عبد الغفار شديد عبد الغفار
الفنان المبدع والعالم الأثرى
- لقد ولدت الأسطورة منذ أقدم العصور على أرض مصر .. وتداولها المصريون جيلا بعد جيل لدرجة أنها اختلطت بدمائها وتغلغلت فى أسلوب حياتهم ... وتتربع أسطورة ` إيزيس وأوزيريس ` فوق قمة الرمزية التى تشير الى الخير والشر بكل صوره ، ورسخ هذا الرمز فى ضمير الشعب بجميع طبقاته بصور مختلفة ، وثبتته الأديان السماوية التى تعاقبت على أرض مصر بإعتبارها صورة رمزية للعلاقة الأبدية بين الأرض والسماء .
- وتتفاعل هذه النظرة الميتافيزيقية فى عقل ووجدان الفنان ` شديد ` لتسفر عن رؤية تشكيلية أصبحت تشكل القاسم المشترك فى معظم أعماله .. فهو يرى أن العلاقة الأبدية بين فوقية السماء وتحتية الأرض لا ينبغى أن تفصلها حدود مقحمة لأنهما ثنائيان أحاديا العلاقة ، فهما نبض الحياة ، والفيض الذى يمد الوجود بالتفاعل الأبدى بين الأضداد فى جميع مرافق الحياة سلبا وإيجابا .
- وعلى الأخص .. الفن .. حيث يختفى الفوق والتحت من ساحة اللوحة ، وينحسر خط الأفق ونقطة التلاشى ، ويتوارى العمق المنظورى الذى كان من أهم اكتشافات التصوير الأوروبى فى أزهى عصوره .. ويصبح الكون فضاءا شاسعا تسبح فيه الكائنات حسب إقرارها ، ولا يبقى إلا بعد ميتافيزيقي واحد تحلق فيه النظرة الجوانية التى يطيب لها التجوال فيه لأنه مناخها الطبيعى المتحرر من أسر الزمان والمكان ، وهو المعتقد الأساسى للمصرى القديم منذ سكن ضفاف النيل .
حسين بيكار
رحلة العبور إلى الأبدية فى لوحات الفنان عبد الغفار شديد
- يسدل التاريخ غلالته الترابية على لوحات هذا الفنان، فيكسبها غموضا ورهبة، ويضفى عليها الزمن الاغتراب الطويل عن الوطن أطيافا عاشت بمصر منذ آلاف السنين، لتنفلت من أسر الزمان والمكان والجاذبية الأرضية، محلَّقة فى الفضاء الكونى، يختلط الحاضر فيها بالماضى.. الخيال بالواقع.. السحر بالحقيقة.. السماء بالأرض.. فتبدو اللوحات مثل موجات أثيرية تنبعث من كهوف ذاكرة الانسان الجمعية، لتطل علينا كحلم شفيف، عبر رحلتها نحو الأبدية..
- هذا هو المذاق الأول لأعمال الفنان المصرى `عبد الغفار شديد` بعد أن عاش فى ألمانيا الغربية بعيداً عن وطنه عشرين عاما، لكنه حمل هذا الوطن فى أعماقه خلال تللك السنين : أغنية حب وألم .. وتحول هذا الوطن من خلال الفن إلى عقد غير مكتوب للتصالح بين شقى ذاته المنقسمة.. بين الحنين إلى دفء الأهل، ومشاركة بنى الوطن فى السرَّاء والضرَّاء، والتزود بزاد متصل من حضارة الأسلاف العظام.. وبين الولاء لحضارة الغرب التى منحته الحرية والاعتراف والزوجة.. ورأى من خلالها تقدم الإنسان..
- هكذا أصبح (الوطن -الفن) عاصمته الدولية، وعاصمه الأمن من الاحتراق فى هجير منفاه الاختيارى.
- وقد أقيم مؤخرا معرض شامل لأعماله فى متحف الفن المصرى القديم بمدينة `هيلدز هايم` بألمانيا الغربية، استمر ثلاثة أشهر، تحت عنوان `الماضى كحاضر`، وأعطى الانطباع للمشاهد الأوروبى باستمرارية عطاء الفن المصرى القديم من خلال أعمال هذا الفنان.
