مناظر سامح البنانى إضافة لموروثات فنية عائلية
- المتتبع لتاريخ الفن ولقصص حياة الفنانين الاجتماعية أو العائلية كثيراً ما يواجه أسماء لأساتذة عظام. أستطاعت مفاهيمهم وخبراتهم الفنية أن تنقل بقوة تأثيرها إلى بعض أفراد الأسرة وبخاصة أبنائهم. وذلك يحدث بحكم المناخ الذى تكونه داخل المجتمع الأسرى (من ناحية) وبحكم الحساسية والرغبة فى الاستقبال (من ناحية أخرى).
- وليست عملية اكتساب الخبرة إلا وحدة من عدة عوامل تشارك جميعها فى تكوين الشخصية الفنية الجديدة، منها على سبيل المثال: التأثر بأساتذة آخرين لهم مكانتهم فى المجال الفنى بوصفهم أمثلة تحتذى ومنها التأثير بالمناخ الاجتماعى والثقافى العام والاتجاهات الفنية السائدة.. وغيرها.
- ففى القرن الثالث عشر (مثلاً) يمكننا تلمس انتقال خبرة المثال (الشخصية الفنية الإيطالية) نيكولو بيزانو Niccolo Pisano (حوالى 1225- قبل عام 1278) إلى ابنه وتلميذه المثال والمهندس المعمارى جيوفانى Giovanni (1250- 1314) .. الخبرة التى جعلت الابن مع رغبته فى التجديد من أعظم مثالى إيطاليا فى ذلك الوقت. ومثلما انتقلت أيضاً خبرات فنان آخر مثل أندريا بيزانو Andrea (1290- 1348) فى النحت والصياغة والهندسة المعمارية إلى ابنه نينو Nino (1315- ) انتقلت خبرة المصور الهولندى الشهير بيتر بروجل Piter Brueghel (بين عامى 25/ 1530- 1569) الأب إلى أولاده بيتر (1564 -1637) وجان (1568 -1625)، الذين رغم الاختلاف الواضح فى أفكار موضوعاتهم وطرق تناولها، فالمتفحص لأعمالهم سيجد دون شك تأثير الوالد. نفس الشئ الذى حدث مع عائلة بللينى Bellini ، إذ نجد الأبناء جينتيلا Gentile (حوالى 1429- 1507) وجيوفانى (1435 -1516) متأثرين بخبرة والدهم جاكوب Jacopo (1400- 1470). كما أنه يمكننا إرجاع الفضل فى إجادة فنان مثل البرخت ديرر لتقنيات الحفر على المعادن إلى خبرة والده الكبيرة فى الصياغة. نفس الفضل الذى يعود إلى الفنان الروسى افتيخيفتش زوبوف فى أواخر القرن السابع عشر بعدما أصبح أبناءه اليكسى (1682- 1750) وايفان (1677- 1743) من أبرز حفارى الربع الأول من القرن الثامن عشر هناك.. وغير ذلك من الأمثلة الخاصة باكتساب المهارات التقنية وباتباع نفس الأسلوب فى تناول الموضوعات.
- ويمكن أن نعرض مثالاً لعائلة مصرية تضم بين أفرادها مجموعة فنانين.. نخص منهم هنا ثلاثة مصورين معروفين يمثلون ثلاثة أجيال متعاقبة، استطاعوا أن يحافظوا على اتجاه فنى وأسلوب معروف وموضوعات بعينها.. رغم اتساع الفترة الزمنية وتغير الأحوال المعيشية والقضايا المحلية والدولية.
- وتبدأ قصة هذه العائلة فى ضواحى القاهرة وقرب الريف -فى المطرية، حيث كان يعيش الجد يوسف كامل (1891-1971) منهمكاً فى تلقين تلاميذ المدرسة الاعدادية وطلاب الفنون الرسم والتصوير ويبث فيهم عشق الفن المعبر عن البيئة المصرية والتذوق الجمالى. ويوسف كامل (صديق وزميل الكثيرين من مفكرى وفنانى مصر وعلمائها، أمثال: المازنى والعقاد والزيات ورامى وعزيز المصرى وهدى هانم شعراوى).
