فى تصاوير السكندرية نيفين الرفاعى : وجدان العاشقة فى جسد المدينة
يجمع كثير من النقاد والفلاسفة والمناطقة على أهمية السياق البيئى فى صياغة السلوك الإنسانى على الأصعدة الإجتماعية والثقافية ، عبرالمعول الجغرافي المكاني كالجبال والسهول والوديان والبحار والأنهار ، والمناخى كالأمطار ودرجات الحرارة والرطوبة والرياح والضوء ، وهى العوامل التى تتراكم أيضاً على المستوى التاريخى الزمنى ، لتترسب فى جراب اللاشعور ، حيث يستحضرها المرء وقت الحاجة إليها ، ثم تأتى لغة المعتقد لتكسى هذا البناء البشرى بغلاف شفاف يشى بما هو رابض خلفه ، ويدفع ماهو كائن أمامه من خلال طاقة روحية هائلة .. وأعتقد أن تلك العناصر مجتمعة هى ماتشيد معمار الشخصية القومية المتفردة على المحورين المادى والمعنوى ، مع مراعاة الإرتحال فكرياً فى هذا الشأن بين الثابت والمتغير داخل الحيزين المرئى واللامرئى .. ورغم أهمية تلك الدوافع فى تشكيل الهوية الوطنية لأى بقعة على وجه المعمورة ، إلا أن العامل الوجدانى يظل هو الينبوع الأساسى لتدفق شلال العاطفة على الكيان البشرى ، بما ينعكس على حراكه المنتظم داخل دائرة اليومى .. ولاأشك هنا أن هذه التجليات تكون أكثر توهجاً وجلاءاً بين طوائف المبدعين ، خاصة من يتعاملون مباشرة مع النطاق البيئى على صعيدى الرؤية والتأويل ، عبر فكرة إبداعية تتحول إلى شكل مادى ملموس يعتمد على آليات حرفية متنوعة المهارات ، وفى مقدمتهم التشكيليون الذين ينخرطون فى رؤى بصرية بندولية بين معطياتهم الكونية ووسائطهم التقنية .. وتعد الفنانة السكندرية نيفين الرفاعى واحدة من أبرز المبدعين الشباب الذين يعودون إلى نطاقهم البيئى بعد رحلة من الغربة الإبداعية قضاها أغلبهم طوال العشرين عاماً الماضية فى دهاليز التبعية المعرفية من خلال وسائل الإتصال المختلفة ، بين مطبوعة ومرئية ، حيث دخل أكثر من جيل إلى غياهب الذوبان فى ملامح ثقافة الآخر .. وقد أطرت نيفين مفهومها الإبداعى الملتحف ببيئته من خلال معرضها الأخير بمركز الحرية للإبداع بالإسكندرية الذى جاء تحت عنوان ` مدن إفتراضية ` .. ورغم مايبدو فيه من جمع بين عدة أماكن ، إلا أن الفنانة إستحضرت كل طاقتها البصرية والروحية لاحتواء مدينة الإسكندرية فى جرابها الوجدانى قبل أن تطويها داخل حقيبتها العقلية ، وذلك على أكثر من ثلاثة وثلاثين مسطحاً تصويرياً من التوال ، تعاملت معها بألوانها الإكريليكية الصداحة ، لتترجم عشقها تجاه تلك المدينة الساحرة ، بفرشاة تقفز على السطح عبر مزيج من مرح الأطفال وحمأة الشباب وحكمة الكبار .. والمدهش أن نيفين إختارت المربع كوحدة هندسية موحدة لكل أعمال العرض ، رغم صعوبة اختراقه بحلول تصميمية سهلة ومتماسكة ، بما يمثل عائقاً فى كثير من الأحيان أمام الفنان أثناء دوران رحى العملية الفنية على الصعيدين الإبداعى والتقنى .. وربما كان هذا التماثل فى أضلاع الإطار هو القشرة الذهنية الصلبة التى استنفرت الطاقة الشعورية لدى الفنانة قبل أن تنطلق من منصتها الوجدانية للطيران داخل المسطح التصويرى ، فى مقاربة على الخلاص من فعل الجاذبية الأرضية ، لذا نلاحظ أنها ترى المدينة بمنظور عين الطائر فى أغلب الأحوال ، بما يشى برغبة جامحة فى تفكيك المشهد البصرى وإعادة