- ولقد عرفنا العديد من الفنانين المصريين الذين اغتربوا بأوروبا عشرات السنين، منهم من تركوا علامات هامة فى الفن المصرى المعاصر، مثل الفنان الراحل حامد عبد الله، والفنان المعاصر آدم حنين، وعرفنا أيضا عشرات الفنانين المصريين الذين عاشوا بأوروبا فترات متصلة أو متقطعة، للدراسة أو الاكتشاف أو الإقامة، ثم عادوا إلى الوطن ليستأنفوا رحلة الإبداع، فى شبابهم أو كهولتهم، ابتداء من جيل الرواد (مختار- ناجى- سعيد- كامل- عياد)... إلى جيل الوسط (مثل يونان والجزار ورافع...).. إلى الأجيال التالية حتى اليوم. ورأينا أن أغلبهم اتسم بالازدواجية الثقافية والإبداعية (بين الثقافة الأوربية والثقافة المصرية).. وكانت هذه الأزمة تذوب أحيانا (بالزواج السعيد) بين الثقافتين.. (وإن كانت لا تنتهى به)، وهو ما نلاحظه فى تراث معظم جيل الرواد... وأحيانا أخرى كانت تصل إلى استيعاب للفنان المصرى وإذابته داخل المعدة الأوروبية، ومن ثم: إلى القطيعة التامة بينه وبين الثقافة المصرية وتراثها العريق... وأحيانا ثالثة كانت الأزمة تصل بالفنان المصرى إلى عكس هذا الاتجاه، فيرفض تماما الثقافة الأوروبية، وينغمس فى خزائن الحضارات المصرية، يحاكيها بشكل نمطى خال من الابتكار أو الإضافة... وهى توجيهات تمثل -على اختلافها- وجوها لأزمة واحدة، مازالت تمسك بخناق الفنان والمثقف المصرى حتى اليوم.. أزمة البحث عن هوية مستقلة.
- وفى اعتقادى أن تجربة `شديد` قدمت نموذجا جديرا بالاهتمام لحل هذه الأزمة، ليس لكى يكون صالحا لاتخاذه مثلا يحتذى -ذلك أن الفن إبداع شخصى غير قابل للاحتذاء- ولكنه يشير إلى منهج فى البحث الفنى، لم يتعمد `شديد` الوصول إليه وتقنينه، وربما كان نجاحه فيه راجعا إلى غياب هذا التعمد أو (الحذق المهنى) اللذين يضران بالعملية الابداعية أكثر من أى شئ آخر.
- إن `شديد` -الذى لم ينقطع منذ ربع قرن عن دراسة علم المصريات وعن التواصل الروحى مع الفن الفرعونى أو الطبيعة المصرية فى الريف والصحراء -اختزن فى داخله فكرة (العبور الأبدى) بين عالمى الدنيا والآخرة، وهى ما تقوم عليه فلسفات الأديان كلها ابتداء من مصر القديمة حتى الاسلام، وتبعا لذلك اختزن أيضا مفهوم التسليم القدرى من جانب الانسان للقوى الغيبية، وآمن بالنظام الهرمى الراسخ للطبيعة والحياة والفكر، الذى يصل فى ذروته إلى الوحدانية (فى الفكر المصرى القديم)، أو إلى التوحد مع الوجود (فى الفكر الصوفى الاسلامى).. وفى سياق هذا التيار الفكرى، الذى امتزج بوجدان فناننا الآتى من قرية صغيرة بدلتا النيل، بكل موروثها الأسطورى والميتافيزيقى، لا يصبح للزمن أو للمتغيرات المادية أو الأحداث الجارية وزن يذكر، بل تصبح الحياة وحدة متكاملة شبه ثابته عبر الزمان والمكان، وتتحدد فى قطبين للصراع بين الخير والشر، وقطبين للوجود بين الحياة والموت، ويتقلص دور الذات الفردية للإنسان، ليتضخم دور الذات الكلية المهيمنة على الوجود.
- هذا هو (تيار المياه الجوفية) الذى يسرى فى أعماق `شديد`، أو على الأقل فى نسيج لوحاته، دون افتعال أو قصدية، وهذا فى ظنى هو المعَبر الذى عبر فوقه بسلامة (من الغرب إلى الشرق - وبالعكس) فلم يصب بالازدواجية كما أصيب بها الفنانون المصريون السابقون على تجربته أو المعاصرون لها.. إنه ببساطة لم يفكر فى `الأسلوب` تفكيرا مستقلا عن الفكر الذى يقوم فوقه عالمه، وإنما طرح الأسلوب نفسه كانعكاس طبيعى لحوارياته الميتافيزيقية.
- من ذلك مثلا أن النور - الذى يشكل عنصر رئيسيا فى أسلوبه -لا يشع من مصادر واقعية أو أكاديمية، كما يتم فى المراسم، بل هو نور ضبابى مبهم المصدر، أو قل إنه يشع من ذات الخالق أو الخليقة، أو من ذات الفنان التى ذابت فى (النور المصرى) الذى يُرى بالبصيرة.
