطح إحدى العمارات، وهو ما أمده طوال حياته بقوة انتماء إلى الشعب الأصيل الكادح، وبقوة إيمان للعمل على تحرره وتقدمه، فلا يتحقق كفنان إلا من خلال تواصله الحميم مع نبض هذا المجتمع يتأثر به ويؤثر فيه ولقد كان هذا قدره وطريقة مثل المتصوفة، وعندما كان ينتهى من صنع تمثال، كان يشعر أنه خلق ليتنفس الحياة بين الناس فى الهواء الطلق، لا أن يعرض فى قاعة مغلقة لا يراه إلا بعض المثقفين والصفوة الاجتماعية ثم يعود إلى المرسم كالجثة أو السجين، وصاحبه يقف أمامه كالسجان، لكنه فى حقيقة الأمر أكثر منه شعورا بالسجن، لهذا قرر إطلاق سراح تماثيله ولو بإلقائها فى أحضان النيل .
- ومن يتابع أعمال مراحله المختلفة يجدها تدور حول محورين أساسيين: الأول هو الحرية، ويصل فى ذروتها إلى الرمز بتحطيم الأغلال، والثانى هو الأرض، بجذور التاريخ والتراث، وفى كلا المحورين كان يقيم رؤاه وأعماله الفنية على خلفية من القيم الاجتماعية والثقافية والروحية للشعب المصرى والعربى، فى الوقت الذى يجاوز الأنماط الفنية السائدة فى مصر خاصة الأكاديمية، متواطلا مع أحدث منجزات الفن الحديث فى الغرب، إنه إذن مزيج من التمرد الحداثى والتمركز الحضارى، مزيج من الثورة على المجتمع الطبقى ومن التواصل مع المجتمع الساعى للعدالة الاجتماعية، لذا فهو يعد رائد تيار الواقعية الاجتماعية فى حركة النحت الحديث فى مصر، فيما حرص على ولائه للقيم الأصيلة فى النحت المصرى القديم، وعلى إكمال محاولات من سبقوه لبلورة شخصية مصرية قومية للنحت، مثل مختار وأحمد عثمان ومنصور فرج وعبد القادر رزق وأنور عبد المولى لكنه فى ذات الوقت تمرد على نزعتهم المحافظة وحطم الثبات المظهرى فى الكتلة والتعبير متأثرا - أولا - بإنجازات المدرسة الرومانتيكية على يدى رودان ومايول فى النحت الفرنسى أوائل القرن العشرين، وثانيا بإنجازات الفنان الإنجليزى هنرى مور، التى تجمع بين رصانة وشموخ النحت المصرى القديم وبين الشكل البحت غير التمثيلى للطبيعة وإن كان وليداً لها ومتعايشا معها فى الهواء الطلق، ومتأثرا ثالثا بالعمارة البيئية والإسلامية، ليكون من ملامحها أشكالاً نحتية معاصرة، مثل القباب والمصاطب والسلالم الداخلية والفتحات، ويجعلها إطارا لعبقرية المكان والتاريخ ولزخم الأنفاس البشرية بداخله .
- إلا أن بدايته فى الأربعينيات لم تكن كذلك، بل كانت أكثر مباشرة فى التعبير عن الصراع الاجتماعى فى واقع يتلوى بالآلام ويضطرم بالسخط قبل قيام ثورة 1952، وفى التعبير عن الآمال الشعبية الكبيرة فى الحرية والعدل. ولا شك أن لنشأته دوراً مهما فى اختياره الفكرى ومزاجه النفسى، فقد ولد فى 7 يناير 1917 بحى باب الشعرية، وتشبعت روحه بعادات وقيم أبنائه، ومن أهمها الانتماء والشهامة والاعتداد والتضامن ولا شك أيضا أن للمناخ السياسى الذى ساد مصر إبان الحرب العالمية الثانية وما بعدها ولنشاط الحركات الثورية والديمقراطية والجماعات الفنية والأدبية - دورا مهما كذلك فى اتجاهه هذا، ومن ثم نجده على رأس أعضاء جماعة فنية عام 1946- هى جماعة الفن الحديث - أصبحوا من قادة الحركة الفنية فيما بعد يضع النضال الاجتماعى والسياسى على قدم المساواه مع الإبداع الفنى، بل يجعلهما وجهين لعملة واحدة. ومن أبرز أعماله فى تلك المرحلة تماثيل الجوع، الفلاح، الأرض، الحرية.. حيث كانت صرخات احتجاج ضد الظلم بأشكاله المختلفة، ولعل ما أنقذها من الوقوع فى المباشرة والدعائية هو قيمة النحتية العالية كبناء مجرد قبل أن يكون موضوعا ومعنى. وثمة رافد مهم فى الرؤية الإبداعية والتقنية لديه وهو الحرف التقليدية، خاصة الطرق على النحاس، وهو ما ترسب فى وجدانه منذ طفولته بالقرب من حى النحاسين المقابل لحى باب الشعرية، وترك أثره على رؤاه وأخيلته، وأسفر فى النهاية عن ترسيبات جمالية وروحية استقرت بأعماقه حتى واتتها الفرصة للظهور والتبلور فى شكل فنى جديد فى سنوات نضجه خلال الخمسينيات وأصبح بهذا `الشكل ` رائداً لأسلوب النحت البارز والغائر وهو يختلف تماما عن أسلوب النحت المصرى القديم، ويستعير تقنيات الفن الإسلامى، دون الوقوع أسير الوظيفة النفعية أو التزيينية له، بل يستهدف شكلا تعبيريا دراميا يلتحم من خلاله مع قضايا التحرر السياسى والاجتماعى فى مرحلة شديدة الحساسية من التحول المصيرى للوطن .
- وهكذا أنتجت لنا هذه المرحلة مجموعة مهمة من الأعمال المطروقة على النحاس والمعبرة عن قيم الحرية والمقاومة وامتداد الإرث الحضارى فى أعماق الشخصية المصرية من رموز وطقوس وإشارات وعادات وتقاليد، ما جعلها تتجاوز البعد السياسى أو التوظيف الدعائى للقضية الوطنية أو الاجتماعية، إلى رؤية بصرية أخاذة، تحيلنا حينا إلى جداريات المعابد الفرعونية، بما تحتوية من أسرار الكتابة والنحت، حيث تتلاطم الحركة البصرية أو تتماوج دون أن تعرف بدايتها من نهايتها، وتحيلنا حينا آخر إلى رؤى الفنان الشعبى ورموزه السحرية الموغلة فى موروث أنثروبولوجى عميق الغور .
- لكن هذه النظرة `المسبسة ` إن جاز التعبير - سرعان ما تختفى من أعماله لتحل محلها نظرة `شمولية` لفكرة الوطن، خاصة بعد قيام ثورة 52، حيث صارت القضية الوطنية أولى بالاهتمام، فصار أكثر ميلا إلى نحت الأشكال الصرحية والرمزية التى تلخص قضايا التصدى للاستعمار وتعبر عن الصمود والتعمير والتغنى بعظمة مصر ووحدتها القومية، ومن خلال تجسيد نهر النيل والقرية التى رمز لها دائما بالأم التى تحنو وتحتضن أبناءها، كما دأب على البحث فى الموروث الشعبى التشكيلى، خاصة عروسة المولد، ونسج على منوالها تنويعات كثيرة وطريفة كصورة مجازية لمصر .
-فى مجموعة الأمومة تتكامل كل خصائص السجينى الفكرية والنفسية والنحتية..إن ولعة بوحدة الوطن واندماج الكل فى واحد، وشغفة باستخدام الرمز، وحسه العاطفى والأسرى العالى، وانتماءه للقيم الشعبية الأصيلة، وتأثره بالكتلة النحتية المعمارية فى الفن المصرى القديم، وبالتيارات الحديثة فى النحت المعاصر خاصة هنرى مور، كل هذا يمتزج فى عجينة واحدة ويتشكل فى تلك المجموعة النحتية تحت عنوان `الأمومة ` .
- إن كل قطعة منها -عادة - كتلة هرمية راسخة، وقمتها رأس آدمية صغيرة غائرة فى قبة إسلامية، والكتلة تمتلئ بالتجاويف والفراغات، وفى أعماقها نجد طفلا كأنه جنين أو مولود يحتمى بسويداء القلب، تحيطه يدان مثل قوسين من الحنان، وقد تتشكل هذه الكتلة فى عمل أخر على هيئة بيت ريفى بسلالم وأقبية، وقد تتشكل على هيئة مجموعة بيوت هرمية متكاتفة متداخلة متضافرة، أو مجموعة وجوه تحدد قمم البيوت بينما صدورها الراسخة تمثل جدران هذه البيوت، وفى أعلى قمة الهرم تحمل رأس الأم قاعدة مئذنة، وتغلب على هذه المجموعة الخطوط المنحنية والقوسية تأكيداً لمعانى الحنان والأمن والتضامن ويساعد امتزاج النحت بالعمارة والرموز الدينية فيها على تأكيد الحس القومى، كما أن أنسنه البيوت تؤكد الحس الإنسانى .
- وعندما بلغ سن الإحالة إلى المعاش عام 1977عاوده الشعور بالاختناق الذى عانى منه عام 1969، حيث ترقد أعماله حبيسة المرسم لا تجد جسور التواصل مع المجتمع، ويأتيه الفرج - ولعله نداء الموت! - من خارج مصر .. إسبانيا .. حيث يتلقى دعوة لإقامة معرض شامل لمراحله الفنية بمركز دراسات البحر المتوسط فى مدريد، وتتعاون معه هيئة الاستعلامات فى تنظيم المعرض، ويسافر فى أكتوبر 1977 حاملا معه عشرات القطع من مراحل إبداعه طوال 40 عاما، وينوء قلبه بإجهاد الرحلة الشاقة والعمل المتواصل، وفى 22 نوفمبر يسقط فى معرضه ثم يلفظ أنفاسه فى الغربة كأحد شهداء الفن العظام، رافعا راية الإبداع وسفيرا فوق العادة لبلده، ورمزا لشعلة الحضارة الممتدة فيها آلاف السنين .
- أما بلده فلم يذكره فى أى ذكرى لرحيله أو مولده، اللهم إلا هذه السيدة الشجاعة التى أقامت له هذا المعرض الاستعادى الجميل ..لتبعثه حيا بيننا فى وقت أصبحنا فى أشد الحاجة إليه، بعد أن غربت الرموز من أمثاله..فلها الشكر والتقدير .
عز الدين نجيب
مجلة الهلال - ديسمبر 2010
لماذا ألقى فارس النحت المصـرى بأعمالـه فى النيل؟
- لا أعرف السر الذى يستهوى كثيراً من صناع الأفلام الوثائقية فى العالم العربى لعمل أفلام عن مشاهير الفنانين التشكيليين، ولكنها ظاهرة ملفتة خاصة إذا وضعناها فى إطار المقارنة مع موضوعات وعوالم أخرى يتجاهلها صناع الأفلام تماما أو تقريبا، من بين الأفلام الحديثة التى صنعت عن فنانين تشكيليين يأتى فيلم `جمال السجينى.. فارس النهر` للمخرج جمال قاسم وإنتاج المركز القومى للسينما فى مصر، والذى شهد عرضه الأول فى جمعية النقاد المصريين خلال الشهر الماضى.
- المخرج جمال قاسم لديه ولع خاص بعالم الفنانين والأدباء، وقائمة أفلامه تضم أعمالا عن `مقهى ريش` الذى كان وما يزال مركز تجمع العشرات من أعلام الفن والأدب، كما تضم فيلمه `طبيعة حية` الذى يدور عن فن التصوير، وبالتحديد عن رسم البنى آدمين ورسم الجسد العارى.. وعن العلاقة بين أساتذة وطلبة كلية الفنون والبشر الذين يعملون كـ `موديل` لهم عن الجانبين اللذين تفصل بينهم اللوحة أو المنحوتة: هؤلاء الذين يرسمون وهؤلاء الذين يُرسَمون. جمال قاسم قدم فيلما آخر بعنوان `بثينة` عن سيدة بسيطة تعمل `كومبارس` فى السينما والمسرح، لكنها تحب التمثيل إلى درجة أنها تحول بيتها الكائن فى أحد الأحياء الفقيرة فى قريتها إلى مسرح يقدم عروضا لأهل القرية يشاركون هم أنفسهم فى صنعها. فى فيلمه الجديد يتابع قاسم ما بدأه فى فيلم `طبيعة حية` من رصد لبعض وجوه الفن التشكيلى فى مصر.. وذلك من خلال حياة وأعمال الفنان الراحل جمال السجينى الذى ولد عام 1917وأصبح واحدا من كبار النحاتين والرسامين قبل أن يتجاوز العشرين، وقام بصنع مئات المنحوتات واللوحات الخالدة، وترأس كلية الفنون لسنوات قبل أن يتوفى عام 1977.
- يبدأ فيلم `فارس النهر` بمشهد للنيل وتنزل على الشاشة العبارة التالية:
- `فى عام 1969 وفى مشهد عبثى قام المثال المعروف جمال السجينى بإلقاء تماثيله فى النيل`.. بعدها يظهر `مجد` ابن `جمال السجينى`، والذى يعتمد عليه الفيلم كمصدر رئيسى ويكاد يكون وحيدا بحكى ماحدث يومها.. حيث اصطحبه الأب وأخبره أنهم سيلقون بتماثيل أبيه فى النيل.. لكنه لا يخبرنا إذا كانوا قد نفذوا ذلك فعلا أم لا.. ولا يخبرنا بالسبب الذى دفع السجينى إلى التفكير فى هذه الفعلة إلا فى نهاية الفيلم، عندما نعرف أنه كان يهدد بذلك فقط لجلب الانتباه وتذكير الناس أن هناك فنانا كبيرا لديه عشرات الأعمال التى لا تجد مكانا تعرض فيه.. وأن نتيجة هذا التهديد أن أحدا لم يهتم بمصير التماثيل ولا صانعها.. وهو أمر محبط لأى فنان ينتظر تقدير الناس واعترافهم بفنه ولو بمجرد كلمات.
-الحكاية مثيرة جدا وتستحق أن يصنع عنها فيلم أو أن تكون مدخلا ومحورا لفيلم عن `السجينى`، لكن المشكلة أنها مصاغة بطريقة الصحف الصفراء: عنوان مثير وتجاهل للتفاصيل والخلفيات وصياغتها بطريقة تدفع المشاهد فى اتجاه مختلف عن المعنى الحقيقى للحكاية.
- بعد المقدمة التى تنقطع فجأة نتعرف على لمحات من حياة الفنان وأعماله:تمثاله عن الموسيقار `سيد درويش` ولقطات من ثورة 1919، تمثاله عن `عبد الناصر` وفوتو مونتاج للقطات من عهده على أغنية وطنية عاطفية.
- لقطات مطولة فى منزل الابن وعائلته تزيد من تشعب موضوع الفيلم الرئيسى والإحساس بعدم وجود بؤرة أو مركز درامى.. خاصة حين نشاهد الأسرة تتناول العشاء والابن يتحدث مع بعض الأحفاد عن عظمة `السجينى`، ثم عندما يقرر أن يقرأ لنا النثر المنظوم المكتوب فى لوحة `المعدة العمياء` بطريقة مدرسية مضحكة.. وكل ذلك يهون أمام معلومة أن `السجينى` مات عام 1977 بعد إصابته بأزمة قلبية أثناء مشاهدته لزيارة الرئيس `السادات` للقدس، فقد رجعت إلى كل المصادر الممكنة لتأكيد هذه المعلومة غير كلام الابن عنها فلم أجد.. والمشكلة ليست صحتها أو عدم صحتها ولكن تناولها بشكل سطحى بدون تدقيق أو توثيق أو توضيح بعض ملابسات هذا الموت.. وأعتقد أنه لو كانت الواقعة صحيحة لما كان ينبغى التعامل معها بهذه البساطة.
- فيلم `السجينى.. فارس النهر` يحمل إمكانات كثيرة عن فنان تمتلئ حياته بالمعانى الملهمة: ريادته الفنية فى تاريخ الفن التشكيلى العربى، وتتلمذ العشرات من الفنانين الحاليين على يديه وكيف ينظر له الجيل الجديد من المثالين.
- معايشته لفترة من أهم فترات تاريخ مصر الحديث، قبل وبعد ثورة يوليو، نكسة 67 وانتصار أكتوبر وأخيرا بدايات الصلح مع إسرائيل.. والكيفية التى عبر بها عن هذه الأحداث الجسام.. أعماله نفسها وقيمتها الفنية والأنواع الفنية العديدة التى تألق فيها من النحت إلى صنع الميداليات إلى الرسم.. والجوائز الدولية التى حصل عليها والأماكن التى تعرض أعماله فى العالم، فى الوقت الذى لاتزال تلقى إهمالا منقطع النظير فى بلده.. علاقته بنهر النيل كما يوحى عنوان الفيلم وعلاقته بمصريته وبالفن الفرعونى ومدى ما ذهب إليه فى تطوير هذا الفن.
- هناك شئ من كل هذا فى الفيلم.. وهو عمل توثيقى يمتلئ بالمعلومات عن موضوعه.. حتى لو كنت تتمنى أحيانا أن تشبع من هذه المعلومة أو تلك الفكرة.. خاصة وهو ينتقل بين الأفكار والمعلومات دون خطة أو بناء واضح..هذا فيلم مغر بمعرفة المزيد عن هذا الفنان العظيم ومغر بصنع أفلام أخرى عنه.
عصام زكريا
صباح الخير - 20 نوفمبر 2012
( السجينى `الصوت` ( 10-10
- يأتى هذا المقال فى نهاية سلسلة من المقالات المتواضعة عن فنان مصرى كبير قيمة وقامة ما زال يعيش بيننا بإبداعاته المليئة بالمشاعر والأحاسيس عبر خلالها عن مصر الوطن مصر الشعب مصر الأرض مصر الأمل والمستقبل جاءت هذه المقالات مواكبة لعرض فريد لأعمال السجينى التى شاهدها الجمهور لأول مرة ويعود الفضل لإبنه الفنان مجد السجينى الذى حرص وصمم بأن يعيدها بما يليق بإبداعات والده لكى يستمتع بها الجمهور وتستدعى من ذاكرته القيم النبيلة للمواطن المصرى الذى يعشق وطنه ويفديه بروحه وجسده .
- أما تمثال الصوت الذى نحته السجينى من خامة الجبس وأبعاده ( 26×32×104سم ) وتم سكبه قبل العرض من خامة البرونز النبيلة تمثال الصوت نموذج تركه السجينى بصداه لنستقى منه وتتعلم الأجيال الصاعدة والواعدة كيف يبنى الفنان عالمه وإلى أى مدى يكافح ويناضل من أجل رسم وتحديد ملامح هويته وذاته الفنية وإلى أى طريق يستطيع أن يتجه بثقافته التاريخية والبصرية وكيف تتراكم خلاصة هذا الثراء الفكرى إلى مرجعيات أصيلة لتفصح وتشكل هوية وذات الفنان الصوت اسم عميق وبليغ وغامض فى نفس الوقت وهو الإسم الأكثر صعوبة الذى اختاره السجينى لهذا البناء الشامخ الذى يشكل معمارا رائعا لو تم تنفيذه على أرض الواقع ( ميدانيا ) يذكرنا بعبقرية الفنان المثال المعمارى ` جودى ` والصوت فى الطبيعة والبيئة والبشر والطيور والآلة والموسيقى إلخ فمن خلال هذه الحزمة الصوتية يأينا صوت الآذان من قلب وقمة التمثال آتيا من زخم العلاقات الفراغية والقباب والعقود والأعمدة المعمارية آتيا من حضارة وثقافة ممتدة أدركها السجينى واستوعب قيمها الإنسانية والإبداعية فانعكست كجين فى بناء هذا الصرح الذى أراه عملاقا فى أحد الميادين أو يطل على نهر النيل فالعقود والسلالم والقباب متواليات متراكمة ولم يغب عن السجينى سحر وفرادة الأهرامات التى زرعها وبناها داخل بعض القباب دائما مصر كانت تطفو فى كل لمسة له فى منحوتاته والأهرامات المكنونة داخل الجسد كأنها تحتمى وتتكامل مع العلاقات المعمارية الإسلامية ذات الإيقاع الموسيقى فى هذا التمثال فإنشاء متحف خاص للسجينى ضروى وحتمى ملح من أجل الحفاظ على تراث مصر المعاصر .