تركيبه ثانية على أعمدة مغروسة فى تربة مغمورة بماء العاطفة ، حتى أنها تصل أحياناً إلى حالة شديدة الوجد والولع بمعطيات المكان ، فتظهر كمن أسكنت وجدان العاشقة فى جسد المدينة .. وهنا نستطيع الكشف عن تقدم التدفق العاطفى على الإحكام العقلى عند الفنانة ، فتبدو ضربات فرشاتها مصحوبة بقدر وفير من الإنفعال التصويرى بعد ترطيبها بالماء الرابض فى بئرها الوجدانى ، وهو مايتجلى فى تلك المساحات التجريدية العفوية من الأحمر القانى والبرتقالى المشع والأصفر المضىء والأخضر النضر والبنفسجى المتوهج والوردى المنير ، علاوة على تدرجات الأزرق التى تتسيد المشهد التصويرى فى جل الأعمال ، عبر مساحات واسعة موحية بالعناق بين السماء والبحر ، داخل مساحة إبداعية يذوب فيها الزمان مع المكان .. وإكمالاً لتلك الدائرة المغرقة فى العاطفة ، تلقى نيفين بأسماكها الصغيرة ودعسوقاتها الدقيقة داخل تلك المساحات ، وكأنها تدفع بنطفات متتابعة داخل أرحامها التصويرية ؛ فتصير حبلى بأجنة حسية وحدسية فى طريقها إلى النضوج قبل الميلاد ، وهو مايميط اللثام عن عاطفة شديدة الموار داخل وجدانها التى تسعى من خلاله بإصرار إلى الإنصهار مع جسد المدينة . . وهنا نجد الفنانة حريصة على إشعال العنصر الحركى بين أضلاع مربعاتها ، عبر تعاشق مساحاتها اللونية بشكل تقابلى متعاكس محفوف بسحجات خاطفة لفرشاتها الرشيقة ، من أجل تفكيك البناء الهندسى التماثلى للمربع التصويرى ، بما يحدث نوعاً من الخلخلة البصرية المستمرة التى تسرب للمتلقى شعوراً متواتراً بحركات متنوعة لأمواج البحر ورياح الجو وأنفاس البشر ، رغم خلو كل تكوينات الفنانة من العنصر الآدمى ، وهو مايكشف عن مستوى عاطفى آخر يوحى بوصول نيفين إلى أعلى نقطة على قمة منحنى العشق الصوفى لروح وبدن الإسكندرية ، داخل الحيز الإبداعى الذى أسميه هنا ب ` الخبرة العاطفية البديلة ` ، حيث محاولة وجدان العاشقة للإنفراد بجسد المدينة دون كل أهلها ، رغم وجودهم بين ثنايا نسيج ذاكرتها الشعورية كجزء أصيل فيها ، إلاأنها عند هذا الموضع التعبيرى السيال تريد الإعلاء من هامة مدينة الإسكندرية فوق رؤوس كل من سكنوها على مرالأجيال ، حتى أننا نشم أحياناً رائحة يود البحر عند أرفع درجات التلقى ، وهو مايمثل أرقى تجليات البوح العاطفى والإبداعى فى آن ، على الجسر الواصل بين وجدان العاشقة وجسد المدينة .
والملاحظ هنا فى جل تكوينات الفنانة هو اختفاء خط الأفق الذى يبدو ركناً ركيناً فى المنظر السكندرى برحابته الفيزيقية المألوفة لدى العقل والوجدان الجمعى ، وربما قصدت نيفين هنا انتزاعه من حضن المشهد ، لسهولة حل بنائه الأصلى ، ثم إعادة تركيبه على محور الإرتكاز العاطفى ، بالتزامن مع قوة الدفع الحركى داخل التكوين ، ليبدو حيز العمل فى حالة إنشطار متوالى ، وكأنه يأوى بين جنباته زلزالاً بصرياً يعود بالمدينة إلى سيرتها الأولى .. وفى هذا الإطار نجد أرض المشهد أحياناً ماتكون ملتحمة بسمائه ، حتى أن الأسماك والدعسوقات قد تتسرب من أسفل إلى أعلى والعكس ، بما يوحى للمتلقى بدوام الحركة الدائرية فى كل أرجاء التكوين ، لتظل العاطفة المتفجرة سلطاناً للموقف الإبداعى عند نيفين الرفاعى ، حتى تتوحد مع الرائى داخل وجدان العاشقة فى جسد المدينة .
