عبد الوهاب مرسى السيد
الحضارة : هى مصر
- مصر بكل فترات تاريخها الضارب فى القدم مع الزمان وقبله . - إن عبد الوهاب مرسى وألوانه التى يسكبها عن طريق الحفر والتصوير أغلب الأمر : إنما تعكس ذلك المزيج العجيب الساحر الأخاذ مع عبق الماضى وتراثه ، مهما اختلفت مراحله . - انك ترى فى لوحاته ورسومه وألوانه : مصر ، بجلال تاريخها وحضاراتها من مصرية عتيقة .. سواء فرعونية أو إسلامية . فيها تلعب خيالاته بحروف الكتابة وأشكال الحيوان والطائر قبل الإنسان .. ما يجمعها فى لوحة واحدة .. تنقلك فى ثانية واحدة لتعيش الماضى مع الحاضر .. جسراً فنياً متوارثاً . - إن فن : عبد الوهاب مرسى إنما يعكس فى إطار من انصهار الفن وفتراته التاريخية فى بوتقة لوحاته : تراثاً فكرياً فنياً مصرياً : خالصاً .
كمال الملاخ
- أعمال الفنان عبد الوهاب مرسى تمثل ملحماً متميزا فى حركتنا التشكيلية المعاصرة منذ أكثر من اربعين عاما .
- استلهم ـ كمصور مبدع معطيات الفن المصرى وعاشت فى مخيلته وطوعها لرؤيته وأسلوبه الذاتى المبنى على أسس راسخة من القيم والمبادئ الأكاديمية سواء فى معالجاته اللونية التى تبرز موسيقية العلاقات على مسطح اللوحة التصويرية أو تكوينات العمل الفنى المتماسكة المحبوكة على الرغم من تركيزه على البعدين وليس على البعد الثالث فالتجسيم عنده إيهامى يؤكد ثراءه الإبداعى ومقدرته التعبيرية من خلال القيم الجمالية وشاعرية الحس وثراء الملامس وإرهافها وتأثره بروح الفن المصرى القديم .
- ومن هنا فإننا نرى فى إبداعات عبد الوهاب مرسى دليلاً على فنان استطاع بغير افتعال أن يحل مع نفسه معادلة المحلية المصرية واستلهام الجذور محافظاً على حيوية إبداعاته وإشراقاته اللونية والتكوينية ومقدرته على إشاعة الحس الجمالى لدى المتلقى .
الناقد / كمال الجويلى
عبد الوهاب مرسى ضيف شرف المعرض الجماعى لـ 50 فنانا بقاعة دروب
- والفنان عبد الوهاب مرسى هو من رموز حركة الفن التشكيلى المعاصرة ورغم طول مشواره الفنى فهو لا يتوقف عن التطوير والتجديد وإن كانت الثوابت عنده واحدة فهو بنظر إلى التاريخ القديم ويحول رموزه إلى أداوات حية تختلط برموز الحاضر فهو يعطى الحياة لهذا التراث الفرعونى القديم وإن كان برؤية معاصرة وإذا كان الثابت في أعماله هو هذا الجمع بين الماضى والحاضر فإن المتغيرهو أساليب تعبيره وتقنياته وأدواته فهو قد بأ مشوارة بالتعبيرية الأكاديمية ثم عبر بعد ذلك من خلال الخيالية الرمزية حتى وصل إلى قدر يجمع بين التجريد وذلك الخيال وليس هناك شك فى أنه مبدع ومتجدد . - عبد الوهاب مرسيفنان له موقع خاص وخصوصيته وقد اشتهر بالاعمال الجدارية وهو فى الواقع يقدم هذه الاعمال وغيرها بقدرة فائقة على التعامل مع السطح .. فهو مرة غائر ومرة خشن ومرة بارز يتعامل مع الفراغات بقدرة هائلة على تحويلها إلى جزء من العمل هو باختصار فنان دخل معركة أحياء التراث من بوابة الفن التشكيلى أو بمعنى أصح من بوابة التصوير الجدارى دون السقوط فى الانبهار بالتراث بمعنى أنه تحديثى وليس سلفيا .. ولم ينس يوما أنه ابن القرية المصرية التى تعلم فيها الألوان الواضحة المميزة لبيئة الريف المصرى واخلاقيات هذا الريف في أيامه .. فالفارق كبير ومن خلال مشواره الفنى استطاع ان يقدم العديد من الاعمال التى تجسد الانسان فى صراعه مع الحياة مع عدم اسقاط اصوله الثقافية فنجد الموتيفات الزخرفية ملتزمة بالخطوط المعبرة ملتزمة بالخطوط المصرية القديمة دون نقله لها فتصرفه فى اللون وتكوينه للشخوص والوحدات الزخرفية تعكس استلهامه للتراث وهضمه له ثم استخدام رؤيته الخاصة فى تشكيل العناصر والحرفية العالية فى التقنية وخصوبة خاليه أعطاه مكانته الخاصة والمميزة فى ساحة الفن التشكيلي المعاصر . - والفنان عبد الوهاب مرسى من مواليد الشرقية 1931 وحصل على بكالوريوس كلية الفنون الجميلة القاهرة 1957 , ودبلوم معهد التربية الفنية للمعلمين 1958 ودراسات حرة فى مجال أعمال الحفر بجامعة سان فرنادو (إسبانيا) 1971 -1972. - وعمل بمركز تسجيل الآثار الفترة من عام 1958 حتى عام 1974 وتولى منصب مراقب عام المعارض بالهيئة العامة للفنون والآدب ومراقب عام المتاحف . - أقام العديد من المعارض الخاصة منذ 1961 بالقهرة وجنيف وإسبانيا وبلجيكا والنمسا وفرنسا , والمانيا ويوغوسلافيا كما شارك فى العديد من المعارض العامة والجماعية والحركة الفنية التشكيلية بمصر منذ عام 1958 . أما الجوائز الدولية التى حصل عليها منها : الجائزة الثالثة (الجناح المصرى) بينالي الإسكندرية عام 1970 والجائزة الثانية للبينالي الدولى الثالث ببرشلونة 1971 بالبرتغال , ورشح لنيل الدكتوراة الفخرية من قبل بنك المعلومات الامريكية من جامعة ماركويز جسبى أسكبو بولاية ميسورى وأيضا الميدالية البرونزية لأكاديمية ألبرت أينشتاين (أمريكا) . - وله مقتنيات خاصة لدى الأفراد فى مصر والخارج ومقتنيات رسمية بمتحف الفن المصرى الحديث بالقاهرة والإسكندرية ومتحف بورسعيد والمتحف الوطني الأردنى ومتحف تيتوجراد بيوغوسلافيا والبيت الأبيض بأمريكا والمتاحف الملكى بإسبانيا .