د.أحمد نوار
الأخبار - 19/ 2/ 2013
( السجينى .. والصياد 1970 ( 9
- من النادر ان يستخدم المثال جمال السجيني خامة الحديد مجمع ومركب من شرائح متجاورة علي شكل مثلثات او مربعات بقياسات مختلفة، والصياد بأبعاده (130×94×130سم) حظي بهذه الخامة التي فرضت علي المثال السجيني تقنية ذات طابع خاص مختلف عن اداء الازاحة كما في خامة الحجر او بناء الكتلة النحتية من خامة الطين الصلصال كمرحلة أولي، جميعها يقع تحت قانون الكتلة الفراغ..وحرية الاختيار للخامة تخضع لمعايير ذاتية ودقيقة تعتمد علي رؤية الفنان وأسلوبه بالاضافة الي قدراته الخاصة في التحكم والسيطرة علي ادواته وآليات فكرية في معالجة وصياغة منحوتاته، وعلى الجانب الاخر وبدون ادني شك يكمن في كل تقنية وكل خامة ابعادها الجمالية والتي توثر بشكل مباشر علي الناحية التعبيرية، وتراكم التجربة والخبرة هو المعيار الذي يؤدي الي التوافق العام بين هذه المواد والموضوع، والسجيني في هذا التمثال قد جنح بعيدا عن سمات وخصائص تماثيله التي شكلت في مجموعها شخصيته الفنية التي تميزه عن الآخرين من المثالين، شكل وهندس السجيني حركة الصياد وما ترتب عليها من مرونة ولياقة بالغة الجمال كأنه في حالة عزف الجسد الذي يختفي منه جزء في الماء وقد عبر عنه ببلاغة عن طريق الحديد الطولية الملتفة حول اسفل جسده كالدوامة.. ناتجة عن حركة الدوران المركزية للصياد وهو في حركة ميل راقصة فاردا ذراعيه يدفع بهما شباك الصيد التي نراها في اللامرئي بدافع الثقافة البصرية وهنا يستوقفنا السجيني لتحفيز المشاهد للمشاركة التفاعلية البصرية والذهنية لاستدعاء شباك الصيد من المخزون البصري او الذاكرة البصرية، واذا تأملنا أوجه الاختلاف في هذا التمثال من غيره من تماثيل السجيني.. نكتشف ان السجيني اكد من خلال معالجته الفنية للوجه واليدين بأن يأخذنا ويستوعينا من جديد الي سمات وخصائص شخصيته الاصيلة كمرجعية فاعلة تعد من الثوابت المتحركة.. والصياد فجر قضية التجريب المستمر للسجيني خلال مسيرته الطويلة والممتدة، وقد حقق فنا متنوع الافكار والتقنيات واختار اسلوب الاداء ونوع الخامة بما يتناسب مع رؤيته الثرية والفنية، وكل هذا يخضع لقواعده الرصينة ورؤيته الابداعية، والمدهش في حركة وبنية الصياد من بعض الزوايا نشاهد فارسا راقصا في حركة تتسم بحرفية عالية لراقصي الباليه، والتي فرضتها طبيعة الصيد بالشباك فاقتنص السجيني هذه الحركة والاداء البليغ للصياد ودوامته الانسانية يزداد العمل الفني عمقا تعبيريا كلما اثر في المتلقي وحفزه واستدعي من ذاكرته البصرية جزءا مكملا من مخزونه البصري لتحقيق المعادلة الصعبة، وهي إعمال العقل بأبعاده الخيالية والمعلوماتية، فالعلاقة التفاعلية بين العمل الفن `الصياد` وبين المتلقي هي جزء لا يتجزأ من `ابداع الفكرة` عند السجيني، وارادة صارمة حيال قرار مشاركة المتلقي، وجسارة فنان ان يختزل مفردة او عنصراً اساسيا في الموضوع تاركا للمتلقي بناء الصورة الذهنية لهذا المشهد الذي سيراه متكاملا.. الصياد اكد أن المبدع الرائع السجيني امتلك جميع مقومات الفنان المتميز والمتفرد بقيمة عالمية.
د. أحمد نوار
الأخبار - 12/ 2/ 2013
منحوتات جمال السجينى حيّة فى القاهرة
- تحمل أعمال النحّات الراحل جمال السجيني (1917- 1977) التى عرضت في قاعة الزمالك للفن التشكيلي في القاهرة، هماً وطنياً وإنسانياً وحضارياً كما يتجلى في منحوتة `بورسعيد` على سبيل المثال. ولطالما اتسمت أعماله بالبلاغة في مفردات البناء التشكيلي والعظمة في الخبرة الإبداعية والتقنية بما تملكه من أصالة وتفرد،علماً أنها أثْرت الحركة الفنية التشكيلية المصرية الحديثة وبعثت فيها الروح الشاعرية والإنسانية المرهفة. ولا ننسى أن جمال السجيني هو أحد الفنانين المصريين البارزين الذين ساهموا في تطوير الفن التشكيلي المصري المعاصر مع مجموعة من الفنانين، مثل عبد الهادي الجزار ومحمد حامد عويس وجاذبية سري وصلاح يسري. وحصل السجيني على عدد من الجوائز والأوسمة، أهمها وسام العلوم والفنون` من الدرجة الأولى في مصر، وسام من الحكومة الإيطالية بدرجة فارس، جائزة الدولة التشجيعية (1962)، جائزة `مختار للنحت 37`، جائزة النحت في بينالي الإسكندرية لدول البحر المتوسط في دورته الأولى. كما فاز بمسابقة أفضل تمثال للشاعر أحمد شوقي، وهو موجود الآن في حدائق `فيلا بورغيزي` في روما.
- في المعرض تسعة أعمال تتناول مواضيع مختلفة هي الوطن، السلام، أم كلثوم الأيقونة، الأمومة، القرية، الصوت، النيل، الصياد، وبورسعيد. ويتميز كل عمل بخاصية ما من حيث الأسلوب والمهارة والدقة في النحت. إلا أن الهمّ الإنساني والإحساس المرهف اللذين يظهران بوضوح في منحوتات السجيني الحديثة وما بعد الحديثة، يجذبان الزائر للمعرض حيث يكاد الحديد ينطق، والبرونز ينبض دفئاً وحميمية وجمالاً، وتدعم الحركة والبنائية والصمود أفكار النحات وتطلق لها العنان.
* روح مصر وصوتها :
- من أبرز أعمال المعرض تمثال لأم كلثوم نجح السجيني في أن يلتقط فيه لحظة اندماج `كوكب الشرق` في شدوها الحاني المؤثّر، وعكس فيه ملامح وجهها وانخراطها التام في الغناء كأنها هي نفسها الأغنية. وعكست بنائية التمثال بأشكاله الهندسية التي غلب عليها الشكل الهرمي، عظمة المطربة وكأنها صرح عريق كالأهرام. كما استخدم المربع والمستطيل في النصف العلوي للتمثال عند الذراعين والوسط، مستعيناً بكل ما في الأشكال الهندسية من إمكانات لتحقيق الثبات والتوازن والقوة لتمثاله.
- كما أوجدت أوضاع المثلثات المتباينة المتغيرة حركة، وأنـشأت معالجته لنسقها وكتلتها مناطق بارزة وأخرى غائرة في التمثال، خاصة عند القـلب منبع الإحساس والانفعال، أكدها بحركة يدها الممسكة بمنديلها الشهير تشير إلى القلب، وبعدد من الدوائر الغائرة التي لها مستويات متعددة عند موضع القلب الإنساني.
- جاء تكوين التمثال مناسباً لشخصية ذات أبعاد وأعماق،غنية بالأصالة والتميز. كما يمكن تتبع مستويات أفقية متتابعة متصاعدة في البناء الهرمي للتمثال، تشير إلى قمة وتومئ بحركة إلى أعلى. وبالفعل يوحي ترتيب المثلثات والمربعات والمستطيلات التي كونت سطح تمثال أم كلثوم المتعرج، بجزء من مقرنصات العمارة الإسلامية، كما يقول الدكتور أحمد نوار.و`كأن الفنان في عمله ما بعد الحداثوي يربط موضوعه وتعبيره عنه بما هو متميز من الموروث المعماري لحضارته، ليعبر عن عبقريته وقدرته على صهر مكونات حضارته في حقبها المختلفة في إبداعه الفني، ولإبراز عبقرية أم كلثوم في فنها وصوتها ومواقفها...هذه الشخصية التي يمكننا بحق أن نقول إنها روح مصر وصوتها. لذا يعبّر التمثال عن كل ذلك ببلاغة شعرية وتشكيلية ضمنها شفرة رموزه.
- أما منحوتة `النيل` التي تظهر جسم رجل وافر الحجم بالنسبة إلى العناصر الأخرى من بيوت ومراكب شراعية وأهرام، فتذكّر بالأسلوب الذي عبّر عنه المصري القديم والحضارة اليونانية والرومانية عن الرموز. إنه النيل عصب هذا الوادي،ومن خيراته أكل المصري وزرع وبنى على ضفتيه حضارته وبيوته وأهرامه. كما يمكن أن يرمز هذا الجسم إلى الإنسان المصري، من حيث انه أبن النيل، خصوصاً أن جذور الحضارة المصرية مرتبطة بوجود النيل وتغلغله في كل مناحي الحياة.
- وظهر في أعمال لجمال السجيني مثل `القرية` و `بيت السلام`، اتجاهه إلى التأليف والمواءمة بين القيم المعمارية والقيم الجمالية في الجسم الإنساني، وهو ما يصهر أعماله هذه بكم من المشاعر الدافئة والقيم المعمارية النبيلة.
ليلى نجاتى
الحياة - الأحد 13 يناير 2013
أحمد نوار يبحر فى أعمال السجينى
-عندما نستدعى من الذاكرة تاريخ الأمة، تستوقفنا علامات دالة على من أسهموا بفكرهم وإبداعهم فى شتى المجالات السياسية والعلمية والاقتصادية والفنية والثقافية فى صناعة تاريخ وطن- فالمثال جمال السجينى واحد من أعلام صناعة التاريخ على أرض الواقع، فكان محملا بقدر كبير من المشاعر والحس الوطنى غير المسبوق الذى يضعه فى مصاف الأعلام والرموز النادرة، وامتلك السجينى قدرات هائلة مكنته من أحداث حالة متغيرة ونشطة فى جسد الحركة الفنية المصرية بطاقة وحيوية والتى نفتقدها الآن وهذه القدرات تعد الركيزة المتينة والكامنة فيه كجين ينشط بشكل متواترا ومتصاعدا، محدثا علاقة متبادلة بين الروح والعقل، فقوام الموهبة المتفردة عند السجينى تعد ركنا أساسيا من أركان هذه القدرات، وثقافة السجينى مبنية على ركائز تاريخية وحضارية، أما بنيته الوطنية فهى متغلغلة فى روحه وكيانه، الحركة ( ديناميكية الذات الفنية ) جعلته فى حالة زهو وابداع مستمر، وفى منزله بالزمالك كنت أجلس وأتأمل هذه الطاقة الهائلة المتحركة، وعندما كان يتحدث تتشكل كلماته من خلال نظراته الثاقبة كمنحوتات تملأ الفراغ الذى يحتوينا، يذكرنى بصديقى الراحل ( خوان أتشا ) من كبار المؤرخين فى أمريكا اللاتينية والعالم وهو مكسيكى..عندما كان يتكلم تتحول المعانى إلى يقين دامغ فى التاريخ فالمثال جمال السجينى يعد بصمة دامغة فى ذاكرة الوطن الإبداعية، حارب بشدة من أجل تحقيق حلم كبير وهو اعتبار التمثال جزءا لا يتجزأ من المدينة والتخطيط العمرانى ، وتمثال أمير الشعراء أحمد شوقى الذى يعانق عيون الآلآف يومياً ( بحدائق فيلا بورجيزى بروما ) ونسخة أخرى تطل من حديقة بيته بالجيزة على نيل مصر العظيم، والثالثة تطل على حديقة الأورمان، ويعد هذا التمثال وتمثال العبور الذى يتوسط احد ميادين مدينة بنى سويف هى أخر التماثيل الميدانية التى تمتلك مقومات التمثال الميدانى.. واستمرار لروائع مختار ببعض الميادين.
- برع المثال السجينى فى إبداعه المتفرد ( النحت البارز ) فى خامة النحاس، كما برع فى منحوتاته الثلاثية الأبعاد، وعندما نتأمل تاريخ ومسيرة المثال جمال السجينى تصحبنا الذاكرة البصرية والتاريخية إلى المرجعيات الفنية التى أسست ما يسمى بالهوية الذاتية للسجينى .. فنكتشف عمق ثقافته وتأمله للفن المصرى القديم وكذلك فن العمارة الإسلامية، والمدرسة الأوربية، مرجعيات شكلت رؤية السجينى الفنية وبمهارة المفكر المبدع استطاع بأعمال العقل على استلهام بنية هذه الحزمة الحضارية كونها جزءاً لا يتجزأ من مفهوم الكتلة فى الفراغ، وهذه هى سمة الفنانين العظماء الذين يمتلكون الموهبة والقدرة الخلاقة لإضافة قيم جمالية جديدة للعائلة البشرية، هذه المقدمة الموجزة وجدتها ضرورية للحديث عن عدد من التماثيل التى لم تعرض من قبل للمثال جمال السجينى قد اكتشفها نجله الفنان مجد جمال السجينى، ورأى من الأمية عرضها للجمهور لأول مرة.
* التمثال الأول - يحمل اسم ( بورسعيد) عام 1957- الخامة الأصلية من الجبس - أبعاده ( 24 - 21 - 102 )، وتم سبكه من خامة البرونز .
-التمثال عمودى البناء اكتسب بريقا وحيوية من خلال خامة البرونز النبيلة، حتى يتسنى عرضه بما يليق بتاريخ المثال جمال السجينى، ويعد هذا الفعل استمرار لروح السجينى وتعميق واحياء لمبادئه الوطنية التى كافح من أجلها فالمقاومة والحرية، هذه أرضنا صحوة الفلاح، مصرية، وجه الزعيم جمال عبد الناصر ..كلها تفيض بحسه الوطنى، فهذا البناء الشامخ الملىء بالإرادة والعزة والكرامة والفداء فى مقاومة العدوان الثلاثى الغاشم على مدينة بورسعيد.. التى وضعها المثال القدير فى موقع القلب ويتوسط القلب النسر رمز القوة ومخالبه دافعة للطاقة أسقل القلب، وبناء جسد المقاوم ممدودا يفيض منه طاقة شعب بأسره متحدياً الهابطين بالمظلات ممسكا بيده سلاحاً فى وضع أقرب أفقيا كأنه يقضى عليهم ويمنع العدو من الهبوط وصرخة المنتصر تعلو وجهه ويده اليسرى تتوعد بقوة وجسارة، طاقة تعبيرية آتية من العمق ونشاهد أسفل ذراعيه عنصر الشمس المتكرر كأنه يحجب العدو الذى تمثل فى الجزء الأعلى عن مصر وأرضها وشمسها فى مصفوفة رمزية بليغة، وجسارة وجرأة السجينى تأتى من خلال تناوله لعناصر ورموز قد نشاهدها فى عمل ملون ذى بعدين، ولكن كونه يبنى هذا الصرح المعمارى المتمثل فى المقاوم وعلاقته البنائية بمجموعة المظلات التى حول الهواء فيها إلى مادة وقوام ذات ثلاث أبعاد.. وفى هذه الحالة قد حقق معادلة متوافقة من نقيضين وأنصاف الدوائر المتراكمة والمتوالية والجاذبية لأسفل وإيقاع الخيوط المتكرر وفق طبيعة هذه العناصر تستدعى من عمق ذاكرة السجينى ما وصل إليه من معالجات ممنهجة ومستلهمة من القباب التى ميزت العمارة الإسلامية ..مع الفارق فى المعنى والدلالة ، وهذا يؤكد توحد رؤية الفنان وعمقه.. وتأكيدا لتفرده فى بناء ملامح الهوية الذاتية لفنه من خلال هذا البناء الثلاثى الأبعاد المحكم معماريا، ويعد هذا التمثال شاهدا تاريخيا ووثيقة دامغة فى وجه أعداء مصر، ويذكرنا بروعة `بابلو بيكاسو ` (الجيرنيكا) التى مازالت تدين العدوان على قرية الجيرنيكا بأسبانيا عام ، 1936 .
* التمثال الثانى - يحمل اسم ( النيل) عام 1958 - الخامة الأصلية حجر صناعى -أبعاده ( 1008 - 50- ) وتم سبكه من خامة البرونز .
- يندرج هذا العمل الفنى المليء بالرموز تحت ما يسمى بالنحت البارز الذى تميز به وبرع فى جمالياته امتدادا لفن النحت البارز فى المعابد والمقابر المصرية القديمة، وتمكن السجينى من فهم عميق لهذه النوعية من وسائل التعبير واستطاع ببلاغة تحقيق أبعاد وعمق داخل هذا المسطح ببراعة واتزان كامل بين القدرة على إظهار نسب التشريح للجسد البشرى والحيوان وهذه إحدى ميزات السجينى فمهارته فى الرسم عمقت قدرته على التشكيل البنائى.. وإقدامه على تحقيق أقصى درجات الإحساس بالكتلة وهذا قد تجلى فى النحت البارز لتمثال النيل ، وقد جمع السجينى من خلال رموزه حضارة نهر النيل التى أبدعها وشيدها الإنسان المصرى على ضفتيه فنشاهد الحكمة والخير والأهرامات والمراكب الشراعية والنخيل والأسماك والمدينة والمعابد.. ومياه النيل تتموج وتنساب فى كل مكان فى أفقية موسيقية تعزف لحن الحياة، والإنسان المصرى المبدع صانع هذه الحضارة يمتد جسده على سطح النيل يدفعه إلى أعلى والأمام فى تطلع للمستقبل تاركا يده اليسرى ممتدة أفقياً تحمى مصر الحضارة وساقه اليسرى تمتد إلى أعلى بقوة والساق اليمنى فى عمق النيل ويظهر القدم فى أقصى يمين العمل الفنى كأنه يستمد منه الحياة، وذراعه الأيمن متكئا على حضارة وادى النيل ممسكا بيده الخير من ثروات النهر، والتأمل فى تنظيم وتشكيل هذا العمل الفنى من الناحية التعبيرية يتضح لنا قوة وانطلاق الجسد وسط حالة من الهدوء والاستقرار ورومانسية العناصر الأخرى التى تتحرك بنعومة وثبات فى نفس الوقت، هذه المنظومة المتباينة أحدثت حالة من الاندهاش الجميل الذى يفرض على المشاهد أن يستدعى طاقته الخيالية ويستجمع قدرته على الاستيعاب ومحاولة تحريك الثابت أو تثبيت المتحرك ، وهنا تكمن فكرة الفنان وتجاوزه حدود الأفكار التقليدية المتعارف عليها، وبذكاء المثال المبدع الأصيل استطاع تجاوز منهجية معالجة النحت البارز فى الفن المصرى القديم، وفى لمسة طاقة ناعمة حساسة لأشرعة مصفوفة المراكب العلوية ولمسة نهايات الأشرعة بالذراع وبحركة مائلة كأنها تدفع الجسد للأمام .. لمسة مشحونة بالمشاعر والطاقة الإنسانية.
