شفافية الرؤية واستثارة الوجدان واكتشاف الحقيقة فى أعمال الفنان أحمد عبد العزيز
-الفنان أحمد عبد العزيز هو ابن البيئة المصرية بكافة جوانبها، ثقافته الأولى موجهة فى حب مصر من خلال البيوت والناس والآثار والحقول، ولد فى بلد يطل على النيا وكانت الأشجار والنخيل من حوله، البسطاء هم القاسم المشترك فى كل انفعالاته وصنعت وجدانه الذى تفتح على أن هناك قضية يجب أن ينتصر لها وهى البحث عن حقيقة، حقيقة ما ، يبحث عنها ويشعر بها فى الظلمة ويتأملها فى النور، وهى قضية تشغله حيث أنها سمة من أهم سمات فن النحت فى البحث عن الأشياء ككيان فى المدرسة تميز بانشغاله بالطبيعة من خلال تأمله فى الناس والنيل والأشياء، يفتش فى كل شىء، وتدرج حتى التحق بكلية الفنون الجميلة بعد أن أقام معرضاً شاملاً لأعماله فى الرسم والتصوير والنحت فى نادى الموظفين بالمنوفية وافتتحه أحمد سلطان محافظ المنوفية أواخر عام 1967وكان هذا المعرض بمثابة اكتشافه حيث أن المتلقين أبدوا دهشتهم وتم تقييم الأعمال بشكل لم يكن يتصوره، حينئذ تأكدت لديه القضية المتمثلة فى البحث عن حقيقة ما، وكلما يظهر طرف منها يشده لرؤية بقية أطرافها. فى الكلية التحق بها وسط فرحة أصدقائه واساتذته ومن شجعوه الذين يدين لهم بالولاء فى دفعه بالإتجاه نحو الخط الصحيح، وكانت كلماتهم ومناقشاتهم مجرد الباب العظيم للعالم السحرى، بهذا الرصيد التحق بالكلية التى كان يحكمها أساطير الفن ولحسن حظه أنه حظى بالإهتمام من خلال تميز من الفنانين : جمال السجينى وصبحى جرجس وحامد ندا وأحمد عثمان وحسنى البنانى وعبد الله جوهر وعبد العزيز درويش وعز الدين حموده وحسن صادق وصلاح عبد الكريم وممدوح عمار ليتخرج فى الكلية بامتياز ويبدأ مشواره معيداً بها، لتتجسم آماله للسعى والبحث وأصبح عليه عبء الاستمرار فى كشف الحقيقة الكامنة وراء الأشياء، وقننتها قراءاته واطلاعه الدائم ومشاهدته الأحداث الثقافية ودراساته المتعمقة فى الطبيعة والكون، الطبيعة بكل مكوناتها ودقائقها هى عشقة الأول لأنه يعلم أنها أم الأشياء تلك الأشياء التى تندرج تحت مظلتها الحقيقة المتوارية، سعى من خلال اطلاعه ودراساته إلى البحث داخل تلك الأشياء والوصول إلى جوهر التعبير، فكانت رسالته للماجستير بعنوان : ( النحت بين العضوية والمعمارية ) حول تفسير وتحليل الأشكال والتفاعلات والتكونات فى الطبيعة وعلاقاتها بالإبداع النحتى المتصاعد، ولولا هذا التدقيق فى البحث لما استطاع الفنان أحمد عبد العزيز أن يجد لنفسه مكاناً فى حركة النحت المصرى المعاصر! وأصبح الإبداع لديه متصلاً بشفافية الرؤية لما يحدث على صعيد الإبداع العالمى، والسعى وراء إيجاد وتوطيد أركان انطلاقة فن النحت المصرى المعاصر على أهداف واضحة ورؤية مستنيرة، وفى بحث الدكتوراه عن : ( الإبداع فى فن النحت الحديث بين الحرية والإلزام ) سعى الفنان نحو تقنين هذا الانطلاق نحو اكتشاف الحقيقة بحيث لاتكون نوعاً من التجمد أو الشطط ، وأصبح التزام الفنان ووعيه العميق بما يؤدى من ( فعل إبداعى ) يتميز عن الفعل البيولوجى ( التنفيس ) وزامل هذه الدراسات تكون ونضوج تجربة الفنان الإبداعية التى تمت بدون افتعال، فكانت المرحلة الأولى والتى بدأت بعد التخرج عام 1974 مستكشفة للقيم النحتية ومحاولة استثارتها من خلال البحث التقنى والمهارى فى الخامة ، ثم تبعتها المرحلة الثانية التى بدأت فى أوائل الثمانينيات وهى محاورة الكتلة مع الفراغ محاورة تخرج عن سياق ما كان يتبناه الفنانون النحاتون فى ذلك الوقت، وكانت ذروته فى تمثال عروس البحر الذى فاز بالجائزة الأولى فى المعرض العام سنة 1983 والذى حاز اهتمام الفنانين والنقاد وجماهير المتذوقين وحسبوه نقطة تحول إيجابية فى منظومة العلاقة بين الكتلة والفراغ والتعبير والشكل والأداء والملمس فى النحت المصرى المعاصر .