- ومن ذلك أيضا: أن الشكل الهرمى، والتكوين الثلاثى المقاطع أو المشخصات، يمثلان عنصرين أساسيين فى عديد من اللوحات.. والهرم كما نعلم يتسق مع فكرة تجمع أشعة الشمس - مصدر الوجود والقوة- فى نقطة محددة عند القمة، تمد أطرافها إلى كل الوجود وتحتويه، فضلا عن أنه أكثر الأشكال الهندسية استقرارا وملاءمة للأبدية.. أما الثلاثية أو `الثالوث` فهى فكرة محورية فى الديانتين المصرية القديمة والمسيحية.
- كما تتردد فى لوحاته عناصر معينة مثل قارب الشمس، والمرأة المسترخية (وهى مستوحاه من إلهة السماء`موت`)، والشمس والقمر، والسحب المنسابة بنعومة مثل أنهار سماوية من اللاذورد.. وكلها وحدات تجسد رحلة العبور بين الليل والنهار.. وبين الحياة والموت.. من منظور الأساطير المصرية القديمة.
- ولا يعنى ذلك أن كل من يستخدم هذه الرموز فى فنه ينجح فى التعبير عن الروح الأسطورية المصرية، حيث لا يقتل الفن أكثر من المصطلحات الجاهزة والرموز الشائعة. وكم رأينا أعمالا فنية ابتذلت فيها مثل هذه الرموز حتى أصبحت تذكارات سياحية.. لكن `شديد` قد تعامل معها تعاملا بالغ الرهافة والشاعرية، من منظور غير نمطى، وجعلها تذوب وتتلاشى فى النور والضباب، فكأنه أقام بيننا وبينها حاجزا وهميا يوحى بالزمن والأبدية.
- ومن بين الموضوعات التى تلح عليه بين حين وآخر، موضوع آدم وحواء، والجنة المفقودة، وما يحيطه من جو يصاحب فكرة الخطيئة الأولى لآدم بأكله للتفاحة المحرمة، وهبوطه إلى الأرض.
- وتسيطر على `شديد` فكرة الكنوز المدفونة داخل الأرض، تبدو فى شكل مومياوات وقوارب وتماثيل وحلى من حضارات متعاقبة، توجد داخل مقابر أو تجاويف صخرية أو خانات منتظمة فى مربعات هندسية لا نهائية العدد..
- ولأنه مغرم بهذه التقسيمات الهندسية، نراه فى بعض اللوحات يرسم صورة داخل الصورة، محددة بمستطيل مستقل عن اللوحة الأصلية، فيبدو كنافذة إضافية تطل إلى الأعماق، تخلق رؤية مزدوجة فى خطين متوازيين داخل اللوحة الواحدة.
- والتكوين فى لوحات `شديد` ثلاثى الأبعاد، وكذلك الأشخاص والأشكال المجسمة، التى لا يعمد إلى تحريف نسبها أسوة بمدارس الفن الحديث، لكنها بالرغم من ذلك لا توحى بالمحاكاة الواقعية، أو حتى تستلفت كثيرا نظر الرائى، ليرى ما إذا كانت مجسدة أو مسطحة.. ذلك أن الجو الأثيرى الذى يغلفها جميعا قد أذاب التفاصيل والمعالم وأصبحت أقرب إلى الهمس الشعرى.
- أما اللون.. فإن الأصفر الذائب فى الرمادى والبرتقالى، والأزرق الفضى المتدرج حتى العتمة، يلعبان البطولة اللونية فى معظم اللوحات، وهما حميما الصلة بالمناخ الصحراوى وبالجو المصرى الأسطورى الذى تسبح فيه كائناته.. إنها ألوان شفافة شديدة النعومة، حتى أنك لا تجد فيها أثر للمسة فرشاة، وكأنها وضعت بطريقة `البخ`، لكن هذه النعومة وتلك الشفافية كانتا العامل الحاسم فى إضفاء الجو الأثيرى الذى أشرت إليه.
- ماذا أخذ شديد -إذن- من الفن الأوروبى؟.. نستطيع أن نلاحظ أنه استوعب كل المدارس والاتجاهات وتمثلها ثم نحَّاها جانبا.. فأعماله قبل عام 87 توحى بالعديد من التأثرات بهذه المدارس -خاصة السريالية والتعبيرية- كما توحى بحيرته بحثا عن أسلوب خاص، لكن أعماله الجديدة -التى تنتمى غالبا إلى عام 87- تؤكد أن هذه التأثرات أصبحت خلفية بعيدة، أو بطانة لا تكاد تحس، لرؤيته التعبيرية والجمالية.