* التمثال الثالث - يحمل اسم ( بيت السلام )عام 1966 - الخامة الأصلية جبس - أبعاده ( 11045 - 45 - ) وتم سبك التمثال من خامة البرونز.
-الانسان والعمارة كل منهما يكمل الأخر بالمفهوم العام الانسانى والوظيفى، أراد المثال جمال السجينى أن يضع التاريخ فى الحضارات القديمة أمامنا لنتأمل التكامل والتوحد بين القيم الإنسانية والإبداع الإنسانى، فنهج نفس منهجه المحفز لقضايا التعبير الفنى، والمتناقضات فى العلاقات المعمارية من المنظور الهندسى والشكل العضوى المتمثل فى الانسان، هذه الازدواجية ضاربة فى عمق التاريخ وحتى الآن ففى الفنون الحديثة ولكن من النادر أن تتحقق هذه المعادلة فى قالب توافقى ومتوازن ومتجانس - فتمثال بيت السلام - استطاع السجينى أن يهجن هذين النقيضين فى عمل فنى بارع قد يذكرنا بالفنان الإنجليزى `هينرى مور ` ولكن السجينى نهج الطريق الأصعب، كونه بنى كتلته متجاوزاً لم التناقض أو التباين بين ما هو معمارى وما هو عضوى ببراعة واحساس ملئ بمرجعية تاريخية، أما هينرى مور اتجه إلى البناء المختزل للشكل العضوى فقط ، وهنا تكمن فرادة وتميز السجينى فى هذا التمثال المنبسط القابع على الأرض كأنه امتداد لها ، فالقبة المبنية والقبة المفرغة - والأكتاف والسواعد- قباب صغيرة فى متواليات معمارية تندمج وتتحد وتتكامل مع الجسد فى ليونة متماسكة والتمثال من جميع الاتجاهات تتبدل فيه بروز ودخول منحنيات العمارة الإسلامية البدائية ذات الحس الانسانى الدافىء، يظهر بجلاء تكرار السلم مرة ايجابى بارز ومرة سلبى مفرغ فى إيقاع رمزى يشير إلى الصعود إلى أعلى .داخل القبو أو البيت - بيت السلام - كما سماه السجينى كأنه عندما كان ينحت التمثال يحلم ببيت للسلام .. ونبذ العنف والقهر .. يتميز هذا العمل النحتى بعمق علامات الرمز التى تعبر بعمق عن فكرة السجينى الكامنة فيه منذ بداية مسيرته الفنية وحتى رحيلة ولكن تظل باقية أمد الدهر ، ومن الناحية الفنية والبنائية تحققت - جماليات تحطيم المتناقض - فى قالب تبادلى رصين وأصيل ..نابع من عمق ثقافته المبنية على وضوح الرؤية وجسارة التناول والمعالجة الفنية ، وتتأكد قدرة السجينى على الاحتفاظ بحماسه ومبادئه وكفاحه ضد القبح والظلم والقهر ، وقد أضاف سبك التمثال من خامة البرونز النبيلة عمقا وحسا بالرصانة ، كون فن النحت يعتمد على جماليات الخامة والطاقة المنبثقة منها.
* التمثال الرابع - يحمل اسم ( أم كلثوم ) عام 1966 - الخامة الأصلية جبس - أبعاده ( 75 ×180 ) وتم سبك التمثال من خام البرونز النبيلة .
- تناول قلة من الفنانين المصريين رسم أو نحت بعض الرموز فى المجتمع، أم كلثوم واحدة من أهم الشخصيات التاريخية التى حظيت بالتسجيل والتوثيق عبر مشاعر بعض الفنانين، فمختار جنح تجاه الشخصيات الوطنية والسجينى جمع بين الشخصيات الوطنية والفنية .. وكانت أم كلثوم قابعة على تاج الإبداع عند السجينى ليس فقط لشهرتها بل لعظمة وروعة هذا التمثال الذى أعتبره ( كتلة ناطقة بالجمال.. وعبقرية احساس فنان.. وعمق تعبيرى فذ ) هذا جزء مما أشعر به، شاهدت عشرات اللوحات وبعض المنحوتات لمطربة الشرق أم كلثوم.. لا توجد مقارنة أبدا ، والسجينى كونه نحاتا أصيلا مثقفا تكمن فيه طاقة دون حدود وحس مشحون ومدفوع بهالة روحية..لذلك استطاع باقتدار وعمق وحكمة ابداع هذا التمثال الذى يعد فى مصاف التماثيل النادرة فى العالم، ليس من الصعوبة على نحات متميز نحت تمثالاً لأم كلثوم.. ولكن الصعوبة تكمن فى طاقة الفنان الروحية وثقافته وخبرته الذاتية وتأمله الثاقب فى الشخصية حتى يستطيع استدعاء ما بداخلها لتمكينه من السيطرة على ملامح ذاتها الداخلية ليتلمس صدى ورنين صوتها الذى يتحول بفعل المثال السجينى إلى قوام وبناء ذات الأبعاد الثلاثة يملأ الكون، ويفيض بالنفس والذات الإنسانية، فهنا أستطيع بجلاء أن أستعير المعنى البليغ للمفكر الراحل `ثروت عكاشة` ( العين تسمع والأذن ترى)، هكذا الحال لجوهرة السجينى التى تركها للأجيال والتاريخ والعائلة البشرية - بصمة دامغة - لعبقرية فنان، وترك السجينى درسا قوامه ممتد للأجيال الواعدين من الفنانين ..وللفنانين عموماً درسا قدوة حاسم بدون مواربة، ونموذج حى لمسيرة مثال ذى قامة عالية، قرر السجينى أن ينحت تمثاله برؤية البناء التراكمى من خلال عناصر متكررة توحى بإيقاع موسيقى.. يتمثل فى الشكل الهرمى المزخرف بأشكال هندسية وبعض حروف النوتة الموسيقية،عمق الحس ومهارة الأداء فى التأليف البنائى ومعزوفة الأشكال الهرمية مع بعض العقود الإسلامية تذكرنا بالمقرنصات الذهبية فى أسقف العمارة الإسلامية.. كما يظهر القبو الذى يتوسطه مكان القلب وبقوة تعبير يدها ضاغطة على القلب كأنها تستدعى وتستمد منه طاقة ودفء المشاعر ..كأن الصوت آت من القلب مدفوع من البناء التصاعدى للجسد حتى المنديل الذى تميزت به مسدول فى رقة كأنه نابع من القلب وهو نقطة الارتكاز والانبثاق الشعورى، وتأتى علامات الانصهار على وجه أم كلثوم وبساطة الأداء للتعبير عن جمال الصوت وصداه الكونى، ومعالجته للرأس يحليها وارتباطها بالجسد علاقة معمارية إنسانية، وبعبقرية فذة واحساس متدفق عالج تأتى الأحبال الصوتية فى الرقبة وهى تشدو - على شكل تموج مياه نهر النيل - كما نحتها المصريون القدماء وكم نحته السجينى فى تمثال النيل .. التعبير عن عظمة أم كلثوم وهى تشدو بفيضان نابع من القلب، معالجة بليغة بكل المقاييس، وميل التمثال للأمام بفعل يؤكد على حالة شعورية لاندفاع طاقة المشاعر، وكما تبدو واجهة التمثال البنائية كأنها قصرا يفيض بمعزوفة حروفها الموسيقية حضارة شعب، وتنبثق يدها اليسرى المشدودة إلى أسفل مع حركة الكف الرقيقة لتقود بها فريقها الموسيقى بحساسية رائعة الجمال التعبيرى .
* التمثال الخامس - يحمل اسم (القرية) عام 1968 - والخامة الأصلية من البرونز - وأبعاده ( 78 × 68× 150).
- يبدو أن الترتيب الزمنى لاستعراض التماثيل التسعة جاء مفيدا للكشف عن المكنونات والمرجعيات المصرية القديمة والإسلامية فيما يتعلق بالبنية النحتية للتمثال مضافا إلى ذلك المرجعية البيئية وعلامات العمارة التلقائية وتأثيرها المباشر فى التأكيد على الهوية الفنية للسجينى فالبناء العام للتمثال يتضح فيه تألق جلال وهيبة العمارة الإسلامية، فنجد علاقة الكتلة بالفراغ الداخلى والخارجى فى توافق متزن ورصين إذا ما اعتبرنا التمثال بناء كاملا يملأ الفراغ ويتحاور معه ويتكامل، فالفتحات المضيئة داخل الكتلة ما هى إلا نوافذ عمقت هذا البناء وجعلته ينساب عبر البارز والغائر، والسجينى برع فى تمكين عملية التهجين بين ما هو معمارى وما هو عضوى.. وفى هذا السياق الإبداعي نجد القرية هى المعنى الدال للجالسة التى يعلوها الهلال الساكن فوق الرأس (القبة) والكتفين والذراعين كأنهما ركائز معمارية تفصح عن جمال البيئة وشمسها النافذة من خلال النوافذ الأربع التى يتخلل بعضها مفردة ( السلالم ) التى تتكرر فى منحوتات السجينى معلنة بجلاء فكرة الصعود والبناء وأيضا جزء هام ومتميز فى فنون العمارة المصرية القديمة والإسلامية، وكانت فى كثير من التصميمات توضع خارج المبنى لإضافة احساس محفز للصعود بالإضافة إلى العلاقة الجمالية كأنها جملة موسيقية تنساب نغماتها على جدران المنشآت، والجالسة فى وضع مستقر شامخ يحمل كبرياء أهل القرية نجد القبو مكان القلب وبداخله سلم وعلى الجانب الأيسر بالنسبة للقبو نجد إحدى العلامات الدامغة فى كثير من تماثيل السجينى وكأن النيل يسرى فى الكيان كله، ونجد عمارة السيقان كأنها تجويف محرابى تعلوه الركبة (القبة) شامخة فى جلال وإذا تأملنا التجاويف من زوايا مختلفة نجدها سالبة العمق ..ولكن تشكل قواما بصريا وهميا ذا ثلاثة أبعاد وهذه هى العلاقة المتبادلة بين الكتلة والفراغ، وانسيابية الكتلة تتدفق منها جماليات الحس الانسانى فالقرية عند السجينى مليئة بالرموز الدالة على الأصالة والخير والسلام.
* التمثال السادس - يحمل اسم (الديك) عام 1968 - الخامة الأصلية أسمنت - أبعاده ( 97 - 57 - 97 ) وتم سبكه من خامة البرونز النبيلة.
-الديك يمثل فى القرية المصرية (نوبة صحيان) فصوته يملأ القرية مع بزوغ الفجر وتأتى بعده أصوات الطيور التى تشكل حالة فريدة وكأنها تعزف معزوفة فجر جديد وتتحرك الحياة والعمل الجاد المبكر فى القرية، لذا أصبح الديك أحد الرموز والعناصر التى استخدمها كثير من الفنانين، احتفظوا بالديك كرمز ولكن تكيف وفق رؤية كل فنان وباختلاف الموضوع والأسلوب والمعالجة الفنية، والمتأمل فى هيئة ديك السجينى يصطدم من الوهلة الأولى.. لأنه يكتشف سمات العظمة والقوة والكبرياء دون مبالغة قد تكون صفات كامنة فيه، لكن التركيبة النحتية ذاتية التشكيل البنيوي كما هو معتاد فى أعمال السجينى بإضافاته المعمارية كنهج ثابت يتغير مع طبيعة الموضوع والعناصر المكملة، فنجد رأس الديك مشدودة للخلف فى قوة وعظمة ويمتد جسده للأمام والجزء الخلفى تحول إلى بناء معمارى يتوسطه فراغ على شكل قبو يمتد إلى أسفل ليلتقى مع الفراغ الذى يتوسط الساقين محدثا عقدا مفرغة وأصبحت سيقانه كأنها أعمدة ثابتة لكيان معمارى، وحافظ السجينى على عنصر السلم الذى لا يفارقه، كأنه أيقونة ملزمة فى منحوتاته، والتوازن فى هذا التمثال مدهش ليس كونه حاملا كتلة نحتية ولكن للحركة المندفعة للديك ويلاحظ ذلك فى منطقة البطن والجزء الأمامى جاذبة معها الجزء الخلفى وفى الوقت نفسه ثبات الساقين بقوة - فهى حركة ممدودة من ثبات متزن - وهذه هى المعالجة الخلاقة للسجينى يبحث ويدقق ويتأمل ويستدعى من ذاكرته المخزون الثقافى الملىء بتراكم تراثى عريق، يستطيع من خلاله وبرؤيته الفنية والفكرية أن يبدع ويشكل عالمه المتفرد المليء بالأسرار وأحيانا الغموض، لذا كان للعادات والتقاليد والفنون الشعبية أثر كبير ومباشر فى الفنون التشكيلية منذ نشأتها حتى الآن والتى أثرت فى عدد كبير من الفنانين باختلاف اتجاهاتهم الفنية، وستظل منبعا تراثيا تنهل منه الأجيال فى المستقبل القريب والبعيد فى آن واحد واهتم السجينى فى معالجة السطح لتماثيله كما نرى فى الديك فنرى الملامس بين الخشنة والناعمة..كما نلاحظ حركة أنامله تتحرك فى جميع الاتجاهات وفق طبيعة الكتلة ومسارات عناصرها بالنحت البارز والغائر كأنه فى حالة احتواء للكتلة فتنساب مشاعره عبر هذا النسيج لاضفاء ما يسمى بروح الفنان ودفء تفاعله واندماجه وانصهاره فى إبدعه.
د. أحمد نوار
نهضة مصر 22 - 23 /11/ 2012
جمال السجينى (فارس النهر) فى معرض وفيلم تسجيلى
- نظمت قاعه الفن بالزمالك معرضا تاريخيا، يضم تسعه أعمال للنحات جمال السجينى، لم تعرض من قبل، اكتشفها نجله الفنان مجد جمال السجيني وهى : `بورسعيد - النيل - بيت السلام - أم كلثوم - القرية - الديك - الأمومة - الصياد - الصوت`، وتمثل هذه الأعمال مراحل تاريخية متعددة للفنان، تختلف من حيث المضمون والشكل الفنى والمعالجة والتقنية والخامة، ويصاحب المعرض فيلم تسجيلى عن حياه السجينى بعنوان : `فارس النهر` أخرجه جمال قاسم، وقدمه نجله مجد جمال السجينى.
- قدم الفنان الدكتور أحمد نوار دراسة نقدية وتحليلية للفنان السجيني فى كتيب المعرض جاءت الدراسة على حسب تاريخ إنتاج العمل الفنى، كان ارتباط السجينى بالفنان نوار علاقة وصداقة دامت سنوات طويلة، قال عنه: السجيني واحد من أعلام صناعة التاريخ على أرض الواقع، يمتلك السجينى قدرات هائلة مكنتة من إحداث حالة متغيرة ونشطة فى جسد الحركة الفنية المصرية بطاقه وحيوية، ثقافة السجيني مبنية على ركائز تاريخية وحضارية آما بنيته الوطنية فهى متغلغلة فى روحه وكيانه (ديناميكية الذات الفنية).
-فى منزله بالزمالك كنت أجلس وأتأمل هذه الطاقة الهائلة المتحركة، وعندما كان يتحدث تتشكل كلماته من خلال نظراته الثاقبة كمنحوتات تملأ الفراغ الذى يحتويناً، حارب السجينى من أجل حلم كبير هو اعتبار التمثال جزء لا يتجزأ من التخطيط العمرانى.
-أنتج السجينى عام 1957 العمل النحتى `بورسعيد` هو (نحت بارز) يتثنى عرضه من جهتين، العمل من خامة البرونز قطعة نحتية طولية بنائية،العمل إحياء لمبادئه الوطنية، ويعبر عن صحوة الفلاح المصرى ووجه جمال عبد الناصر يعبر عن طاقه شعب يتحدى الهابطين بالمظلات ممسكا بيده سلاحاً، والملامح تفيض بحسه الوطنى فى مقاومة العدوان الثلاثى على مدينة بورسعيد، التى وضعها المثال فى قلب الفلاح ويتوسط هذا القلب النسر وهو رمز القوة، أما عام 1958 أنتج `النيل` نحت بارز من خامة البرونز،هذا العمل له جماليات تراثية وتعبيرية، ويعد امتدادا لفن النحت البارز فى المعابد والمقابر المصرية القديمة، ولكنه إضافة لمعالجات جديدة نتجت من عمق ثقافته منها إظهار نسب التشريح للجسد البشرى والحيوان، وهذه إحدى مهارات السجينى فى الرسم والتشكيل البنائى، تمثال `النيل` جمع السجينى من خلال رموزه حضارة نهر النيل التى أبدعها المصرى القديم، استخدم المراكب الشراعية والنخيل والأسماك والمدينة والمعابد، بالإضافة لتموج أمواج النيل.
-أما `بيت السلام` فأنتجه عام 1966 من البرونز، عبر فيه عن المتناقضات بين العلاقات المعمارية فى المنظور الهندسى والشكل العضوى، هذا العمل يقترب من أعمال المثال هنرى مور ولكن السجينى اتبع الطريق الأصعب فى بناء كتلته، العمل فيه مجموعة من القباب بعضها مفرغ وسلالم منها إيجابي بارز ومنها مفرغة فى إيقاع، التمثال يحمل الحس الإنسانى الدافئ.
- السجينى كان من عشاق أم كلثوم، ويعرف قيمتها ويعتبرها من رموز المجتمع المصرى، فأبدع أهم أعماله `أم كلثوم` عام 1966، ويتم عرض التمثال فى قاعة منفصلة داخل قاعة العرض، يتميز هذا التمثال بتماسك الكتلة الذى يبدو بوجه أم كلثوم وكأنها تشدو، يميل جسم التمثال إلى الأمام قليلاً، وحركة الكتف تعبر عن حالة شعورية غنائية، استخدم في التمثال البناء الهندسى التراكمى من خلال عناصر متكررة توحى بإيقاع موسيقى يتمثل فى الشكل الهرمى المزخرف بأشكال هندسية وبعض حروف النوتة الموسيقية عمق الحس ومهارة الأداء فى التأليف البنائى معزوفة الشكل الهرمية.
-أما تمثاله `القرية` فانتجه عام 1968 هو من البرونز يكشف فيه السجينى عن المرجعية البيئية وعلامات العمارة التلقائية وتأثيرها المباشر على الهوية المصرية، يتألق هذا العمل فى علاقة الكتلة بالفراغ، ووجود فتحات مضيئة داخل الكتلة ما هى إلا نوافذ عمقت هذا البناء.
- أما تمثال `الأمومة` الذى عرض أيضا فى قاعة منفصلة، تم إنتاجه عام 1969من البرونز،عبارة عن تمثال أفقى البناء، ممشوق وملفوف ومستقر بحكم الجاذبية، تحتضن الأم طفل فى شكل كتلة واحدة حميمة تفيض بالحنان، والتفاف ذراع الأم على جسد الطفل أضاف كل المعانى الإنسانية، ملامح الشخصيات فى العمل بيضاوي الشكل دون الإشارة لأى تفاصيل.