نجوى العشرى
الأهرام 23 /7/ 2009
الفن بين التبعية والإستقلال
- لانستطيع أن نمنع الأفكار الغربية أن` تغزو` عقول فنانينا وتنعكس على لوحاتهم وتماثيلهم وإبداعهم بوجه عام ولاينبغى أن نفعل لو استطعنا لانرفض` البدع` من حيث هى` متغيرات اجتماعية` يتحول بعضها إلى` ثوابت` تقود إلى التقدم الحضارى حتى لو كان أغلبها - كما هو الحال الآن - من النوع العبثى الذى يغمر معارضنا بمساندة لاتكل ممن بيدهم الحل والربط ولديهم الإمكانات الاقتصادية للتشجيع والسلطة التنفيذية لإرسال الوفود والبعثات إلى الخارج ومفاتيح الشهرة المحلية المؤقتة.
- لكننا نستطيع أن ندق نواقيس الخطر وندعو إلى التسلح بدراسة ` التراث المحلى` والبحث عن ` الهوية العربية ` والتعرف على` شخصية مصر` كما صورها الدكتور جمال حمدان. بذلك يأخذ فنانونا من` الواقع الثقافى` المعاصر مايساعدهم على التقدم الحر، دون التعلق بعجلة الآخرين الذين يصدرون لنا فيما يصدرون أنماطاً ثقافية لاتقل فسادا عن اللحوم والأسماك العطنة والمبيدات وأدوات التجميل والأدوية الممنوعة من التداول فى بلادهم تتمثل تلك` الأنماط` من الزاوية الفنية - فى معارض الرسم والنحت الوافدة، التى يتضمن بعضها دعوة إلى إلقاء` التراث` فى البحر والتخلى عن التاريخ والهوية المحلية، والإنجراف مع مايسمى `عالمية الفن`!
- عبد الوهاب مرسى من الرسامين القلائل الذين رفضوا التبعية والأمشق الأورو - أمريكية الواردة عبر الأطلنطى والمتوسط ضرب بجذور إبداعه فى أرض مصر فقدم أشكالا أصيلة مبتكرة تتسم بالمعاصرة من حيث الصنعة والأدوات والخامات والمضمون الإنسانى العام ساعد على ذلك البيئة الإسلامية العريقة التى تحيط بمرسمه فى` قصر المسافر خانة` بحى الأزهر وعمله الوظيفى طوال تمانية عشر عاما فى مركز تسجيل الآثار 58 - 76 يعيد صياغة الصور الفوتوغرافية للفن المصرى القديم ثم يحقق خطوطها ورموزها وتشكيلاتها على الطبيعة فى أرض الواقع، بين أعمدة المعابد وجدران المقابر هكذا نهل من ينابيع التراث وتذوق حلاوته واستشعر عبق الزمان ووجدت روحه الهائمة مرفأ دافئاً على شاطىء الماضى السحيق فكشف عن أسراره وأضاف من مكنون نفسه ما أعاد إليه كثيرا من البهاء والروعة والسحر الذى لاتخطئه عين المتلقى حتى أنه حين عرض لوحاته الزيتية و` الجرافيكية` فى مدينة ` فرانكفورت` فى ألمانيا سنة 1981 أطلق بعض النقاد اصطلاح` مورسيزم` على أسلوبه الفنى، نسبة إلى اسمه ذلك لأن إبداعه نسيج متفرد غير مسبوق هنا أو هناك أما الوحدات التفصيلية التى نلتقى بها فى لوحاته ولها مقابل فى تراثنا الكلاسيكى والشعبىـى، فهى مؤشرات إلى أن الفنان لاينشأ من فراغ ولايمكن أن ينتمى إلا إلى أرضه وناسه.