- تبدأ مراحل حياته الفنية بالتحاقه بمدرسة الفنون الجميلة بالقاهرة وقت نشأتها (عام 1908) والتى تخرج فيها متفوقاً (عام 1911)، ثم سفره مع رفيق رحلته المصور راغب عياد فى بعثة إلى إيطاليا ليلتحق هناك بأكاديمية الفنون بروما (كانت فى البداية على نفقتهما الخاصة - ويحكى فى هذا: أن كل منهما وبالتناوب كان يذهب إلى روما عاماً دراسياً بينما يقوم الآخر بإرسال نفقات الدراسة والإقامة إليه، وهكذا.. ضاربين بذلك مثالاً فى الإصرار على التزود بالعلم وعلى الصداقة المتفانية وعلى الوحدة الأصيلة المتأصلة والكامنة داخل كل من الصديق المسلم والمسيحى - ثم تحولت بمساعدة سعد زغلول ولنفس الأسباب إلى بعثة حكومية). وبعد تزوّده بالمعرفة الفنية ودراسته لكثير من الفنون الأوربية يعود إلى وطنه (عام 1929) ويتدرج فى وظائف فنية هامة، مبتدئاً بتعينه مدرساً بمدرسة الفنون الجميلة التى تخرج فيها، ثم رئيساً لقسم التصوير الزيتى بها، ثم مديراً لمتحف الفن الحديث بالقاهرة ثم عميداً، ثم عضواً بالمجلس الأعلى للفنون والآداب.
- وفى الوقت الذى كان فيه إنتاجه الفنى يقدم إلى متذوقى فنه، ومعرفته بالفن تنقل إلى عشاق التصوير وطلابه زوج بناته الثلاثة إلى تلاميذه النابغين فكانت السيدة الجليلة عايدة - رحمها الله من نصيب الفنان حسنى محمد البنانى (مواليد 1912) والسيدة هدى زوجة للمثال جمال السجينى والسيدة سميحة الأستاذ الفنان الراحل وعميد كلية فنون جميلة الاسكندرية السابق كامل مصطفى.
وحسنى البنانى، هذا الشاب تشابهت مسيرته الفنية بنفس مسيرة أستاذه ووالد زوجته، فقد تخرج فى نفس المدرسة (بعد أن أصبحت تعرف بأسم كلية الفنون الجميلة) ونال دبلوم التصوير من نفس الأكاديمية الرومانية (على حسابه الخاص - عام 1939) ثم يدرس بنفس القسم ثم ينصب رئيساً له.
- وخلال هذه الرحلة الفنية وما صاحبها من إبداعات خاصة فى فنون `الفريسك` (له أعمال ضخمة فى هذا المجال، هى لوحات زينت محطة حلوان ومحطة بورسعيد وسنترال الأوبرا ومجمع المحاكم فى الجلاء ومنصة العرض العسكرى بمدينه نصر).. خلال هذا كله يرزق بولده سامح (عام 1945)، الطفل الذى تشاء له الأقدار أن يسير فى شبابه على نفس الدرب الذى سار عليه كل من الجد والأب. فهو أيضاً خريج فى نفس الكلية (عام 1969) وفى نفس الأكاديمية الإيطالية (عام 1978) وفى نفس القسم يعمل الآن أستاذاً مساعداً للتصوير الزيتى.
- وبإصرار على مواصلة المسيرة الفنية العائلية وحفاظاً على الموروثات الموضوعية ينهج الفنان الإبن نفس الأسلوب فى التصوير ويؤكد إنتماء أسرته فنياً إلى المدرسة التأثيرية فى موضوع رسالة ماجستير مقدم عام 1975 عن جده `يوسف كامل امتداد للمدرسة الانطباعية العالمية فى مصر`.
- ومما يلفت النظر فى أعمال هؤلاء المصورين التأثيريين الثلاثة بوجه عام وحدة النظر الفنية، المتمثلة فى عدم مبالاتهم بما يحدث داخل المدينة الحديثة (حتى القاهرة التى يعيشون فيها) من صخب وحركة وعدم انفعالهم على مدى ثمانية وسبعين عاماً (منذ تخرج الجد) بأية حادثة أو قضية محلية كانت أم عالمية (رغم حدوث حربين عالميتين ومرور مصر بثورتين والعديد من الحروب ومئات المشاكل الاقتصادية). وإنما توجهت أنظارهم نحو البيئة المصرية الأصلية - البكر كما يقولون - والمتركزة فى خضرتها وفى الحياة داخل الأحياء الشعبية والقرى والنجوع، فانحصرت تأملاتهم وتعبيراتهم فيما تعطيه عناصر مثل الشمس والظلال والشجر والبيوت اللبنية والخشبية والأزيرة والأقفاص والدواجن والماشية وغيرها من قيمة جمالية.