سوزى شكرى
روز اليوسف - 21/ 11/ 2012
فارس النهر ... مرثية سينمائية عن الفنان جمال السجينى
- جمال قاسم واحد من المخرجين المصريين الذين وهبوا أنفسهم لعالم السينما التسجيلية ومن أفلامه العلامات `طبيعة حية ` الذى دخل عبره إلى عالم الفن التشكيلى من بوابة خاصة كان مفتاحها سؤال حول ` أين ذهب الموديل البشرى فى عالم الفن التشكيلى؟`، ولماذا تأكل إلى حد الانقراض وبخاصة نوعه النسائى الذى بدأعارياً واضطر إلى الاحتشام هروباً من هجمات ردة فكرية باغتت المجتمع المصرى مع منتصف السبعينات ووصلت ذروتها إلى حد تحريم الفن ذاته .
- ومن علاماته أيضاً فيلمه الرقيق المعنون باسم شخصيته الرئيسة ` بثينة ` فنانة المسرح التلقائية التى استجابت لنداهة هذا الفن منذ كانت طفلة فى أربعينات القرن الماضى، وظلت تعمل مع فرق الهواة الجوالة حتى وصل بها الأمر أن حولت بيتها الريفى البسيط مسرحاً يرتاده جيرانها كل حين ليشاهدوا واحداً من إبداعاتها المسرحية .
- وها هو جمال قاسم يصيغ أخيراً علامة جديدة، يختار لها جمال السجينى أحد رموز الفن التشكيلى المصرى، الذى فاجأ العالم فى أحد صباحات صيف عام 1969بإلقائه مجموعة من منحوتاته فى النيل ! لم يكن السجينى مجنوناً حين قرر إلقاء منحوتاته فى النهر .وكذلك لم يكن باحثاً عن شهرة حصل عليها بالفعل، لا فى الأوساط المصرية والعربية فحسب، بل وفى الأوساط العالمية أيضاً .إذاً ، لماذا قرر هذا العبقرى أن يلقى بعضاً من روحه فى النيل وسط دهشة المارة وصراخهم ؟ .
- كان هذا السؤال هو هاجس جمال قاسم حين شرع فى صنع فيلمه ` فارس النهر... جمال السجينى` لكنه ببراعة فنان يؤمن بأن إثارة الأسئلة لا الإجابة عنها هى الأجدر بعمل الفنان، سينأى بنفسه عن ادعاء الحكمة وسيدعوك أنت - كمشاهد - لتكون شريكه فى محاولة الإجابة .
- من النيل يبدأ جمال قاسم حيث تتأمل الكاميرا شريان الحياة من زاوية أقرب إلى بيت السجينى، أو بالأحرى أقرب إلى الموقع الذى التهم منحوتات الفنان اليائس، بمزج رقيق ( سيكون أسلوباً طوال الفيلم ) ننتقل إلى صورة فوتوغرافية بمساحة الشاشة لجمال السجينى واقفاً يتأمل النهر، وعلى جانب منها تتلاحق حروف تخط خبراً مصاغاً بحيادية، يقول : ` فى عام 1969 وفى مشهد عبثى قام المثال المعروف جمال السجينى بإلقاء تماثيلة فى النيل` حيادية الخبر التى لا تنفى عنه الإدهاش وبل وتثير التساؤل المنطقى، لماذ ؟ وقبل أن تفيق من دهشتك سيطالعك المشهد التالى مباشرة للابن مجد السجينى، يقف فى المكان نفسه فى الزاوية نفسها، بل نكاد نقول بالملابس ذاتها ( القميص الأبيض والبنطلون الأسود والنظارة السوداء ) يتأمل هو الأخر النيل لكن بنظرة أكثر حزناً تؤكدها كلماته فى مشهد تال مباشرة حيث يقول : ` فى يوم كهذا، وفى المكان نفسه تقريباً قال لى أبى ..هيا سنلقى تماثيل أبيك فى النيل ` .تقديم جيد لشخص هو الأقرب إلى عوالم جمال السجينى ومبرر لوجوده طوال الوقت كدليل رحلتك داخل هذه العوالم .
* دخول حذر :
- بعدسة أقرب إلى عين السمكة وعلى خلفية جملة موسيقية ابتدعها باقتدار الفنان سامى الحفناوى تقترب الكاميرا من الباب الذى فتحه الابن للتو، تدخل بحذر وتهيب يزدادان حين تطالع أعمال الفنان المكتظ بها المكان ( تماثيل ولوحات ومطروقات وأوان ) مصفوفة فى كل ركن وممر وعلى الأرفف والحوائط ودرجات السلم الداخلى .
- حركة الكاميرا تشيع فى نفسك إحساساً بجلال المكان ومعروضاته، بل تكاد تشعر بحيراتها. أى من هذه الأعمال تختار لتقترب منها أكثر ؟ واللحن الأساسى يزيدك شجناً، فيزداد سؤالك إلحاحاً : ` كيف لفنان له كل هذا الإنتاج وكل هذا التنوع أن تطاوعه نفسه على إلقاء بعض من أبنائه فى النيل ؟ لكن جمال قاسم لن يهديك الإجابة، ولن يدعك تهنأ بالسبب قبل أن تتعرف أكثر إلى عوالم السجينى الفنية ومدى ارتباطها الوثيق بحركة مجتمعه .
- تقترب الكاميرا ببطء من تمثال تختاره بعناية من بين أكوام المعروضات، إنه سيد درويش يتكىء على عودة المطرز بالورود والحمائم ووجهه ينضج بكثير من تأمل وكأن السجينى التقطه فى لحظة اصطياده للحن جديد .
- التمثال سيصحبنا بنفسه إلى الزمن الذى كان فعبر جرافيك متقن يطير التمثال محلقاً فوق صور فوتوغرافية ومشاهد فيلمية لأحداث ثورة 1919 تؤطرها جملة لحنية هى تنويعه على لحن عبد الوهاب الأشهر والملائم ` خايف أقول اللى فى قلبى ` .
- ومن التاريخ يعود جمال قاسم مرة أخرى إلى الواقع .. إلى بيت السجينى، لتختارالكاميرا بعد جولة متأنية كعادتها تمثالاً أخر، إنه وجه الرائد توفيق الحكيم الذى سينقلنا إلى أجوائه كما نقلنا سيد درويش لكن جمال قاسم يختار هذه المرة أن تقف رأس توفيق الحكيم النحاسية على خلفية مشهد مقتطع بعناية من فيلم توفيق صالح `يوميات نائب فى الأرياف ` المبنى فى الأصل عن رواية الحكيم .صوت بطل الفيلم من خارج الكادر يأتى وكأن الذى تنطقة هى تلك الرأس النحاسية، حيث تقول : ` إن الأموال تنفق بسخاء على التافه من الأمور .. أما إذا طلبت لإقامة العدل أو تحسين حال الشعب،فإنها تصبح عزيزة وشحيحة، ذلك أن العدل والشعب كلمات لم يزل معناها غامضاً عن العقول فى هذا البلد 22 تشرين الأول ( أكتوبر ) سنة 1935` .
* تمهيد لقرية أخرى :
- وكأن قاسم بهذا المشهد يمهد لقرية أخرى بدأت تتشكل بعقول أخرى كان الشعب والعدل يعنيان لها الكثير إنها عقول ما بعد ثورة يوليو، وهنا سيصحبنا قاسم فى جولة متأملة لمنحوتات السجينى الخاصة بالقرية المصرية بعد الثورة، بل إن لحن سامى الحفناوى سيتحرر من حزنه وسيصبح أكثر فرحاً، ليكتمل تفسير جمال قاسم الذى يرى أن جمال السجينى مثله كمثل سيد درويش، كان الأول مؤذن ثورة 19، وكان الأخير مؤرخ ثورة يوليو الذى سجل أحداثها فى منحوتات لا يبليها الزمن .
- وفى نقلة ذكية تؤكد ما يريد من معنى، سيعود قاسم إلى البيت ( هو دوماً يعود إليه ) لنشاهد الابن مجد يقف بإجلال فى جوار تمثال ضخم للزعيم جمال عبد الناصر ، يمسحه بحنان وهو يقول ` ذكرياته جميلة هذا التمثال.. أبى كان يحبه كثيراً كان من المفروض أن يتوسط ميدان التحرير ..التمثال فيه كل مقومات النحت ` لن تكتفى كاميرا جمال قاسم بوصف السجينى الابن للتمثال، بل ستشرع فى تأمله باقتراب وابتعاد يكشفان التفاصيل.. جسد عبد الناصر الضخم ينبت كشجرة من وسط فئات الشعب (فلاح .. عامل ..طالب .. جندى ...امرأة .. رجل.. )كل منهم يمد يده بوردة يهديها صدر الزعيم .
- وكعادة جمال قاسم سيجعل التمثال يحلق على خلفية زمنية الذى ولى، فها هو يطير فوق حشود الشعب المصرى التى تتدفق لترى وتبايع وتفرح بابنها الذى حقق كثيراً من أحلامها .بل إن لحن سامى الحفناوى سينطق بالكلمات للمرة الأولى ` بلادى .. بلادى ..لك حبى وفؤادى .. الثورة أمنا .. الثورة أمنا ..يا مصر عامل يا بدر كامل ..يا مصر جندى ..يا مصر فلاح .. حى على الفلاح ..حى على الفلاح ` .
- لكن وسط هذا الانشاء يفاجئنا قاسم بإظلام الشاشة لثوان، نتابع بعدها سقوط عمله نحاسية تحمل وجه الزعيم فتخطف رناتها القلب.. لقد مات ناصراً إذاً.
الكاميرا تعود حزينة إلى بيت السجينى، دخولها أكثر توتراً ، ولحن سامى الحفناوى يتخلى عن صحبتها ليتركها لمؤثر صوتى يزيد إحساسنا بالترقب المنذر بالخطر .تقترب الكاميرا أكثر من مطروقة نحاسية معلقة على صدر الحائط إنها لفلاح مصرى يحاول اجتثاث شجرة خبيثة تتزين بالأفاعى والثعابين ونجمة داود.. الكاميرا تركز على قدم الفلاح لنرى عروقها النافرة، وجزاء من جذع الشجرة مكسوراً لعلها منحوتة السجينى لما بعد النكسة التى قتلت ناصر، فهو كغيره من أبناء جيله لم تكسره الهزيمة وراهن على نصر آمن أنه سيأتى .
على هذا المنوال سيستمر إيقاع فيلم جمال قاسم، يحدده توازن بين دخول وخروج .. دخول إلى البيت وخروج إلى النيل.. وما بينهما استعراض لمنحوتات وتماثيل ومطروقات تسجل لحظات انتصار مصر والمصريين وتزيد من غضبك على دولة ( الردة ) التى لا تزال تتعنث فى تخصيص متحف خاص للسجينى .
- قبيل نهاية فيلمه، واتساقاً مع الهدف الذى بات مكشوفاً الآن، سيفاجئنا جمال قاسم بسر عن كيفية موت السجينى فها هو يخط على الشاشة خبراً البداية يقول : ` فى 22 تشرين الثانى ( نوفمبر ) 1977 توفى جمال السجينى فى إسبانيا جراء أزمة قلبية دهمته قبلها بيومين عندما شاهد على شاشات التليفزيون الرئيس السادات يزور القدس ` !.
محمد الروبى
جريدة الحياة - 2011
فى ذكرى مرور مائة عام على مولده: متى نرى متحفا يحمل اسم جمال السجينى رائد فن النحت الحديث فى مصر؟
- فى عام 1969 انتابته مشاعر الحزن الممزوجة بالإحباط، فخرج نحو شاطئ النيل, قبل الغروب بقليل, مصطحبا معه مجموعة من قوالب تماثيله الجصية ليجلس عند طرف جزيرة الزمالك, وبدأ يهم بإلقاء الواحد تلو الآخر ليغرقها فى النهر وجلس يراقب دومات المياه وهى تبتلعها ودموعه تنسال على خديه, تلك هى مشاعر الفنان الراحل جمال السجينى رائد فن النحت الحديث عندما استحوذ عليه الإحباط فى أعقاب هزيمة 1967, انتابته مشاعر الحزن الممزوجة بالوطنية فلم يجد ما يقدمه لوطنه الجريح سوى أن يلقى فى نهره العظيم بعضا من أعماله، لكن سرعان ما تدارك نفسه وقدم قبل وفاته بعام واحد فقط تمثال «العبور» أحد أهم الصروح النحتية التى تجسد لحظة عبور الوطن من الهزيمة إلى الانتصار, لذا فإن المتأمل لأعمال النحات العظيم لا يملك سوى الصمت أمام تماثيله داخل قاعة العرض بمتحف محمود مختار وأعماله المطروقة على النحاس أو لوحاته التى تقدم ملامح أولاد النيل بكل فخر ومحبة, ويتساءل لماذا اكتفت وزارة الثقافة بإقامة احتفالية تستمر لمدة أسبوعين فقط، لكى تحتفى بالذكرى المئوية لميلاده ولم تسع إلى إقامة متحف خاص يحمل اسم أحد أهم رواد الفن التشكيلى الحديث.
جمال السجينى نحات مصرى أصيل ترك بصماته فى تاريخ الفنون فى مصر بداية من منتصف الخمسينيات من القرن العشرين, عبر بالرسم والنحت خاصة فنون الطرق على النحاس, أراد أن يقدم مصر التى يعشقها بطريقته الفنية الخاصة, وهو فنان أصيل غزير الإنتاج تتناثر أعماله داخل متاحف الفن فى مصر بالقاهرة والإسكندرية بل هناك أعمال له داخل متحف الميتروبوليتان بنيويورك.
ففى أول معرض خاص له فى عام 1951 قدم رؤيته الرومانسية وأسلوبه الشعبى ليخط بذلك طريقا خاصا به, كان يجمع بين التراث الفرعونى والفن الإفريقى, استطاع أن يأخذ من فنون الأجداد ويطورها لتتماشى مع البيئة التى يعيشها لتخرج بعدها أعماله تتمتع بالأصالة والبساطة وحسن التعبير وقوة الشخصية بالرغم من تواضعها, وظل السجينى طوال حياته ملتزما بقضايا الوطن يشغله حبه العميق لمصر ليخرج علينا بآخر أعماله تمثال «العبور» الذى يجسد فيه مصر الحديثة المتطلعة إلى المستقبل على هيئة سفينة يحتضنها أبناؤها الجنود وهى تفرد ذراعيها للأمام وبين طيات ثيابها الجنود يعبرون من الهزيمة إلى النصر.
وعلى مدار أسبوعين فقط يقيم قطاع الفنون التشكيلية احتفالية من خلال إقامة معرضًا لأعمال الفنان الرائد الراحل جمال السجينى (1917 – 1977) داخل مركز محمود مختار الثقافى بالتعاون مع قاعة الزمالك للفن احتفاءً بمرور 100 عام على ميلاد النحات جمال السجينى, حيث أكد د. خالد سرور رئيس قطاع الفنون التشكيلية أن السجينى أحد أبرز رموز الحركة التشكيلية المصرية وأنه خلد اسمه كنحات متفرد ومتميز صاحب أعمال فنية نحتية تحمل بصمة شديدة الخصوصية، ويعد مدرسة للفن بذاته مارس مجالات النحت والتصوير والنحت البارز والخزف الزخرفى والطرق على النحاس، قائلا: «كان السجينى فى كل مجال مجددًا مبهرًا» وأن الاحتفال بمئوية مولده فرصة لمشاهدة مجموعة من الأعمال رفيعة المستوى وللكشف عن محطات مشواره الفنى وما شهده من تحولات رئيسية فى تجربته الإبداعية شديدة الثراء على حد قوله, ومع ذلك لم تضع وزارة الثقافة أية مخططات أو محاولات لإقامة متحف أو حتى تخصيص قاعة عرض دائم لأعمال النحات الرائد لتكون مزارا لكل محبى الفن التشكيلى فى مصر.
فى المقابل نجد قاعة الزمالك اهتمت فى تقديم أعمال السجينى حيث وصفت ناهدة خورى المسئولة عن القاعة والتى تشارك فى تنظيم الاحتفالية، بقولها إن السجينى «نحات باهر ونادر..» وأن لوحاته لم تقل براعة عن نحته حيث أكدت أن لوحة «السبوع» تعتبر أكثر اللوحات الفنية ذات المكانة والتى تمثل شخصية السجينى، حيث تصور احتفاله بمولد ابنه الوحيد «مجد» ليقدم لنا عملا فنيا نابضا بالحياة, كذلك تمثاله المميز لأمير الشعراء أحمد شوقى أو لكوكب الشرق أم كلثوم، حيث جسد لحظة اندماجها فى الغناء, وأشارت إلى أنه تميز بالقدرة على تشكيل الوسائط المتعددة من الطين إلى البرونز، علاوة على إبداعه فى فن التصوير وأعمال الخزف واستطاع أن يحولها إلى قطع فنية مشوقة ومثيرة للفكر, وإن أشارت إلى أن أعمال الفنان بعد وفاته فى عام 1977 لم تنل المكانة التى تستحقها، بالرغم من أنه قدم فنه بكل إخلاص وتفان, لذا حرصت على تخليد ذكرى الفنان وأصدرت كتابا يتحدث عن عظمة جمال السجينى الفنان يحمل عنوان الذكرى المئوية للسجينى، يضم صورا لأهم أعماله النحتية ولوحاته التى أثرى بها حركة الفن التشكيلى المصرى.
والمعلوم أن أعمال جمال السجينى (1917- 1977) تحمل همًا وطنيًا وإنسانيًا وحضاريًا، كما يتجلى فى منحوتة التى تحمل اسم «بورسعيد», كما اتسمت أعماله بالتأثير فى الحركة الفنية التشكيلية المصرية الحديثة وبعثت فيها الروح الشاعرية والإنسانية المرهفة, عمل إلى جانب مجموعة من الفنانين مثل عبد الهادى الجزار ومحمد حامد عويس وجاذبية سرى وصلاح يسرى, وحصل السجينى على عدد من الجوائز والأوسمة، أهمها وسام العلوم والفنون من الدرجة الأولى فى مصر، وسام من الحكومة الإيطالية بدرجة فارس، جائزة الدولة التشجيعية (1962)، جائزة مختار للنحت 37، جائزة النحت فى بينالى الإسكندرية لدول البحر المتوسط فى دورته الأولى, وبرع أيضا فى إبداعاته من النحت البارز على خامة النحاس بشكل يكشف عمق ثقافته وتأمله للفن المصرى القديم، وكذلك فن العمارة الإسلامية، والمدرسة الأوروبية.
وكانت بدايته مع أوائل الخمسينيات من القرن العشرين، حيث بزغ نجم السجينى بعد أقل من عشرين عاما من رحيل رائد النحت الحديث فى مصر محمود مختار، جاء محملا بأحلام ثورة 1919 واستمد منها حسها الثورى وتطلعها إلى مشروع للنهضة الوطنية , خرجت من عباءته أجيال تلو أجيال من النحاتين الذين درسوا على يديه بكلية الفنون الجميلة حتى آخر حياته، كان يتطلع إلى أن تخرج أعماله من المرسم إلى الهواء الطلق، فى الساحات العامة والحدائق والميادين مثل أعمال محمود مختار، نحت بورتريهات لرموز الوطن من قادة مثل جمال عبد الناصر، الذى أحبه وآمن بمشروعه, ورموز الفن والأدب والصحافة، مثل أمير الشعراء أحمد شوقى وأم كلثوم وعبد الحليم حافظ وسيف وأدهم وانلى وتوفيق الحكيم وعلى ومصطفى أمين، ومن قبلهم جميعا تمثاله لسيد درويش عام 1962 الذى كان صيحة جديدة فى الفكر التشكيلى الحديث, كان يقود دراجته البسيطة التى ظل يتحرك بها يوميا إلى عمله ومشاويره حتى النهاية, كان مؤمنا بأهمية وصول رسالته إلى عامة الناس، لترتفع بأذواقهم ومشاعرهم الوطنية , استرد السجينى روحه وكرامته بعد حرب أكتوبر 1973، وكان أول فنان يعبر عن العبور وانتصار أكتوبر فى عدة تماثيل صرحية، تم تنفيذ أحدها بميدان المحطة ببنى سويف.