- إذا قارنا بين لوحة ` بعد المعركة` التى تصور طفلة مضيعة جالسة أمام أطلال بيت محترق - التى رسمها سنة 1957 عقب العدوان الثلاثى على` بور سعيد` وبين لوحتى` الرزق` و` الأرض` اللتين صورهما فى الستينات بعد إلتحاقه بمركز تسجيل الآثار فى نوفمبر 1958 نتبين تأثره بالفن المصرى القديم بعد أن كان` تعبيريا` أوربيا تقليديا إلا أنه أضاف إلى التراث الفرعونى مضامين دنيوية وإجتماعية وحرك عناصره وغير ألوانه وملامسه وزاد رموزه ومزج بينه وبين باقى تراثنا الكلاسيكى من هنا نعتبر` عبد الوهاب مرسى` أصيلا ومعاصرا فى نفس الوقت يعبر بلغة العصر ولايتخلى عن الهوية المحلية التى تشربها منذ نعومة أظفاره فى مدينة ` فاقوس - مسقط رأسه - أو فى مدينتى` أبوكبير` و` الزقازيق` تلك البيئة الريفية الأصيلة التى شب فى ربوعها طوال سنوات التعليم العام لم يتردد على القاهرة إبانها سوى مرات تعد على أصابع اليد ولمدد وجيزة فى الإجازات الصيفية لزيارة ابن خالته - طالب الهندسة - الذى كان سببا فى إلحاقه بالفنون الجميلة بعد أن فشل فى دخول الكلية الحربية لم يخطر بذهنه أن يكون رساما ذات يوم - كان والده تاجرا يعده منذ الصغر ليلتحق بالأزهر لكن الأقدار كانت تدفعه إلى طريق الفن بالرغم من أنه كان يهرب من حصص الرسم فى الإبتدائى والثانوى حتى حين انتظم بمدرسة الفنون الجميلة العليا سنة 1952 لم يلفت نظر أساتذته إلا فى السنة النهائية، حين تفجرت ينابيع موهبته الغالية فأحسنوا استقبالها ورعايتها حتى أصبح النجم المتألق فى الستينيات والسبعينيات ساعد على بروزه أن المسئول آنذاك كان الفنان الراحل عبد القادر رزق ` صاحب المثل الأخلاقية والفضل فى الكثير مما جرا فى الحركة الفنية من مراسم مجانية وتفرغ ومعارض عامة ومقتنيات وجوائز ومتاحف اندثر بعضها من بعده.
- ستوديو` عبد الوهاب مرسى` بقصر المسافر خانة أقرب إلى المخزن منه إلى المرسم حشد من اللوحات والأدوات والألوان والأوانى والمقاعد والمناضد جو إسلامى مملوكى عتيق حافل بالمشربيات والسواتر الخشبية المخروطة بأشكال تقليدية عمرها يزيد على قرن من الزمان لايستشعر الزائر ثمة غرابة فى هذا الجو العجيب بعد أن تكون نفسه قد استعدت وهو قادم يغذ السير فى الحوارى والأزقة الضيقة المتعرجة التى تقوده إلى القصر إبتداء من المدخل البعيد عند مسجد `سيدنا الحسين` حيث بائعو السبح والمكاحل والشموع والبخور والنراجيل والجوز وطراز السابلة الذين كانوا يسيرون هناك منذ مئات السنين بنفس الجلابيب والكوفيات واللاسات والطواقى الشبيكة لم يتغير سوى تلك السيارات الفارهة التى تكاد تسد الطرق.
- فى قاع المكان .. بعد العقد الهائل المفضى إلى حى الجمالية.. وفى نهاية الحارة الكنزة الصاعدة الهابطة الملتوية.. حيث تختلط الفراخ بالبط بالأوز بالأطفال بالقطط والكلاب، يقوم
` قصر المسافر خانه` يضم مراسم الفنانين ومناحتهم وبينها ستوديو عبد الوهاب مرسى الذى لانجد أى تنافر بين لوحاته والجو العام الذى يلف الحى الإسلامى العريق .
- ` الحرية` أحدى لوحات الفنان أبدعها من خليط الرمل والأسمنت الملون على قماش 200×100 سم تصميم متكامل القمة يتميز بالإتزان بين الكتلة والفراغ والسكون والحركة والألوان الدسمة تبدو كأنها لون واحد مع أنها بعيدة كل البعد عن المساحات اللونية الرخيصة والزخرفية إلا أن تلك الابعاد ` الاستطيقية` أبجاديات إبداعية بالنسبة لفنان كبير مثله والمضمون الإجتماعى يكمن فى تلك الرؤية الجديدة لمفهوم الحرية التى رمز إليها بالطيور المحلية وعبر عنها بالإنطلاق أبدعها سنة 1984 للأشتراك فى` بينالى القاهرة الأول` لكن التجريديين العبثيين استبعدوه بدون إبداء أسباب مع أنه مثل مصر أكثر من مرة فى بينالى فينيسيا الدولى سنة 68 - 1976 وقبل ذلك فى بينالى الشباب فى باريس سنة 1965 وبينالى برشلونة فى أسبانيا سنة 1971 حيث فاز بالجائزة الأولى على جميع الدول المشتركة بل عرضت لوحاته فى بينالى الإسكندرية بعد تخرجه مباشرة سنة 1957.
- العناصر الكلاسيكية التراثية التى يضمنها عبد الوهاب مرسى لوحاته تضفى على إبداعه طابعا محليا منتميا لمكان وزمان أما المكان فهو مصر وأما الزمان فهو العصر.