- وهذا ما يجعلنا نترقب باهتمام تجاربه القادمة، التى سوف تحكم على مدى عمق هذه الرؤية التعبيرية والجمالية فى إبداعه، وفى ظنى أن `شديد` قد نجح فى أن يحرر أعماقة من المخزون الحضارى الميتافيزيقى المتوارث، الذى كان يجثم على مخيلته ووجدانه ، والذى يعد خلاصة لتخمر مشاعر الغربة والحنين الرومانسى، ولخبرات الدراسة الأكاديمية والمنهجية فى علم المصريات، بعد أن أخرجه إلى النور فى شكل لوحات هى -بالرغم من جمالها وصدقها- تعد بداية المطاف- وليس نهايته- بالنسبة إليه.. وقد نأمل فى أن يطل علينا فى معرضه القادم برؤية عصرية تتجاوز مصر الماضى إلى مصر الحاضر التى تتغير مع الأحداث والزمن.. وليست مصر التى يجب أن يراها المثقف الأوروبى فى `برواز` مذهَّب بكنوز التاريخ.. كما قرأ عنها فى كتب الحضارات.
بقلم : عز الدين نجيب
مجلة : إبداع ( العدد 5 ) مايو 1988
إستلهام الحياة الشعبية مع فنانى مصر فى المهَجَر
عبد الغفار شديد 1938
- كلما سنحت الفرصة، تفتح `المصور` نافذة يُطلُّ منها فنانو مصر - من رسامين ومثّالين وتشكيليين - على أقرانهم وروادهم، الذين غادروا أراضينا إلى بلاد بعيدة منذ ردح من الزمان. هاجروا ورفعوا هامتنا عالية فى ثقافات أكثر تقدماً بينهم الرسام الملون: حامد عبد الله (1917-1985) الذى عاش ومات فى باريس. والرسام المثّال سيد درويش الذى يحيا فى بلوبير شمال غرب باريس. وجورج البهجورى الكاريكاتير المعروف، الذى يفوز بالجوائز الدولية بين الحين والحين. وأحمد مرسى الرسام الملون والشاعر والأديب المقيم فى مدينة نيويورك..
- أفسحت المصور صفحاتها لتلقي الضوء على حياة وأعمال هؤلاء الأخوة، ومازالت تتابع خطواتهم وترصد نجاحاتهم لتوثق الروابط بينهم وبين حركتنا المرئية المحلية إلا أن قائمة طيور الفن المهاجرة تحفل بأسماء كثيرة، سنوالي استعراض نشاطاتها وإبداعاتها وإسهاماتها في ركب الثقافة العالمية بأسم مصر، وبين أيدينا الآن نخبة من اللوحات الزيتية ومستنسخات الطباعة على الحجر للفنان عبد الغفار شديد، أستاذ تاريخ الفن المصري القديم وجمالياته في جامعة ميونخ بألمانيا، حيث يعيش منذ ثلاثة وعشرين عاماً.
- كانت مصر ومازالت منذ مطلع القرن، ملاذا للفنانين من أركان العالم العربي يلوذ برحابها المطربون والموسيقيون والصحفيون والأدباء والشعراء. يفد إليها البعض لبضع سنوات، قبل أن يواصل الرحلة إلى الخارج، مثل الشاعر اللبناني الأشهر: أبو ماضي (1889-1957) الذي أتى إليها في الحادية عشرة، قبل أن يكمل الطريق إلى أمريكا في الثانية والعشرين، حيث ألتقى بمواطنيه ميخائيل نعيمة وجبران خليل جبران وآخرين.
- لم يرصد المراقبون هجرة الموهوبين المصريين، من الرسامين والمثالين إلى أوروبا وأمريكا، طوال النصف الأول من القرن. والهجرة كما نعلم، تكون إلى ثقافات أكثر تقدماً. ويسجل التاريخ الحديث نموذجاً نمطياً لهذه الظاهرة، في فترة السلام التي تخللت الحربين العالميتين (1918-1939)، حيث نزح إلى باريس رسامون ومثّالون من أنحاء أوروبا، أطلقوا على أنفسهم: مدرسة باريس لا يختلف اثنان على أن هؤلاء المهاجرين، هم بذرة الحداثة الفنية في أوروبا كانت البدايات من قلبهم في فجر القرن، على يد الرسام الروسى فاسيلى كاندينسكي (1866-1944) فى برلين وجماعة الفارس الأزرق.
