جمال عبد الناصر أبو اليزيد غنيم
جمال عبد الناصر نحات ما بعد الحداثة
- يغامر النحات الشاب جمال عبد الناصر مغامرة غير محسوبة النتائج إذ يضرب بجرأة فى متاهات محكومة وعفوية معاً تنتسب إلى ما يمكن أن نسميه ما بعد الحداثة.
- لاشك أن جياكوميتى وبرانكوزى وأضرابهما من نحاتى ` النحت الفراغى` من أسلاف هذا الفنان، فإذا كانوا حداثيين، تخلوا عن مواضعات النحت الكلاسيكى والرومانسى والتعبيرى جميعا، فإنه هو قد أنضم إلى طائفة تأتى بعدهم، تفيد مما أضافوا إلى فن النحت، بلاشك، ولكنها تتجاوزهم.
- وما من كبير جدوى فى أن نتصيد ` البطاقات` الفنية ونتلمس` التصنيفات` النقدية لكى نضع أعمال هذا الفنان المجدد المغار فى ` خانة ` تريح ضميرنا النقدى ونستكين إليها. حسبنا أن ننسبه إلى ذلك التيار العريض الذى يكتسح الساحة الفنية. بمختلف أنشطتها. ونسميه، بقدر من الغموض وعدم التحدد.` ما بعد الحداثة`.
- إنه يكسر. إذن. كل مواضعات الجمال التقليدية أو الحداثية على السواء، ويسعى إلى إنشاء جمالية أخرى، فيها من التشويه المقصود قدر كبير. وفيها من روح السخرية وربما السخرية السوداء. وفيها أيضا وأساسا احتجاج متصل.
- على أن الأهم فى ذلك أنه يتوسل إلى هذه الجمالية بوسائط أو أدوات. هى نفسها مضمون ودلالة. لا تتقيد إطلاقا بأى مواصفات مسبقة.
- فهو أولا قد تخلى تماما عن `رصانة` النحت. كما كنا نعرفه منذ دهور. وضرب عرض الحائط بقيم الرسوخ والثبات والتوزيع المتسق للكتلة. وإن لم يغفل فى الأغلب الأعم توازنا حرجا يصل فى بعض القطع إلى درجة عالية من موسيقية مكنونة.
- وهو ثانيا قد تخلى تماما عن ` مادة ` أو ` مواد ` النحت التقليدية، فما من رخام أو برونز أو جرانيت أو صوان أو ما يشبهها من خامات مخلقة تخليقا كى تضارعها أو تشابهها. فإلى جانب ` رعونة ` منحوتاته. أو قطعه الفنية. وجنوحها إلى نزوات تشكيلية مختلفة الاتجاهات، وإلى جانب مرح ألوانه. وللون أو التلوين عنده أهمية خاصة. فإنه يفيد من مواد خام هى إلى الهشاشة والعرضية والقابلية للزوال أقرب. ما من طموح إلى ` التخليد` أو إلى ` البقاء ` فى وجه كر الزمن. كما كان الشأن فى النحت قديما وحديثا. وليس ثم صرحية لها صلف تحدى الفناء، بل نحن هنا بإزاء قطع كأنها لعب أو دمى أو مسموخ.
- من المواد الخام الأثيرة إليه مزق السلك، والمسامير، وقطع الحديد المشغول، والأزرار، والشرائط ، والسلاسل ، وأغطية الزجاجات، والزجاج المكسور، والخيوط والحبال، والطين المحروق الذى نحس فى ملمسه خشونة متعمدة أو أثار العجن أو علامات أصابع الفنان الماكرة، إنه يلتقط هذه المادة الخام الجاهزة، من عرض الشارع، ليحيلها بقوة الفن. وفى سياق الاحتجاج أيضا. إلى شىء أخر، شىء يظلل محتفظا بما فيه من ` سوقية` و` ابتذال` لكى تستحيل هذه السوقية إلى قيمة جمالية ليس فيها من السوقية أثر، ويصبح الابتذال الخام اتساقا من نوع أخر، حتى لو كان هذا الاتساق قائما على التنافر والتضاد.
- إذا إن التضاد. أو التزاوج بين ضدين. هو من سمات عمل هذا الفنان .
- وأية ذلك أنه يمزج أو يوحد أو يجاور- على الأقل- بين معطيات النحت والتصوير، إن تلوين منحوتاته بتلك الألوان الزاهية اللعوب مرة، أو الشاحبة أو القائمة مرة ومرة ، والجمع بين مسطحات تترك الأولية فيها لنوع من التصوير التجريدى أو` التبقيعى` من ناحة وبين تشكيل نحتى فراغى أو مصمت فى القطعة نفسها، ذلك كله مما يندرج فى سياق الجمع بين المتضادات والتوفيق بين أنواع من الفن التشكيلى ليس جديدا الآن ولكنه موفق هنا وفعال فى أن يعطينا رسالة ما، مضمرة وخفية، وأحيانا سافرة بل صارخة، هل هى رسالة تقول عدمية هذا العالم أم عبثية هذا المجتمع؟ هل هى سخرية منا ومما أوصلنا إليه مجتمعنا من ترد وانهيار وتفكك؟ أم هى احتياج زاعق على تلك الأحوال؟
- ها نحن - مثلا- بإزاء منحوتات صغيرة، كائنات توحى إلينا إيحاء قويا بمساجين فى ملابس السجن المخططة، مبتورى الرءوس، لكنهم بالقطع غير مستسلمين وغير خائفين، فى أوضاعهم الملتوية المتنزية بالألم ربما، أو بالتمرد.