- ينفرد عبد الوهاب مرسى بأسلوب متميز فى كل من` الصنعة والشكل` بصرف النظر عن المضمون واستهدف التعبير عن` الحرية` فى عدد من اللوحات منها واحدة سنة 1982 (90 ×115 سم ) يكاد مضمونها يختفى خلف حشد الرموز وإبهار التكنيك ألوانها الرمادية الساقطة من أعلى تمتزج باللون الطوبى لتشكل خلفية مناسبة لوحدات من النحت البارز والغائر فى تبادل إيقاعى منسجم لاترى بوضوح إلا فى ضوء جانبى ساطع تتنوع العناصر بين الدائرة ورأس الصبى والسمكة والديك والنجوم والرموز هى ركيزة فناننا فى تشكيلاته الإبداعية قبل استخدام ` الخامات الجدارية ` فى مطلع السبعينات يشير بها إلى علاقات الإنسان بالكون والغيبيات استقى معانيها من احتكاكه الوثيق بالرسوم المصرية القديمة وإشاراتها الفلسفية وتأثيراتها السحرية لكنه لايحاكى تركيبها الطبيعى بل يصورها فى علاقات` سيريالية` غير منطقية وفق المقتضيات` الاستطيقية ` فترى فى هذه اللوحة قوسا على اليسار يرمز لقارب الحياة من تحت خطوط متكسرة ترمز للسماء وكلاهما فى وضع رأسى غير منطقى لكنه متجانس مع التكوين العام.
- يحاول ` مرسى` بهذا الأسلوب أن يجد منفذاً لربط الإبداع الفنى المعاصر بتراثنا الفرعونى الذى كان يعتمد على التصوير الجدارى نحتا ورسما فى تعبيراته الفنية هكذا نقل فناننا طبيعة الجدار على قماش اللوحة المنفصلة ومزج النحت بالرسم الملون إلا أن لوحاته - بهذه الطريقة تندرج فى بطاقة ` النحت البارز والغائر` وتفقد علاقتها بالرسم الملون` التصوير` من حيث هو مسطح ذو بعدين بالرغم من إصرار المسئولين فى حركتنا الفنية على خلط الفنون الجميلة بالتطبيقية بتمارين التربية الفنية تحت الشعار الخادع الفضفاض: فنون تشكيلية ` حتى يتمكن التطبيقيون والتربويون من توجيه حركة الفنون الجميلة.
- مهما يكن من أمر فإن الفنان الفرعونى كان يبدع لوحاته على جدران مكان معين لتؤدى رسالة خاصة فى معبد أو مقبرة وكانت الرموز ذات وظيفة شعائرية ومعان سحرية أما القيمة العالية فى إبداع `عبد الوهاب مرسى` فتكمن فيما تتضمنه هذه الرموز والعناصر التراثية من طاقة حيوية وتوزيعات جمالية فضلا عن الجاذبية والطرافة والقدرة على الإمساك بمشاعر المتلقى الذى لايخطىء تذوق نكهتها الشرقية وأصالتها وهويتها .
- غنى عن القول أن البناء الثقافى للشباب هو الفيصل فى تحديد المستقبل ومدى النجاح فى تحقيق الأهداف والبروز فى خضم المجتمع العريض لانعتقد أن فى مكنة أى إنسان - مهما كان موهوبا ومهما تبوأ من مراكز - أن يكون ` شيئاً` إلا إذا ترعرع فى بيئة ثقافية مناسبة لن يجدى أحداً أن يعمل ليل نهار دون قراءة الكتب وصحبة المفكرين يقول المثل الصينى ` اليوم الذى يمضى دون أن تقرأ فيه جديدا يفقد حديثك طلاوته ويقول المثل الانجليزى ` كن عظيما وصاحب العظماء.`
- نذكر هذه العبارات فى معرض إشارتنا إلى البيئة الثقافية التى نشأ فيها `عبد الوهاب مرسى` والزمرة التى صاحبها فى شبابه
والكتب التى قرأها هذه المصادر الثقافية - وأن لم تكن كثيرة ومنوعة - فهى مناسبة للمضامين المحدودة الكامنة خلف إبداعه فقد شب كما ذكرنا فى حقول وقرى الشرقية، حيث الريف البسيط الكريم القوى الخصب الذى يرسى فى صدور أبنائه شعورا عارما بالإنتماء حفظ الكثير من آيات القرآن الكريم فى طفولته الغضة حين كان يتردد على المعهد الدينى فى ` فاقوس` كل صباح ويختلف إلى مدرسة الأمريكان الإبتدائية بعد الظهر وفى المرحلة الثانوية - فى الأربعينيات إبان إقامته وحيدا فى مدينة ` الزقازيق ` - إلتقى برائد الشعر الحديث الراحل` صلاح عبد الصبور` ورائد الشعر الغنائى الحديث الراحل مرسى جميل عزيز والمطرب الموهوب` عبد الحليم حافظ ` لم يفقد تلك العلاقة الصحية بعد إلتحاقه بمدرسة الفنون الجميلة بالقاهرة كانوا يلتقون بنادى المعلمين بميدان الأوبرا وقد زاملهم الكاتب الكبير فاروق خورشيد كما تابع فى تلك المرحلة مؤلفات طه حسين ونجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس فضلا عن مقالات أصدقائه وأشعارهم هكذا كان فى شبابه متبسطا تقدميا ينتظم صفوف الطليعيين الإنتمائيين المتطلعين إلى مستقبل أفضل ومازالت لوحاتهم تتسم بهذه المضامين، وتنضح بقراءاته وأفكار رفاق الشباب، الذين أثبتوا أنهم من بناة الثقافة المصرية الحديثة وليس من قبيل الصدفة أن يتمتع `عبد الوهاب مرسى` بتقدير كبير فى الوسط الثقافى المصرى والعربى، ويلفت أنظار البلدان الأوربية التى زارها بلوحاته المثيرة ذات الهوية المصرية .