ومن يتابع أعمال مراحله المختلفة يجدها تدور حول محورين أساسيين: الأول هو الحرية، ويصل فى ذروتها إلى الرمز بتحطيم الأغلال، والثانى هو الأرض، بجذور التاريخ والتراث، وفى كلا المحورين كان يقيم رؤاه وأعماله الفنية على خلفية من القيم الاجتماعية والثقافية والروحية للشعب المصرى والعربى، وذلك على حد وصف الناقد عز الدين نجيب، حيث يرى أن السجينى هو رائد تيار الواقعية الاجتماعية فى حركة النحت الحديث فى مصر، ويؤكد فى دراسة له عن فن جمال السجينى أنه فنان حرص على ولائه للقيم الأصيلة فى النحت المصرى القديم، وعلى إكمال محاولات من سبقوه لبلورة شخصية مصرية قومية للنحت، مثل مختار وأحمد عثمان ومنصور فرج وعبد القادر رزق وأنور عبد المولى لكنه فى ذات الوقت تمرد على نزعتهم المحافظة وحطم الثبات المظهرى فى الكتلة والتعبير متأثرا - أولا - بإنجازات المدرسة الرومانتيكية على يدى رودان ومايول فى النحت الفرنسى أوائل القرن العشرين، وثانيا بإنجازات الفنان الإنجليزى هنرى مور، التى تجمع بين رصانة وشموخ النحت المصرى القديم وبين الشكل البحت غير التمثيلى للطبيعة, ومتأثرا ثالثا بالعمارة البيئية والإسلامية، ليكون من ملامحها أشكالًا نحتية معاصرة، مثل القباب والمصاطب والسلالم الداخلية والفتحات، ويجعلها إطارا لعبقرية المكان والتاريخ ولزخم الأنفاس البشرية بداخله, رؤاه كانت أكثر مباشرة فى التعبير عن الصراع الاجتماعى فى واقع يتلوى بالآلام ويضطرم بالسخط قبل قيام ثورة 1952، وفى التعبير عن الآمال الشعبية الكبيرة فى الحرية والعدل. ولا شك أن لنشأته دورًا مهما فى اختياره الفكرى ومزاجه النفسى، فقد ولد فى 7 يناير 1917 بحى باب الشعرية، وتشبعت روحه بعادات وقيم أبنائه، ومن أهمها الانتماء والشهامة والاعتداد والتضامن ولا شك أيضا أن للمناخ السياسى الذى ساد مصر إبان الحرب العالمية الثانية وما بعدها ولنشاط الحركات الثورية والديمقراطية والجماعات الفنية والأدبية دور مهام ففى عام 1946 كان ضمن جماعة الفن الحديث الذين أصبحوا قادة الحركة الفنية فيما بعد, ومن أبرز أعماله فى تلك المرحلة تماثيل الجوع، الفلاح، الأرض، الحرية، حيث كانت صرخات احتجاج ضد الظلم بأشكاله المختلفة.
أمانى عبد الحميد
المصور - 2017/5/3
- لم ينسى السجينى مصريته فى يوم من الأيام .. لاحظ أجداده الفراعنة يقرنون الكتابة الهيروغليفية بمنحوتاتهم . فأخذ عنهم هذا الأسلوب وأدخل الكتابة فى تماثيله .
- ولكن عربية .. ` سجينية ` فقد ابتكر نوعا من الحروف المتقطعة لم يسبقه إليها أحد .. وجعلها جزءا من التشكيل الذى كان مزيجاً من العمارة والموسيقى والشعر والمعانى الإنسانية .. وأخيراً النحت..
- وكان وهو يصافح الطين ينسى أنه يعانى من كسر قديم فى ذراعه حتى إذا ما فرغ من صنع التمثال ارتمى فوق مقعده ليستقبل فيض الألم .. كان الألم هو الثمن الذى يتقاضاه ..وكان سعيدا بهذا الألم لأنه ضريبة النبوغ .
- كان حلمه الكبير أن يسجل جميع الذين أسهموا فى صنع تاريخ مصر.وصنع تمثالاً للسادات ، وطه حسين ،ورامى ، وسيد درويش، وعلى ومصطفى أمين ، وتوفيق الحكيم ، وعبد الحليم حافظ ، ونجيب محفوظ وغيرهم .كان مرسمه ، أشبه بمجمع الخالدين. ولكنه مجمع قابع فى الظلام.. وعبثا حاول أن يرى المصريين ، أبناء بلده هذا العمل الكبير.فحمله تحت أبطه .. وذهب به بائساً إلى أسبانيا لعرضه هناك .
- وهناك وافاه الأجل.ولو كان يعرف أن الموت ينتظره هناك .لصنع لنفسه تمثالا يرافق الخالدين.
بقلم: حسين بيكار
من كتاب آفاق الفن التشكيلى
جمال السجينى بين الفن .. والثورة
- منذ أكثر من ربع قرن ظهر اسمه فى حياتنا الفنية مقترنا بأعمال حملت سمات الحزن والأسى الاجتماعى وقبيل الثورة تفجر فنه بصرخات احتجاج ودعوة إلى تحطيم القيود .. وعندما قامت الثورة كان السجينى مثال أحداثها صور انتصاراتها ومعاركها وأبطالها .. وما زال فنه حتى الان مواكبا لقضايا متطلعا إلى الساحات الجهيرة مؤكدا الدعوة الى الارتباط بالبيئة والارض .
- كانت مدرسة الفنون الجميلة العليا من دعائم المنشآت الثقافية فى حقبة العشرينات حين أخذت الدولة تضم إليها المؤسسات التى أقامها رواد النهضة الأول فى مطلع القرن ، ضمت الجامعة الأهلية فأصبحت مؤسسة حكومية وأخذت تفكر فى ضم مدرسة الفنون الجميلة التى كانت حتى هذا الحين معهداً أهليا خرج فى بداية الشالة جيل الرواد الأول من فنانى مصر ثم اصابه الوهن فأرادت الدولة أن تمد إليه عونها .
- وكانت بداية صحيحة وضع أساسها ` مختار ` الذى لمس حاجة بلاده إلى مدرسة عليا للفنون يقتصر الالتحاق فيها على أصحاب المواهب والعناصر التى تعد إعداداً سليما للفن .. وقاوم منذ البدء فكرة قصر الالتحاق بالمدرسة على حملة شهادة اتمام الدراسة الثانوية وطالب بأن يكون أساس تعليم الفنون مدرسة تحضيرية تعد العناصر الصالحة للمدرسة العليا للفنون الجميلة .
- وعلى هذا المنطق قام إنشاء مدرسة الفنون وتنظيمها منذ تحولها إلى مدرسة من مدارس الدولة الرسمية ، وكانت تجربة ناجحة أثمرت أفضل أفراد الجيل الثانى من فنانى مصر المعاصرة وجيلها الثالث هذا الذى بدأ يفد على المدرسة فى أوائل الثلاثينات مدفوعاً بنداء موهبته وحرية الاختيار لا مشدوداً إلى معاهد الفن لقصور أوصد دونه الكليات والمعاهد الأخرى أو نزولا على قرارات مكاتب التنسيق .
- على رأس هذا الجيل الثالث كان الفنان جمال السجينى التحق بمدرسة الفنون الجميلة العليا سنة 1933 وفى نفسه شرارة موهبة وجدت فى فن النحت منطلقها ووجدت فى جائزة مختار للنحت تلك التى كانت تنظمها جامعة أصدقائه منذ وفاته مجالا لاظهار هذه الموهبة كما أظهرت مواهب غيره من فنانى هذا الجيل .
- وفى سنة 1938كان جمال السجينى قد أتم دراسة الفن بامتياز وسافر إلى فرنسا مبعوثا من الدولة .
- وفى باريس وجد نفسه بين آثار قطبين من نحاتيها - رودان ، وبورديل . أما رودان فكانت أعماله تعبيرا تشكيليا من الدراما الانسانية ، عن الحب واليأس والتطلع والموت فاجتذب هذا الشجن التشكيلى نفس ` جمال السجينى` ووجد فيه صدى لاحزان نفسه وأما بورديل فكان يدعو إلى النحت البنائى ويتحدث بلغة قومية ويشير إلى العودة إلى تراث فرنسا فى العصر القوطى .
- وكلاهما صب فى نفس جمال السجينى شيئا ولعلهما أشعلا فيه التمرد على الوقوف عند حدود فن الميدالية الذى كان موفدا للتخصص فيه .
- وكان مختار قد شق للنحت فى مصر طريقه وحقق بأعماله دلالة كبرى هى تحقيق الأعمال مع التجديد والاستمرار مع التطوير ..فجاء رحيل السجينى الى باريس وعودته منها محفوفا بهذه الأفاق التى مدَّت له الرؤى .
- ورجع إلى مصر ، وظهرت أعماله الأولى مزاجا من الرومانسية والواقعية الاجتماعية .. كانت فترة تشده إلى قضايا العدل الاجتماعى وتطلق منه صرخات الاحتجاج على البؤس والتمرد ، صرخات منحوتة يتمثل فيها استغراقه فى الموضوع وانشغاله به عن البحث فى الشكل فلم يكن للسجينى بعد شكله الخاص الذى تكونت عنه معالم أسلوبه غير أله ما لبعثه ان اتجه بوجدانه نحو تراث بيئته بعد ان ازداد استيعابا للغة عصره الفنية وأخذ أسلوبه الخاص يتشكل .
- وتفجرت منابع التعبير فى نفسه .. لم يعد يجد فى النحت وحده مقنعا ، فأخذ يمارس التصوير وكانت لوحاته صرخات احتجاج ووثيقة اتهام للقضايا واحدات حقبة بلغت أوجها فى النصف الثانى من الأربعينات وامتدت حتى قبيل الثورة فكان مع بعض كتاب عصره من المبشرين بالتحول وتحطيم الاوضاع الراكدة .
- أخذ جمال السجينى يمارس التصوير والنحت واكتشف خامة جديدة هى خامة ` النحاس ` تلك التى ظلمته بين صناع خان الخليلى مسرحا لرهائف الزخرفة وصور الأشكال فأحالها جمال السجينى إلى خامة من خامات الفن الرفيع طرق بها فى الفن التشكيلى مجالا يعتبر من اضافاته المميزة ، واستطاع أن يستخلص من النحاس أقصى طاقاته التعبيرية .
- وكانت هذه فترة التمرد التى سبقت ثورة 1952 كانت الثورة تعيش فى وجدان الشباب .. وكانت تماثيل ولوحات
جمال السجينى باشاراتها الجريئة وايماءاتها اللماحة من معالم هذه الثورة لتجمع حول فئة جيل من الشباب وجد فى أعماله تعبيرا عما يجيش فى نفسه وتفسيرا لما يوجد أن يطلقه فى صرخات احتجاجه .
- فى هذه الفترة كان جمال السجينى مشغولا بقضيه الحرية والقضية الاجتماعية باحثا فى تراث بيئته من العناصر التشكيلية المكملة لمضمون فنه ، كان من أروع تماثيله التى حققت وفاقا بين الشكل والمضمون تمثاله ` الفلاح ` الذى نحته من الخشب بأسلوب فيه ما يذكرنا بتراث الماضى .. فى بنائه الهندسى العام وفى أقدامه الضخمة التى تذكرنا بنهج مدرسة منف فى النحت ويبدو الفلاح فى تمثال السجينى وكأنه مغروساً فى هذه الأرض منبثقا منها كجذوع الشجر راسخا رسوخها وان كان فى وجهه ملمح رضاء بقدره وبين يديه عطيته لبلده تتمثل فى طفلة الذى يبشر رغم كل شئ بالأمل فى شئ يجئ .
- واستطاع السجينى فى هذا التمثال وفى تمثال ام صابر وتمثال الجوع أن يفرض على المادة شيئا من وجدانه وشيئا من فكره فى اطار منطق خامة الخشب واسرار بلاغتها التشكيلية.
- وهو فى هذا يحقق كلمة ` هنرى مور ` بدون قدر من هراك المادة من الصلح معها لن يبدو فى العمل الفنى طابع الانسان وفكر الانسان `
- ولما كان العمل الفنى ليس خطا مباشرا يبدا من نقطة وينتهى عند أخرى إنما هو حلقة أو سلسلة من حلقات تؤهل كل منها للاخرى فقد يكون من العسير إن نضيع على طريق جمال السجينى خطوط محددة وحاسمة بين حقبة وحقبة .. إنه تيار دافق متداخل الرجات ولكننا نلمح خلال مساره ملامح التجدد والتغيير .
- وأخذ الفنان يعد خامة الخشب بخامة أخرى وموضوع آخر تمثل بإصرار فى فنه .. موضوع الأمومة الذى عالجه غالبا فى خامة البرونز ليضفى عنى تشكيله لبعض الموضوع ومشاعره وان كانت أمومة السجينى فى دموعها المختلفة لم يخل نبضها من اثنين ، ولم تخل نظراتها من أسى لالام فى تماثيله تبدو من زواية وكأنها ترضع طفلها ومن رواية أخرى وكأنها تعانى مخاض الحياة لندفع به إليها .. هى تحتضنه أو تظلله إلى أن تعثر له على أمن الانطلاق .
- وتصاحب هذه الفترة تماثيله الأفقية الممتدة بعد تماثيله الرأسية فى مرحلة الفلاح والجوع وأم صابر انه هنا مأخوذ بما فى هذا الموضوع عند هنرى مور من التعبير عن جلال الجبال وغموض الكهوف وسر نجواتها العميقة ، ولعله فى نهميه هذا يذكرنا بكلمة أو جست رودان ` المرأة مثل الجبل كلاهما مشهد بنفس الطريق وعلى نفس الأغول `
- يزداد جمال السجينى اكتسابا لسر التحوير فى العمل الفنى ولكن الموضوع القومى والحدث التاريخى وانفعاله ببعض القضايا يدفعه الى اغراق فى المبالغة التشكيلية ليكسب فى مقطع النحت شحنة انفعالاته الثائرة ويؤكد فى نفس المشاهد الاحساس الدرامى بالحدث . كذلك كان فى تماثيله ` يقظة أفريقيا ` و ` المدينة الجريحة ` الذى يذكر على نحو ما بالنصب التذكارى لتحطيم مدينة روتردام للمثال ` زادكين ` وتأتى فى هذه الحقبة محاولة أخرى هى محاولة ربط الانسان بالبناء فى وحدة تركييبه تنحو إلى التجريد .. انها محاولة استمدت عناصرها من حب جمال السجينى للعمارة الرفيعة الشعبية .
- وتعلقة بمعمار القباب المسيحية والاسلامية فأراد فى معادلة تشكيلية ان يواصل بين الشكل الانسانى والمعمار البنائى وأن يحقق منهما وحدة متألفة .
- لقد صمت جمال السجينى فترة بعد أن أعد النصب التذكارية وحلم فى مشروعاته بالتماثيل القومية الجهيرة .. ولصمت الفنان أسراره .. أحيانا يكون الصمت تعبيرا عن اليأس وأحيانا يكون صرخة احتجاج كما أنه قد يكون فترة انتظار رهيب ولقد عاد الفنان بعد صمته بمجموعة ضخمة من أعماله وبمعرض طرح قضية هامة هى قضية الخط القومى فى النحت المصرى المعاصر وهى قضية جديرة بالتأمل والنقاش بعد أن اندفع عديد من فنانينا الموهوبين وراء صيحات حديثة وبهرتهم فكرة الشكل العالمى الحديث فلم يبلغوا العالمية وضلوا الطريق إلى الخط القومى .
- ولقد بدأ النحت المصرى بداية باهرة على يد مختار اقتصرت الطريق على الاجيال التى قيمته ، وكان لنا ان نرتقبه امتدادا لوصيته وميلاد اشكال جديدة نابضة من تراث عريق أوحى إلى كثير من مدارس القرية الحديثة ولكن الانصراف عن هذه الوصية لم يحقق خط الاستمرار والامتداد .
- وجمال السجينى من دعاة استمرار الخط القومى فى النحت وأعماله تأكيد لارتباطه بارضه وبيئته وفق ما يمليه وجدانه كما أنه من الفنانين المشغولين بالأحداث القومية وامتداد هذا الاتجاه فى النحت يتطلب أن تفسح الدولة الميادين والاماكن العامة للنحت الكبير .
- على أن فن ` الموضوع ` و ` الرمز ` و ` الحدث ` لا يحجب السجينى من لغته المشرفة بالذكاء وقوة الملاحظة والعمق النفسى حين يتناول وجوه أحبائه وأصدقائه ، كذلك نراه يرتقى بلاغة تشكيلية فى تمثال زوجته ` هدى ` الذى أودعه حياة تعبيرية أخاذة وكذلك فى تمثال ابنه ` مجد ` وفى رأس صديقه الفنان ` سيف وانلى ` .
- ويعود جمال السجينى إلى فن التصوير بعد أن غابت أعماله عنا زمنا ولكنها عودة يسودها شؤم حزين ويأس قاتم يسيطر على لوحاته الأخيرة التى تمثل جماجم الحيوان والزهور السوداء والعصافير الميتة ومرأتى الحلوى المهشمة الكسية الأقدام ولئن كان اللون فى بعض هذه اللوحات يصدح ببريق يخلق بين غنائية اللون الصداح ودرامية الشكل المتكسر صراعا سيرياليا بحير الالباب .
- على أن السجينى ما زال فى أعماله الاخيرة أستاذ النحاس المطروق وهو يبدو وكافة يستحوذ على مزيد من أسرار الخدمة ويشحد فيها حساسيته التشكيلية ..
- هنا ينجح خيال الفنان إلى التركيب لتأكيد التعبير الرمزى ويمنح حسه إلى الرصانة فى معالجة ملمس السطوح النحاسية ، وإلى براعة التكوينات الفنية للحروف والكلمات وتحويلها من دلالتها الفظية إلى دلالة تشكيلية جمالية .
- لقد أضاف جمال السجينى خلال ربع قرن الكثير وحقق الكثير وربط فنه بقاضايا مجتمعه .. هو شحنة وقدرة وموهبة جهوده تسعى لأن يكون فنه رباطا بالأرض والناس والماضى والاتجاهات المعاصرة مما وافره من معالم الفن المصرى المعاصر ، ومن خير ما فعله هذا الجيل الذى نشأ فى الثلاثينات وعاصر هذه الحقبة من الأحداث الهائلة والتحول الشاغل وتمثلها فى فنه .
بقلم : بدر الدين ابو غازى
مجلة الهلال ( العدد السادس ) يونيو 1969
جمال السجينى فنان الجماهير
- `هذه المعاناة التى أعيشها خلقت فنا لا أزعم أنه مرتبط بالجماهير بل أقول الصدق إننى اجتهدت دائما أن أعبر عن هذه الجماهير`. كلمات لخص بها النحات الرائد جمال السجينى (1917 ـ 1977) مسيرة تجربة فنية ثرية أفنى عمره فيها لإيصال انفعالاته وأحاسيسه ورؤيته عن معاناة الجماهير ومشاكل الناس عبر أسلوب نابع من تراثهم وكيانهم وحضارتهم. وككل المثابرين أصحاب الرؤى الخاصة والغايات النبيلة نجح فى ذلك ولعل أبلغ تعبير عن هذا النجاح هو الاحتفاء بالمعرضين اللذين أقيما (23 أبريل ـ 16 مايو 2017) فى قاعتى الزمالك للفنون ونهضة مصر بمتحف محمود مختار في ذكرى مئويته، ليتأكد لنا أن السجيني بعد أربعين عاما على وفاته مازالت أعماله التي تحمل بصمة وجوده وروح انفعالاته وقدرته الهائلة على الخلق الفني قادرة اليوم على إثارة نفس الإحساس بالتعاطف والتفاعل لدى المتلقي، كما كانت لدى المتلقى الذى رآها يوم عرضها الأول.
