حليم حبشى
أقام معرضه الأول بعد السبعين الفنان حليم حبشى .. بين غربة الذات وأسئلة المجهول
* بدون كتالوج يضم سيرة الفنان الذاتية ومقدمة لمعرضة كما جرت العادة ، أقيم المعرض الأول للفنان المصور حليم حبشى (78سنه) بأتيلية القاهرة ، بهذا التقشف يدعونا للدخول مباشرة الى عالمه ، حيث يأخذنا معه لنحلق فوق الواقع بأجنحة الفلسفة ، قبل أن نسأل أين كان طوال هذه السنين حتى جاء ليقيم معرضه المثير للخيال والدهشة والتأمل ؟ .. ولماذا تأخر هذا المعرض حتى الآن ،خاصة مع علمنا بأنه لم يتوقف خلالها عن الإنتاج، بل انه أقام معرضا خاصا بالسويد عام 1954 ؟ - لم يكن هذا زهذا فى التواصل مع الجمهور على أية حال ، فمن يحتشد مثله بهذا الفيض من الأعمال ويكاشفنا بغربة الذات مرة ويأخذنا لمساءلة المجهول مرات ، هو إنسان مهموم بأسئلة مستحيلة يطلب من الآخرين مشاركته البحث عن إجابات لها ، يؤكد ذلك ما كان يحمله معه باستمرار من صور فوتوغرافية للوحاته التى يضمها ` ألبوم ` ضخم عبر السنوات الماضية ، يعرضها على الزملاء من الفنانين فى مجالسهم المختلفة وكأنها معرض متنقل ، لا ينتظر رأيهم فى أسلوبه بل يطلب مشاركتهم له فى الإجابة عن أسئلة الفنان الفرنسى بول جوجان أواخر القرن الـ 19 فى ملحمته الشهيرة ` الحياة والموت ` من أين جئنا ؟.. وأين نحن ؟.. وإلى أين المصير؟ .. - ربما يفسر لنا ذلك ما نلاحظه من تشابه أسلوبى بينه وبين جوجان مع فارق الحس المصرى الواضح فى لوحاته ، والنظرة الحزينة الأسيانة فى عيون أبطاله ، لكننا سوف نكتشف أن له أنسيابا أخر لفنانين مصريين انشغلوا- ربما - بنفس الأسئلة وأولهم عبد الهادى الجزار ، الذى يجمع حليم بعالمه : الطقس الشعبى لحلقات الزار ، والعرائس الورقية التى تنغرس فيها الدبابيس ، وهى تشتعل اتقاء للحسد ، وبصمات الأكف المغموسة فى الدم فوق الرداء الأبيض للمريض الذى ركبته الأسياد ، ورؤوس المجاذيب المحلوقة وهى تنظر بعيون تائهة .. لكن كل ذلك لا يجعله فى الحقيقة ` جوجانيا ` أو ` جزاريا ` إلا بقدر الانغماس فى قضية الوجود الإنسانى ، وما عدا ذلك يبقي حسه الخاص ورؤيته المستقلة لبناء اللوحة وللمصير الإنسانى معا . - إن حليم حبشى - الذى تخرج فى كلية الفنون الجميلة عام 1954 - ظل وفيا دائما للتعاليم المدرسية فى التصوير الزيتى ، ومن خلال احترام النسب الإنسانية والمنظور الهندسى وتأكيد الكتلة الأسطوانية عبر توجيه الضوء من مصدر معلوم ، وحبكة التكوين ووحدة المكان ، لكنه فى ذات الوقت ظل متمردا - أو محاولا التمرد على الأقل - على هذه التعاليم .. بالخروج على النسب والمنظور ، وبتعدد مصادر الضوء واختلاط الأمكنة ، وبالبحث عن اللحظة الغرائبية المتباينة بمساحات اللون المسطحة حينا والمتوترة أحيانا .. وبالمبالغة والتشوية الفنى المتعمد لملامح الوجوه ، وبدفع الأجسام نحو التلاحم والاندماج فى كتل بشرية . - وما بين الوفاء للأكاديمية والتمرد عليها ، ظلت أزمة الإبداع الفنى لديه تراوح مكانها ، تغلبه حينا ويغلبها حينا أخر ، ومع ذلك تترك هذه الأزمة الأسلوبية أثرها فى اللوحات التى أراد فيها أن يتخلص من القواعد الأكاديمية ، حيث يتعمد تكسير النسب والمنظور ، أو تسطيح الأشكال والمجسمات ، فتكون النتيجة وكأنها ضعف أو عدم تمكن من هذه القواعد وليست اجتراء المقتدر عليها .. ولعله وجد في موضوع ` الطبيعة الصامتة ` مادة لا تنفذ للتجريب خلال سنوات طويلة لحل هذه المشكلة ، وهذا ما نجد نماذج عديدة له فى معرضه ، وإن كان قد وظفها ضمن موضوع إنسانى أو فلسفى يناوئ الرؤية التسجيلية الساكنة وينحو باللوحة نحو الفكرة الدائرة فى فلك المعانى الموجودية . - قد يكون اللعب داخل هذه الدائرة مخاطرة شديدة لفنان لم تكتمل أدواته الفنية فتأتى بعكس المراد منها ، حيث يفترض فى العمل الفنى إقناع المشاهد بحقيقة العالم الافتراضى الذى يأخذه إليه ، عن طريق الإيهام بمطابقة عناصره للواقع المرئى وصولا إلى واقع مجازى ، وقد تجاوز حليم حبشى مخاطر هذه المغامرة فى عدد غير قليل من لوحاته ، مستخدما قوة تأثير ` الفكرة ` إذ تأخذنا إلى ` حالة ميتافيزيقية ` مفارقة للواقع المرئى . - وللتدليل على ذلك .. نلقى نظرة على لوحة ` البرزخ ` حيث نرى جموعا بشرية تتلاحم وهى ملفوفة بأشرطة بيضاء كالمومياوات ، مصفوفة على ظهورها وهى تندفع نحو فوهة فاغرة تشفطها وتبتلعها وكأنها البرزخ بين الحياة والموت .. إن البطولة المطلقة للفكرة المفاهيمية تجعلنا نتجاوز منطقية المنظور الهندسي للأجساد ، وقد اتخذت شكلا هرميا ، قاعدته مجموعة أشخاص بحجم كبير فى مقدمة اللوحة . - لكن البطولة المطلقة للفكرة لم تأت على حساب لوحة أخرى وهى ` الزار ` حيث اكتملت فيها قوة الفكرة وقوة البناء ، من خلال هذا التباين الحاد بين كتلة الجسم المكسو بنقاب أبيض لا يظهر منه غير ثقب أسود مكان العين ، وقد بصمته يدان بالدم ، وبين الأشخاص من خلف هذه الكتلة ، تتوسطهم قارعة الدف ، فيما تتجلى فى وجوه الجميع عيون يملأها الخوف والرعب . - وإذا كان المنظور الهندسى عبئا على بعض اللوحات ، فإنه جاء عنصرا ناجحا ومدهشا فى لوحة ` الفنان فى مرسمه ` حيث صور نفسه من منظور علوى من خلف الرأس - الأصلع والشعر الأبيض ، وهو مستلق على ظهره فوق بساط أحمر شابكا ذراعيه تحت رأسه ، ووجهه الذى لا نراه متجها نحو اللوحة التى يرسمها وهى مثبتة فوق حامل الرسم متضمنة رسما لقناع أبيض ، وعلى مربعات البلاط الرخامى الناصع من تحتها تتكوم قطة سوداء . - إن المفارقة هنا ليست - فحسب - بين اطراف رباعية اللون المتباينة للأحمر والأزرق والأسود والأبيض ، فى مساحات مجردة تشف عن شخصيات مجسدة ، بل كذلك فى هيئة جسم الفنان الذى بدا مثل الطبيعة الصامتة ، وربما لم نكن لنتعرف عليه لولا ساقية الممددتين نحو أعلى اللوحة وإحدى قدميه فوق الأخرى وقد ارتدى حذاء منزليا أسود ، فكأننا إزاء وضع مقلوب للطبيعة الحية فى مقابل وجه مستعار للحقيقة الإنسانية .. تلك هى المفارقة العبثية للحياة ، التى نجدها تتردد بأشكال مختلفة بين عدد غير قليل من لوحات ` حبشى ` التى يفاجئنا بها ويأخذنا معه من خلالها إلى منطقة الأسئلة الملتبسة بغير إجابات .. - وإذا كان عمر الفنان المحسوب بالسنين يوحى بأنه معرضه هذا يوشك أن يكون محطته الأخيرة ، فإن عالمه الدافئ رغم عدميته ، والملئ بالحيوية رغم سكونيته ، ويومئ إلى عكس ذلك . فإنه على أية حال ليس كلمته الأخيرة !
بقلم : عز الدين نجيب
القاهرة -2009
جماليات مصرية وما وراءها من معان
- تواضع النساك ورضا المصالحة وزهد المتجرد بصر باحث عن مثير درامى للذات وللغير بصيرة تأملية للمحيط من بشر ومعان ..ورؤية بسيطة التناول عميقة الغوص فيما حولنا أو فينا إيجاز بأصالة ورمزية سلسة تفرض نفسها برقيق التوجه ..
