الفنانة منى حسن.. رؤى وأطياف وليدة اللحظة
* معرضها كقارب بالجمهور بين صورا لوجوه وتكوينات الطبيعة الصامتة والخارجية وصولاً إلى التأليف التجريدى الذى يتشكل عبر سيولة الألوان وتداخلها، أو عبر تقابل الأشكال والمساحات اللونية، هناك تفاوت واضح فى الموضوعات والأساليب يصاحبه تفاوت نسبى فى مستوى الأعمال، حيث تترك الفنانة نفسها للحالة التى تشدها للإبداع بغير تحضير مسبق .
- بالرغم من أنها درست الإعلام فى أمريكا، فإن عشقها للفن أخذها إلى عالم سحر الأشكال والألوان فتجلت موهبتها التى نفذت على الخيال وانفعال اللحظة، وقادتها الفطرة النقية إلى منابع الصدق والإحساس، وثبت أشكالها بأسلوب خاص ينتمى لذاتها أكثر مما ينتمى للمدارس والأساليب المستهلكة هذا ما كشف عنه معرضها الأخير بقاعة جوجان خلال شهر مايو الماضى .
- منى حسن تنفذ لوحاتها بمختلف الخامات - من مائية وزيتية وألوان باستيل وأحبار، وتفيض بهذه الرؤى والمشاعر والأخيلة متمثلة فى أشكال تعبيرية وتجريدية وتشخيصية مختلفة، فهى لا تلتزم بمنهج فنى معين أو بأسلوب واحد، إنها أطياف تحلق بأجنحة الخيال لا بأجنحة الواقع، وتعتمد على دفقة الشعور الانفعالى فى لحظة خاطفة، والفطرة هى قاربها الذى تخوض به تجاربها، فطرة تمتزج فيها براءة الطفولة بمؤثرات الحداثة الفنية بخبرة الثقافة والعين المدربة من خلال ما تتعامل معه يوميا من أساليب الفنانين فى معارضهم التى تلتقى بها أثناء إقامتها بقاعة جوجان التى أسستها منذ سنوات وغيرها من القاعات فضلا عن مشاهداتها للمتاحف العالمية فى كل مكان، ولعل هذا ما يميز لوحاتها عما يسمى بالفن الفطرى الخالص الذى تنبع فيه التجربة الفنية من مخزون بدائى جمعى، من شأنه أن يقود صاحب التجربة `المبدع` وهو يستجيب لقيادة بتلقائية، كقارب تسوقه الريح بغير مجداف أو دفة، أما قارب منى - برغم تركها له يسرى مع الأمواج على سجيته - فإنها تملك مجدافية وتحرك دفته أينما شاءت ووقتما دعاها `الكنترول الباطنى`، أو ألهمها الميزان البصرى لإقامة التوازن بين علاقات الشكل، من انسجام بين الألوان أو توازن بين الكتل أو انسياب أو تقاطع للخطوط بما ينتهى إلى إيقاع نغمى ترتاح له نفسها.. وقد يقودها هذا ` الكنترول الباطنى` إلى استبقاء مناطق معينة فى اللوحة بدون استكمال أو بدون تلاحم مع ما يحيطها، أو بدرجة كبيرة من خشونة الملمس، أو بنسبة غير قليلة من القتامة التى تقارب الظلمة ثم قد يقودها إلى أحداث مفاجأة بصرية من خلال صدام جاد بين لونين ساخنين، أو بين نور وظل متباينين، أو بين مساحتين لونيتين غير متجانستين بعيدا عن أى منطق واقعى أو أكاديمى، وإنما بمنطق فطرى أقرب إلى الطفولة الأول، وأن له أنظمة نسقيه للألوان تتخطى الأنظمة المعتادة فى الطبيعة ولا ننسى كذلك أن هذه الأنظمة هى التى أسست لدى مختلف الحضارات ذاكرة الإدراك والوعى الجمعى للشعوب، ومن ثم كان الرسم والتشكيل قديما هو الأكثر شعبية ومجانية، أما حديثاً فقد انعكس الوضع فصار هذا الفن أكثر الفنون نخبوية، وربما نجد من يفتعل من الفنانين المعروفين محاكاة الفنون البدائية أو أساليب الطفل فى أعماله الحداثية، فى محاولة لاجتذاب المشاهد نحو منطقة الفطرة الأولى فى الإنسان، لكن منى حسن لا تفتعل ذلك بل تفعله بطفولية حقة بغير تعمد أو قصد .