- فأعماله ذات مسحة رومانتيكية شبيهة بموسيقى تشايكوفسكى وأشعار شيلى وقد وصفها الناقد الراحل كمال الملاخ بأنها تعكس روحا واقعية اجتماعية والمتأثرة برودان منذ بواكيرها باعتراف الفنان نفسه عندما قال `تأثرت منذ كنت طالبا بمدرسة الفنون الجميلة بمأساة التعبير والتشكيل عند المثال الفرنسي رودان إذ وجدت في ثنايا تشنجاته التشكيلية ترديدا عجيبا للنغمة الحزينة التي كنت أعيشها وتعيشها معي بيئتي المصرية مازالت تعبر حتى يومنا هذا عما يجيش في وجدان المصريين وفي وجدان الإنسانية جمعاء ذلك لأن صاحبها وجد اللغة الصحيحة التى تجعل الفنان متفردا، يمتلك لغة التعبير الشامل عما يجيش فى وجدان المبدع وما يرغب في التعبير عنه فى مجتمعه، اللغة المفهومة للجميع دون تمييز تلك اللغة هى التي تجعل من العمل الفني عملا فنيا بحق لأن الفن الحقيقي هو إخراج المشاعر لحيز الموضوعية بطريقة واعية فيها نقد وتوجيه`. والسجينى كان يطلق مشاعره وانفعالاته وأفكاره لحيز الموضوعية عبر أكثر من وسيط مادى ليناسب هذا الوسيط ما يريد هو أن يعبر عنه مستعينا بقدرة ثرية على الخلق الفنى ومهارة تقنية لاستعمال وسائط الفن المتنوعة وإدراك تام لأهمية الأسلوب وأهمية الوسيط نفسه كونه يحمل فى داخله المفاتيح التى تعمل وتساعد على تكوين الصورة وإيصال الفكرة وإعادة خلقها وتكوينها فى ذهن المشاهد، ولذلك ترك أعمالا عابرة للزمان والمكان، تنطبق عليها مقولة فيرون `إن الفن يتجاوز الجمال، لأنه يضم ما هو مخيف أو حزين، قبيح أو مرح` وهذا ما أنتجه السجينى، فن يتجاوز مقاييس الجمال العادية ليعبر عن حال المجتمع وإن كان لا يهمل هذه المقاييس بل يدعمها بالفكر الاجتماعى، فقد كان مدركا أن عصره شهد موجات من الإقبال على التصنيع والسعى لرفع مستوى المعيشة وأن دور الفنان الحقيقي هو تعضيد الفكر المواكب لهذا العصر والطموحات بغد أفضل ألا تهمل القيم التي تجعل من الإنسان إنسانا، قيم الجمال التى يعبر عنها الفن.
- ما أكسب السجينى تفرده وأصالته إيمانه بالجمع ما بين المضمون الاجتماعى للفن والرؤية الفردية للفنان والتي تجعله قادرا على التعبير عن روح الجماعة دون أن يفقد روحه وتميزه. وهذا أيضا ما جعل له بصمته رغم تأثره بفنانين كرودان وكلوديل ومور وكذلك بأسلوب محمود مختار فى بداياته، لكن رغم هذا ظل متفردا، وفرادته كمنت في أن أعماله دائما ما عكست رؤيته الفنية والكونية، وكانت دنياه فيها واضحة المعالم تخصه وحده دون مؤثرات من أحد يحذف فيها ما يحذف ويضيف لها ما يضيف، بدون أي مؤثر سوى قناعته فقط. دعم هذه القناعات بمهارة مبدعة فى النحت الكلاسيكي وتأثر بنزعات الرومانتيكية والتعبيرية كان أميل إليها بحكم العاطفة الجياشة التى ميزته وملامح من خبراته وبيئته استلهمها من المنحوتات الشعبية الخشبية وأحصنة وعرائس الحلوى في مولد سيدي الشعراني الذي عشقه منذ نعومة أظافره وصوانى وأعمال النحاس المطروق ولوحات الخط العربى التى كانت شوارع القاهرة العتيقة تمتلئ بها.
- ولا يمكن إنكار تأثر جمال السجينى بالنزعة الدرامية الرومانتيكية عند رودان إذ وجد فيها أسلوبا للتعبير عن مشاعره، واستيحائه للقومية البنائية فى أعمال بورديل، وتقفيه أثره فى عودته لتراثه المصرى كما عاد بورديل للتراث القوطى، كذلك انبهاره بمعادلة مختار التى جمعت التجدد بالأصالة والتراث بالحداثة، كل هذه المؤثرات أضافها لذلك الميراث الذى يحمله فى قلبه من قبل انفتاحه على عالم الفن، ميراث الصناع المهرة والحرفيين روائح أزقة المدينة القديمة المتربة التى يتردد فى جنباتها صوت الأذان ووداعة المراكب النيلية منتفخة الأشرعة عند الغروب، كل هذا انصهر في داخله ليصنع سبيكة خلت من أى نزعة غربية أواستشراقية غلب عليها مسحة صوفية رقيقة طبعت أعماله من المبدأ إلى المنتهى، فكانت هذه المسحة الأقرب إلى توحد المتصوف مع المحبوب وكان المحبوب فى حالة السجينى هو الوطن، وبقدر اهتمامه برسالته في محاربة الفساد والاستبداد والقهر كان مهموما بجماليات عمله الفنى فعكست أعماله بهذه المعادلة عظمة الوطن اللامرئية فى أعمال مرئية وملموسة محسوسة للمتلقى تدخله في حالة من التسامى، تتوحد فيها جماليات العمل الفنى مع جماليات الفكرة التي يسعى الفنان لإيصالها للمتلقى لتخلق حالة من الدهشة والصدمة الممزوجة بالمتعة لدى هذا المتلقى، هنا كان مكمن فرادة السجينى الحقيقية فى كل مراحله وكل أعماله على تنوعها، أعماله التي تميزت دائما بالخطوط الأفقية والرأسية لتعكس توحده مع الأرض والزرع والروح الإنسانية لأبناء وطنه. هذا العشق الذى جعله يمزج كل هذه العناصر فى وحدة واحدة كانت هى تيمة أغلب أعماله الفنية على اختلاف الوسائط والخامات.
- ففى سعيه هذا لم يكتف السجيني بالنحت المجسم وحده ولا بسطح اللوحة وتماثيل وأطباق وقطع الخزف بل تعداهم لسطح النحاس المطروق ليجسم المسطح ويحول فنا تراثيا هو طرق النحاس إلى فن معاصر، ودائما كان يدرك أن لعمله الفنى عمرا خاصا به ولذلك دائما ما عكست أعماله إيقاعا سريعا معادلا للزمن استطاع الوصول به للذروة رغم الحفاظ على البناء الهندسي الأفقي والرأسى المحكم مع الحفاظ على الحس الإنساني أو القومي أو كليهما كتيمة وجوهر للعمل الفنى، فبطريقته الخاصة استطاع أن يعطى شعورا بصخب الحياة والفوران الديناميكى، واعتمد فى كل مراحله ولكن بدرجات متفاوته تبعا لتغير الخامة ولتطور أدائه على حاسة اللمس البصرى حيث تعمل البروزات والتجاويف والمساحات الخشنة والناعمة عمل التضاريس الجيولوجية فوق سطح العمل، وكان هذا يتبدى في أعماله النحاسية الأشبه بالجداريات الفرعونية والتى جمع فيها بين الزخرفة والتشخيص والكتابة وتضاريس الوجوه الدرامية المعبرة وحركة الأجساد أكثر من غيرها من الأعمال وملأ فيها فراغ الأسطح بالكامل، ولكي يحقق هذا لجأ إلى الطابع الرمزي بجرأة ولعل جدارياته شجرة المصير والمسيح والجوع أبلغ مثال على هذا الأسلوب، ففى هذه الأعمال ديناميكية وإيقاع متناغم فى وحدة متسقة متعددة الجوانب تجعل المشاهد يحس بنوع من النبض فى العمل الذى دائما ما يكون بطله الشجن والنشوة وكأن له قلب، وهنا يتجلى الأثر الفنى الحقيقى للسجينى بوضوح، فقد وعى أهمية ترك أثر فنى هو منفذه للوصول لشخصيته بقدر ما هو مرآة لعصره وللتراث الفني السابق عليه وللعوامل الفردية والاجتماعية والحضارية التى أحاطت بوجدانه، والأثر الفني هو نتاج لهذا الوجدان، هذا الوعى هو الذي أهله ليكون حلقة للوصل وحلا لكل المعضلات الفنية التى عاشتها الحركة الفنية المصرية منذ بداياتها وجعلتها تعيش رحلة بحث فى الحركات الفنية المتنوعة في العالم منذ منتصف أربعينيات القرن العشرين ببصمته السهلة والعذبة والمعبرة التى كانت جوابا على كل التساؤلات والمعضلات رغم أنه بدأ حياته الفنية بأسلوب هو امتداد لأسلوب قدوة جيله من النحاتين فى تلك الفترة محمود مختار ممتزجا ومطعما ببعض التعاليم الأوروبية الرومانتيكية على الأخص أنه ومبكرا جدا رأى الأسلوب الرومانتيكي هو الأكثر مواءمة في التعبير عن هدفه الاجتماعي ولكنه لم يجد ضالته فى هذا الأسلوب وحده، ولذلك أسس لاحقا جماعة صوت الفنان مع مجموعة من زملائه الرسامين والنحاتين بهدف التجديد في الفن ومن خلال مشاركته في هذه الجماعة أعلن السجيني الثورة على أسلوب مختار وتقاليده الفنية التى كان معاصروه يرونها تشكل قاعدة وأساسا لمدرسة مصرية فى النحت.
- وربما كان اختلاف عصر الفنانين له دور كبير فى ثورة السجينى، فقد كان أسلوب مختار مزيجا من صرحية ورسوخ الفن الفرعونى وتقاليد الكلاسيكية الجديدة المستمدة من الفن الرومانى مع مسحة من رومانتيكية رودان تعطى نوعا من التوتر الذى يؤدى لديناميكية العمل الفنى، فبينما كان هدف مختار الأساس بعث عظمة التاريخ المجيد وجلاله وفخامته وجماله كان هدف السجينى صناعة فن للجماهير بأسلوب معبر عنهم لذلك فقد كان ميله أكثر لاستلهام تراث الفن الشعبى والقبطى بزخمه ممزوجا بقوة ورسوخ الفن الفرعونى ورشاقة الفن الإسلامى، ففي زمن السجينى كان سعى المجتمع للنهوض أكثر تحررا وقوة مما جعل فنه أكثر التصاقا بنبض الجماهير وأكثر التصاقا بوعيه؛ فتميزت أعماله فى البدايات بالإضافة للرومانتيكية برمزية ومبالغة فى النسب على الأخص نسب الأيدى والأقدام لإيضاح أهمية قيمة العمل وبوجود الديك كرمز للتوق لفجر جديد، ثم تأثر بفن ما بعد الحرب العالمية الثانية فى أوروبا، وعلى الأخص بالنحات البريطانى هنرى مور، فمنه أخذ السجينى فكرة التجسيد والتبسيط والانسيابية وليونة الحركة والخطوط لكنه فعل هذا بطريقته الخاصة ودون أن يتخلى عن الصرحية والرسوخ لكنه ظل محافظا على قوة الكتلة وإعطاء الشعور بأن لها جذورا تمتد فى باطن الأرض، وعزز هذا باللجوء للأسطح العريضة محافظا على المسحة الدرامية التى تعطى ذلك الحس بالحياة للمنحوتة.
- ومع ثورة 1952 شهد السجينى مرحلة جديدة من مسيرته الفنية إذ بدأ إضافة إبداعات جديدة للنحت المجسم، تماثيل خزفية ونحت بارز وتشكيل معادن وصك للميداليات ولوحات زيتية بالإضافة للنحاس المطروق فظهرت عروسة المولد والمراكب الشراعية فى تصوير السجينى كتيمة ترمز لمصر بكل تجلياتها.
- وجاءت المرحلة الثالثة (المعمارية) فى أواخر الخمسينيات، وتميزت بكونها أكثر بنائية ومعمارية وعكست جانبا اجتماعيا أكثر منه سياسيا، كما تميزت عن غيرها باستلهام الطرز الريفية والقبطية والإسلامية فى خلق علاقات تشكيلية تتجاوب جماليا وروحيا مع روح العصر عن طريق تقنيات التجويف واللعب بالكتلة والفراغ وانعكاسات ودخول وخروج الضوء والتوازن الدقيق بين عناصر التكوين كان هدفه خلق حالة مجردة تترك أثرا موضوعيا عميقا على المشاهد. عكست هذه المرحلة عشق السجينى للمعمار الشعبى والقبطى والإسلامى لإحساسه بأنه جزء لا يتجزأ من الإنسان.
- ثم أتت الهزيمة بعد يونيو 1967 لتنعكس على أعمال السجينى المعبر عن الجماهير وجاءت معها لوحات عرائس المولد المهشمة والمصلوبة والغارقة الدامعة التي تغطى وجهها خوفا من المصير المجهول. رسم السجينى عروسته مستخدما كل الوسائط التى تعطيك أحاسيس وانفعالات مختلفة ملامس خشنة وناعمة، زجاجا مهشما، زينة وألوان براقة ليظهر كم هى جميلة رغم الهزيمة والمعاناة، قطع من المرايا تحيط بمراوحها المزخرفة لتعطي أحاسيس متباينة للرائى فكأنه موجود داخل اللوحة كجزء لا يتجزأ منها أو كأنه جزء من تكوين وكيان العروسة لا تكتمل دون وجوده، فاستطاع كعادته أن يفرض على خامته جزءا من فكره ووجدانه وأن يشاطر متلقيه ويشاطره المتلقى جزءا من الشعور بالمرارة والخديعة والانكسار مازال يشعر به من لم يكن موجودا عند وقوع الحدث، ثم يشاطره وعروسته أيضا شعوره بالفخار، وهى تحمل شعلة المجد بعد الانتصار، في كل أحوالها كانت مصر العروسة الجميلة حتى لو كانت مكسورة وكأنه في كل أعماله الفنية يهتف كما يقول حسين بيكار (يا حلاوتك يا مصر) ويحاول دائما أن يحميها بأزميله وفرشاته ويده، ليشاطره المتلقى أيضا هذا الشعور والقول فى تماثيله وأعماله النحاسية التى عكست كل مراحل رحلة كفاح الشعب والسعى للتحرر والتنمية، كما شاطره ذلك الشعور بالثبات والإصرار والفخار والقوة الراسخة سواء المتنبئة بالغد الأفضل في منحوتته `الانتصار` عقب حرب 1956، أو المعبرة عن الرهيب الذى حاق بالوطن بعد هزيمة 1967 من خلال جداريته `الليل`.
- فى مرحلته الأخيرة أوائل السبعينيات تبدى نضج السجينى وتبلورت تجربته فجاءت إبداعاته محملة بالعرائس والمراكب والبيوت المنحوته والمرسومة زاهية الروح، مغرقة فى الصوفية تبلور فيها شعور بالانتماء أقرب إلى الاندماج تحول فيه الفنان من التبعية إلى التوحد، واختزل فيه مضمون الوطن إلى عنصر رمزى حميم وقريب ودافئ، هو البيوت الشعبية البسيطة بخطوطها الطينية اللينة المتعانقة لوحات ومنحوتات ذابت فيها ثنائية الجسد والبيت، المحب والمحبوب، لتصبح ذات طبيعة واحدة في حالة صوفية اتحد فيها الزمان والمكان، الإنسان والمبنى في تلك العجينة النحتية المعمارية المجردة الشاملة الموجزة المتفاعلة مع العناصر المحيطة بها من ضوء وهواء والمعجونة في مبدئها بالماء والنار لتلخص كل المعانى الإنسانية التى أراد السجيني التعبير عنها، وكرس لها حياته وأهمها أن ينتج من أجل الجماهيرفنا وصفه تقرير اليونسكو فى مصر بأنه فن وضع في خدمة الفكر، ويمكن وصفه بالواقعية الاجتماعية، وركز على أن `جاذبية أعمال السجينى تكمن فى قدرته على خلق نماذج وأنماط إذا ما نظرنا إليها أدركنا أن هذه الأشياء والأشخاص قريبة منا، وعندما نراها من خلال أعماله نستشف فى الوقت نفسه تاريخا عريقا يمتد لآلاف السنين توحى به هذه الأشياء والأشخاص ببساطة أشكالها وعظمتها`.
بقلم : د./ سماء يحيى
جريدة الهلال اليوم 21- 6- 2017
جمال السجينى تشكيلات نحتية على أوتار القلب الحزين
- الكتابة عن علم بارز من أعلام الفن التشكيلى المصرى المعاصر شاقة وسهلة فى آن واحد .. وبخاصة بعد أن يكون هذا الفنان الكبير ` جمال السجينى ` قد رحل عن عالمنا حاملا آلامه وأحزانه ، تاركاً لوطنه أحلامه مغلفة كنزاً إبداعياً خلاقاً وغزيراً ، لم ندرك قيمته فى حياته - بفعل عوامل عديدة - .. وكان هذا سر أزمته التى لازمته طوال حياته ، بالرغم من استمرار تدفقه فى العطاء.
- مشقة الكتابة عن النحات المصور السجينى قد تكمن فى غزارة ما تركه لبلاده ، وتنوع هذا العطاء ، والمراحل العديدة التى عايشها ، وعبر عنها برؤيته وموهبته المتميزة ، والتطورات العديدة التى عاشها اجتماعيا ووطنيا وقوميا ، والتى التصق بها ، وعبر عنها ، بكل ما يملك ويجيش فى أعماق وجدانه المصرى من صدق وطموح .أما السهولة التى قد تبدو عند محاولة الاقتراب لعرض هذا التاريخ - الحى - الحافل ، فربما يعود إلى أننا عايشناه ، وأحسسنا بنبض روحه وإبداعه وكل إنتاجه .. وكذلك طموحاته الكبرى لفن النحت المصرى ، والتى لم تتح لها ظروفنا الاجتماعية والقومية المعقدة أن ترى النور.
- وإذا تجاوزنا بدايات تكوينه ونضوجه الفنى ، ودراسته فى مصر ، ثم فى فرنسا وإيطاليا ، وإيمانه المشبوب بأن يكون امتدادا جياشا لرائد النحت المصرى المعاصر محمود مختار، فإننا نلتقى به وبأعماله بعد تلك المرحلة ، وفى نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات .. تلك المرحلة التاريخية المتميزة والساخنة التى كان يفوز فيها المجتمع المصرى ، والشارع المصرى ، والقرية المصرية فى مواجهة الطغيان الداخلى فى آن واحد ..فنذكر أول ما نذكر معرض أعماله فى الصالة الملحقة بمقر متحف الفن الحديث فى ذلك الوقت والذى كان يشغل بيت هدى شعراوى بمشربياته العربية ، بعد أن تركته للفن والفنانين ، والذى كان ملحقاً به أيضا متحف مختار - مساحة الفضاء المطلة حالياً على ميدان التحرير والمتحف المصرى .
- هذا المعرض - الأول - الذى كان علامة وشهادة عبور إلى صميم الحركة التشكيلية المصرية ، وفى صميم الحركة الوطنية فى الوقت ذاته ... فقد عاش مختار بكل وجدانه ثورة 19 وعاش السجينى بكل وجدانه جيشان المد الوطنى فى بداية الخمسينيات ، والذى تدفقت من خلاله ثورة يوليو 52 ...