- ثم ها نحن بإزاء كرسى عادى خشبى أخرجه الفنان من سياق الاستخدام البراجماتى العملى فاستحال عملا فنيا بأن أضيف إليه ما يجعله غير قابل للجلوس عليه، إضافات توحى باختلاط العضوى والجامد، والإنساني باللاإنسانى.
- مما يقترب من ذلك قطعة سنجد فيها راكبا للدراجة، كلاهما قد انفصل نهائيا عن كل محاكاة للظواهر` الطبيعية ` المعهودة، كلاهما قد تغيرت فيه النسب والمقاييس والمعايير وإن كان فى القطعة - مع ذلك - ديناميكية مؤثرة وطاقة كامنة تكاد تتفجر أو توحى بالاندفاع.
- ذلك كله مما يسرى فى أعمال هذا الفنان كلها: تحويل القيمة النفعية إلى قيمة جمالية مستحدثة.
- الفنان يكسر مواضعات الجمال التقليدية والحداثية. كما أسلفنا. لكى يحل محلها قيما مستحدثة تعتمد أساسا على التشويه وصدمة تغيير المعالم أو القسمات التى نعرفها فى حياتنا اليومية أو فيما توارثناه من أعمال فنية، على السواء.
- الفنان يمكن أن يمزج بين السمكة والإنسان أن يصنع لنا حورية البحر، بألوان صارخة، قيمة اللون هنا. فضلا عن التشكيل المجسم. قيمة أساسية.
- وقد يقيم الفنان صرحا كأنه طوطم أفريقى بدائى جهم وصارم وهائل، ولكنه طوطم أنثوى شأنه منبعج الأنثوية كأنه يعارض وينقض فينوس الإغريقية` الجميلة` طوطم تمتزج فيه الرهبة بالسخرية، والروع بالشبقية البدائية، ذلك أن تحويل البشاعة إلى قيمة جمالية. فى إبراز فك مربع مجسم شانه. مثلا، يلهمنا بروع غامض كأنه أت من أغوار مدفونة فى طبقات النفس البدائية.
- وهو مع ذلك قادر على أن يبدع قطعا من النحت الفراغى باستخدام مواد جاهزة من الحديد المشغول المزخرف، لكى يخلق منها طيورا محلقة كبيرة متزنة الوجود. لا يعوزها قدر من ` الجمال ` التقليدى، كما فى قطع الديك أو الطاووس، أو كما فى نحت لذئب أو كلب يكاد يتسق مع التصور ` الجميل ` ولكنه مغروز كله برءوس مسامير متجاورة. وملونة. تخرجه من المستوى المألوف تماما.
- ولكن لا يتردد- أولا يتورع. فى أن يصل فى التشويه والسخرية إلى حد البذاءة الصريحة. إذ يضع صنبورا عاديا موضوع عضو الذكورة في قطعة نحتية تتحدى كل أعراف الجمال ` المهذب ` أو المؤسلب stylized، أو كما نجد فى قطعة أخرى توحى بأنها راقصة أو عارية، مصنوعة من مواد مثل السلك أو الخيوط ، وتضرب كل مقاييس ` الجمال` المصنوع الجاهز المألوف، وهى مع ذلك ليست سخرية بحتة بل فيها أيضا نوع من اللذة الشبقية بالاستعراض ومن المتعة التشكيلية بقوة الصدمة والاستحداث.
- على أن الاحتجاج عند هذا الفنان قد يصل به إلى حد المباشرة الصريحة، والصوت العالى، كما نجد فى نحت له هو تمثال الحرية الأمريكى، وقد حملت القنابل والصواريخ فى حضنها ورفعت بدلاً من المشعل سيفا مسلطا على الحرية، وهو فى هذا يقارب ما صنعه السيرياليون عندما أضافوا شاربا إلى الجيوكندة مثلا.
- إننا نجد عنده مثلا قطعة توحى بإنسان متكسر المفاصل، لا يرتبط ساقاه بفخذية إلا عن طريق زمبرك واه مفكوك. ليست الأطراف هنا هى المتكسرة بل ما يتكسر هو القيم المكرسة الموضوعة موضوع المسلمات المفروغ منها ( اتصال الأطراف بعضها ببعض ).
- ثم فاصل دقيق بين قيمة التشويه. وجماليته. وبين الكاريكاتير. ولا يسقط جمال عبد الناصر. رغم ما قد يبدو لعين غير مدربة. فى هوة الكاريكاتير، ولا أعنى التقليل من شأن الكاريكاتير ولا تحقيره، فإن للكاريكاتير بلا شك وظيفة اجتماعية هامة. كما أنه يصل فى بعض الأحيان إلى مستوى فنى وجمالي هام. وإن ظل فى حدود ما يسمى بـ` الفن الصغير` Minor art.
