جمال الخشن ، ماذا بعد الوحدة !
- منذ اللحظة الأولى لرؤية أعمال معرض ` أعبر العالم ` للفنان والأكاديمى جمال الخشن ، يخطف العرى أبصار الناظرين، إنها الصدمة الحسية الأولى التى يتوخى أى فن تقديمها ، بيد أن ما يجرى بعد ذلك يقود إلى تأويلات فنية لا يكون العرى فقط أو خصوصاً بؤرتها ، إنما الترجمة اللونية التى يمنحنا العرى بها نفسه . إن اللون هنا يتعدى حدود ملء مساحة اللوحة ،ليكون معنى العمل نفسه وشكواه ، فالذى تبثه لنا الأجساد بألوانها الرمادية الكابية ، بطبقات حادة وناعمة من اللون الأسود تبدو معها جلودها كما لوكانت مصنوعة من أسفلت الشوارع، ليس أقل من الشعور بالتيه والوحشة ، ثم إن هناك إحساس الانسحاق أمام الحياة المعاصرة، ذلك الذى وإن لم يكن جديداً كموضوع للمعالجة الفنية والبصرية ، فإن الجديد فيه هو النقلة النوعية فى أعمال الفنان ذاته قياساً إلى معرضه الشخصى الفائت هنا يوحد التيه ما بين الأجساد الأنثوية والذكرية، بمعنى أن اللحم ( لونه الموحى بزفت الشوارع ) يموه الحدود الفاصلة بين الذكرى والأنثوى ، يموه ولا يميع ، باعتبار المشاركة الوجدانية فى المأساة ، لكن مع ذلك تحتفظ الأجساد بخصوصيتها الجمالية ، فلا تذوب - ذكرية وأنثوية - فى بعضها البعض ،أو تتلاشى جمالياتها الحسية لصالح هذا التحييد والمزاوجة الشعورية، والأخيرة تحديداً ، أعنى الحفاظ على حظ الأجساد الطبيعى فى مفارقه الذكر للأنثى جمالياً ، هو ما فات الفنان فى أعماله السابقة ، حين استعار جماليات التراث اليونانى الرومانى وفنون عصر النهضة لتمثيل شخوصه الذكرية ، فظهرت باستدارات أنثوية ناعمة لكن مفتولة العضلات ، وعلى ما يوحى به إبراز نوعية الأجساد فى أعمال هذا المعرض فإن توحيدها لجهة المشاعر التى تبديها ، ينزع من أعمال الفنان بعض إيحاءاتٍ ذكورية كانت برزت فى معرضه السابق ، حيث محمول الأعمال هنا لعموم الجنسين ، على معنى القول المأثور ` السيئة تعم ` ، وإن كان لا سوء هنا ولا غيره ،بل تشارك فى أحاسيس طاغية بالوحدة، وحدة يمكن رأبها بمصاحبة كلب على ما يصورة أحد الأعمال المعروضة ، لكن هل نحتاج لنفهم هذا ، اعتبار أشعار الرومى - التى ألهمت الفنان - فى حسباننا ؟ إن فن الرسم - ورسم الأجساد بالخصوص - يتكلم بلا واسطة ،إن صوته محفوظ داخل إطار اللوحة غير أن هذا لا يعنى انغلاق العمل على ذاته ،بل إنه يمد خيطاً لمشاهده ، وعلى حسب الرؤية يكون المعنى ،ذلك أنها علاقة بين جسدين ، جسد المشاهد فى مقابل الجسد فى اللوحة الفنية ، الأول منهما زمنى أى يتحرك فى سياق من الدلالات الاجتماعية والثقافية والثانى لا زمنى ، وإن تحدد بإطار بالمعنى الذى يتيحه انفلات حبل التفسير والتأويل على غارب الزمن ، ما تفعله أشعار الرومى هنا هى أنها تشير لنقطة انطلاق ، لكنها تفسح الباب واسعاً لعديد المعانى ، حتى مع معرفتنا بأن الفنان - متأثراً بجلال الدين الرومى - يوصينا فى بيانه الفنى أن نعشق أنفسنا ، وأن نعبر العالم ( المادى؟ ) ، حيث من غير بيانه ، ومن غير الرومى حتى تظل الأعمال ناطقة بلسانها وتقول ما يغنى ( نفسها ) بنفسها هذا عن الأجساد ، فماذا عن الألوان الصارخة فى الخلفية؟ ونقول صارخة حتى فى وجود كثيف للأخضر الخافت ، لأنها ذات درجة لونية واحدة حادة وصريحة ، يلعب التناقض بين الألوان الزاعقة فى علاقتها بالدرجات اللونية الرمادية التى تمثلها الأجساد على معنى العبور الذى يشير إليه الفنان فى عنوان معرضه ما بين عالمى الخارج والداخل ، كما لو كان برزخاً ، من هنا نرى إلى الخطوط الأفقية الفاصلة بين تكاوين الأجساد وبين الأرضيات اللونية ، لكنها خطوط مستقيمة تفرق بحدة بين العالمين ، على خلاف ما أن البرزخ حالة تأقيت وانتظار ، وبهذا فإنها مساحة سؤال لا قفز وعبور مفاجىء ، على ما تعلمنا الحياة .. الموت ، أو اتباعاً للمنطوق الشعبى الحريف ، بمعنى اللاذع ` تعلم علينا ` .
بقلم : محمود عاطف
من كتالوج معرض ( أعبر العالم ) نوفمبر 2019.