- اتخذ مرسمه فى قصر المسافر خانة فى نهاية الستينات ذهب محملا بخبراته مع الفن المصرى القديم، فربط بينه وبين الفن الإسلامى المملوكى ممثلا فى `المسافر خانة` نفسها و` وكالة الغورى` - حيث مجموعة أخرى من المراسم - وحى الأزهر بعامة هناك بدأ ` الاستنساخ الفنى` المتخذ طابع القدم وشكل الأوراق المحترقة المعاد ترميمها مع إستمرار الرموز المستلهمة من الوحدات المصرية والقبطية والإسلامية والشعبية لكنه يغير ألوان وملامس كل ` نسخة` حتى تختلف عن سابقتها فيما عدا التصميم الأساسى فتصبح وسطا بين `الرسم الملون` و`الطباعة` ربما كان هذا الأسلوب المستحدث السبب المباشر فى ذيوع اسم الفنان وانتشاره لجأ إليه حتى لايتخلى عن لوحاته الزيتية التى اشتد الإقبال على اقتنائها خاصة وأن المسافر خانه مزار سياحى يستقبل الوفود الأجنبية من هواة الفنون فهى تتبع هيئة الآثار ويرجع الفضل فى تحويلها إلى` ستديوهات` مع زميلتها ` وكالة الغورى` لمؤسس حركة الفنون الجميلة الحديثة فى مصر :الفنان الراحل عبد القادر رزق وبصرف النظر عن نوع الإبداع نحتا كان أو تصويرا أو حفرا فإن `عبد الوهاب مرسى` يستطيع أن يجد . ثمة علاقة وثيقة بين الفن والمجتمع المحلى كمظهر إنتمائى لايخفى على أحد .
- بدأ حياته كرسام معترف به فور تخرجه فى مدرسة الفنون الجميلة رفض العمل مدرسا فى الصعيد والتحق بمعهد التربية للمعلمين ثم تركه حين استدعته إدارة القوى العاملة ليشغل وظيفة ما فى مصلحة الموازين قبل أن ينقل بعد شهور إلى`مركز تسجيل الآثار` لكنه فى نفس العام صادفت أعماله ترحيبا فى الأوساط الفنية ، واختارها كبار النقاد والفنانين المشرفين على بينالى الإسكندرية الدولى لتمثل مصر مع نخبة من طليعة فنانينا واقتنى ` متحف بور سعيد ` إحدى لوحاته الكبيرة بعنوان` بعد المعركة ` كان منهجه الفنى الذى عرف به التعبيرية ذلك الأسلوب الذى ابتكره فنانو فرنسا منذ عام 1905 يتميز بالمبالغة فى كل من الألوان ونسب الأطراف وتعبيرات الوجوه ومسرحة الموضوع وإظهار المضمون المأساوى بصراحة فجة .
- سرعان ماتخلى عن هذا الاسلوب التقليدى الذى انتشر بين فنانى العالم الثالث فى ذلك الحين خاصة مصر، التى كانت تجتاز مرحلة فوران إجتماعى إنفعالى يناسب ظهور مدرسة فنية تعبيرية لكنها فى نفس الوقت كانت تخطو نحو عصرها الثقافى الذهبى فى الستينات فتردد فى سمائها شعارات الإنتماء التى تلاقى استقبالا حسنا فى أوربا كلما سافر فنانونا إلى المحافل الدولية .
- لوحة ` الرزق ` - زيت على خشب 84 ×59,5سم -1960 بداية الأسلوب الجديد النابع من ابتكارات` عبد الوهاب مرسى` وتفرد به عن بقية جيله تطويع التقاليد الفن المصرى القديم لمتطلبات العصر والمضامين المستحدثة تكوين يغلب عليه اللون الأحمر الطوبى مع تنويعات من الملامس تمنح العمل مزيدا من الواقعية والحيوية يتألف من شخصين متقابلين فى حركات فرعونية نمطية رشيقة ينشران شبكة تتعلق بها الأسماك يحلق من فوقها سرب الطيور البيضاء من فوقه الشمس فى كبد السماء معزوفة تصويرية متكاملة هادئة مثيرة للخواطر اختارتها وزارة الثقافة لتمثل مصر فى كتاب ` الفن المصرى المعاصر` جنبا إلى جنب مع لوحات الرواد يوسف كامل وأحمد صبرى والمحدثين حامد ندا وفؤاد كامل كما اقتناها متحف الفن الحديث بالقاهرة.
- اللوحة الثانية التى تحدد إتجاه الفنان إلى` تأصيل` إبداعه هى` الأرض` - زيت على ورق مضغوط 150 ×100 سم - 1960 فلاحان خلف محراث يشق الأرض الحمراء بلون الحياة حركاتهما مع الثورين من أمامنا تعيد إلى الأذهان صور المعابد والمقابر المصرية القديمة وتذكرنا بالرسام الراحل` راغب عياد` الذى كان أول من ارتاد طريق استلهام الرسم الفرعونى، نحس فى` أرض ` عبد الوهاب مرسى بعظمة الإنسان المصرى وشموخه وفروسيته واعتزازه بالأرض التى إمتلكها بعد طول حرمان إحساس أتقن الفنان تجسيده وقد عاشه طوال فترة طفولته وشبابه لاتخرج الألوان هنا أيضا عن درجات الطوبى الأحمر مع تغاير الملامس الأمر الذى يضفى على اللوحة جوا من الرهبة والحيوية وإشتهر عبد الوهاب منذ دخوله دائرة الضوء بأنه فنان ` مضمون` لايبحث عن الأشكال لذاتها بدأ بهاتين اللوحتين .
