فنانة مصرية فى أول الطريق
- نحن فى مرحلة يتحدث فيها الفنان عن عمله وانتاجه وأصالته، أكثر بكثير مما تراه فى هذا الإنتاج..
- إذا حكمت العرف والمنطق فإنك لابد منكر أن يكون هذا العمل الضخم الشامل من صنع هذه الفنانة الرقيقة النحيلة، وإذا حاولت أن تجد فى حديثها بعض ما يؤكد أنها صاحبة هذه الأعمال، فلن تحصل سوى على ابتسامة خفيفة وبعض كلمات قد يصعب عليك تتبعها لفرط خفوتها.
- وأنت فى النهاية مطالب التعرف إليها من خلال عملها وهذه صفة أحمدها عليها فنحن نمر فى مرحلة يتحدث فيها الفنان عن عمله وانتاجه وأصالته اكثر بكثير مما تراه من هذا الإنتاج .
- وهى.. الفنانة فاطمة العرارجى، والانتاج.. نقدم بعضه خلال هذا الشهر فى متحف الفن الحديث..
- والفنانة تخرجت عام 1953 من معهد معلمات الفنون وهو الجهة الوحيدة التى كان يجب عليها أن تنتسب إليها إذا ارادت دراسة الفن ففى ذلك الحين لم يكن من المسموح به قبول الطالبات فى كلية الفنون الجميلة.
- وعند تخرجها كان باب القبول في كلية الفنون الجميلة قد فتح للطالبات فالتحقت بالنسبة الثالثة وتخرجت عام 1955 أولى دفعتها.
- وهى لم تفعل كغيرها من الفنانين والفنانات الذين ما نكاد تنتهى مرحلة الدراسة حتى يتركوا تجاربهم وينقطعوا عن الإنتاج إلا فيما ندر، وما تتطلبه الحاجة الملحة كان يقام معرض يدعى إليه أو تنظم مسابقة يدعى إلى الاشتراك فيها.. لم تفعل ذلك بل واصلت الانتاج والتجارب ومارست العمل فى المدينة والريف وخارج القطر واستعملت الخدمات المختلفة وداومت البحث عن خامة جديدة تكون أقرب ما يمكن من طبيعتنا واستهلاكنا، فعلت هذا كله لا بدافع الاشتراك فى معرض أو الحصول على جائزة ولو كان يهمها هذا لحاولت تقديم هذه اللوحات كمشروع للدبلوم تحصل به على دبلوم الفنون الجميلة، فالشهادة التى يحصل عليها كل من ينهى دراسته تسمى بشهادة اتمام الدراسة ولا يستحق الدبلوم إلا من قدم مشروعه..
- والأعمال التى أنتجتها الفنانة منذ صيف 1955 تنقسم إلى عدة مجموعات بدأت بدراسات سريعة فى باريس وروما يتضح فيها التأثر بالمدرسة اللونية الأوروبية.. وهذه المرحلة من انتاج الفنانة لا تستحق التحليل نظراً لقصرها من ناحية، والوقوع تحت تأثيرات غير طبيعية فى حياة الفنانة من ناحية أخرى، كما أن الأهم من هذا وذاك أن هذه المرحلة لا نرى لها أثر ولو طفيف فيما انتجته من مراحل لاحقة.
- أما المراحل التابعة لهذه المرحلة فأعمالها تكاد تجمعها وحدة الفهم والتجربة وأن تباينت طرق المعالجة تباينا غير بسيط ، فنجد فى لوحات ` سوق الليمون` أن المجموعة الاولى منها تخضع إلى حد ما للمفهوم التأثيرى فى اللون لم نجد فى نفس الجو أى ` سوق الليمون ` لوحات لاحقة انتهى فيها هذا الفهم التأثيرى للون وحل محلة تلخيص وتركيز يكاد يسود جميع لوحات الإنتاج الأخير.
- وتقدم الفنانة محاولة أخيرة للبحث عن خامة مصرية، تظهر فى مجموعة اللوحات القريبة من أعمال ` الفرسك` والتى يظهر فيها بوضوح مدى تأثير الخامة على فهم الفنان لكل ما بين يديه من عناصر، سواء فى استخدام اللون أو اختيار الرقعات الرئيسية للعمل أو تحديد العلاقات التشكيلية بين عناصره.