- فى هذا المعرض الذى سبق الثورة بعامين عبر الفنان عن الموقف الوطنى والاجتماعى من خلال التشكيل . قدم أعمالا تفور بالغضب والاحتجاج تعبيراً عن قضايا كانت ساخنة فى ذلك الوقت .. مظالم الأقطاع فى ` بهوت ` تلك القرية التى شهدت صيحة المستضعفين ..
- كما قدم صوراً عديدة للمقاومة الوطنية ، فى القناة ، وعلى الساحة المصرية بوجه عام .. وآثار المعرض اهتماما كبيرا من المثقفين الوطنيين ، كما أثار غضباً شديداً من جانب الذين يقاومون الغضبة الوطنية الاجتماعية .. وصدر قرار بغلق المعرض قبل اكتمال مدة العرض المحددة .
- وربما كانت هذه هى التجربة الوحيدة والمحك البارز - على أرض الواقع - الذى أشعر بخطورة الفن وأهميته ، ودوره البارز بالنسبة للجماهير ، والقضايا الوطنية بوجه عام.
- وحينما قامت ثورة يوليو معبرة عن طموحات الوجدان المصرى والإنسان المصرى ، كان الفنان السجينى فى طليعة المعبرين عن تلك الطموحات من خلال فنهم ، فسجلت منحوتاته تحطيم الأغلال ، ومراحل التحرير المختلفة للقرية والوطن ، وعمليات البناء وإرساء البنية الأساسية للاستقلال .
- عاش يؤمل أن يخرج النحت المصرى - والذى يخلد نضال الإنسان المصرى ومسيرته إلى النور .. أن يخرج عملاقا إلى الميادين العامة ، وأن يرتبط بالملايين وتشهده الأجيال .
- وحين بزغت تيارات القومية العربية ، وأعلنت الوحدة المصرية السورية ، اشتعل حماس الفنان ، واتسعت آفاق أحلامه ..وتحركت جذور - الطفل - الذى نشأ فى حى شعبى تحيطه وتحف به كنوز من التراث العربى ، ممثلة فى المساجد التاريخية ، والعمائر القديمة ، والحرف الفنية التقليدية فى خان الخليلى ، وعطر الحضارة الذى يزخر به الحى القديم.
- فبعد أن كانت أعماله قد تنسمت عبق التراث الفرعونى ، وملامح التراث الحضارى الذى سبق سائر الحضارات .. عاد يستوحى العمارة العربية ورصانة الكتل الضخمة الهائلة ، وصرامة الخطوط المجردة المتوثبة إلى عنان السماء ، والفتحات الضوئية الهندسية المحسوبة ، ومسالك القلاع ، والسراديب .. انعكست الكتلة العربية والسمات العربية على أعماله فى مرحلة المد القومى العربى .
- ومع صدمة انحسارها أخذ الفنان يتطلع إلى السمات العالمية فى أشكال وأساليب التعبير من خلال الموضوعات الإنسانية العامة كالأمومة ، والسلام .
- وبوجه عام يمكن القول بأن جمال السجينى عاش الوجدان المصرى ، وعبر عنه بكل ما اعتمل فى داخله من قلق وصدق ، بمراحله المختلفة والمتعددة التى شهدها جيله ، وغاص فى تياراتها ولهيبها .
- تميز السجينى - بصدق حواسه - بأنه لم يخضع فى تطور أساليبه الفنية لشكل ثابت جامد معين - مهما كان شراء هذا الشكل أو النبع الذى يأتى منه - فقد كان يستوعب القديم بغزاراته المتعددة كما يتأمل الجديد واكتشافاته وجوهره ، ثم يترك لوجدانه أن يتمثل كل المعطيات بعد أن يتفاعل معها ، ليخرج بسماته هو وقسماته هو ، وعطائه الخاص.
- ففى مراحل أعماله المتدرجة تبرز أحيانا سمة التجريد، كما تبرز أحيانا سمة التكعيب ، أو التعبيرية ، التى تكاد تكون السمة الواضحة فى أسلوب مطروقاته النحاسية.
- ويتفرد السجينى بالريادة فى إبداعاته على النحاس.. إذ يضمنها شحنات من التعبير الانفعالى من خلال إيقاعات غنائية متدفقة .. القطعة الواحدة ملحمة متكاملة قائمة بذاتها ، كلما تأملها المتلقى لا تتوقف عن العطاء والتفاعل بتفجير الصور والمشاعر والأحاسيس ، مع تدفق الحوار الصامت الذى يمنحه العمل التشكيلى الرفيع.
- وإذا كانت ظروف قسرية عديدة قد هزمت أمل الفنان فى أن يقوم ` النحت ` فى جيله بدور واسع فى حياة مجتمعه ، فإن مجالات التعويض - بعد رحيله - ما زالت قائمة ، ومن بينها إقامة متحف لهذا ` الكنز ` من أعماله قبل أن يتناثر أو ينسى فيندثر .
- لم يستطع جمال السجينى أن يتوقف طوال حياته عن غزارة الإنتاج ، بالرغم من الأزمات النفسية العديدة التى واجهها نتيجة لتكدس منحوتاته من حوله فى بيته الصغير ، أو مسكنه فى دور أرضى من مبنى يطل على التقاء النيل بالطرف الشمالى من الزمالك .وبالرغم من أنه فى أكثر من واحدة من تلك الأزمات ألقى ببعض من الأعمال التى ضاق بها بيته إلى النيل ، يأسا أو إحتجاجاً ، أو ربما قربانا للنهر الخالد ، عسى أن يعود للنحت المصرى مكانته وإزدهاره .
بقلم : كمال الجويلى
مجلة: إبداع (العدد 7) يوليو 1984
جمال السجينى ثلاثية النحت والنحاس المطروق والتصوير
- إذا كانت الشرارة الأولى للإبداع التشكيلي المجسم، التي أطلقها مثّال مصر محمود مختار، قد امتدت من البحث في جذور مصر القديمة واستلهام البيئة المصرية مع المؤثرات الغربية من الفن الأوربي، فإن الشرارة الثانية تمثّلت في إبداع جمال السجيني، الذي استلهم الطراز الإسلامي والعمارة الريفية الفطرية والفن الشعبي. أعاد مختار الحياة إلى النحت المصري بعد فترة انقطاع دامت أكثر من 4000 سنة، وكان ريفيًا تميمته الفلاحة المصرية، التي شكّل من جلبابها وملاءتها خطوطًا منغّمة تمثلت في تماثيله، ومن بينها `العودة من السوق`، و`حاملة الجرة`، و`الحزن`، و`الراحة`، و`كاتمة الأسرار`، و`القيلولة`، وكانت منحوتته `الخماسين` امرأة تواجه الرياح العاتية، رسم فيها ملامح مصر من القوة وعنف المقاومة ومحاولة الانطلاق.
- كان السجيني قاهريًّا، ونشأ في حي شعبي، وارتبطت طفولته بـ `عروسة المولد`، التي كان يطيل الوقوف أمامها في المولد النبوي الشريف، فتدهشه بنظراتها المسكونة بالوداعة والبراءة، ومن هنا كان الفن الشعبي أحد روافد فنّه الذي امتد في ملاحم من النحت والنحاس المطروق والتصوير.. بما يعد في عالَمه المتسع وإنتاجه الغزير فنانًا مصريًّا وعربيًّا شاملًا.
- سحر المشربية
- وُلد جمال السجيني عام 1917 لأسرة من الطبقة المتوسطة في حي باب الشعرية، هذا الحي الشعبي المسكون بقيَم المودة والشهامة والأصالة، وكان جده يسكن حي الجمالية بجوار `قصر الشوق`، ومن هنا قضى طفولته متنقلًا عبر حوش مرجوش يتأمل النحّاسين، وتلك الأواني التي تتنوع في تشكيلاتها، ومعها صواني منقوشة بحيوانات وطيور وبراعم وزهور. وفي خان الخليلي كان يمتلئ بآيات الإبداع الإنساني من مشغولات الفضة، وكانت تأملاته تزداد توهّجًا في منزل جدّه حين يطالع دقّة المشربيات، ورائحة البخور تنطلق من ورائها.
- ارتبط وجدانه بعروسة المولد، كان يطيل الوقوف أمامها فتبهره بألوانها الزاهية وبما تشعّه المرايا والورق المفضض.. وحين يتطلع إليها تنظر إليه بعيون مكحّلة.. وكما يقول الناقد الفنان حسين بيكار: أحب فيها الشكل والصورة التي كان يتمثّلها بخياله كحوريّة من حوريات الأساطير التي كانت ترويها له جدته قبل النوم، أو تلك التي يشاهدها من خلال فتحات صندوق الدنيا في حكايات سِت الحسن والجمال والسفيرة عزيزة.
- لقد بهره التمثال الذى يلمع تحت الأضواء، فكان في طفولته يتساءل: كيف يمكن أن يبدو الإنسان بهذه الصورة ويتحول إلى هيكل من السكّر بهذه الحلاوة وهذا الجمال؟
وقيل له يومئذ: هذا تمثال! ولم يدرك معنى كلمة تمثال إلّا عندما اكتمل نضجه، وعرف أن أصابع الإنسان تستطيع أن تشكّل وتصنع أشياء كثيرة شبيهة بعروسة المَولد.
- عضوية جماعة التربية الفنية
خلال طفولته بدأ تفوّقه في حصة التربية الفنية، ومع نهايتها ينزع أستاذه الموضوع الذى تحوّل إلى لوحة يزيّن بها حوائط المدرسة، من الممرات إلى الفصول.
وهو فى السنة الثالثة الابتدائية خرج فى رحلة إلى الريف مع زملائه، وتشبّث بركوب حصان فى غفلة من مشرف الرحلة فجمح به وسقط، فانكسرت ذراعه اليمنى وعظمة العضد، وفي المستشفى وضعوا له جبيرة حول الذراع، لكن من دون إعادة العظمة المكسورة إلى مكانها الصحيح، فالتأمت بوضع خاطئ، وعاش السجيني طوال حياته يعاني ألم هذه الذراع. ومع ذلك شيّد بها وأبدع روائعه من تماثيل ولوحات، وكان يحقن ذراعه مرتين في العام من أجل تنشيط حركة المفصل.
- فى المدرسة الثانوية كان يرسم ما حوله من الطبيعة، يصور بإحساسه التعبيري المآذن والقباب وأحياء الحسين بكل ما فيها. يحوّلها إلى خطوط بارزة مع جبل `الدرّاسة` وسحر المشربيات، وخان الخليلي وبوابات القاهرة التاريخية، بوابة المتولي وباب النصر، ومع الأزهر والأقمر والحاكم بأمر الله من مساجد حافلة بعناصر الإبداع وسمو التشكيل.
- نحات بـ `امتياز`
- ضمّه أستاذه مدرس الرسم سعيد عبدالوهاب إلى جماعة التربية الفنية، ومع تميّزه في الخطوط والألوان نصحه بأن يلتحق بالفنون الجميلة، وكان ذلك عام 1933. تذكّر عروسة المولد المجسّمة التي أحبها في الشكل والمعنى، واختار قسم النحت، وتفوّق فيه حتى أنه فاز بجائزة `مختار` عام 1937 وهو مازال طالبًا، وكانت مجالًا لإظهار مواهبه مع الدراسة.
- فى سنة 1938 أتم السجيني دراسة الفن، وحصل على دبلوم النحت بدرجة امتياز، وهنأه العميد، وقال له أستاذه النحات السويدي كلوزيل، الذي يُعدّ من أعظم المثّالين: `ستكون من كبار الفنانين المرموقين`، بعدها سافر إلى فرنسا في بعثة ليضيف إلى عالمه دنيا جديدة في البحث والإبداع.
- فى باريس وجد نفسه بين آثار قطبين من نحاتيها، بتعبير الناقد بدر الدين أبو غازي: رودان وبورديل، أما رودان فكانت أعماله تعبيرًا تشكيليًّا من الدراما الإنسانية عن الحب واليأس والتطلع والموت، فاجتذب هذا الشجن التشكيلي روح السجيني، ووجد فيه صدى لأحزان نفسه.
- أما بورديل فكان يدعو إلى النحت البنائي ويتحدث بلغة قومية، ويشير إلى العودة لتراث فرنسا بالعصر القوطى، وكلاهما صب في نفس السجيني شيئًا، ولعلهما أشعلا فيه التمرد على الوقوف عند حدود فن الميدالية الذى كان موفدًا للتخصص فيه.
-عالَمه
ارتبط السجينى فى أول حياته الفنية بالمنهج الرومانتيكي، مثل أستاذه كلوزيل الذي تعلّم على يديه الفنون الجميلة، وأيضًا عالم النحت عند الفنان الفرنسي رودان حين سافر إلى فرنسا، لكنّه سرعان ما اندمج بأحداث مصر الوطنية والسياسية، وانشغل أيضًا بصور الحياة المفعمة بالمعاني الإنسانية في الريف والقاهرة ومدن مصر.
- وانتقل إلى الرمزية والتعبيرية بلمسته الواقعية التي تخاطب الوجدان، وعمل بعض المبالغات التشكيلية التي تكسب العمل قوة في بنائه وعمقًا في تعبيره، كما تميّز أسلوبه بتحليل الشكل إلى مسطحات تتّسم بجرأة التلخيص وقوة الأداء.
- عايش السجينى فترة من أخصب فترات الثقافة المصرية المعاصرة، بتعبير د. صبري منصور، حين امتلأت الساحة بمناقشات جادة حول الشخصية المصرية والفن القومى وقضايا التحديث فى الفن.
- كان صاحب جماعة فنية، ففي عام 1945 أسس جماعة `صوت الفنان`بالقاهرة، وبادر بإقامة معرض ضخم للفنانين المجددين من الشباب، وبلغ عدد الفنانين المشاركين للجماعة في معرضها الأول 75 فنانًا.
- كانت الجماعة تنشد التجديد والتحرر من القيود الأكاديمية، ثم ظهرت أيضًا بمشاركته جماعة `الفن المصري الحديث`، التي استمر نشاطها حتى عام 1955، وكان من أبرز أعضائها الفنانون حامد عويس وعزالدين حمودة ويوسف سيده وجاذبية سري وزينب عبدالحميد وصلاح يسري، وهكذا كان يحمل فكرًا في الفن والتعبير، مثلما كان صاحب قضية تمسّ الوطن والمجتمع.
- التعبير عن القضايا الاجتماعية
- عندما تعرّضت هيئة اليونسكو للمشكلات المعاصرة للفنون العربية عام 1974 نشرت تقريرًا مفصلًا عن `أساليب الفن المعاصر في مصر`، وأفرد التقرير ثلاث صفحات لجمال السجيني، كما يشير الناقد كمال الملاخ، مركّزًا على اتجاهه إلى التعبير عن القضايا الاجتماعية والسياسية، فقد كان ينادي دائمًا بالالتزام بالفن ومناصرة القضايا التي تمسّ الوطن، وكان إنتاجه يمكن وصفه بالواقعية الاجتماعية، ومن الناحية الفنية يعد أستاذًا ضليعًا في استخدام معطيات الفن الإسلامي، وخصوصًا الزخرفة العربية، وفي ابتداع أسلوب ناجح يجمع بين ضخامة النحت المصري وعناصر الفن الإسلامي. يعد مصريًا شديد المصرية، معتدًا بتاريخه وحضارته.
- يقول الناقد بيكار: لم ينسَ السجينى مصريّته يومًا من الأيام، فقد لاحظ أجداده الفراعنة يقرنون الكتابة الهيروغليفية بمنحوتاتهم، فأخذ عنهم هذا الأسلوب، وأدخل الكتابة في تماثيله، لكن عربية `سجينية` تنتمي للغته التشكيلية، وابتكر نوعًا من الحروف المتقطعة لم يسبقه إليه أحد، وجعله جزءًا من التشكيل الذي كان مزيجًا من العمارة والموسيقى والشعر والمعاني الإنسانية، وأخيرًا النحت.
- كان متوثبًا دائم الإبداع، لم يتوقف إزميله عن التعبير والتشكيل، وقد حقق حلمه بتسجيل الذين أسهموا في صنع تاريخ مصر وحضارتها الحديثة من رموز الفن والفكر والثقافة والسياسة، فتألقت لمسته بتماثيل جمال عبدالناصر وطه حسين وأحمد رامي وسيد درويش وعلي ومصطفى أمين وتوفيق الحكيم وعبدالحليم حافظ ونجيب محفوظ، وغيرهم.
- ومع البورتريه `الصورة الشخصية` لجمال عبدالناصر في تمثاله النصفى، شكّله أيضا فى مجسم تعبيري بكامل هيئته، فارهًا بملامح القوة والتحدى، وحوله ثلاثة أشخاص يمثّلون أبناء الشعب المصرى.
- السجينى وأمير الشعراء
- يُعد تمثال السجينى لأمير الشعراء أحمد شوقى (1868 -1932) المسبوك من خامة البرونز أحد أعظم تماثيله، وجاءت النسخة الأولى من التمثال حين تم الاتفاق بين الحكومتين الإيطالية والمصرية على أن يوضع بحدائق بورجيزى؛ إحدى أشهر وأكبر حدائق روما، حيث توجد أكاديمية الفنون المصرية.
- وتمت إزاحة الستار عن التمثال في ذكرى وفاة الشاعر الكبير عام 1962، وحضر الافتتاح وزيرا ثقافة مصر وإيطاليا، مع عمدة روما وعدد كبير من الفنانين والشعراء والكتّاب العرب.
- وهناك نسخة ثانية للتمثال في حديقة متحف أحمد شوقي على نيل الجيزة، الذي كان منزله أصلًا، وأطلق عليه أمير الشعراء `كرمة ابن هانئ`، أما النسخة الثالثة من تمثال شوقى فتقع أمام حديقة الأورمان عند مدخل شارع الدقّى للقادم من ميدان الجيزة.
- وعلى أحد وجوه قاعدة التمثال كُتبت بعض أبيات من قصيدة `الوطن` لشوقى، تقول:
- اختلافُ النهارِ والليل يُنسِى
- اذكُرا لي الصبا وأيام أُنسي
- وصِفَا لي مُلاوةً من شباب
- صُوّرت من تصوّرات ومَسّ
وسلا مصر: هل سلا القلبُ عنها
- أو أسا جُرحَه الزمانُ الموسّي؟
- كلّما مرّتِ الليالي عليهِ
- رقّ والعهدُ في الليالي تقسّي
- وطني لو شُغِلتُ بالخلدِ عنهُ
- نازَعَتنِي إليه في الخُلدِ نفسي
- جزء من التاريخ
- في هذا التمثال الصّرحي الذي ينطق ويشي بالجلال.. يجلس شوقي بجلسته الوقورة ونظرته المتطلعة، يحمل في يده اليمنى وردة وفي اليسرى يمسك بقرطاس، ورقة مطويّة رمزًا لما كان يكتب من أشعار.
- يقول الناقد العراقي فاروق يوسف، في إشارة إلى نسخة أحمد شوقي بروما: `من المؤكد أن جمال السجيني كان الأكثر حظًا بين الفنانين المصريين، ذلك لأنّ تمثاله التذكاري الذي يمثّل الشاعر أحمد شوقي، صار جزءًا من تاريخ روما ومعمارها، سيكون موجودًا دائمًا هناك بأسلوبه الشخصي وقوة تعبيره عن هويته المصرية.
- أحمد شوقي الذي رأيته في فيلا بورجيزي، قبل سنوات كان تمثالًا مصريًا حطّ في حديقة إيطالية، لا أحد في إمكانه أن يخطئ هويته المصرية.