- يتمّيز المهاجرون عادة بصفات خاصة ليس هذا مجال ذكرها لكنهم دعاة تغيير من حيث إنهم حَمَلَة ثقافات مختلفة، كما يتحلون بمواهب فذة، غالباً ما ينكرها عليهم مجتمعهم فتكون سبباً في هجرتهم. ويُعتبر الرسام الملوَّن عبد الغفار شديد المهاجر إلى ألمانيا مثالاً واضحاً لهذه الحالة، إذ أنه من أبرز الفنانين المصريين قدرة وموهبة، وأوسعهم ثقافة ومعرفة. إنغممس فى الرسم والتلوين منذ عرف كيف يمسك الأقلام والأوراق، والفراجين والألوان. كان يعبث بها وهو بعد فى الثالثة، فى قرية كفر فرسيس ذات الألفي نسمة، من أعمال مدينة بنها قليوبية. لم يغادرها إلى القاهرة قبل العاشرة، ليلتحق بمدرسة العباسية الإبتدائية سنة 1948 ويبدأ مشواره الأكاديمى مع فن الرسم والتلوين، على أيدى مدرسى التعليم العام، الذين تنبوه على التوالي، ووضعوه على رأس جمعيات الرسم المدرسية، وكانت لوحاته المائية والزيتية، تزين حوائط المدارس التي ينتقل إليها، وبخاصة في المناسبات الوطنية والأعياد. وحين أنهى المرحلة الثانوية سنة 1957، كان متمكناً من أدوات الإبداع خبيراً بالمهارات الأساسية اللازمة للصياغة الفنية، وكان إلتحاقه بقسم الرسم والتلويم في كلية الفنون الجميلة، استطراداً لعمل عشقه طوال حياته، وكان امتيازه مع درجة الشرف طوال السنوات الخمس التي قضاها في الكلية، وفى مشروع البكالوريوس سنة 1962، أمراً عادياً لا يدهش أحداً من المحيطين به، أساتذة كانوا أو طلاباً.
- شهدت القاهرة لوحات عبد الغفار سنوياً بأنتظام في معارض فردية وجماعية، منذ عام 1958 وهو بعد طالب فى الكلية في العشرين من عمره حتى سنة 1966، التي فاز فيها بجائزة معرض الطلائع وكانت السفر إلى أوروبا، في رحلة فنية تستغرق خمسة وأربعين يوماً لكنه ذهب ولم يعد. طاف بمعظم بلدان الشاطئ الآخر للمتوسط ثم استقر فى أكاديمية ميونخ وبدأ حياته الجديدة كان يزور مصر بانتظام بين عام وآخر. يرسم التخطيطات السريعة للأحياء الشعبية فى القاهرة والصعيد، ثم يذهب بحصاد الذكريات إلى بيته ومرسمه فى ألمانيا، يرسم ويلون ويقيم المعارض الفردية والجماعية، فى مختلف قاعات العرض بمدينة ميونخ وبون وآخن وبرلين .فضلاً على شيكاغو بالولايات المتحدة وأصيلة بالمغرب. مستنسخاته ولوحاته مستلهمة من تلك التخطيطات السريعة، التى تدفع الحياة دفعاً فى رسومه وألوانه، وتودعها تلك الجاذبية والحيوية، والسمات الطريفة المثيرة التي استمتعنا بها مؤخراً، فى قاعة أخناتون فى مجمع الفنون بالزمالك والتى تعتبر معلماً على طريق الحداثة فى الحركة المرئية فى مصر وأوروبا، وحلاً للمعادلة الصعبة، التى تحاول التوفيق بين الروح المحلّية والمفاهيم الجمالية العالمية، التى لا تثار إلا فى المجتمعات المختلفة، فهو يتجاوز المظاه السطحية للبيئة، ويمضي قُدُماً ليَسْبِر غورها. يمزج بين الحقيقة والخيال فى عالم من الصمت والسكون والفراغ. يتحدث بوضوح بلغة غير مسموغة هى لغة الأشكال، حيث الحركة كامنة والحمية دافئة، والجو متوتر مشحون بأحاسيس التوقع، يخلص الحياة المصرية الصميمة ببلاغة فى ثوب حداثى جذّاب ومعايير جمالية مبتكرة لمفهوم التكوين والإيقاع والاتزان والتوافق اللونى.
- تبدو لوحاته مألوفة حتى لغير المصريين لأنها تحمل مضموناً إنسانياً فى أداء سهل ممتنع، يستند إلى خبرة طويلة متعددة الجوانب ومستمرة، وثقافة عريضة متقدمة وتخصص فريد فى المصريات وجمالياتها. حصل فيه على درجتى الماجستير والدكتوراه من جامعة ميونخ، ويقوم بتدريسه الآن لطلبتها الألمان، والوافدين من أنحاء العالم. أما القيم الجمالية التى تشع من لوحاته لتهز مشاعرنا وتجذبنا بنضارتها المفرطة، فهى مستقاه من الفنون الكلاسيكية المصرية القديمة والعالمية. فالحداثة فى أحدث مفاهيمها، الوليد الشرعي للتقاليد مع اختيار وحذف وإضافة تناسب التغير الثقافي المستمر، منذ دب البشر على هذه الأرض.