- والسمة المميزة لأغلب أعمال الفنانة استخدامها مادة ` الجواش ` وندرة استخدام الألوان الزيتية، وهى فى هذا ترى أن خامة الجواش أقرب فى طبيعتها لتحقيق الفن المصرى والطابع المصرى، مستمدة الأدلة من الفن المصرى القديم والفن الشعبى، والفن الريفى، ففى جميع هذه الفنون ينتشر التلوين الجبرى، ولعل السبب فى هذا أن شمس مصر المشرقة لا تحتمل الرسم بالألوان الزيتية بما تبعثة من انعكاسات تعطل التمتع بالعمل كوحدة من جميع زواياه.
- الامر الذى أحب أن أوضحه وأبين أهميته بالنسبة لكل المشتغلين بالإنتاج التشكيلى أن البحث عن الطابع المصرى والأسلوب المصرى لا يأتى نتيجة البعثات الخارجية أو الاعتكاف بين الكتب والمؤلفات والتشبث بلمحات من فنون الدول الاخرى.. بل يأتى نتيجة العمل والممارسة المنتظمة والمرونة في نقل الخبرات الجديدة والنماذج المتناقضة والخواص فى أخر الأمر إلى تعبير فطرى حر.
- يحمل ثقافة الممارسة والفكر المركز ولقد حاولت الفنانة أن تحقق هذا على قدر ما سمحت لها به امكانياتها فداومت تذوق الاشكال القديمة للفن المصرى سواء فى متحف الأثار أو وسط بيئتها الطبيعية فى الأقصر والمعابد المحيطة .. ` وهى إذ وجدت فى الأقصر لا يصب اهتمامها على ما يحيط بها من آثار بل تحاول أن تربط بينه وبين البيئة المصرية المعاصرة فى هذه المنطقة، ذلك لأنها تؤمن أن تذوق الفن المصرى القديم ودراسته لا يعنيان بأى حال من الأحوال محاولة أحياء هذا الفن أو إعادته من جديد فهى تقول وتؤكد أن الظروف الاجتماعية والاقتصادية التى خلفت هذا الفن قد تغيرت تغيراً كليا، وأن بقيت بعض العناصر المشتركة التى أثرت على هذا الفن واستمرت مؤثرة حتى لحقت فننا المعاصر، هذه الظروف المشتركة هى ظروف الطبيعة المناخية والبيئة الطبيعية .. وهذه هى نقط الالتقاء مع الفن المصرى القديم.
ومن مجموعة اللوحات التي تقدمها الفنانة يتضح مدى اهتمامها بدراسة الموضوعات الشعبية، وهى فى الوقت نفسة تستغل وجودها فى البيئات لشعبية فى دراسة الفن الشعبى في جميع مصادره سواء فى الرسوم الحائطية أو فى الأسواق والموالد أو فى زياراتها المتكررة للسيرك.
- وهى لذلك ترى أن خير ما يمكن أن تقدمه الدولة للفنان المصرى هو أن تسهل له دراسة البيئة المصرية فى جميع أشكالها من زراعية وصحراوية وبحرية ونيلية، وتسهل اتصاله بالجماهير العريضة للشعب المصرى، فهى ترى أن التصاق الفنان بالجماهير يسهل له الوصول إلى القيم الفنية الحقيقية فى عمله، كما أن هذا الاتصال يحدد طابع فنه شكلا ومضمونا وهذه الحقيقة لمستها بوضوح فى لوحتين عن بورسعيد للفنانة ، واحدة انتجتها فى أوائل المعركة والأخرى عقب زيارتها لبورسعيد أثر الانسحاب مباشرة، ومن هاتين اللوحتين تأكدت فى ذهنى أهمية الممارسة والالتصاق بالجماهير للحصول على التأثر السليم والشكل الصحيح، ففى اللوحة الاولى حماسة منقطعة النظير سواء فى اتجاه التكوين العام للخطوط الرئيسية أو فى استخدام الالوان الساخنة فى اللوحة، وهذا يوضح الفكرة الاصطلاحية فى فهم الفنانة الحماسى عن بورسعيد وفى اللوحة الثانية تختفى هذه الحماسة المفتعلة ليسودها شعور إنسانى عميق سواء فى أختيار الألوان أو فى استخدام التكوين الهادئ المتماثل الذى يوضح عمق المأساة ويؤكد جريمة المستعمرين دون ما حاجة إلى أفتعال أى ثورة سطحية فى اللون أو التكوين .
- أعمال هذا المعرض تؤكد مولد فنانة مصرية، يمكن لها بالعمل المتواصل والتجربة المستمرة، وتقبل النقد البناء، واكتساب مزيد من التواضع الفنى، أن تكون عاملا هاما من عوامل الوصول إلى فن مصرى أصيل.
بقلم : راجى عنايات