- وعلى رغم الاحتجاج الواضح فى أعمال هذا الفنان فإن التشويه عنده ليس مجرد ` محاكاة مشوهة` للأصل، بقصد اجتماعى أو توضيحى. هنا خروج كامل عن ` المحاكاة` بكل تنويعتها. بما في ذلك الكاريكاتير. إلى ساحة من الإبداع القائم برأسه أصلا دون قصد إلى مشابهة أو تقليد شائه أو غير شائه.
- قال الناقد السويسرى اندرياس لوزلى: ` يشيع فى أعمال جمال عبد الناصر حس بالقوة، بينما يخيل للمرء- للوهلة الأولى- أن عمله يعطينا انطباعا بالبساطة والوضوح. ولكن التأمل يكشف فيها عن ديناميكية مرهفة مركبة كامنة. إن تركيباته تنم عن توازن ناجم عن التوتر الكبير بين المساحات اللونية وبين ما يبدو على بعض أعماله من مظهر غير مكتمل وغير مصقول، مما يجعلها أكثر جاذبية`.
- وليس لى خلاف فى ذلك، وإن كان هذا الانطباع يغفل أهم ما فى عمل الفنان، فى تقديرى، وهو الطاقة العارمة التى توشك أن تكون بدائية، وهو ما يكتفى بأن يسميه الناقد السويسرى ` ديناميكية` أو ` توتراً`.
- أما الناقد الإيطالى أنزوبيللارديللو، فيقول إن جمال عبد الناصر يتحرك بين السيريالية والتعبيرية والفن الفطرى (الناييف) هذا إلى أنه يملك قدراً طيبا من التحكم فى أدواته التى يستخدمها بطريقة غير تقليدية على الإطلاق.
- وهنا أعود إلى ما قلت من أن التقنينات النقدية قد تساعد على تذوق المتلقى المثقف للعمل ولكنها لا تستنفده ولا تحيط به.
- لا أحب أن ألصق بعمل هذا الفنان بطاقة الفن الفطرى مثلا. فهو فى ظنى يمت إلى الفن البدائى، وإن كان يعود إليه بوعى مكتمل مشبع بإنجازات الحداثة وما بعد الحداثة، فهو إذن يتجاوز الفطرى ( الناييف) كما يصدر عن البدائى الأفريقى أو الأسيوى دون أن ينحصر فى إطاره.
- أما السخرية عنده فهى ليست لطيفة بل جارحة، سواء كانت سافرة واضحة أو خفية مضمرة.
- إن الوجه الإنسانى الذى يستند إلى- أو ينبثق عن ساقى دجاجة، مثلا، أو القمامات الشوهاء- عن عمد وقصد وليس عن مجرد عفوية فطرية - البطون المتضخمة الوارمة تحت قبعة توب هات صغيرة، والعيون الجاحظة، ليست أشياء لطيفة، بل هى حادة ومؤلمة.
- عنده قطعة هى أصيص فيه زهور صناعية، كان يمكن أن تقبل فى إطار جمالية تعبيرية، لولا الوشى الأصفر المنمنم الذى ليست فيه صرخة التعبيرية أو عاطفيتها. هذا الفنان، بصفة عامة. مضاد للعاطفية، وإن كان فى هذه الضدية نفسها نوع من الانفعال الصريح الذى يقارب انفعال الطفل أو البدائى. وللطفل والبدائى انفعالات معقدة ومركبة ومختلطة ملتبسة لا علاقة لها بوهم ` البراءة` الرومانسية الخادعة أو المخدوعة.
- إن المسوخ والإشكال البدائية الشائهة التى تصدمنا فى عمل هذا الفنان، إنما هى فى الأساس نقض- أو وعى ضدى متجسم- لقيم التعقل والوسيط الذهبى والإحكام فى الصنعة والنعومة المصقولة المدغدغة للحواس، وهى التى اعتدنا أن نجدها فى أعمال النحت التقليدية أو الحداثية على السواء.
- واقتحام الفنان ساحة التلوين يؤكد هذا الدحض للقيم المكرسة والمسلمات فى فئه، إن ألوانه التى تميل إلى تنويعات على الأحمر بمختلف درجاته وشياته، والأبيض الساطع أو الأشهب، والأصفر أو الأخضر أو الأزرق التى توحى إليك بمزيج من لعب الأطفال وملابس مهرجى السيرك والطواطم الأفريقية المخوفة أو المأمول فى استرضائها، فضلا عما أسلفنا من انتفاء الأرثوذكسية ( القويمة المطردة على سنن مطروقة) فى اختيار المادة الخام. مزجاة وملقاة وعرضية. كلها تؤكد هذا الوعى الضدى، أو ما يسميه الفنان نزعة التمرد المستمرة عنده.
- إنه إذ يزجى لنا العرضى والهش واليومى المبتذل يؤكد جمالية جديدة تقع فيها وراء العرضى الهش المبتذل، تضمها وتنفيها فى أن معا.