وفى إطار سعيها للتماسك البنائى التصويرى ، نجد الفنانة تشق أخدوداً للآليات الذهنية من أجل ضبط الفيض العاطفى الذى يغرق المشهد لديها ، حتى كاد أن يحوله إلى عجينة على مشارف السيلان .. ويتمثل ذلك فى استحضار الأشكال المتعينة المتفق عليها من العقل الجمعى السكندرى كأحد ملامح البيئة فى المدينة ، مثل قوارب وشباك الصيد وأعمدة الإنارة والأرائك الجماهيرية فى الشوارع ، علاوة على البنايات السكنية والبوابات والأقبية والأماكن التى تميز الإسكندرية ، مثل ` كوبرى ستانلى ` ، ` قلعة قايتباى ` ، وغيرها من العناصر التى تطرز صدر التكوين كالأشجار والورود .. وقد ارتكنت نيفين فى وشمها لتلك المفردات على لحم المشهد إلى مهارتها فى فن الرسم ، حيث الأداء الخطى الرقيق والمتين فى آن ، والذى يعطى للصورة مذاقاً عذباً مضافاً إلى التلقائية الواعية لنسيجها اللونى .. وعند هذا المنعطف التصويرى نرى الفنانة قد أحكمت سيطرتها على تكويناتها عبر المعادل العقلى الكائن فى درايتها الواضحة بالمنظور البنائى الهندسى لمفرداتها ، وهو مايؤسس للصراط الرفيع الواصل بين الخيالى والواقعى .. بين الحدسى والحسى .. بين الإفتراضى والحقيقى ، لتتمايل تصاوير نيفين بندولياً فى المساحة الواقعة بين الرسوخ والطيران .. بين الغرس والعروج .. بين الجاذبية الأرضية والإستقطاب السماوى ، بما يستجلى ألمع بقاع التوازن فى الجانب الإنسانى لشخصيتها ، والذى تستطيع تأويله ببراعه إلى نسيج تصويرى شديد الإنسجام ، جامعة فيه بين المتضادات المادية والروحية التى تصحب المتلقى بصرياً ونفسياً فى كل أرجاء الصورة بشكل دائرى دون توقف ، إضافة إلى ذلك الإرتحال بين أرض المشهد وسمائه صعوداً وهبوطاً ، وهو مايؤكد حرص الفنانة على تثبيت الحيوية التصويرية عند أقصى حد لها مهما تباينت مستويات التلقى .. وربما كانت التركيبة الإنسانية العاطفية المتدفقة عند نيفين الرفاعى هى ماتدفعها دائماً لتأطيرها دائماً بكوابح ذهنية ، حتى لاتفقد القدرة على قيادة ذاتها الإبداعية أثناء لحظات الخلق المدهشة ، فنجدها تجنح فى كثير من الأحيان إلى إحاطة ضربات فرشاتها بسياج خطى مكين يشى بهاجس الإنفلات الشعورى من نطاق السيطرة العقلية ، فتبدو أشكالها أحياناً كمشكاوات مضيئة تسبح فيها الأسماك وتنبت فيها الزهور ، وهو مايجعلها تظهر من خلف تكويناتها كطفلة نهمة لاحتساء البهجة ونثر الفرحة على ألواحها التصويرية التى تعيد من خلالها صياغة الإسكندرية كمدينة تعشش فى ذاكرتها البصرية والوجدانية والروحية .. وتظل الطفلة المبدعة نيفين الرفاعى تركض وراء جواد عاطفتها الفياضة ، كى تمتطيه وتقتحم به عوالمها الإفتراضية الساحرة ، إنطلاقاً من حضن معشوقتها الإسكندرية التى تروى لديها وجدان العاشقة الناعسة بين ذراعى جسد المدينة .
محمد كمال
جريدة نهضة مصر _ صفحة فنون جميلة - الخميس - 26 / 1 / 2012