ياسر شحاتة من أوروبا إلي ميدان التحرير
- يشي هذا المعرض بدرجة عالية من الخبرة الفنية والوعي الفكري والنضج السياسي في الوقت ذاته، ولقد قصدت أن الأولي - وهي الخبرة الفنية - في الترتيب قبل الأخيرين، فبدونها لا محل للحديث عنهما ولا حتي عن الفن أصلا! تجربة د. ياسر شحاتة المعروضة حاليا بأتيليه القاهرة في أول معرض له بمصر منذ تخرجه في كلية الفنون الجميلة بالإسكندرية عام 1984 وحصوله علي الدكتوراه في تاريخ الفن من هامبورج بألمانيا 2002 وإقامته وعمله هناك ما يقرب من ربع قرن، سبقتها تجارب فنية أخري بأساليب مختلفة تنتمي في معظمها إلي `التعبيرية الأوروبية` بمذاق مصري ولو قليلا، حتي استقر إلي ما يمكن أن اسميه `كلاسيكية ما بعد الحداثة` انه يستحضر من خصائص الكلاسيكية الأوروبية القديمة احترامها للطبيعة والإنسان، وعلمي التشريح والمنظور الهندسي، وقواعد البناء بالضوء والظل `الضوء الموجه من مصدر محدد` ليقيم من خلال كل ذلك معمارا فنيا معاصرا ومدهشا، فيصل إلي حداثة من نوع مختلف، هي منتهي الواقعية والتجريد معا! معماره أشبه بمسرح يلعب فوق خشبته إنسان العصر، محاصرا بوسائل الميديا من صحافة ومعلوماتية، وملاحقا بأحداث سياسية لا يشارك في صنعها، بل هي أداة تدجينه وانصياعه، ثمة إسقاط لما يعانيه الإنسان المصري اليوم وسط المتاهة والحصار بين أطراف معوقة للثورة. خيط رفيع بين الكلاسيكية والأكاديمية وخيط رفيع آخر بين `الوعي` المفروض من الخارج علي العمل الفني و`الوعي` الذائب فيه حتي التوحد معه، تجاوز ياسر شحاتة الوقوع في الأكاديمية `المدرسية` بقدرته علي البناء الفني الرصين وعلي اختيار أوضاع خاصة لأشخاص وزوايا نظر غير مألوفة وغرائبية لتكويناته وبقدرته كذلك علي اختزال التفاصيل والثرثرة البصرية للأشياء في الواقع ، فيبدو كل شيء محسوبا بعناية حتي يستحيل الحذف منه أو الإضافة إليه، وينجو من الوقوع في الرتابة، أو في افتعال التوازن الكلاسيكي الجامد حتي `السيمترية` ، اختزال الألوان في أعمال نوع آخر من التحدي يخوضه ياسر، يذكرنا - علي نحو ما- بأعمال حسن سليمان، يصل بهذا الاختزال إلي درجة أعلي من التأثير الدرامي أو التأمل الفكري، تجاوز الفنان أيضا هيمنة الفكرة الرمزية علي جمالية البناء الفني، فغدت اللوحة متسعة ومفتوحة لرؤي متعددة بحسب ثقافة وخيال كل متلق .. هكذا يتسرب الوعي داخل شرايين اللوحة كلها، فلا يكون عبئا عليها ولا مقولة نظرية تتقمص شكلا فنيا، ورغم البساطة الشديدة للوحة فهي كالسهل الممتنع، بها من الجزالة والفخامة بقدر ما بها من الرقة والسلاسة، وبها من الأستاذية بقدر ما بها من قلق الفنان. يدهشك أن تري فنانا مثله عاش أكثر سنوات نضجه وتشكله الفكري والفني بأوروبا ثم يعود أكثر انتماء للواقع المصري وحضارته وهمومه السياسية، فيما نري آخرين يقضون بالخارج سنوات قليلة وربما أقل من سنة ثم يعودون نسخا باهتة من الثقافة الأوروبية، بلا جذور أو انتماء! تتلاشي دهشتك حين تقرأ ما يكتبه ياسر شحاتة في كتابه غير الدوري الذي أصدره فترة اغترابه بألمانيا باسم `المنهج` انه يحمل خلاصة قراءاته، ووعيا مصريا يضرب في عمق التاريخ والحضارة بكل طبقاتها، وتنتقل معه من التاريخ إلي الفلسفة إلي الدين إلي السياسة إلي اللغة إلي التغيرات الاجتماعية من مصر إلي العالم العربي إلي العالم الغربي، انه ببساطة فنان مثقف ذو موقف سياسي وقضية يعيش بهما ومن أجلهما. لذلك كله .. كان من الطبيعي أن نلتقي به مرارا وسط مظاهرات ما بعد 25 يناير في الشوارع حول ميدان التحرير.