- وبالقوة نفسها، فإنّ التمثال يملك الكثير من الأسباب الجمالية التي تجعل منه عملًا فنيًّا معاصرًا، لقد وضع السجيني مصريّته في سياق عالمي يليق بها حقًا`.
- ربما تكمن رمزية السجيني في أروع صورها بتماثيله التعبيرية: `صحوة الفلاح` و`رجل في دوامة` و`أمومة` والبيت الذي يتوحد فيه الإنسان مع البناء، ثم أخذت تماثيله تبتعد عن الموضوعات السياسية والاجتماعية، فاتجه بها إلى العناصر التشكيلية الخالصة وامتزجت تماثيله بملامح العمارة كما في تمثاله `الصوت`، أو `الشيخ رفعت`، والذي جسّده في رمزية من السطوح والمستويات المجسّمة أشبه بالقلعة التي تشتمل على المآذن والقباب والأعمدة وعقود المساجد والأروقة، وكان صوته يتردّد صداه في خشوع وابتهال.
- وهناك أيضًا تمثاله `القرية`، جسّده بشكل هرمي مشتملًا على مجموعة متداخلة من الشخوص من أبنائها، وينتهي بمئذنة ممتزجة بوجه المؤذن، والجميل هنا هذا التناسق التشكيلي والانسجام التعبيرى وتنوّع وثراء المستويات، وعناصر البارز والغائر فى التشكيل.
- قربان للنيل
- لم يستطع السجيني أن يتوقف طوال حياته، وقد اشتهر بإنتاجه الغزير مع تنوّع حالاته وآفاقه الفنية المحتشدة بالتعبير الدرامي، وهنا تكدّست منحوتاته وأعماله من حوله ببيته في مبنى يطل على التقاء النيل بالطرف الشمالي من حي الزمالك.
- فى عام 1969 قام فناننا بإلقاء بعض تماثيله في النيل يأسًا أو احتجاجًا على عدم الاحتفاء بأعماله، بما يمثّل قيمتها الرفيعة، وتخصيص أماكن لعرضها في ميادين القاهرة من أجل استمرار مسيرة النحت المصري، وتواصلها مع أعمال مثّال مصر مختار، والخروج بالفن من دائرة المتاحف إلى كل البشر من البسطاء للارتقاء بالذوق والتذوق، أغرق يومها 25 تمثالًا من أعماله المهمة، منها تماثيل `الجلاء`، و`النيل يموت`، وطلعت حرب، و`الدراويش`، و`أم صابر`.. وربما كان هذا قربانًا للنهر الخالد، عسى أن يعود إلى النحت المصري مكانته وازدهاره وتألقه والتفاف الجمهور حول قيمته ومعناه.
- وقتها قال مقولته الشهيرة: `لا بدّ أن تذهب تلك التماثيل إلى قاع النهر بعيدًا عن وجهى، لكى أبتكر غيرها، ولا يكون لوجودها ما يدفعنى إلى التوقف والجمود والانتحار`.
- الشعر التشكيلى
- تألق عالَم السجينى منفردًا بإبداعه على النحاس المطروق، محققًا الريادة في هذا الاتجاه، وبدت أعماله محمّلة بشحنات من التعبير الانفعالي من خلال إيقاعات غنائية متدفقة، كما يرى الناقد كمال الجويلي، فقد جاءت أقرب إلى الشعر التشكيلي، حيث تبدو القطعة الواحدة بمنزلة ملحمة قائمة بذاتها، كلما تأملها المتلقي لا تتوقف عن العطاء والتفاعل بتفجير الصور والمشاعر والأحاسيس، مع تدفّق الحوار الصامت الذي يمنحه العمل الفنى الرفيع.
- فمع عرائسه التى ينقلنا من خلالها إلى دنيا من التعبير، تتألق مطروقاته النحاسية الأخرى كما في `شجرة المصير`، التي يجتثّ فيها أحد الشخوص بملامح القوة والبطولة عناصر الشر ورموز الفساد.
- و`شجرة الحياة` التى تزهر من جديد بروح `إيزيس`، و`النيل` جسّده بهيئة رجل فارهٍ حكيم يمتدّ بشكل عرضي محتضنًا عناصر ورموز الخير والرخاء، من النخيل والبيوت والمآذن والبشر والأسماك والحيوانات، و`الإسكندرية` تتشكل ملامحها بعروس البحر مع عناصر الحياة والحضارة، و`القاهرة` بهيئة رجل متوحد مع عناصر ورموز جاءت أقرب إلى الأرابيسك محلّاة بالنقوش والزخارف والكتابات.
- هو وعروسة المَولد
- تعددت لقاءاتى بالابن مجد، نجل فناننا جمال السجيني، قبل رحيله عام 2015، وكان عضوًا بهيئة التدريس في كلية الفنون الجميلة مثل والده أستاذ النحت فيها، لكنّه تركها متفرغًا لتدريس الفنون بمرسمه، وهو يسترجع ذكرياته مع الوالد، خصوصًا حول عروسة المولد، وقد عاش معه وشهد لحظات إبداعه، إذ يشير إلى ذلك بقوله:
`كانت عروسة المولد عند الوالد عروسة العرائس، إذ غزت خياله وسيطرت على وجدانه في الطفولة، حتى تحوّلت فيما بعد إلى أغنيته الطويلة التي شكّلها وصوّرها في ملحمة لا تنتهي. بعد أن ملكت هواه، لتصبح مصر كلّها بين الرمز والمعنى بهمومها وأفراحها القومية، من التألق والازدهار، والضياء والانكسار، والقوة والانتصار.
- بدأت حكايتها مع أبي العظيم في منتصف الخمسينيات، كنت صغيرًا أحب الشوكولاتة ككل الأطفال، كلما أكلت واحدة طلب منّي أبي ورقها المفضّض، كان يجمعه من دون أن أعرف السبب.
- بعدها بدأت أولى عرائسه، وكانت عروسة مولد بسيطة، ملونة بألوانها الزاهية تقف بكل أصولها وعزّتها وانتمائها الشعبي.. بين التصوير والكولاج `القصّ واللصق`، خلفها بيت مصري بسيط.. يعبّر عن عمارة مختزلة كتلخيص بناء العروسة العبقري الشعبي الذي لا مثيل له في أي مكان بالعالم، ويحمل بصمة الإنسان المصري، تطل منها عروسته الأثيرة، حالمة مبتسمة مستغرقة في دوامات من الدهشة.
- انفعاله بأحداث الوطن
- فى أواخر خمسينيات القرن الماضي انتقل بها في اتجاه آخر من النحاس المطروق بحسّ جمالي ونضج في التصرف وشعور بالانتماء إليها وإلى أرض مصر، وأخذت تنضج كرمز لمصر فى عقل السجينى.
- ثم جاءت أيام 1967 الحزينة التى عاشها جمال السجيني كفنان ينفعل بأحداث وطنه، ومع معاناته صور العروسة الجميلة واقفة، لكن يأكلها النمل، في رمزية إلى مصر في ذلك الوقت، ولم يكتف بهذا، بل صوّرها وهي تتسول وهي تعرج وهي تشوى ورسمها ممزقةَ الملابس، وتوالت لوحاته للعروسة تحمل ملامح المأساة ومشاعر النكسة والهزيمة، وظل يواصل الإبداع بثوريّته وغيرته وحبّه لمصر بلمسة الألم والحزن.
- انسابت ريشته تجسد العذاب الذي أدمى قلبه، رسمها أيضًا في ملحمة حزينة، مصلوبة، ورسمها حطامًا وأشلاء مهشمة الرأس، وعرجاء تمشى على عكازين ومحطّمة كبناء شامخ عقب زلزال مدمر، كما رسمها معلقةً بشكل أفقى، يمتد سيخ حديدى خلال جسدها، وغربان سوداء تحلّق فى فضاء اللوحة.
- لكن بعد أكتوبر العظيم عام 1973، يسترد السجينىى عروسته ويصوّرها غارقة فى بهجة اللون، شامخة مبتهلة، تخطو بثقة واعتداد، رافعةً ذراعيها، متوّجة من الرأس بشريط أخضر سندسى، كما شكّلها في تمثال نحتى، وعادت الروح والحياة إلى السجيني مثل عروسته، بعدما استردت مصر كرامتها، فقام بعمل تمثال لها وهى تقود الجيوش، جيوش مصر، للعبور والنصر، فكان تمثال العبور المقام حاليًا بمدينة بنى سويف إحدى مدن جنوب الوادى.
- كان بارعًا فى تصميم الميداليات والنقود من العملات التذكارية، كتذكارات لتخليد أحداث مهمة، مثل عيد العلم وميدالية جائزة الدولة التقديرية وجائزة السينما والمهرجان الإفريقي وميدالية السدّ العالي وافتتاح مطار القاهرة الدولي وميداليات بينالي الإسكندرية.
- مصور اللوحات
- هناك عشرات الأعمال التي تشهد لموهبته وقيمة ما أبدعت ريشته التي جسّدت فأدهشت، وتألقت في دنيا من الموضوعات منذ بداية الخمسينيات وما بعدها حتى رحيله عام 1977 .
- ومن بين هذه الأعمال، تألقت لوحته الصّرحية `التهانى بالمولود`، التي صوّر فيها أسرة الفن التي ينتمي إليها، فقد انضم إلى شجرة أستاذه رائد `التأثيرية` يوسف كامل حين تزوج ابنته هدى عام 1944، وأنجبا ابنهما الوحيد مجد. واللوحة تحتفي ببهجة المولود، وضمّت الأسرة الكبيرة بكل أعضائها، وهم الجد يوسف، وزوج خالة الطفل كامل مصطفى عميد `الفنون الجميلة`بالإسكندرية فيما بعد، وزوج الخالة الثانية رئيس قسم التصوير بـ `الفنون الجميلة` بالقاهرة الفنان حسنى البنانى، وابنة العم زينب السجينى، وبقية أفراد الأسرتين، ويظهر المولود على اليمين، والأشخاص متجهين إليه في وضع جانبي `بروفايل`، وموكب احتفالي، وتبدو الفرحة باللوحة من خلال المجاميع اللونية الغنائية الصدّاحة، مع الأعلام والزينات والورد، والنيل يجري بالماء والأسماك والتماسيح.
- حركة إيقاعية
- فى لوحة أخرى، صوّر السجيني زوجته السيدة هدى في بورتريه تعبيري بوضع جانبي ونظرة فرعونية متجهة إلى المستقبل، صوّرها في حركة إيقاعية محفوفة بأربع حمامات بيضاء طائرة فوق رأسها، مثلما صوّر نفسه في صورة هامسة باللون، في لوحة مشتركة مع مجد، صوّر فيها رأس فتاة بجدائل ينفرج عن ثلاث نخلات، بينما رسم مجد بحارًا وسفينة بخطوط تلقائية وحِسّ طفولي ارتباطًا بسنّه في ذلك الوقت. وللسجيني لوحة لخالد الذِّكر سيد درويش في بورتريه بالباستيل قابض على عوده، وهو يمثّل إضافة إلى تمثاله `درويش`، الذى شكّله بروح وإحساس موسيقي فاضت به الكتلة.
- هكذا كان السجيني فنانًا شاملًا متجددًا، وطنيًّا محبًا لوطنه، وقد شكّل أسطورته بين المسطح والمجسم، النحت والنحاس المطروق والتصوير، مع مواصلة عمله أستاذًا ورئيس قسم النحت في كلية الفنون الجميلة بالقاهرة.
- سافر فناننا مطلع أكتوبر عام 1977 إلى إسبانيا، حيث أقام معرضه الشامل الحادي عشر في مركز دراسات البحر المتوسط، وكان من المقرر أن يقضي 3 أشهر ومعه زوجته، لكنّه توفي في 22 نوفمبر أثناء وجوده في إسبانيا، وعاد جثمانه إلى القاهرة، حيث شيّعته الحركة التشكيلية إلى مثواه الأخير. ورغم فداحة الخسارة برحيله، فإن أعماله ستظل تحكي للأجيال، مع تنوّع مراحله الفنية، رحلته وكفاحه وخياله وعبقريته. وكان قد صنع لنفسه تمثالًا يرافق الخالدين، حيث يُعدّ العلامة الثانية في النحت المصري المعاصر بعد مثّال مصر محمود مختار.
- سلام على جمال السجيني، المثّال ومبدع النحاس المطروق والمصور بعُمق رهافة الريشة، وفصاحة الإزميل، وجمال التعبير، وأناقة التشكيل .
بقلم : صلاح بيصار
مجلة : العربى الكويتية (العدد 756) نوفمبر 2021
النحات جمال السجينى ( 1917- 1977) .. ثورة على النحت التقليدى
النحات جمال السجينى ( 1917- 1977) .. ثورة على النحت التقليدى
- يعد المثال جمال السجينى أهم رواد فن النحت المصرى الحديث بعد الفنان مختار الذى توفى قبله بثلاثة وأربعين عاما . وهو كذلك أستاذ تيار الواقعية الاجتماعية حتى اليوم ، فى حين حرص على ولائه للقيم الأصيلة فى النحت المصرى القديم، وعلى إكمال محاولات من سبقوه لبلورة شخصية مصرية قومية للنحت، خاصة مدرسة مختار .
- لكنه فى الوقت ذاته تمرد على نزعة مختار المحافظة ، وحطم الثبات المظهرى فى الكتلة والتعبير، متأثرا بإنجازات المدرسة الرومانتيكية على يد رودان وما يول فى النحت الفرنسى أوائل هذا القرن ، ثم بإنجازات الفنان الإنجليزى هنرى مور ،التى تجمع بين رصانة وشموخ النحت المصرى القديم، وبين الشكل الحر الأقرب إلى التجريد ، وإن كان حميم الصلة بالطبيعة والصخور العفوية فى الهواء الطلق.
- إن أعمال السجينى عبر مراحله المختلفة تعبير عن معنيين متناقضين : الحرية .. والتشبث بالجذور ... أما تعبيره عن الحرية فيتبدى فى كثير من أعمال النحت البارز على النحاس تجسيداً لتحطيم الأغلال ( مثلما نرى فى لوحته : الحرية )، وتحطيم شواهد الظلم والاقطاع والتخلف والصهيونية والفساد ( مثلما نرى فى لوحته : شجرة المصير )، وفى الخروج من شرنقة التاريخ ( كما نرى لوحته : القاهرة ) وفى تصاعد تيجان النخيل عبر جسد مصر الزاخر بالخصوبة والنماء والانفتاح ( كما نرى فى لوحة : ضاحية المرج ) .. وفى إزدهار الأفرع والأوراق من جسد الفتاة التى تبدو مثل شجرة وارفة لتحلق فى الأعالى صداحة بنشيد الحرية ( كما نرى فى لوحته : شجرة الحياة ) ... وكل هذه اللوحات من أعمال الطرق البارز والغائر على النحاس ، وهو التقنية التى ابتكرها منذ الخمسينيات وانفرد بها، وكانت تلك اللوحات مرادفاً رمزياً لمصر فى مراحل نضالها التاريخية.
- أما فى إتجاه التشبث بالجذور الحضارية فهناك العديد من اللوحات البارزة والتماثيل جسدها السجينى بأسلوبه التعبيرى الرمزى .. مثل لوحة ` النيل ` .. العملاق المتمرد على امتداد الوادى، محاطا بالأهرامات والمومياوات والتماسيح والمآذن والقباب والنخيل ورموز الفلك والسحر .. أنها الملحمة الأبدية للبقاء والخصوبة واستمرار الحضارة.
- وفى مقابلها لوحة ` الإسكندرية ` تجسيد لوجه مصر فوق جسد رومانى على شكل عروس البحر، محفوف بالمصانع والمساجد والبيوت وقوارب الصيد وعربات الحنطور ومياه البحر ..
- وتأتى قمة تعبيره النحتى - مع تشبثه بالأصالة والجذور - فى تمثاله ` الأرض` .. من خلال هذا الفلاح الرابض بجلسة القرفصاء ككاتم أسرار فرعونى .. وقد تجسدت قوة التعبير فى قبضتيه وقدميه وهى تدك الأرض تحتها فلا تقوى على إزاحته عنها أى قوة مهما عظمت.
- لكن الأرض ليست فقط مساحة أفقية من الجغرافيا، بل هى أيضا تصاعد رأسى فى التاريخ .. عبر الملامح العربية التى تتراكم من القاعدة إلى القمة فى شكل هرمى ينتهى بمئذنة ومؤذن . وتبدو ملامح الوجوه وكأنها نوافذ وأبواب فى بيوت وعمائر متصاعدة .. إنه المعمار الحضارى لمصر العربية ..
- وكم احتفى السجينى بمصر وهو يشمخ بها إلى الأعلى .. وكم دللها من خلال شكل عروسة المولد التى تحتضنها كالتميمة بل جعلها هى نفسها عروسة المولد وأركبها حماراً وأحاطها بحاملات القلل والجرار، كما جعل من عروسة المولد رمزاً للتوالد والخصوبة ( كما فى لوحته بالنحت البارز` عروسة العرايس` ).
- غير أن معنى الأمومة كان دائم الإلحاح عليه ، وقد عالجه مرات ومرات بأسلوب يجمع بين الشكل المجرد والرمز التعبيرى ( تمثال أمومة) .. وبنفس الأسلوب التعبيرى التجريدى، عالج كتله الحرة المنطلقة فى الفضاء لأجسام نسائية ، مثل تمثاله :` أم الملاءة ` .. وفيه يذكرنا من جديد بتمثال ` رياح الخماسين ` لمختار ..
- ويعد تمثاله ` العبور ` من أقوى تماثيله ومن علامات النحت المصرى الحديث ، تعبيراً عن عبور الجيش المصرى خط بارليف فى حرب 1973، وهو تعبير رمزى رائع عن معنى الإنتصار التاريخى لمصر وكأنه فصل من أمجاد تاريخنا الحضارى، ففيه نرى مصر نفسها تعبر كالقذيفة، محفوفة بأبنائها من الجنود وفئات الشعب المختلفة ، بما يذكرنا بالبراق المجنح سابحاً فى الفضاء بقوة الخيال متجاوزاً محدودية الواقع الراهن إلى آفاق المستقبل.
- وإلى جانب النحت ، والنحت البارز، كان السجينى رساما متميزاً بالألوان الزيتية، وعبر عن عشقه للنيل فى العديد من اللوحات عن القوارب الشراعية وهى تتراقص وتتمايل وتتقاطع فى رشاقة، مستخدما عجائن لونية سميكة وملامس خشنة تلائم مزاج نحات بالغ الشفافية. وبنفس القدر من الكثافة والشفافية اللونية معا .. عبر فى العديد من اللوحات عن عروسة المولد، مرة وهى جالسة كملكة على عرشها فى غفوة حالمة ومرة أخرى وهى تطير وتاجها المزركش على رأسها كعرف هدهد .. تزفها فى تحليقها الصبايا والجنود بالمجاديف والمآذن، وكأنها رمز وشارة للعبور برغم أنها رسمت عام 1969.
- وكأنه بهذا اللحن الأخير كان يحاول التوفيق بين النقيضين اللذين ظل متعلقا بهما طوال حياته : الحرية والتشبث بالجذور .
- وفى الثانى والعشرين من نوفمبر 1977 يلفظ جمال السجينى أنفاسه وهو فى مدريد أثناء إقامة معرض شامل لأعماله كأحد الشهداء العظام للفن ، رافعا راية الإبداع ، ورمزا لشعلة الحضارة الممتدة فى بلده آلاف السنين .
بقلم : عز الدين نجيب
من كتاب ( الفن المصرى وسؤال الهوية بين الحداثة والتبعية )
|