- ` الرزق ` و` الأرض` مسيرته فى دنيا الرسم المصرى المعاصر لم يتوقف عن التطوير والتغيير والتعميق حتى تحول إلى لوحات النحت البارز الملون أحيانا فى مطلع السبعينات.
- صورة ` لعبة مصرية` - زيت على ورق مضغوط 80 × 115 سم 1963 استمرار تأثره بالطراز الفرعونى فى رسم الأشخاص حركات الأطراف وإقتصار الألوان على مساحات محددة من الأحمر الطوبى الدسم الذى يتحول فى الملابس إلى الأبيض تقريبا وفى الأجسام إلى البنى الداكن مع ثراء الملامس - أى مدى خشونة أو نعومة مرأى السطح أما التكوين فمستلهم من الفن الإسلامى الذى كان مولعا بالتماثل مع تناثر وحدات رمزية زخرفية مختلفة موضوع متوافق العلاقات يوحى بالبهجة والمرح ويشعرنا بالألفة وراحة البال وهى مضامين جديرة بأن تكون هدفا لعمل فنى كامل: رسما كان أ نحتا أو شعرا أو موسيقى.
- إلا أنه كما تخلى عن` التعبيرية ` من قبل سرعان ما استنفد تجربته المستلهمة من ` طراز الرسم الفرعونى` واتجه إلى ` التجريد الرمزى ` مستخدما الوحدات التراثية التى أسلفنا الإشارة اليها كما فى لوحة ` مسار كوكب` التى أبدعها بعد سلسلة من أعمال الجرافيك والرسم الزيتى والنحت البارز الغائر - زيت على ورق مضغوط 90 ×115 سم -1978 شغلته قصص رحلات الفضاء التى احتكرت عناوين الصحف والمجلات وتصدرت نشرات الأخبار فى الإذاعة والتليفزيون فأبدع مجموعة من اللوحات بعنوان` فضائيات` لكنه لم يكن تجريديا عبثيا هزيلا فارغا من المضمون الإنسانى، بل كان بليغا فصيحا صادق العاطفة قوى الإنفعال بسط عناصره ليعبر عن تأملاته الصوفية فى قدرة الخالق وعظمة الكون وسطوة الطبيعة ورؤى فكرية فى صياغة فنية بمدركات ومواقف جمالية رسم الأفلاك والكواكب والألوان الفراغية الغريبة كما وصفها الرواد ووظف الزخارف العربية الهندسية والنظم اللونية الموزعة بين الأزرق والأحمر بدرجاتها ليوحى بالحركة الديناميكية الهائلة حتى ليشعر المتلقى بعد قليل من التأمل أنه يسبح بدوره فى الفضاء ولايخطئه التوفيق فى تحديد الهوية المصرية الشرقية للعمل الفنى .
- ثلاثة أساليب إبداعية مارسها ` عبد الوهاب مرسى` فى وقت واحد بخامات مختلفة هى : الرسم الزيتى الإستنساخ أو الطباعة الفنية والمسطحات النحتية الملونة التى وصل بها إلى درجات رفيعة من الإتقان والفتنة كما فى لوحة ` طائر الشمس ` - رمل وأسمنت وألوان بلاستيك - 80 ×110 سم - 1983 طائران من نوع الصقر المصرى يحلقان خلف قرص الشمس الأحمر تعبير جديد عن الحرية والروح العالية الأبية لم يلجأ فيها كثيرا إلى البروز والإنخفاض مكتفيا بالخامات الجدارية وملمسها الحجرى وألوانها الدسمة .
- تتضح أفكاره الفلسفية أيضا فى لوحاته المستنسخة التى يعيد صياغتها واحدة بعد أخرى من بينها ` دورة الحياة` - 30 × 40 سم - 1968 : أخبار وألوان مختلفة على ورق يوحى بالقدم والدوام بطريقة تكمل معنى الأشكال الآدمية المحلقة فى أعلى التكوين تدور حول شخصية مركزية تحيطها معزوقة من الرموز والأشكال تنم عن أفكار قدرية وإجتماعية .
- تمكن `عبد الوهاب مرسى` بلوحاته المختلفة الأساليب من أن يصل بفن الرسم الملون فى مصر إلى مستوى الشعر المعاصر والموسيقى، مسهما بذلك فى تأسيس ما يصبح أن نسميه ` الواقعية المصرية الجديدة .. التى تجمع بين الإنتماء الشكلى والمضمون الإنسانى ...
بقلم : د./ مختار العطار
من كتاب ( رواد الفن وطليعة التنوير فى مصر- الجزء الثانى )
- إن عبد الوهاب مرسى وألوانه التى يسكبها فى لوحاته فى أغلب الأمر ما يغتنم هذا المزيج العجيب الساحر الأخاذ من عبق الماضى وتراثه .مهما اختلفت مراحله . فأنك ترى فى لوحاته وألوانه مصر بجلال تاريخها وحضاراتها من مصرية العتيقة . سواء كانت فرعونية أو إسلامية . فيها تلعب خيالاته بحروف الكتابة وأشكال الحيوان والطائر قبل الإنسان يجمعهم فى لوحة واحدة .. تنقلك فى ثانية واحدة لتعيش الماضى مع الحاضر .. جسراً فنياً متوارثاً .إن فن عبد الوهاب مرسى إنما يعكس انصهار الفن وفتراته التاريخية فى بوتقه لوحاته تراثاً فكرياً فنياً مصرياً خالصا .