- وبذلك فهو ينفى، عملياً، ذلك الزعم الشائع بأن هناك مادة خاماً فنية، ومادة أخرى غير فنية، كما كان الزعم يجرى، منذ فترة، بأن هناك عبارات شعرية وعبارات غير شعرية لا يصح أن تأتى فى الشعر. لقد أسقط الشعر الحداثى هذا الزعم تماماً. كما أسقطة الفن التشكيلى الحداثى، فلا عبرة بما كان يسمى طبيعة المادة. أو العبارة . بل العبرة كل العبرة بكيفية إتيانها فى سياق العمل الفنى، قادر- كما هو الحال هنا. أن يضفى على المادة - أو العبارة- المزجاة المأخوذة عفويا من عرض الطريق أو من نفايات الحياة اليومية، سراً وسحراً بقوة فنه وبقوة الانتقال من سياق عملى يومى مبتذل إلى سياق فنى له فتنته وإلهامه.
بقلم : إدوار الخراط
مجلة : إبداع (العدد 8 ) أغسطس 1995
- يعد جمال عبد الناصر - فى نظرى - واحداً من فنانى الجيل القادم . وهو يصعد السلم بقوة وثقة . ويحتل مكانته من بين المجموعة التى تمثل مقدمة جيله، متحلياً بثورته على الأنماط ، وبعدم إكتراثه للآليات العرفية فى فعل الفن ، ونواميسه المعتاده .
أحمد فؤاد سليم
- جمال عبد الناصر فنان فرح بالحياة. تتسم أعماله النحتيه اللاتقليدية بنوع من الوقتية هى تعبير عن التغيرات الثقافية السريعة والفوضوية التى تؤثر فى الحياة فى زمننا هذا. ويمزج جمال عبد الناصر فى اعماله بين الأساليب الفنية المصرية التراثية وبين التصوير المتحرر، والمضحك أحياناً للناس والحيوانات والزهور مستخدماً ألواناً نهارية مبهرة. كما يدمج فى أعماله النحتية الأشياء المهملة والملقاه ويعيد استخدامها مانحاً إياها حياة جديدة .
ميريل آلن
- تطرح لنا أعمال جمال عبد الناصر تساؤلا حول جدوى التمييز بين الأساليب الفنية المختلفة، فهل يجوز تصنيف الفنون كفنون راقية وأخرى شعبية ؟ لقد رفض عبد الناصر الامتثال بالمهارات الفنية المؤسساتية التى يفرضها كمهنة الفنون فى مصر ،فالفن الذى يمارسه قد نبهنا الى ضرورة توفير عنصر الرفض فى عملية الابداع.فرفض المتعارف عليه هو مصدر المتعة فى الابداعات الفنية . فأعماله لا تتبع صيغ ميتافيزيقيه اكتسبت صفة الاصولية ، بل انها تتعايش مع اشياء الحياة ومخلفات البشر، وتتفاعل معها لتبرز التناقضات التى تعتريها .
مارى تيريز عبد المسيح
- النحات المبدع جمال عبد الناصر الذى يقدم لنا تعبيرات جديدة عن النحت المتطور فى القرن الواحد والعشرين.. هو يقدم لنا صولجان من التعبيرات الحديثة لمعارف النحت الجديد الذى أصاب أواخر القرن العشرين وبدا الحياة الجديدة التى حطمت كل المعايير السابقة التى وقفت ضد التطور والحياة البشرية.. فهو لا يقدم لنا زفرات من العهود القديمة التى أصبحت اليوم فى عالم غريب بعيداً عن الدفع الحضارى والتقدم العلمى الذى يدفع البشرية الى الأمام دون النظرة التخوفية عن المعالم الجديدة التى تحرك البشرية جمعاء، بعيداً عن الخوف وعدم قدرته فى التواصل الحضارى الذى يحدد المعالم الإنسانية .
- فالفنان النحات والمصور ـ إذا صح هذا التعبير ـ ` المشكل ` للحياة الجديدة، هذا قد يكون أكثر التصاقاً بأعماله.. فأنا لست بالإنسان الذى يكتب عناوين مبهجة لا معنى لها تغوص فى عقل البشر ولا نجد ما يحررها من التقارب الى المجد البشرى التليد الذى يضع معالم جديدة للإنسان المتحضر صاحب الرؤية، وقد لا يعجبه هذا المسمى ولكن لا أحد يعلم ما تخبئة الحياة من تسميات حتى كلمة الفن ممكن يكون لها أسم جديد فى العصر الحديث بعد أن أعادت البشرية كل تسمياتها القديمة التى أصبحت غير قادرة على نشأة الحياة الأخرى التى قد نكون نحن الفنانين الحالمين بالوجود الإنسان ننتظرها تأتى إلينا فى يوم ما حتى يكون صانعو الحياة فى العصر الحديث غير موجودين .
- فعلى ما أعتقد أننى قدمت النحات الفنان `المشكل ` فى هذا العصر الذى نعيش فيه ..فسوف تتغير الحياة بكل ما فيها من مقدرات صنعها جيل أخر غير جيلنا، وليس عندى ما أقوله للفنان جمال عبد الناصر غير هذا التعبير الذى حمل كل الحب والتقدير لكل من اخلص فى حياته .