عز الدين نجيب
القاهرة - 2012/5/8
ياسر شحاتة والرؤية من الخارج
- أصبحت الرواية مجمع الفنون الجميلة كلها، يلوذ بها المبدعون فى جميع المجالات لينفثوا فيها ذوب تجاربهم الحيوية، وخلاصة مغامراتهم الجمالية، والفنان المؤرخ ياسر شحاتة، اغترب طويلاً فى ألمانيا، وحصل على الدكتوراه من جامعة برلين، وشغل بتاريخ الفن، ثم جرب حظه فى الكتابة السردية برواية ناجحة منذ سنوات، بعنوان `هامبورج`، وها هو يعود من جديد لينشر روايته الأخيرة `نوال`، فيقدم فيها رؤية ثاقبة لمصر خلال السنوات الأخيرة، مفيداً من منظوره المتباعد المندهش حيناً وهو قادم من مهجره الأوروبى، والمقترب لدرجة الامتزاج فى معايشاته الحميمة حيناً آخر، ليرصد حمى الثورة التدريجية التى سرت بسرعة فائقة فى نفوس الشباب والبنات، حتى تفجرت على حين غرة فى يناير المشهود، وكيف أبرزت هذه الحمى أنبل ما فيهم طوراً وأسوأ ما فيهم أطواراً أخرى من تناقضات تجمع بين الوداعة المفرطة والقسوة الطاغية فى آن واحد، وأقصد بالرؤية من الخارج هنا اتخاذ المسافة الجمالية الكافية لرصد البنى العميقة فى حركة المجتمع مما لا يدركه المنغمسون فى تياره، وليس هذا النوع من السرد الذى يحكيه الراوى عن غيره دون أن يتعمق دواخله كما شاع فى التقسيمات الأكاديمية، فالمبدع هنا يسلط بؤرة ضوئه على بنية المجتمع البطركية الذكورية التى تتماهى فيها سلطة الأب مع الحاكم المستبد، فتحكم ديناميكية الحراك المجتمعى وتعوق تطوره الحضارى، وتحبط مسعاه المستقبلى للتحول الديمقراطى المرغوب. ولا تبلغ هذه الرؤية درجة الصفاء الكامل إلا إذا أتيح للراوى أن ينخلع طويلاً من عاداته الثقافية ويرقب بيئات مغايرة تخلصت من هذه الخاصية وتفوقت عليها، مما يتيح له مراجعة ذاته ونقدها كما سنرى فى هذه الرواية ذات الطابع السياسى المهيمن عليها. فهى تبدأ منذ سطورها الأولى فى تجسيد الوضع المصرى قبيل الثورة من منظور ياسين شهاب، الذى جاء إلى الإسكندرية مع مجموعة من طلبة الأكاديمية الفنية التى يديرها فى ألمانيا ليقيم ورشة فى شونة العجمى، واتصلت به فتاة صحفية تعمل فى مجلة `الفن اليوم` لتجرى تحقيقاً وحواراً معه، كان قد ابتاع من المطار نسخة من جريدة الدستور المعارضة واستغرق فى قراءة مقال لإبراهيم عيسى بعنوان `معتدل مارش`، وصدمته الأوصاف الجارحة التى ينعت بها الكاتب المصريين ليحثهم على التمرد، لأنهم كما يقول `شعب جبان خسيس كذاب متواكل ذليل كسول`، لأنه على الرغم من فاشية وديكتاتورية مبارك فإن نظامه ينعم بهدوء كامل، تمنى الراوى من منظوره المتباعد ألا يقرأ أحد الصهاينة هذا المقال ويترجمه فتكون فضيحة وعار على الشعب المصرى أو ينقله أحد الفاشيين أصحاب الفكر العنصرى فى أوروبا ليعزز نزعته، ونعرف بعد ذلك من سياق الرواية أن الكاتب - وليس الراوى - قد كتب رداً على هذا المقال نشر فى جريدة الكرامة، فرائحة التوثيق تفوح من الأحداث والشخوص. على أن الصدمة التالية التى فوجئ بها الراوى هى أن مندوبة مجلة الفن جاءت محجبة تتوارى فى لباسها الغريب، مما أثار شجونه ولفت نظره بعنف إلى متغيرات المجتمع منذ تركه، حيث كانت زميلاته فى الكلية نموذجاً للتحرر وأناقة الملبس والانطلاق الذى يعد علامة على طريقة التفكير ونضج الوعى الفنى والجمالى بالحياة قبل تدهوره.