- لقد فتح هذا العمل وأتاح للفنان أحمد عبد العزيز منظوراًَ جديد نحو التجربة الإبداعية فى العمل النحتى دون الوقوع فى أسر القولبة التجريدية المتعارف عليها أو العشوائية الممجوجة، وأصبح هدفه يتركز فى إحداث التوازن الكامل بين تحرر الكتلة واندفاعها وسيطرة الفراغ وتغلغله وعمق التعبير وجدارته، حتى يتم التجانس والانسجام فى تلقى العمل النحتى الجديد ليضيف رؤية أخرى جديدة لمفهوم العمل فى التكوين الإنسانى، وأصبحت العلاقة بين التبسيط والاختزال والاكتفاء الممتزجة ببعض الحسابات المعمارية والهندسية التى تؤكد الموسيقى الداخلية وفيضان التعبير داخل العمل النحتى مما جعل إخراج الفنان للكتلة أكثر صرامة وأكثر صرحية، هذا ما يؤكده تمثال (إنطلاقة) الذى فاز بجائزة بينالى القاهرة الدولى الثانى عام 1986 ثم تمثال ( اتزان وجدانى) الذى حصل به على جائزة الشراع الذهبى فى بينالى الكويت الدولى 1987، ثم تلتها المرحلة التى أضاف فيها الفنان عمقاً جديداً للعمل النحتى حيث استمر اهتمام أحمد عبد العزيز بقضيته علاقة الملمس المتغير بالحركة الداخلية وتأثيرها على الطاقة المنطلقة من العمل المنحوت وأصبحت القيمة التعبيرية للعمل مستمرة من تآلف وتجانس عناصر ثلاثة طرح الإنشائية الجسمية الجديدة ( الكتلة ) ثم انطلاق هذه الكتلة لتنمو فى فراغ هو جزء من فراغ كونى لانهائى يضفى الفنان على هذه الكتلة صفات صوفية كونية تلامس الحقيقة التى يبحث عنها، وكان لزاماً عليه الاهتمام الأقصى بقضية الملمس الذى يطبع شخصية العمل ويجعله يتحدث بلغة أكثر خصوصية، وكانت ذروة مشاهداته وإطلاعه على إبداعات الفن العالمى والذى تمثله رحلة الحضارات المختلفة، وكذلك إنجازات الفنانين فى العصر الحديث من خلال زيارات الفنان للمتاحف العالمية وقاعات العرض الكبرى فى رحلات متعددة إلى إيطاليا وفرنسا وكذلك من خلال المنحة العلمية بإنجلترا عامى 1974، 1975 .
- تلك هى تجربة الفنان أحمد عبد العزيز الخاصة ورحلة بحثه وراء القيم التى تجعل من عالمنا عالماً يتمتع بالحق والعدل والجمال تلك الرحلة التى تخللت فيها طرقاً خاصة بحثاً عن الحقيقة. وعن القيم العظمى للنحت يقول الفنان : إنها التى تتكافأ مع بعضها وتتعضد مثل سداسية بيوت النحل، فالعمل الفنى عبارة عن تصادف قصدى من الفعل الإبداعى للفنان بحيث يستطيع أن يجمع بأسلوبه الخاص ما بين تنافرات وتوافقات خاصة بحيث يجعل مما فى حكم المستحيل شيئاً ممكناً، والطبيعة بكل أحداثها وجزيئاتها يمكن أن تكون أشياء لامعنى لها إذا وضعت فى غير مواضعها، ولكنها بفكرة الفنان وفكرة وأدائه الإبداعى ووعيه وثقافته يمكن تجعل من الحدث البسيط شيئاً مهماً فى إطار العمل الفنى،والعكس بالعكس، بحيث أنه يمكن لفنان كا أن يحيط العملية الإبداعية والإنطلاقات التخيلية والمهارات الأدائية المتوافقة فى وعاء كل خامة، حتماً سيصيب القيم الجمالية بالإنهيار، وعلى هذا يمكن للقيم أن تبدو فى العمل الفنى كقيم الانسجام والاتزان والإنطلاق والتماسك والإنبثاق وغيرها أن تبدو متميزة وغير منطقية وقلقة وتبدو كما لو كانت غير مكتملة وتسبب الحيرة والتفكك وانفصال المتذوق والمتلقى عن الاتساق مع الطبيعة والحياة، أما حين يحكم الفنان بقدراته الإبداعية المتميزة - يضيف الفنان أحمد عبد العزيز - سير الفعل الإبداعى بحيث يجعل هناك انسجاماً وتكاملاً واستقرار الإيقاع وتجانس هذا مع التعبير المقصود ومراعاته لتوافق كل هذا مع وعاء الخامة المناسبة لذلك وإجراءاته فيها سوف تبدو القيم وقد سطعت من خلال العمل فى أقوى وأوضح وأنفع صورة، وتصبح من القيم العليا وذلك لأنها تعيد لنا أتساقنا مع الطبيعة وانسجامنا مع أنفسنا ومع الحياة وتجعلنا أكثر اقتراباً من الحقيقة المتواربة، وهنا نطلق على العمل أنه عمل عظيم ويحمل قيماً عظيمة .
محمد الناصر
مجلة نصف الدنيا أكتوبر 2010