د. صالح رضا
فن النحت .. وفلسفة التمرد
- اذا كان جورج البهجورى يقول أنه فرع من شجرة بيكاسو على اعتبار أنه يرسم على طريقته.. فيعد المثال جمال عبد الناصر فرعا أخر من هذه الشجرة ليس لأنه يلتقى معه فى تلك التحريفات التى تخرج على الاطر والأشكال المحفوظة والقوالب الساكنة.. ولكن أيضا لأن كلا من بهجورى وعبد الناصر مثل بيكاسو ليس لهما من شاغل سوى التجريب المستمر واللعب بالفن.. وكلاهما يمثل حالة خاصة فى الإبداع.. بهجورى ينام والفرشاة فى يده ويعرف المعنى الحقيقى لفقه التصوير وعبد الناصر يتمرد على الكتلة ويتنفس التشكيل.. وقد غرس الفرعان فى تربة مصرية..فرع ينتمى لبهجورة إحدى قرى الاقصر وفرع آخر ينتمى لحارة من حارات قاهرة المعز .
الحداثة والتجريب
- نسوق هذا الكلام ونحن بصدد الحديث حول معرض المثال جمال عبد الناصر والذى أقيم بقاعة الزمالك وكعادته خرج بأعماله على قاطرة الفن التقليدية.. تلك القاطرة التى توحى بالحركة وهى مازالت ساكنة.. وهى أعمال تعد بحق مساحة متألقة للحداثة وما بعد الحداثة ايضا.. هذا المصطلح الذى تمت صياغته بداية الثلث الأخير من القرن العشرين.فبعضها ينتمى للفن الفقير `الارت بوفيرا ` ذلك لان جمال دائب التجريب وهو يستخدم خامات عديدة ومتنوعة بما فيها الخامات القابلة للتحلل كما فى الفن الفقير مثل الاحبال والخيوط والرمال والسلك وبقايا الأشياء المستهلكة مع العجائن والألوان.. كما أن أعماله تتواصل مع الحضارات القديمة والفنون البدائية.
- وعلى الجانب الاخر يستخدم عبد الناصر الخامات النبيلة مثل الرخام والخشب مع الحديد كما فى معرضه الحالى.. وهو منذ تخرجه وربما قبل ذلك وحتى الان يبدو ثائرا على الأشكال المعادة والمكررة..حتى أنه يقول لقد عانيت مر المعاناة من استاتذتى فى فن النحت فلم يكن اغلبهم يدرسون النحت بمفهوم صحيح.. وبعد التخرج حدث لى ما يمكن آن نطلق عليه عملية تقويم .
فلسفة التمرد
- وجمال يعيش التمرد فى الإبداع فهو يحذف ويختزل ويضيف ويحرف وقد يعود إلى منحوته انتهى منها من قبل ويقدمها فى صياغة جديدة.. ومن هنا لا تهمه الفكرة بقدر تحقيق بعض غايات الفن من الدهشة والمتعة البصرية وإثارة الخيال.
- يقول جمال عبد الناصر: فى رأيى ان ليس هناك اضافات فكرية إلا الخبرة والخامات..فأفكارى ما زالت كما هى ولكن المرحلة السنية بعد كثير من التجارب فى الشكل وجمالياته والخامة وملمسها واحساسها المختلف عن الأخرى واللون على النحت وما يناسبه ومالا يناسبه..اما الجديد فى هذا المعرض فهو تنفيذ بعض الأعمال بخامة الخشب والرخام..هذه الخامات الطبيعية والجميلة تعطينى آنا شخصيا صدمة لاحساس جديد بطعم مختلف لاعمالى الامر الذى يمثل دفعة للعمل والمحاولة مرة أخرى بنفس الخامات واكتشاف الطاقة الابداعية لخامات اخرى جديدة.. والحقيقة انا حتى الان لا تعنينى القصص والمواضيع فأفكارى هى اقرب إلى التجريد منه لاى شئ آخر..فكل ما يهمنى هو جماليات النحت والشكل وطبعا هناك أشياء بداخلى لا اعرف توصيفها ولا اعرف معناها.. فهناك اسرار داخل كل فنان لا يعرفها هو شخصيا ` .
- وعند الدخول إلى القاعة يتصدر تمثاله النصفى البديع `الإله البدائى` الذى شكله بعمق لمسته التلقائية والذى جمع فيه بين معان شتى.. وهو تمثال اسطورى تطول فيه الرقبة وتمتد رأسيا اما الرأس فينتهى بما يوحى بتاج صغير وكأنه يؤكد على طفولة الأشياء وسحرها الذى لا ينتهى رغم ضراوة العصر وحدة الصراع الكائن بين البشر حاليا فى بقاع عديدة على الأرض.. والتمثال مسكون بسحر اللمسات تتنوع فيه الملامس والسطوح بمسحة من القدم.. ثم نفاجأ بتلك المفارقة.. ان التمثال بعمقه التعبيرى ما هو الا مقشة قاعتها هى الجسد بينما اليد هى رأس الاله.
- وهو يعمد إلى الايهام أيضا من خلال هذا التشكيل ليدين يلتقى فيهما اصبعان يشكلان مع الفراغ الناشئ وجها من السلويت وهنا تتحقق غاية التجاوب بين الكتلة والفراغ فى ايقاع متناغم.. بتلك الفراغات العديدة، وهذا التلاقى بين اليدين والوجه الافتراضى او التخيلى.
- ولعل منحوتته التى تبدأمن أسفل بجسد انثوى ثم تنتهى من عند الرأس بيد من خمسة أصابع تتاكد فيها نفس فكرة الايهام وذلك تأكيدا على تلك الروح التى تتجاوز المعتاد والمألوف إلى أشكال تمتد فى آفاق جديدة فيها الواقع والخيال وفيها الروح السيريالية والحس الاسطورى بما تحمل الكف من ايحاءات شعبية.