- ومن شأن هذا النوع من الإبداع غير المؤسس على دراسة أكاديمية ممنهجة، أن يتنقل بين الزهور كفراشة طليقة، أو كطفل يلهو بالأشكال والألوان، فهى - فى إحدى اللوحات - تضع متوازيات من الشرائح اللونية المتجاورة ثم تضيف فى قلب كل منها شكلاً بيضاوياً يضم أشكالاً عضوية تبدو كأجنحة تتحرك داخل الرحم.. وفى لوحة أخرى نجدها تضع شرائح لونية رأسية بشكل مختلف، فبدلا من الأجنة بداخل هذه الشرائح نرى ما يشبه زحاما هائلاً من سيارات ملونة فى شوارع تبدو لنا من منظور عين الطائر .
* خطوط هندسية :
- وفى لوحة ثالثة تقيم تشكيلات بخطوط قوسية ومساحات متزاحمة تتعانق ثم تتفرق، وقد تكون هندسية الخطوط أو عضوية ذات منحنيات ناعمة ومتداخلة، وفى لوحة رابعة نرى دوامة بحرية مخضرة الزرقة وسيط محيط بنفسجى مائل للحمرة يفور فوقه الزبد، وفى خامسة نرى خيالات ملونة كالأطياف المتراقصة، وفى سادسة نرى تأثيرات ملمسية خشنة لجدران تتصاعد للسماء بإيقاعات متباينة يغلب عليها اللون الأزرق، وفى سابعة نرى كائنات نباتية مثل الورود..ووسط كل هذه الرؤى الأقرب إلى التجريد نجد قليلا من اللوحات لمناظر خلوية تبدو فيها بوضوح ملامح لبيوت ومساجد وشرفات ونوافذ، وتنتهى بأرض رمادية قاتمة تتوسطها دائرة أو شكل بيضاوى لا معنى له، أو نجد منظرا لبيوت بيضاء، واطئة لا تتميز بملامح محلية معينة لكنها تمتد متجاورة فى شريط أفقى بعرض اللوحة، ومن فوقها سماء شاسعة بغير حدود تتخللها بضع سحابات رقيقة .
- لكن هذا التفاوت الواضح فى الموضوعات والأساليب يحتوى كذلك على تفاوت نسبى فى مستوى أعمال صاحبه، حيث تترك نفسها للحالة التى تشدها للإبداع بغير تحضير مسبق أو تفنين وفق قواعد معلومة، ويتولى `الكنترول الداخلى` بعد ذلك مهمة القيادة والتوجيه دون تعمد محسوس، غير أن هذا ` الكنترول` تحكمه الفطرة أكثر مما يسيطر عليه العقل ولعل ذلك هو ما يفسر وجود عدد من اللوحات بالمعرض وكأنها طيور شاردة خارج السرب، ولا أعنى هنا موضوعاتها أو حتى اتجاهاتها الفنية، بل أعنى درجة التمكن والسيطرة على عناصرها الشكلية، فتبدو أقرب إلى العفوية - وربما العشوائية - أكثر من قربها من النظام والتوازن والإيقاع .
* أحلام وكوابيس :
- لقد طاف بنا قارب منى حسن بين صور الوجوه وتكوينات الطبيعة الصامتة والخارجية وصولا إلى التأليف التجريدى الذى يتشكل عبر سيولة الألوان وتداخلها، أو عبر تقابل الأشكال والمساحات اللونية المجددة، وعلت بنا فوق الأمواج بالخيال والمفارقة البصرية بين نقيضين حينا، ثم غاصت بنا تحت الأمواج فى رؤى ليلية مليئة بالأحلام أو بالكوابيس أو بالومضات الشعرية حينا أخر، و أعفتنا من قياس أعمالها بمقاييس النقد الصارمة، كونها ترسم بفطرتها النقية من القلب إلى القلب، دون أن تدعى اتباع مدرسة أو اتجاه، ودون حذلقة بلاغية أو استعراض حداثى.
عز الدين نجيب
جريدة القاهرة - 23/ 6/ 2009