الناقد الأستاذ / كمال الملاخ
-عرفته طالباً يتحسس طريقة فى متاهات الفن بدهشة وحذر .. وحيرة أيضاً، وعرفته وهو يصارع مارد التفوق عندما كان منذ البداية يرفض الهامشية ويسعى إلى التفرد .. وعرفته كذلك عندما دفعه قدره إلى العمل بمصلحة تسجيل الآثار لتكون معايشة الرسوم الفرعونية زاده اليومى، بل وهواءه الذى يملأ رئتيه ويتسرب تدريجيا إلى خلايا روحه وعقله.. وعرفته بعد ذلك وهو يصعد سلم النجومية لكى يصبح واحدا من أبرز فنانى السبعينات وما بعدها بأسلوبه المتفرد الذى لم يتنازل عن أصالته فى أى مرحلة من مراحل إبداعه المتواصل .. واليوم يطالعنا بحصيلة رحلة ثلاثين عاماً من العمل المتجدد، يعرضه علينا كألبوم حافل جديد. والمثابرة والإيمان بأن الانتماء للجذور هو منبع الأصالة والاستمرار الحضارى ولغة التواصل بين الأجيال.. ومراقبة الفنان عن كثب وهو ينمو ويتطور يوما بعد يوم متعة لا تعادلها متعة وخاصة بعد أن يصبح ملء السمع والبصر .. وما نشاهده اليوم من أعمال تصويرية للفنان القدير عبد الوهاب مرسى يمثل صفحات مضيئة فى مجلد ضخم، وملحمة تصويرية تقوم فيها الخطوط والألوان مقام الكلمات والأبيات ..
- وباستعراض الخط البيانى الصاعد للفنان عبد الوهاب مرسى منذ أن بدأ رحلته رساماً فى مركز تسجيل الآثار وتأثره العميق بالفن المصرى القديم .. الذى بدأ يتسلل إلى لوحاته ببساطة ورمزياته وتسطيحه وشاعريته ، نجد هذا التأثر ينمو ويتطور مع الأيام ويزداد إستقلاله عن مصادره ويتحرر من النمطية التقليدية وتستقر فيه المسحة الأصلية والمذاق المصرى الحريف الذى يتوائم مع العصر، مقتربا أكثر وأكثر من التجريدية التى نفذها بنكهة هيروغليفية غير مقلدة، مستخدماً عنصر الزمن فى نسيج وملمس ولون لوحاته للإيحاء بالقدم حتى تبلورت شخصيته تماماً وصار أحد أعلام فن التصوير المصرى المعاصر الذى يهدف إلى تحقيق الأصالة والمعاصرة والإفادة من التراث دون إفتعال أو تشنج بنفس البلاغة التى يتحدث بها من خلال عجائن الألوان. عبد الوهاب مرسى يتحدث بلغة عجائن الرمل بنفس البلاغة التى يتحدث بها من خلال لغة الألوان ويضفى الفنان عبد الوهاب مرسى فى تجربته الجديدة بعداً جديدا سواء فى السطح أو فى الملمس فذاكراته ما زالت تعى أن التصوير الجدارى القديم لم يكن تصويرا صرفا . ولا النحت البارز كان كذلك.. فقد كان التصوير الجدارى عادة يصاحب النحت البارز ويذوب فيه بحيث نستطيع أن نقول أنه نحت ملون أو تصوير بارز. ومن هذا المنطلق يبدأ عبد الوهاب مرسى مرحلة جديدة تتصل بالتراث مستعيناً بالعجائن الرملية الخشنة فى إضفاء شىء من البروز يتناغم فوق سطح اللوحة صعودا وهبوطا. وفق تصميم يلتزم بالنهجة (الوهابية) الذى عرف بها أسلوبه، وبهذا يدخل عنصر الرمل الحقيقى كمنافس جديد للفرشاة أو ليتحالف معها فيما يمكن أن نسميه (النحتصوير) ليكسب أعماله المزيد من الصلابة والوجود والخشونة التى تقتحم مشاعر المشاهد .
الناقد الفنان / حسين أمين بيكار
عبد الوهاب مرسى فنان استلهم معطيات التراث والفن المصرى القديم
الفنان القدير عبد الوهاب مرسى الذى اختير مؤخرا من قبل مؤسسة السير الذاتية الأمريكية ` العقل المتميز فى مجال الفنون للقرن الواحد والعشرين ` حيث حققت أعماله الفنية التزاوج بين التراث والمعاصرة برؤية ابتكارية متفردة ..
وآخر معارض اشترك بأعماله فيها كان بقاعة دروب كضيف شرف فى معرض الأعمال الصغيرة والذى ضم أعمال 60 فنانا من جميع الأجيال والاتجاهات الفنية.