الرجل والدراجة
- وما زال فناننا مشغولا بمنحوتته الرجل والدراجة فهو يشكلها فى ايقاعات عديدة ومتنوعة بدنيا من المبالغات والتحريف وعنف الحركة وهى من المنحوتات الفريدة فى التشكيل النحتى وفيها ينقلنا إلى ثلاثة مستويات من التشكيل بين العرضى المتمثل فى الدراجة التى تتميز بالحركة الميكانيكية والرأسى المتمثل فى الراكب ثم هذا التشكيل الامامى للوجه والذى يأخذ هيئة القناع.. وهنا نطل على فرحة شعبية تذكرنا ببهجة الحياة فى السيرك .
- ولقد جاءت معلقات جمال عبد الناصر المجسمة والتى جمع فيها بين النحت والتصوير فى أربع معلقات انثوية بلا رءوس واطراف بانتماءاتها لفن البوب أو الثقافة الجماهيرية.. إضافة جديدة فى عالمه بما تشتمل من التجسيم والثبات مع ثراء السطوح والتنوع الشعبى فى التلوين والمستمد من الصور البصرية للحياة اليومية المعاصرة كما نرى فى الرداء الذى يوحى بالقماش الشعبى المطبوع.
- وتخف كثافة الكتلة عند عبد الناصر فى أشكاله الورقية المحرفة والتى تعتمد على رقائق من الحديد كما فى تشكيله `الرقصة`و ايضا تلك الأشياء التى شكلها من السلك والتى من فرط رقتها تكاد تذوب فى الفراغ مثل ديكة الملون الذى شكله من ثنيات السلك فبدا واضحا بكثافته اللونية الصريحة من الأحمر والأصفر والأزرق والأخضر..وفى نفس الوقت يمتزج بالفراغ فى الضوء الطبيعى .
- ومن بين ذرى أعمال عبد الناصر النحتية تشكيله النحتى لامرأة والذى يصل فيه بالكتلة إلى درجة كبيرة من النقاء والاختزال بتلك اللمسات القوسية التجريدية فنرى الرأس يبدو فى شكل بيضاوى أملس بلا تفاصيل ينفرج فى النهاية عن الشعر الذى ينساب إلى أعلى بهيئة مجموعة من الاسلاك الرفيعة مما اضفى على التشكيل طابعا ميتافيزيقيا كونيا.
- وتتنوع أعمال الفنان فى أشكال اخطبوطية تؤكد على مرح الحياة وبهجتها وهى أشكال لشخوص فى حركات وايقاعات لا تهدأ من فرط حيويتها وكأنها داخل حلبة السيرك .
- واذا كان عبد الناصر قد مزج عناصر طبيعية باخرى تجسد روح العصر الصناعى كما فى تشكيله `العنزة ` التى تمثل توليفا بالغ الطرافة : الجسد بهيئة خزان معدنى صغير للمياة والرأس والقرنان فى شكل صنبور اما الذيل فينتهى بمشط الا أن منحوتته `الغزالة ` من خلال الحذف والإضافة تبدو أيقونة للمرح والحيوية فى فضاءات الطبيعة.
- لقد شكل جمال عبد الناصر أسطورة الإنسان المعاصر..همومه وأحلامه ولحظات سعادته فى تعبيرية درامية. كما جسده فى ايقاع جديد على فن النحت المصرى الحديث.
فاطمة على
جريدة القاهرة - 15 / 11/ 2011
الفنان جمال عبدالناصر فى مرحلة نضجه الفنى.. يطلق العنان للبرونز والخشب باحثـًا عن مادة تقاوم الزمن
- الرجل ذو المظلة.. ليس هذا عنوان معرض النحات جمال عبدالناصر المقام حاليا بقاعة الزمالك للفنون، فلم تعد المعارض اليوم يسيطر عليها عنوان محدد، كما صارت الأعمال الفنية تعبر عن نفسها بحرية، يستقبلها المتلقى كيفما يشاء بدون توجيه من صانعها. أما ما نطلق عليه «الرجل ذو المظلة»، فهى قطعة نحتية تخطف الانتباه وسط مجموعة ضخمة من الأعمال تصل إلى 36 قطعة نحتية وتعكس مرحلة جديدة للفنان جمال عبدالناصر.