فن التاريخ وتغير المجتمع:
إذا كان كاتبنا الرسام قد آثر أن يستغرق جهده فى `تاريخ الفن` فإنه فى سرده لابد أن يعتمد على `فن التاريخ`، فبعد المقدمة السياسية العصرية يتفرغ لحكاية قصة كل من بطليه `نوال` و`ياسين` فيسعفه هذا الحس التاريخى الدقيق فى تشكيل صور لنماذج إنسانية بالغة الحيوية والجمال، فهو يتتبع أحلام نوال منذ عام التحاقها بكلية الآداب بالقاهرة عام 1993، على الرغم من وجود كلية للآداب بموطنها فى الإسكندرية بمساعدة خالتها المقيمة فى العاصمة، لأنها كانت تحلم بالحرية والانطلاق وتجريب الحب بعيداً عن رقابة الأب الصارمة ونظرته القاسية التى تحصى خطاها، وتساؤلاته التى تشى دائماً بالشك، ويظل الأب رمزاً لهذا القهر فى مستواه العائلى، فتكتشف بعيداً عنه جمال صوتها وتشارك زملاءها فى كورال الكلية وتتبادل مع شريف `دويتو` سيد درويش فتنشب بينهما قصة الهوى الجارف والمواثيق المستقبلية، ولكن الأيام كعهدها تفرق بينهما، وتضطر للزواج على كره من ابن المقاول الذى جدد لهم الشقة، فيعاملها بغلظة جسدية مقيتة، و`عندما شاهدت فيلم نهر الحب لفاتن حمامة وزكى رستم اكتشفت أنها تعيش نفس المأساة مع رجل لا تحبه ولكن من أجل ابنها، وأنها تتمنى لنفسها الموت فى صمت، حتى إن حلم القطار القادم والسيارة التى تتوقف على القضبان كان ينتابها أحياناً، لكن فى صور مختلفة`، وهنا ينجح الكاتب فى تصوير أثر السينما فى بلورة وعى المرأة المعاصر وتنمية خبراتها بالحياة، إذ ترى فيها تمثيلاً عميقاً للحالات النفسية التى تمر بها فى النوم واليقظة، وعندما يعرض لنموذج ياسين شهاب - القريب من تجربة الكاتب الذاتية - يسلم قياد السرد للراوى العليم ليلخص تجربته فى الزواج من فتاة ألمانية وتأسيس محل مشترك لبيع المنتجات المصرية، ثم الصراع الذى ينشب بينهما وكيف ينتهى بالانطلاق، والعذاب الذى يعانيه إثرها فى رؤية أولاده طبقاً للقانون الألمانى، وكيف تعرف بعد ذلك على فتاة سورية أيقظت فى نفسه الشغف القديم بالشعر الأسود والرقص الشرقى والدلال والتمنع الفطرى، اكتشف معها متعة سماع أم كلثوم وفيروز ورؤية أفلام يوسف شاهين وعادل إمام ودريد لحام، اكتشف أن المرأة هى الوطن المفقود، وأنه مع المرأة العربية قد عاد إلى نفسه من حالة الغربة التى كانت تغمره مع سابقتها، وأصبح يردد دائماً `لقد أعطانا الله أسوأ حكام فى العالم ولكنه أهدانا أجمل نساء الأرض`، بكلمات مكثفة وجيزة يلخص الكاتب خبرة عمره والآلاف من أمثاله فى تموجات الهوية وإخفاقات الروح ثم ينتهى فى سرده إلى النقطة المفصلية الحاسمة، حيث تظفر نوال بالطلاق من زوجها الأول، وتقترن بياسين بعد أن استجابت عن قناعة له فى خلع الحجاب، وواجهت الآخرين بشجاعة وصدق، وشرعا فى بناء حياة مشتركة متناغمة، لكن علاقتها السابقة بالحبيب الأول تؤرقها فتقرر التطهر بالاعتراف لياسين وهى تؤمل أن