- سمات كثيرة فى أركان شخصية هذا المبدع ` حليم حبشى ` الذى يعبر بقلب شاب حواجز السنين طارداً الرتابة من حياته متحركاً بإيجابية صحية تتجاوز إيقاعا ثابتا بحكم عمره المديد ..إنه يمنح فرشاته وهج الحضور وعمق المواكبة ومرونة مكتسبة بحكم التأمل الواعى ..اقترب حليم حبشى من سن الثمانين لكنه مازال شابا فى رؤاه ويانعا فى تأمله متواصلا مع ما يحدث على كل المستويات اجتماعيا وسياسيا ونفسياً متسلحاً بقدرة تعبيرية عالية متلامسة مع رمزية وسيريالية فى شكل يرتبط بواقعية غير تسجيلية ..
- يتفاعل فناننا مع معتملات مجتمعنا وتناقش أعماله الظواهر المتعددة الموجودة الآن ..نقاب الفكر والجوع العاطفى والجفاف الاجتماعى وكثير من الأحداث المتناقضة التى تملأ حياتنا المعاصرة ..
تطل الميتافيزيقا فى الأعمال بحيوية المفردات ويغلفها بقدرة ساخرة احيانا تحمل نقدا لسلبيات سائدة وتبدو حكمة السنين فى تلك الأعمال التى تناقش ما وراء الأشياء فى الموجود أو حتى ما بعد الحياة إنها صوفية تشكيلية ..تقترب من مزامير فلسفية لهذا تحمل معارض ` حليم حبشى ` كثيراً من الدهشة التى تثير فى المتلقى مكامن وجدانية واضحة .
- تقدم قاعة بورتريه حماسها لإبداعات فنان يقدم لنا دوما تناولاً حالماً لكثير مما نعيش مغلفاً أعماله بفلسفة حياتية تناقش كل شئ بتحضر وشجاعة وشبابية .
بقلم : إبراهيم عبد الملاك
مجلة صباح الخير- 2009
رحيل الفنان حليم حبشى بعد ثمانين عاماً من محاربة الخوف بالفن
- بعد ثمانية وخمسين عاما من الفن والتصوير فى حالة من التأمل العميق والهادئ للأحداث توقف الفنان التشكيلى حليم حبشى عن الرسم ورحل فى صمت كعادته بعد أن بلغ عامه الأول بعد الثمانين.
- من يتأمل أعمال حبشى يجده يدور فى عالم سيريالى يصور شخوصه الخائفة والمتوترة والمرتبكة جالسة فى أماكن موحشة لا تظهر سوى بأحلامنا وهواجسنا تتسم بجدرانها المتفرقة غير المتصلة والتى تمثل سدودا عالية تحجب الرؤية مما يزيد من توتر شخوصه التى تعانى من الخوف الداخلى الذى يصل لحد الهلع، وهو ما نراه فى جلساتهم وأيديهم ونظرات عيونهم، فحبشى كان شغله الشاغل هو الإنسان الذى يسعى للتغلب على مخاوفه بممارسة الطقوس الشعبية مثل الزار الذى صوره حبشى بأحد أعماله حيث يلتف الجميع حول من تريد الخلاص من عفريتها، وهم فى حالة من الوجوم والجمود شديدى الالتصاق ببعضهم البعض لكنهم لا يشعرون بأنفسهم ولا بمن حولهم ولا حتى يسمعون صوت طبولهم!
- ليست فقط الطقوس الشعبية هى المهرب إنما أيضا الأحلام والكائنات الخرافية كانت رموزا أخرى للخلاص والهروب من واقع جامد حول حياة الإنسان إلى قوالب معدنية بلا إحساس أو إنسانية.
- رغم أن بداية حبشى الفنية كانت عام 1954وقت كانت ثورة يوليو تسعى لتثبيت أهدافها والتى تزامن معها دعوة الرئيس جمال عبد الناصر للمشروع القومي، إلا أن أعمال حبشى لم تسع لأن تكون أحد الأعمال الفنية الموثقة لتلك الفترة بل ظل على مشروعه الفنى وهو تأمل الإنسان وتصوير عذاباته عبر فرشاته وألوانه الصريحة.
- الفنان التشكيلى يسرى القويضى بمجرد سماعه نبأ وفاة حبشى عاد إلى ما قد كتبه عن معرض حبشى فى سبتمبر 2004 الذى أقامه بجاليرى بيكاسو، كتب القويضى: يعرض بجاليرى بيكاسو الفنان حليم حبشى عددا من لوحاته التى يصفها بأنها خلاصة خبرة السنين، ويجمع أسلوبه بين السريالية والتجريدية مع لمحات من تأثيرات الفن الشعبي، وميل الى تسطيح عناصر اللوحة، وتصور غالبية لوحاته موضوعات من البيئة الشعبية المصرية، فى معالجة حالمة تجعلنى أكاد أن أقول أن بها مسحة تأثر بأعمال مارك شاجال مع الفارق.