- يصور هذا العمل الفنى بامتياز رجلا تباغته الرياح والأمطار، يحاول السيطرة على المظلة التى تجذبها الريح لأعلى، وتتطاير سترته ويتقوس جسده موجها رأسه للسماء. وتتبدى هذه القطعة النحتية المصنوعة من البرونز كما لو كانت موجزا وتكثيفا لروح المعرض، بل ولعالم الفنان جمال عبدالناصر. حيث اتكاء الفنان على مشهد عابر من الحياة اليومية وتسليط الضوء عليه، لتتجلى الشعرية فى العمل الفنى،فيجتمع فيه عدة عناصر: الإنسان فى مواجهته للطبيعة، المقاومة والصراع والتوجه لأعلى نحو قوى روحية خفية، أى أنها تعكس الاتجاه المعاصر فى الفن حيث تختلط الرؤية الكونية للحياة بتفاصيل المشهد اليومى العادية. وتظهر أيضا براعة التعبير عن الحركة من خلال القطعة النحتية وهو ملمح سنجده فى العديد من الأعمال المعروضة مثل مجموعة الأعمال التى تصور رجلا يركب دراجة متكئا بجسده للأمام على الجادون ومحركا قدميه على بدالات الدراجة، أو تلك التى تصور الجسد الإنسانى ممددا يجمع بين الوضع الأفقى والرأسى فى آن واحد، حيث تظهر هذه الأجساد الممددة كما لو كانت فى وضع «شقلباظ» يرتفع الذراع لأعلى وتتبادل الأرجل الارتفاع كما لو كانت تمارس تمارين رياضية.
* «أعتبر إبراز الفراغ أيضا نحتا»
- ويميل الفنان فى هذا المنحى الجديد إلى الكتلة النحتية مثل نموذج المرأة الذى تصدر مطوية المعرض، مع تركيزه أيضا على نحت الفراغ من خلال العديد من الأجساد المفرغة التى قدمها بمهارة، فيعلق الفنان قائلا «أعتبر أن الفراغ أيضا نحتا»، ويضيف بحسه التشكيلى الرومانسى حول تمسكه بخطى الكتلة النحتية وبالقطع الرشيقة المفرغة التى تشع طاقة وحياة: «مثلما توجد الكتل الجبلية، توجد أيضا الأشجار». أى أنه ما على الفنان إلا أن يلتقط هذا التباين والتنوع ويعيد تشكيله فى عالمه الفنى.
- يضاف إلى كل ذلك عنصر مهم يكشف عنه «الرجل ذو المظلة»، هو تحول الفنان إلى مادة البرونز، بالإضافة إلى الخشب والرخام والوسائط المختلطة.فالزائر لمعرض جمال عبدالناصر ستفاجئه كثافة الإنتاج التى تحمل تاريخ هذا العام والعام الماضى، فيعلق الفنان الذى يمكث ليلا فى القاعة يرحب بضيوفه ويحرص على سماع تعليقاتهم قائلا: «هناك أعمال ترجع لعشر سنوات وأخرى لعشرين عاما، لكننى أتممتها خلال هذين العامين». لن يجد الزائر هذه الألوان الزاهية المبهجة التى عرف بها الفنان، ولن يجد التيمات الشعبية التى كان يقدمها بحس معاصر يميزه، ولن يجد الخامات المختلفة التى يلجأ إليها الفنان من أسمنت وورق، ومن قطع حديد وصفيح وغيرها تلك المواد الحداثية بامتياز والتى كانت تعطى الانطباع أن أى مادة تقع عليها يد الفنان قد يحولها إلى قطعة نحت. وهو الذى بدأ حياته الفنية منذ أن كان طالبا فى المرحلة الثانوية وقرر أن يكون «نحاتا»، ورغم تجاربه فى التصوير إلا أن النحت ظل «فطرته» وحبه الأول، فحدد طريقه إلى قسم النحت بكلية الفنون الجميلة التى تخرج فيها عام 1971.
- لم يبق من العالم القديم سوى عمل نحتى من الحديد الملون كما لو كان أسلاكا رفيعة لديك زاهى الألوان مثل الديك الذى يظهر فى حواديت الطفولة الملونة، ومجموعة من المانيكان (الجزء العلوى من مانيكان العرض) تشير إلى الجانب الحسى الذى يبرزه الفنان معتمدا على الورق والأسمنت، وقد تراوح سطحها بين الخشونة والنعومة كما لو كانت تحمل تصنيفا للمرأة فى عالم جمال عبدالناصر. أما باقى الأعمال فقد تنوعت بين البرونز والخشب وقليل من الرخام، لا يعرف الفنان كيف يبررها معلقا «لقد كبرنا»، مشيرا إلى أنها مراحل يمر بها الفنان، كان فيما قبل شابا يجمح بخياله، لا يتوقف عن تجريب كل جديد، غير عابىء بآراء الغير وتلقى النقاد أوميول الجمهور. «اليوم بدأت أميل إلى الاستقرار الذى يناسب عمرى، حيث كنت فى الماضى أرفض مطالبات الناس لى بالعزوف عن الخامات المختلفة من ورق وأسمنت وأكريليك وغيرها لأن عمرها قصير،فأصبحت اليوم ميالا للبرونز والخشب اللذين يتصدان لعنصر الزمن».
- وتظل مع ذلك روح الحركة والطاقة والوثوب مسيطرة على الأعمال حتى وإن توارى الفنان خلف حلم تخليد الأعمال، ينتقل من مادة إلى أخرى بهدف التجريب فى المقام الأول، حيث تغلب عليه روح المغامرة والاكتشاف، يجرب قطعة نحتية فى خامات فقيرة، ثم يختبرها فى حيوات أخرى جديدة مع البرونز أو الخشب. ينظر عبدالناصر إلى بورتريه يحمل شبها بالزعيم الذى سمى على اسمه، ويقدر انها نجحت فى نموذج الرخام عنها فى الخشب، يتأملها ثانية ويضيف، «قد تكون أفضل أيضا فى اللون الأسود»، كما لو كان يبدع قطعته الفنية وينتظر ليرى ماذا تخبئه له المادة من إبداع مواز.