- كانت بعثة عبد الغفار إلى الأقصر سنة 1962، بعد تخرجه مباشرة بمثابة نافذة واسعة، أطل منها طوال ثلاث سنوات على الوجه الحقيقى لمصر: شعباً وطبيعة وتراثاً. رأى بعينيه في رسوم المقابر الفرعونية وتماثيل المعابد مولد المعايير والقيم الفنية والجمالية التى اتخذ الإغريق منها قبساً، فوصلوا بفنونهم إلى ما وصلوا إليه من عظمة، وكانت بدورها الدعامة، التى أقام عليها فنانو عصر النهضة أمجادهم.
- أسفرت تجربة الأقصر، عن شئ غامض استطاع عبد الغفار أن يودعه لوحاته بموهبة رفيعة وإحساس مرهف، شئ يشدنا إليها فتجذب عيوننا ونفوسنا معاً. شئ توارثناه عبر الآف السنين، مهما تفرقت بنا البلاد. اكتشف هذا الشئ في وادي الملوك والمدافن المصرية القديمة التي تنتظم وادى النيل. لمس بيديه المعايير السحرية للجمال الخالد، واللغة التشكيلية التى تكلم بها أجداده فأنصت إليهم العالم أجمع شاركهم رؤيتهم للبيئة والحياة. أدرك أن فى هذه اللغة وفى تلك الرؤية، تكمن جذور الهوية، فأكتست لوحاته بهذه المفاهيم والمدركات، وأضفت عليها ما نستشعره معها من طرافة وإثارة وجاذبية.
- الأسكتشات أو التخطيطات السريعة، هى التى تجمل شحنة الإسقاط الفورى لانفعالات الفنانين وأحاسيسهم. رسمها عبد الغفار فى حضرة البيئة والطبيعة، لتكون عُدّته وعَتَاده حين يبدع تكويناته داخل المرسم، وتصبح الأكسير الذى يمدّها بالحركة والحياة لا يتوقف عن رسمها وهو يسعى فى الأسواق، فى الأزهر والحسين والغورية وباب زويلة والخيامية، وأكثر الأحياء شعبية فى المدن التى يزورها.
- من الجدير بالإشارة أن الركون إلى الطبيعة والبيئة ومظاهر الحياة عادة لازمت رسامنا منذ الطفولة منذ العاشرة من عمره فى قرية كفر فرسيس حين كان يهرع إلى ضفة الترعة، حيث الحقول مترامية والأشجار والطيور وبيوت الطين والفلاحين والفلاحات وما يقتنونه من دواجن الحيوان والطير. يُهْرَعُ بأوراقه وأقلامه، ليقضى مع كل ذلك أسعد لحظات الطفولة كان حب الطبيعة، واعتبارها مصدر الإلهام ونفحة أروح فى الرسوم واللوحات، سلوكاً فطرياً لدى عبد الغفار شديد. وجد مردوده فيما يكسو إبداعه وصياغته بما اصطلحنا على تسميته (الهوية)، فليس بالوشم على الوجوه والصدور والأذرع ، ولا رسم الأقراط في آذان الصبايا، وتصوير العيون اللوزية ووحدات الخشب المخروط في السواتر العربية.. تتحقق `الهوية`. بل في القدرة على نقل المناخ الإنساني المصري، وعبقرية المكان بما يحصل من عَبَق التاريخ الذي هو ظل الإنسان على الأرض.
- بعض العناصر المرسومة، تبدو مجردة لا تشخيصية. إلا أنه وضعها بعناية وذكاء، لتلعب دوراً بنائياً جمالياً، يؤكد شخصية المكان، والاتزان واستقرار التكوين. فهو يصور ما بداخل المرئيات، وليس ما بداخله هو ويُعْتَبَر هذا المدخل الإبداعى امتداداً للرؤية المصرية القديمة، التى ترى فى الحياة وجهين: أحدهما ظاهر للعيان، والآخر يستخفى عنا.. وهو المضمون وآية الوجود.
- مفهوم ميتافيزيقى ينطوي على روح شرقية أصيلة، تؤمن بالغيب وتمزجه بالواقع. وترجمة هذه المدركات فى لوحات زيتية ومستنسخات مطبوعة كالتي شاهدناها في معرضه الأخير في مجمع الفنون، أمر يسير لدى فنان يوجد بجسمه وعقله فى ألمانيا، ويعيش بروحه وأحلامه ووجدانه فى مصر.