- كانت موضوعات لوحاتهم فى أغلب الأحيان مناظر الأماكن مثل: عزبة الصعايدة بالمطرية وعزبة النخل والقلج والمرج ومنطقة العجوزة القديمة وميت عقبة ومناطق مصر القديمة. وإرتباطهم بالمنظر جعل حبهم شديداً فى إظهار تأثيرية الضوء - ضوء الشمس الساطعة الساقط على الأجسام. ولقد جعل هذا الضوء القوى مسيطراً على تكوينات اللوحات، فبدت هذه اللوحات وكأن معظمها قد رسم فى الظهيرة (عندما تكون الظلال أسفل الشخصيات والأشياء) يبدو شديد الوضوح فى لوحات الأب.
- وهكذا أسهمت الأسرة فى المحافظة على شكل من الأشكال الفنية المعبرة عن الحياة المصرية فى بساطتها، واجتمعت فى فنانيها وفى أعمالهم أشياء كثيرة متشابهة.
- لكن ليس معنى ذلك فقدان أبنائها للشخصية المستقلة. فالرغبة فى التجديد صفة هامة، ويستطيع المحلل لمجموعة أعمال الجد يوسف والأب حسنى ومقارنتها بأعمال الابن سامح أن يتلمس مع أوجه الاختلاف رغبة الأخير فى التجديد والإضافة: فعلى سبيل المثال: لمسات الفرشاة السريعة والدقيقة.. أو البقعات اللونية فى لوحات الأستاذين الكبيرين يقابلها عند سامح لمسات من نوع آخر.. تزداد فى حريتها، فهى ليست بقعاً وانما هى شبيهة بخطوط تجمعت ليس تعبيراً عن تفصيلات بل عن مساحات لونية مضاءة.
- وإذا كانت لوحات الأستاذين تعبيراً صادقاً عن الطبيعة ويمكن الإحساس من خلال لمساتها القوية بتندية الأوراق وبضبابية الفراغات وبحركات سحب السماء واتجاهاتها.
- فإن لوحات الإبن تختلف.. فألوانها زاهية بعيدة عن واقع المنظر الطبيعى نفسه - إذ نجد فى أحد لوحاته الشخصيات تقف أو تتحرك على أرضيات حمراء وفى أخرى زرقاء.
- وإذا كان التجسيد التأثيرى (إظهار الفورم) من صفات أعمال الأستاذين فإن الاكتفاء بالخطوط الخارجية للأشكال والتسطيح والتكتيل فى معظم لوحات سامح تعتبر صفة هامة.
وإذا كان الجد قد ركز فى تكوينات مناظره على أركان معينه تعبر عما يحدث فى الظلال مثلما فى لوحات: `الأصدقاء` التى نفذها فى الأربعينات وفى `الحوش` (1932) وفى لوحة `الفلاحة` (فى الثلاثينات)، حينما أراد الهروب بشخصياته من حر الشمس، وإذا كان الأب قد جعل شخصياته فى المساحات الكبيرة - فى المناطق النائية أو فى الأسواق - تتحرك بحرية دون الخوف عليها، فإن سامح البنانى فى مجموعته الأخيرة قد أغلق تكويناته تقريباً وجعل ضوء الشمس يسقط على الشخصيات والأشياء والحيوانات من خلال فتحات اختارها بين الأشجار أو بين الشخصيات أو متخللة مظلات الأسواق الشعبية.
- ويبقى شئ أخير متعلق بالأسلوب الفنى الذى استخدمه سامح فى مجموعته هذه المنفذة بالباستيل أو بالألوان الزيتية. هذه المساحات اللونية بعد كشطها بخطوط أو بحزوزات اللوحات ذات غنى تأثيرى جميل، وفى نفس الوقت جعلت الأشخاص فى حركاتهم أشبه بالمقيدين أو بالملفوفين فى ملاءات أعطتنا إحساساً بالبرودة، رغم أشعة الشمس المتسللة ولعل إغلاق اللوحات وتقييد الأشخاص قد جعل أعماله لوحات تعبيرية جديرة للدراسة، وبذلك يمكننا القول بأن مناظر سامح حسنى البنانى إضافة لموروثات فنية عائلية وضع لبنتها الأولى فنان وأستاذ قدير.
بقلم : د./ محمد جلال محمد عبد الرازق
مجلة : إبداع (العدد 11) نوفمبر 1989