فئران التجارب البصرية لا ترى صورها في المرآة
استضافت مؤسسة ` مدرار` للفنون في القاهرة معرضاً للفنان المصري علاء عبدالحميد تحت عنوان ` فئران التجارب البصرية `، وهو معرض أعمال مركبة وتجهيزات في الفراغ، يمثل تجربة مختلفة من نوعها ضمن سياق تجارب عبدالحميد الفنية.
هذه التجارب التي اعتمدت في مجملها على ما ينتجه من مجسمات معدنية يستخدم في صَوغها أنواع مختلفة من الحديد والخردة المهملة، يوظفها في تشكيلات فنية تبدو خلالها تلك المجسمات المعدنية كبشر أو كائنات منحوتة ببراعة لا تخلو من المبالغة. في المعرض لم يأت علاء عبدالحميد من تجربته هذه مع الخردة سوى بمجسم واحد صغير ألصقه بجوار إحدى المرايا، أما بقية القاعة ملأها بمساحات مختلفة من المرايا المصقولة التي عكست الصور والحركة داخل المكان، وقدمت للمشاهد فرصة المشاركة في العمل كجزء لا يتجزأ منه. واستعان عبدالحميد بأجهزة ضوئية تصدر خطوطاً مضيئة ملونة تخترق صفحة بعض المرايا، وتقفز من مرآة إلى أخرى، بينما يحاول الزائر ملاحقة هذه الصور المتكررة لنفسه وهو يتجول بين القاعات، يتأملها أحياناً، أو يحاول الاحتماء من تكرارها الرتيب.
لكن ماذا يعني الفنان بفئران التجارب البصرية؟ ربما نجد في كلماته التي تضمنها المنشور المصاحب للعمل ما يفسر بعض هذه التساؤلات؟ فحسب كلماته التي تضمنها ذلك المنشور يرى الفنان أنه بعد أن كانت الحروب الباردة تستخدم بين الأنظمة قديماً كوسيلة للبقاء، أصبحت مرجعاً يطبق على الشعوب من خلال وسائل إعلام سمعية وبصرية ترعاها الأنظمة التي تعمل على وضع الجمهور نصب أعينها، بل وتحاول أيضاً ضمه إلى صفوفها من طريق التكرار في القول والرسائل البصرية التي يتم تخزينها تلقائياً في عقل الجمهور.
ويرى عبدالحميد أيضاً أن التأثيرات الناتجة من هذه الممارسات تتفاوت من شخص إلى آخر وفقاً لميوله ودرجة وعيه، فإما أن ينساق أو أن يرفض أو أن يتخبط عقله بين التأويلات المختلفة للمعلومات المطروحة أمامه والتي تختلف تبعاً لأهواء مصادرها، أو يأخذ القرار الأكثر صعوبة وهو نقاشه لذاته.
نحن إذاً المقصودون بالفئران هنا، فيما السلطة، كما يقول الفنان، تجري تلك التجارب من أجل ترويضنا أو إخضاعنا. هي دائرة مغلقة تسيطر عليها السلطة، قوامها هو كل ما أتاحته التقنية الحديثة من وسائل الإعلام سمعية وبصرية.
تبدو الوسائل البصرية هنا هي الأكثر تأثيراً، هي التي تعتمد عليها السلطة على نحو أوضح في سياق رغبتها في السيطرة وتوجيه العقول. وسائل الإعلام هي أشبه ما يكون بالتجارب البصرية التي تجريها السلطة، هي أحد المحركات الأساسية للرأي العام، وهي التي تتحكم بالآراء الجماعية للمواطنين. حتى هذا الحراك الذي نراه في الشارع، قد يكون موجهاً ومدفوعاً هو الآخر من السلطة لتحقيق مآرب ما، فذلك الضغط البصري اليومي يدفعك لا محالة إلى التشكيك في كل شيء، وقد تدرك إزاءه أن للحقيقة أحياناً ألف وجه.
في ذلك العمل الذي يقدمه علاء عبدالحميد تعكس المرايا المعلقة على الجدران كل ما يدور داخل القاعة، وتحقق معادلاً بصرياً مباشراً لما تحدثه وسائل الإعلام من تأثير. ربما أراد الفنان أن ينقل صورة موازية لما يحدث في الواقع، وأن نواجه ذواتنا المشوشة بفعل ذلك التأثير الإعلامي الذي تتسابق الأنظمة والحكومات على استخدامه سلاحاً وقوة نافذة في أغلب الأحيان كي تعوّض شيئاً من ضعفها.
إلى جانب المرايا المعلقة، وزعت داخل القاعة بعض الأشكال الزجاجية الهرمية المثبتة على حوامل خشبية. وهي تحمل في طياتها بذرة هذه التجربة البصرية برمتها، فهي التي أوحت للفنان في البداية بفكرة العمل كما يقول. هذا الشكل الهرمي بتعقيداته وحساباته الهندسية المتقنة هو رمز للقوة والمعرفة اللتين بلغتهما الحضارة المصرية. وهنا يجد الفنان نفسه في مواجهة هذا السؤال: ماذا لو استمرت تلك الحضارة من دون انقطاع، ومن دون أن تلوثها أي رواسب أخرى؟ ماذا كان يمكن أن يحدث لهذا الشكل الهرمي في عصرنا الحاضر؟ وضع علاء عبدالحميد كل تخيلاته الذهنية في تلك الأشكال من أجل الإجابة عن هذا السؤال.
وربما كانت المرايا التي كست تلك الأشكال الهرمية هي انعكاس لنفس الفكرة، وتطور لها، إنها فكرة التجارب البصرية نفسها، فالبناء الهرمي هو فكرة دعائية بصرية في حد ذاتها، ربما ابتكرتها السلطة في حينها من أجل إلهاء الناس عما يعانونه، أو يتكبدونه في حياتهم. وَهمُ المشاركة في بناء صرح الملك قد يحقق مبتغاه. الصرح المهيب يتقاسم هيبته البصرية مع الحاكم، يلقي بالرهبة في قلوب الناس، يدفعهم إلى الاعتقاد بوجود ذلك الحق المقدس في الحكم وفق المعتقدات المصرية القديمة.
ياسر سلطان
الحياة - 2014