تكون تجربته الغربية عوناً له على التسامح، لكن رد فعله كان يشبه زوجها الأول الغاشم حيث صفعها بعنف وهجرها بقسوة قبل أن يراجع نفسه على هذا السلوك الذكورى المتسلط الذى يعكس الثقافة المصرية العامة، انتبه إلى الحاجة إلى معادلة اجتماعية جديدة تخرج فيها مصر من سلطة المجتمع الأبوى الفردى لتنبت سلطة جمعية للشعب على الحكام، هنا يمتزج مصير الأبطال بمصير الوطن ويصبح الخاص انعكاساً لقضية المجتمع فى التحول الديمقراطى، كان ياسين يدرك `أن الأجهزة الأمنية تظل تتجاهل القانون والدستور، ولا تعرف غير طاعة أوامر الرئيس، متصورة أن مصلحة الوطن العليا هى بالطبع مصلحة الرئيس، وأن هذا يشكل التحدى الحقيقى للقوى الطامحة للتغيير، فالمجتمع الأبوى لا يرى المجردات مثل القانون أو الدستور أو استقلال القضاء أو حرية الصحافة، ولكنه يرى فقط مقعد الرئيس الذى يسبغ الحصانة على كل من يجلس عليه`، وما يجعل هذا الربط بين وضع المرأة تجاه الرجل وخضوعها لسلطته ووضع الشعب تجاه الحاكم طبيعياً فى الرواية هو أن نوال قررت التخلص من الازدواجية وتسلحت بالشجاعة كى تعترف بإثمها وتقيم مستقبلها بصدق ومشاركة، لكن صلف الزوج منعه فى البداية من الاستجابة، ثم رق وتراجع دون علمها.
رتوش دقيقة:
ميزة المبدع التشكيلى - مثل ياسر شحاتة - فى سرده هى أنه ليس مجرد حكاء يقص طرفاً من سيرته الشخصية، ممزوجة بتأملاته عن المحيط الذى عاش فيه، بل تتمثل فى قدرته على توظيف حساسيته الفنية فى التقاط وتصوير اللمسات المرهفة التى لا يلتقطها غيره، فهو مثلاً يحكى عن تعاطف الرأى العام الغربى مع حركات الاحتجاج ضد الديكتاتورية التى انتشرت فى الوطن العربى، خاصة فى مصر، لكنه يلاحظ أن `هذا سلاح ذو حدين، فهو يمثل ضغوطاً على هذه النظم الاستبدادية، ولكنه يفتح الباب أيضاً للحكومات الغربية للتدخل كما حدث فى العراق، فالأنظمة الديكتاتورية هى الجسر المطلوب للتدخل بحجة حماية الشعوب من البطش وحماية الأقليات، وأن مقولة البابا شنودة بأنه إذا أراد الأمريكان حماية الأقباط فليمت كل الأقباط وليبتعد الأمريكان هى أدق تعبير عن مواقف المصريين الحقيقية`، غير أن الكاتب قد يسرف على نفسه وعلى قرائه عندما يدفعه الحس الوطنى الذى تلهبه الغربة عادة إلى المبالغة الشديدة فى أهمية الدور المصرى على الصعيد العالمى، إذ يقول عن بطله ياسين إنه كان يؤمن بأن سقوط الاتحاد السوفيتى بدأ بخروجه من مصر، وأن ثورة الطلبة فى فرنسا كانت عدوى من مظاهرات الطلاب بعد يونيو، وأن المد الأمريكى فى العالم بدأ بالانفتاح فى مصر، كان يتصور أن موقع مصر فى العالم مثل منصة المسرح اليونانى، عندما يتحدث الواقف عليها يسمعه الجميع فى كل أرجاء المسرح الواسع كما لو كانوا بجانبه، وإذا انتقل المتحدث خطوة واحدة فى أى اتجاه فلا يسمعه أحد إلا من كان بجواره.. مصر فى هذا الموقع. وهذا نموذج