- استقى لوحاته الأخيرة من البيئة المصرية بفضل دفتر التخطيطات السريعة، الذي ذكرناه سلفا والذى لا يفارقه فى زياراته المتكررة لمصر. فهو يضم الرسوم التى تحفظ عل إبداعه الهويّة المحليّة، وتُسْبِغ عليه العظمة العالمية. فلو لا تنوع الثقافات كروافد لنهر الثقافة الإنسانية، لجف هذا النهر ونضب، وتحولت الحضارة إلى شئ متشابه ممل، وعقيم محروم من الخصوية والقدرة على التجدد.
- لوحات شديد خيالات وتهاويم، تجسدت خطوطاً وألواناً وملامس وتكوينات، رغم عقلانيتها من حيث المعايير الجمالية. مجسوبة الأشكال لأن الوعى ضرورة إبداعية، كالحلم سواء بسواء. والتناقض بين الحلم والوعى، هو الذى يسفر عن هذه الطرافة التى تثير خيالنا فى رسومه، وتجذبنا إلى عناصره وموضوعاته. ففي لوحة زيتية 80x100سم رسمها ولونها سنة 1988 فى مرسمه بميونخ، بعنوان (غبار) صور مكاناً خالياً، إلا من عربة القمامة الخشبية التقليدية شبيهة الصندوق، لا يمنعها من ملامسة الأرض سوى عجلتين صغيرتين جداً مشدودة إلى حمارين، يقبعان فى قاع الفراغ الرحب المشع بضوء مبهر للعيون، يشعرنا بالحر اللافح والشمس الحارقة والأرض اللاسعة المعدومة الأفق. لكنه فراغ يرتبط بالعربة، بخط متعرج يمضى إلى بعيد كأنه طريق بلا نهاية كتب على الحمارين أن يقطعاه، لكنهما ينتظران صاحبهما الغائب في صبر واحتمال. إشارة بليغة لنجاح الفنان فى تصوير إحساس الوحشة والأستكانة والأستسلام عن ديناميكية المكان الخالي المشحون بروح السابلة وزحامها. تكاد تنشق الأرض عنهم فجأة، فيضج بهم الفراغ الذى لا يحوى سوى الظلال الحادة والأضواء الساطعة. هذا الجو المتوتر، المفعم بإحساس القلق والتوقع، حصيلة منطقية لتناقض الوعي واللاوعي، مع مهارة عالية فى الأداء وموهبة نادرة، صقلها التفوق الدائم والامتياز، الذي لازم الفنان، خلال تاريخه الدراسى الطويل فى كليات الفنون وتاريخ الفن والآثار، سواء فى مصر أو فى ألمانيا.
- شأن كبار فنانى الثقافات المتقدمة فى أوروبا وأمريكا، يطلق عبد الغفار شديد أسماء على موضوعات إبداعه، حتى يمنح الملتقى مفتاحاً للتأويل والتذوق. يعنى بالمضمون والشكل معاً. الشكل عنده يتكامل مع التعبير عن المفاهيم التى يطرحها عبر الرموز والعناصر المرسومة. فهو يعيش فى قلب الحركة الثقافية المعاصرة. فى أحد مراكزها الفنية وهى مدينة ميونخ. يلعب دوراً على مسرح الحياة الفكرية من موقعه كفنان صاحب رسالة. لذلك تحتفل موضوعاته بالفكر الفلسفي، الذي كان يظهر بوضوح في مستنسخاته الميتافيزيقية، التى أبدعها فى السبعينيات. الأعمال التى أخرجها بطريقة الطبع على الحجر (الليتوجراف). بينها تكوين بعنوان: تعارف 57.5x 43 سم. يصور مجموعة من القواقع البشرية تسعى على شاطئ البحر. تبرز من إحداها سيقان رجل وإمراة يسيران فوق الرمال. بينما يقف الآخرون يختفى نصفهم العلوي في مواقعهم، في جو غريب لا نراه إلا في الأحلام ومن المعروف أن ثمة علاقة بين القواقع ونظرية أصل الأنواع، التى طرحها سنة 1859 العالم الأنجليزي: تشارلس داروين (1809-1882). الأمر الذى ينم عن رحابة المعرفة والتحرر الفكرى، فضلاً على إتقان الرسم والقدرة على التعبير بالخط والملمس ومحاكاة الطبيعة. إلا أنه مؤلف يبدع تكوينات موازية لما يجرى فى الحياة. بل ينشئ حياة جديدة على قماش لوحاته. تجمع بين الفكر والفن لا تقتصر على المتعة الجمالية الشكلية والإبهار اللحظى.