- العرض فى عمومة ينم عن حب كبير يكنه الفنان للفن، وكما قال لى فإنه أطلق العنان لذاته متناسيا كل التقنيات الأكاديمية - خريج فنون جميلة عام 1954- وإندفع يعبر عما يجيش فى داخله مستعينا بمخزون خبرة السنين، وقال إن الوظيفة الحكومية بوزارة التربية والتعليم سرقت وقته وجهده، فلقد كرس الفنان سنين حياته لغرس حب الفن فى نفوس التلاميذ، وأضاف فى حديثه قائلا إن سعادة غامرة انتابته عندما تلقى رسالة من أحد تلاميذه السابقين أرسلها له من كاليفورنيا حيث أصبح فنانا مرموقا بمؤسسة ديزنى الأمريكية، يقول فيها التلميذ لأستاذه `لا تبتئس ولا تدع الظنون توحى لك بأنك قليل الانتاج الفني، فعلى العكس فإن عددا من تلاميذك من عدة أجيال وفى أماكن متفرقة برعوا وأسهموا فى الحركة الفنية، وهم يمثلون إنتاجك الذى يحق لك أن تفخر به`.
- أما الناقد عز الدين نجيب فكتب عن المعرض الأول الفردى الذى أقامه حبشى بعد ان تعدى السبعين من عمره، يقول: بدون كتالوج يضم سيرة الفنان الذاتية ومقدمة لمعرضة كما جرت العادة، أقيم المعرض الأول للفنان المصور حليم حبشى (78سنة) بأتيلييه القاهرة، بهذا التقشف يدعونا للدخول مباشرة إلى عالمه، حيث يأخذنا معه لنحلق فوق الواقع بأجنحة الفلسفة، قبل أن نسأل أين كان طوال هذه السنين حتى جاء ليقيم معرضه المثير للخيال والدهشة والتأمل؟ .. ولماذا تأخر هذا المعرض حتى الآن خاصة مع علمنا بأنه لم يتوقف خلالها عن الإنتاج، بل إنه أقام معرضا خاصا بالسويد عام 1954؟
- لم يكن هذا زهدا فى التواصل مع الجمهور على أية حال، فمن يحتشد مثله بهذا الفيض من الأعمال ويكاشفنا بغربة الذات مرة ويأخذنا لمساءلة المجهول مرات، هو إنسان مهموم بأسئلة مستحيلة يطلب من الآخرين مشاركته البحث عن إجابات لها، يؤكد ذلك ما كان يحمله معه باستمرار من صور فوتوغرافية للوحاته التى يضمها ألبوم ضخم عبر السنوات الماضية، يعرضها على الزملاء من الفنانين فى مجالسهم المختلفة وكأنها معرض متنقل، لا ينتظر رأيهم فى أسلوبه بل يطلب مشاركتهم له فى الإجابة عن أسئلة الفنان الفرنسى بول جوجان أواخر القرن الـ 19 فى ملحمته الشهيرة `الحياة والموت` من أين جئنا؟ وأين نحن ؟ وإلى أين المصير؟
- ربما يفسر لنا ذلك ما نلاحظه من تشابه أسلوبى بينه وبين جوجان مع فارق الحس المصرى الواضح فى لوحاته، والنظرة الحزينة الأسيانة فى عيون أبطاله، لكننا سوف نكتشف أن له انسيابا آخر لفنانين مصريين انشغلوا- ربما - بنفس الأسئلة وأولهم عبد الهادى الجزار، الذى يجمع حليم بعالمه: الطقس الشعبى لحلقات الزار، والعرائس الورقية التى تنغرس فيها الدبابيس، وهى تشتعل اتقاء للحسد، وبصمات الأكف المغموسة فى الدم فوق الرداء الأبيض للمريض الذى ركبته الأسياد، ورؤوس المجاذيب المحلوقة وهى تنظر بعيون تائهة.. لكن كل ذلك لا يجعله فى الحقيقة `جوجانيا` أو `جزاريا` إلا بقدر الانغماس فى قضية الوجود الإنسانى، وما عدا ذلك يبقى حسه الخاص ورؤيته المستقلة لبناء اللوحة وللمصير الإنسانى معا.
تغريد الصبان
روزاليوسف - 9/ 12 / 2012
|