للشوفينية المصرية التى يأخذها علينا الإخوة العرب والأصدقاء الأجانب، حيث نتوهم أن الدنيا كلها متوقفة على ما يحدث فى مصر، دون أن نرد أنفسنا إلى شىء من التواضع والحكمة الضروريين. على أن النصف الثانى من الرواية سيشهد انفجار ثورة يناير بعد هذه المقدمات ويحكى يومياتها بدقة من منظور ياسين أولاً، حيث يلتحم بكتلة التحرير ويقدم سجلاً وافياً لأحداثها ومواقفها التاريخية، لكنه يظل من الخارج أيضاً يسمع هدير الثورة ويرصد تأرجح موجاتها بعد اليأس والرجاء كما عشناها جميعاً ومارسنا فيها أعنف درجات نقد الذات والتحرر من الأوهام والمسلمات، لكن التصاق عين الراوى بالأحداث الصغيرة حرمه من اتخاذ البعد الكافى هذه المرة للتحليل العميق أو رؤية المشهد الكلى الملحمى الشامل، فهو قد آثر تتبع الأيام الستة عشر من المد والجزر والتفاصيل التى امتلأت بها حياة المواطنين وتغيرت نفوسهم وتكشفت معادنهم واتجاهاتهم، لكنه عندما أعاد رواية هذه الأحداث من منظور نوال، التى كانت قد كسرت حاجز الهيمنة الذكورية عندما غادرت بيت أبيها عقب تنحى مبارك، ومدت له يدها بالسلام، واضطر الأب إلى أن يعترف لها ضمنياً بحقها فى العيش المستقل دون وصاية رجل آخر، تخلص الكاتب حينئذ من وطأة سرد الأحداث فى الإسكندرية مركزاً على تطور حالة نوال النفسية واستعادتها ثقتها بذاتها وصدحها بالأغانى الثورية فى الشوارع مع رفاق المظاهرات وتخلصها نهائياً من أوهام حبها الأول لشريف بعد كشف زيفه، كل ذلك جعل بؤرة الأحداث تنتقل من الشارع أخيراً إلى التحولات الداخلية للنماذج التى تحيا مواقف محترمة، لكن اللفتة الأخيرة التى يبرزها الكاتب على لسان ياسين بعد اختزال السنة الإخوانية السوداء فى إشارات سريعة، وإعلان السيسى لخارطة الطريق ذات دلالة خطيرة لأنها تبسط للأسباب الحتمية للحفاظ على مدنية الدولة كى لا تذوب عبر الفاشية الدينية ولا تضيع فى غمار السلطة العسكرية، `لأن المجتمع المدنى يسعى بقدر المستطاع إلى أن تنصاع القيادة للجماهير وتعبر عن رغباتها، والجيش ينبنى على أساس أن القيادة هى التى تحكم وتطاع والجماهير هى التى تنصاع`، فمبدأ السمع والطاعة الذى أفشل حكم الإسلام السياسى هو ذاته الذى يتهدد أية سلطة أبوية تحتكر الوطنية أو تنتقص الحريات. الطريف أن مصير نوال يتوازى مع هذا التحفظ وكأنها أصبحت رمزاً لمصر، فقد انتظرت أن يعيدها ياسين بشروطها لعصمته، لكنه عندما تأخر عليها اقترنت بزميلها الثورى الذى كانت تغنى معه فى الشوارع، وأدرك ياسين أنه خسرها لتمسكه بالهيمنة الذكورية التى تهدد المصائر الزوجية والوطنية معاً، واتضح للقارئ أن رؤية الكاتب العميقة لمسار الأفراد تمتزج بشكل تلقائى مع مصير الوطن فى ثورته ومستقبله، فهى رواية مثيرة ذات بعد سياسى غائر، وإتقان شعرى وتقنى بالغ ومحتوى ثقافى وإنسانى رفيع.
صلاح فضل
المصرى اليوم 2015/12/17