- بعد رحلة طويلة فى عالم التجريب بحثاً عن لهجة وأسلوب ، دفع الشعور بالاغتراب الفنان ` شعبان مشعل ` الى العودة الى شاطئ المنبت ، والتجوال فى ريف مصر ودروبها القديمة وأحيائها الشعبية ، يجذبه تعاطف شديد خيوط من شعاع الشمس لتبعث الدفء فى الحوائط العتيقة ، وتنغلق المشربيات على أمجاد ماض عريق ..
- ولا يملك لهذا المناخ الذى يفوح منه عبق التاريخ إلا أن يذكر مستشرقى القرن الماضى الذين جذبهم سحر الشرق الى مصر ، وانتشروا فى ربوعها يسجلون بأمانة فائقة كل ما تبقى من حضارتها، وموثقين أيضا مظاهر الحياة فى تلك الحقبة التى كانت بالغة الثراء وتفرَد الشخصية ..
- فى مواجهة هذا المسرح الزاخر بأمجاد مصر وروائع فن المعمار ، وقف الفنان مشدودا بنفس الانبهار ، وان اختلفت علاقة الفنان المستشرق بالمكان ، عن علاقة الفنان ابن البلد الذى يشعر بانتماء وثيق الى المكان وأهله ، وباحساس عميق بالوفاء للعمائر القديمة ، وباحترام شديد لكل ما تعكسه من معان وقيم حضارية .
- كان الفنان يحسن اختيار الزوايا التى يلتقط منها مناظره ، وكان يضفى عليها من انفعالاته العاطفية ما يحيلها الى ما يشبه ` ديكورات ` المسرح التى تغمرها أضواء مفعمة بغموض سحرى يخفف من واقعيتها الشديدة ..
- ولعل هذا ما أوحى الى الفنان أن يدفع تجربته الواقعية خطوة أخرى للأمام ذات عبق ` سيريالى ` خفيف ، متجاوزا الواقع ` الطوبوغرافى ` الى ما ورائه ، مضيفا بذلك التجريب الجديد بعدا نفسيا يختلف تماما عن البعد البصرى الذى تحكمه قواعد المنظور والخصائص المعمارية الجامدة ..
- وكما تتوالى الدوائر والحلقات عندما نلقى بحجر فى ماء البحيرة ، كذلك تتوالى نتائج الولوج فى هذا العالم السرى لتكشف عن حلقة جديدة تتسم بالشاعرية نتيجة للمصاهرة الذكية بين أطلال الفنان ` شعبان ` وأطلال الشاعر ` ابراهيم ناجى` حين يلتقى الفنانان عند هذا البيت :
اعطنى حريتى أطلق يديا اننى اعطيت ما أبقيت شيا
- اذ يوفق الفنان فى ايجاد ذلك التناقض الدرامى العنيف بين الفجوة المضيئة التى تخترق حائط السجن المصمت ، والطاقة الأثيرية التى تأخذ شكل الانسان الحبيس لحظة تحرره من اغلال السجن وظلماته ليذوب فى فضاء الحرية اللامتناهى ..

حسين بيكار