- أما الألوان كلغة مرئية عند عبد الغفار شديد، فلها جرس هامس لا تجهر في عيوننا فتخطفها، وتلهينا عن الرسم الجميل الذى ينم فيه الجزء عن الكل تنظيمات لونية مصرية المذاق تكسوها غلالة شفيفة تبلور إحساسنا بها فنألفها تستنفر فينا رغبة فى أن نمضى معها إلى ثنايا التكوين نحلم ونشهد المزيد توحى به اللوحة ولا يصوره الفنان. فلو تأملنا صورة شاطئ النيل، وما ينتظمها من جبال وتماثيل ومعابد وبيوت ونخيل، منظورة من وسط النهر لقفز بنا خيالنا، فى رحلة عبر التاريخ نقطع بها آلاف السنين إلى الوراء..
- نفتقد فى معظم اللوحات، خط الأفق الذى يفصل السماء عن الأرض. قد نلمسه فى تغير لونى طفيف غير محسوس، كناية عن الاتصال المقدس بينهما. مفهوم شرقى، إسلامى مسيحى ومصرى قديم. فعندما يزول الأفق، تصبح الرحلة إلى السماء استطراداً للرحلة على الأرض، وخلوداً للروح. وهو جوهر العقيدة الذي عبر عنه فنانو مدينة سامراء، في صدر العصر العباسى. حين ابتكروا التواريق والتفاريع للتعبير عن اللانهائية. فلوحات شديد ليست بالبساطة التى تبدو عليها لأول وهلة. إنها إمتداد منطقى لفنوننا الكلاسيكية، فى ثوب حداثي يحمل نفس الهوية. نفس الأجرومية واللغة التشكيلية. توقظ فينا نوازع صوفية أصيلة فى تكويننا كشرقيين.
- مساحات حادة من الظل، تفصلها خطوط وهمية حاسمة عن مناطق مشمسة مبهرة. تكاد تلفحنا بحرارة ذان نوعية خاصة، يعرفها كل من عايش الصحارى المصرية، والجبال على جانبى الوادى. هناك يتشكل السراب، من ذبذبات ضوئية تشعها الرمال اللاسعة، فتكسو الأفق بغلالة تمزج السماء بالأرض، وتنسج حلماً يحيا فيه عبد الغفار شديد. وإذا كانت تكويناته تبدو واقعية بتشخيصيتها وعناصرها المقرورة، فهي لا يمكن ألا أن تكون حلماً. لغموضها وصمتها وتفردها. ليس من دليل على واقعيتها، سوى المذاق الذى تتميز به مصر عن كل الأوطان، والذى أتقن الفنان تصويره.
- حين تصقل الموهبة بالخبرة المتنوعة والثقافة العريضة، تسفر عن سمات فنية مبتكرة، تنأى عن التعريف الإجرائى، يدخل فى نسيجها بعد جديد هو الكيف أو النوعية (كواليتى). فالألفة والإحساس الدافئ الذى تعكسه اللوحات والمستنسخات. والأفكار التي تثيرها فى نفوسنا، تعود إلى أنه استخلص قوانين الجمال من الفنون المصرية الكلاسيكية، فجمعت تكويناته بين أصالة الماضى وروح العصر فى قالب ذى طابع إنسانى مع الاحتفاظ بالهوية، فالهوية صفة تتخلل نسيج العمل الفنى. نحس بها تؤنس وحشتنا وتجعلنا نألف بعض اللوحات والتماثيل. هكذا تسهم لوحات عبد الغفار شديد بقوة فى إثراء الحركة الحداثية، فى العقد الأخير من القرن. بما تصوره من جوانب خفية داخل الحياة والبيئة المصرية، بأشخاصها ورموزها وعناصرها، التي تختلف عن مثيلاتها فى الشعوب الأخرى. كما أن الألوان ليست تعبيراً عن انفعالات نفسية عارضة، أو رموزاً لمشاعر وأحاسيس خاصة، بل هى لغة تشكيلية، يتحدث بها كما يتحدث الشاعر بالكلمات. يضعها مقتصداً تعكس خصائص الأشياء وماهيتها. وتصور ضوءاً ليس ككل الأضواء، وظلا مختلفاً عن باقى الظلال. يضعها للضرورة فى المكان المناسب حتى يتكامل الشكل والمضمون، وهى سمة لا تتوافر إلا فى الفنون الكبرى كالفن المصرى القديم.
الناقد : د./ مختار العطار
من كتاب ( رواد الفن وطليعة التنوير - الجزء الأول)
|