دينا قابيل
الشروق - 21/ 10/ 2011
عبد الناصر .. من الفطرة إلى التفجير
-اعتدنا فى الأعمال السابقة للنحات جمال عبد الناصر ( مواليد 1957 ) غلبة التعبيرات الفنية الأقرب إلى السذاجة والفطرة التلقائية، المتأثرة بطابع البيئات الشعبية، ليس فقط فى استخدام الخامات الفقيرة غير المعمرة من مخلفات الحياة اليومية وغير المألوفة فى النحت التقليدى، فيما يسمى بالنحت المباشر الذى لا يتم صب نسخ من نماذجه، وتلوينها بألوان صريحة ومثيرة، متحدية تقاليد النحت حتى الحديث منه، بل كذلك فى مضامينها المعبرة عن روح التهكم والمبالغة الكاريكاتيرية وإثارة الدهشة. واقترابها فى أحيان كثيرة من حس المهرجانية ومن التمائم والأيقونات السحرية، ومن أنماط الفلكلور كالأراجوز وخيال المآته، ومن رسوم ونحت الأطفال، ومن الطابع السريالى للمعتقدات الشعبية، وهو ما كان يضعه فى خط متقاطع مع حركة النحت المصرى قديمة وحديثة، بما فى ذلك فن الشباب منذ أواخر الثمانينيات ( وهو الجيل الذى ينتمى إليه ) التى جعلت من نماذج الفن الغربى مثلها العليا، ومنها الأعمال المركبة (التجهيزات فى الفراغ) التى شاعت فى العقدين الأخيرين فى صالون الشباب السنوى بكل تنوعاتها، وهو ما كان يجعل منه محل اختلاف نقدى، بين متحمس ينسبه إلى عصر ما بعد الحداثة، وبين متحفظ يراه باحثا عن الآثار ولفت الأنظار !
- فى معرضه الأخير بقاعة الزمالك يبدو عبد الناصر أكثر انحيازا لتقنيات النحت التقليدية وخاماته مثل البرونز والحديد والخشب، ولمفهوم النحت الأساسي، باعتباره فن الكتلة وعلاقتها بالفراغ، والقائم على الحركة البصرية عبر تفاوت النسبة بين هذين المكونين ( الكتلة والفراغ ) ، لكن جمال يميل إلى زيادة نسبة الفراغ داخل الكتلة، وإلى انتهاك محيط الفراغ خارجها بامتداد أطرافها، خالقا العديد من نقاط الارتكاز الفراغية ومنافذ الهواء والضوء التى أضحت مصادر للحركة البصرية الدوارة بغير توقف، بين الخطوط القوسية والدائرية وبين الفتحات والفراغات المتكاثرة بداخلها، جاعلا نصب عينيه تحقيق أقصى قدر من الحركة العضوية والبصرية فى هيئتها، وقد تخلصت من ثباتها وديمومتها، ما يؤدى إلى التحرر من قانون الجاذبية الأرضية،المتمثل فى القاعدة الهرمية للتمثال باعتبارها مركز الثقل، بل يجعل منها مجرد نقطة ارتكاز افتراضية تنطلق منها طاقة حركية مندفعة إلى الفضاء، ويجعل من أطرافها العليا محركات هوائية لا تهدأ، وبذلك يصبح الفراغ المحيط بالكتلة أو المتمثل فى فتحاتها الداخلية عنصرا جوهريا فى امتلاك الفضاء والسيطرة عليه، ولعله بذلك يستوعب أسلوب أستاذه النحات عبد الهادى الوشاحى فى نظريته حول اعتقال الفراغ.
- وكان من أسباب نجاح هذه التجربة استخدام الفنان للدراجة وراكبها فى عدد من تماثيله، لأن الموضوع بحد ذاته يقوم على الحركة الواقعية، ويلهم -عبر حركة الساقين والذراعين والعجلتين واندفاع الجذع إلى الأمام - قدرا كبيرا من هذه الحركة، وكان من أسبابها كذلك استخدام الجسم الانسانى فى أوضاع غير تقليدية، مثل المرأة المستلقية على ظهرها محركة ساقيها وذراعيها فى الهواء، أو المرأة الجالسة فى حالة انتفاض، وقد تحول نصفها العلوى إلى يد بشرية هائلة مشرعة فى الفراغ.
- وبالرغم من أن عبد الناصر لم يضع مسميات لأعماله ولم يكتب عنها شيئا فى دليل المعرض، فإنه يبدو ومتأثراً بروح ثورة 25 يناير، فى قوة التفجير المندفعة للأمام مع حركة الدراجة، وفى تصاعد الارادة وقوة الاعتراض متمثلين فى تلك اليد الهائلة بدلا من رأس المرأة، وان تخللت معرضه بعض القطع التى تنتمى إلى عالمه القديم، بطابقه التهكمى أو السريالى، مثل تمثال المقشة التى يبرز على مقبضها على وجه إنسان، وتمثال المرأة الصلعاء التى تنبت فى قمة رأسها أسلاك تتلوى فى الهواء !.
عز الدين نجيب
أخبار الأدب - 8 /1 /2012
|