فأعماله تمثل ملحما متميزا فى حركتنا التشكيلية المعاصرة منذ أكثر من أربعين عاما استلهم كمصور مبدع معطيات الفن المصرى القديم وعاشت فى مخيلته وطوعها لرؤيته وأسلوبه الذاتى المبنى على أسس راسخة من القيم والمبادئ الأكاديمية سواء فى معالجته اللونية التى تبرز موسيقية العلاقات على مسطح اللوحة التصويرية أو تكوينات العمل الفنى المتماسكة المحبوكة على الرغم من تركيزه على البعدين وليس على البعد الثالث فالتجسيم عنده ابهامى يؤكد ثراءه الإبداعى ومقدرته التعبيرية من خلال القيم الجمالية وشاعرية الحس وثراء الملامس وارهافها وتأثره بروح الفن المصرى القديم ومن هنا فإننا نرى فى إبداعات عبد الوهاب مرسى دليلا على فنان استطاع بغير افتعال أن يحل مع نفسه معادلة المحلية المصرية واستلهام الجذور محافظا على حيوية ابداعاته وإشراقاته اللونية والتكوينية ومقدرته على إشاعة الحس الجمالى لدى المتلقى .
وعبد الوهاب مرسى فنان له موقع خاص وخصوصيته وقد اشتهر بالأعمال الجدارية وهو فى الواقع يقدم هذه الأعمال وغيرها بقدرة فائقة على التعامل مع السطح فهو مرة غائرومرة خشن ومرة بارز يتعامل مع الفراغات بقدرة هائلة على تحويلها إلى جزء من العمل وهو باختصار فنان دخل معركة إحياء التراث من بوابة الفن التشكيلي أو بمعنى أصح من بوابة التصوير الجدارى دون السقوط فى الإنبهار بالتراث بعنى أنه تحديثى وليس سلفيا ولم ينس يوما أنه ابن القرية المصرية التى تعلم فيها الألوان الواضحة المميزة لبيئة الريف المصرى وأخلاقيات هذا الريف فى ايامه فالفارق كبير ومن خلال مشواره الفنى استطاع أن يقدم العديد من الأعمال التى تجسد الإنسان فى صراعه مع الحياه مع عدم اسقاط أصوله الثقافية فنجد الموتيفات الزخرفية ونجد الخطوط المعبرة ملتزمة بالخطوط المصرية القديمة دون نقله لها فتصرفه فى اللون وتكوينه للشخوص والوحدات الزخرفية يعكسان استلهامه للتراث وهضمه له ثم استخدام رؤيته الخاصة فى تشكيل العناصر والحرفية العالية فى التقنية وخصوبة خياله أعطته مكانته الخاصة والمميزة فى ساحة الفن التشكيلى المعاصر .
والفنان عبد الوهاب مرسى هو من رموز حركة الفن التشكيلى المعاصرة ورغم طول مشواره الفنى فهو لا يتوقف عن التجديد والتطوير وإن كانت الثوابت عنده واحدة فهو ينظر إلى التاريخ القديم ويحول رموزه إلى أدوات حية تختلط برموز الحاضر فهو يعطى الحياة لهذا التراث الفرعونى القديم وإن كان برؤية معاصرة وإن كان الثابت فى أعماله هو هذا الجمع بين الماضى والحاضر فإن المتغير هو أساليب تعبيره وتقنياته وأدواته فهو قد بدأ مشواره بالتعبيرية الأكاديمية ثم عبر بعد ذلك من خلال الخيالية الرمزية حتى وصل إلى قدر يجمع بين التجريد وذلك الخيال وليس هناك شك من أنه مبدع ومتجدد .
عبد الوهاب مرسى من مواليد 23/2/1931 حصل على بكالوريوس كلية الفنون الجميلة بالقاهرة عام 1957 ودبلوم معهد التربية الفنية للمعلمين عام 1958 ودراسات حرة فى مجال أعمال الحفر بجامعة سان فرناندو ` إسبانيا ` عام 1971-1972، وشغل كثيرا من الوظائف والمهن منها العمل بمركز تسجيل الآثار من الفترة من عام 1958 وحتى عام 1974 وتولى منصب مراقب عام المعارض بالهيئة العامة للفنون والآداب ومراقب عام المتاحف ومن المعارض التى شارك فيها العديد من المعارض العامة والجماعية والحركة الفنية التشكيلية بمصر .
نجوى العشرى
القاهرة 2014
استلهام التراث الفرعونى والإسلامى وتقديمه فى صياغة حديثة
- محظوظ ذلك الفنان الذى يعيش فترات تحول اجتماعى تزيح القديم الراكد والمستعمر الظالم ، وتبشر بعصر جديد ينال فيه المجتمع نصيباً أوفر من الحرية والاستقلال، مع نزعة واضحة نحو تأكيد مبادئ العدل .
- وفناننا التشكيلى عبد الوهاب مرسى (1931) من هؤلاء المحظوظين الذين عاصروا فترة من أخصب فترات التحول الاجتماعى الذى شهدته مصر.
- فقد بدأ حياته الفنية عام 1956 فى عز الصراع الذى خاضته مصر عبد الناصر من أجل تأكيد الاستقلال واستعادة أملاك الشعب ، فتفاعل مع جسامة هذه الأحداث التاريخية وانحاز إلى الأفكار المتقدمة ، وراح يرسم بأسلوب تعبيرى مشحون بالدلالات بشاعة العدوان الذى تعرض له الشعب المصرى من قبل ثلاث دول طاغية هى انجلترا وفرنسا وإسرائيل.
- فى عام 1957 تخرج عبد الوهاب فى كلية الفنون الجميلة بالقاهرة قسم التصوير، وطوال فترة الخمسينات والستينات ظلت لوحاته تلاحق بأسلوب فنى متميز التطور الاجتماعى والمد القومى الذى ساد المنطقة فى هذا الزمن المنصرم.
- ومع مجئ السادات للحكم دارت الأيام دورة معاكسة ، واختلت المعايير وتبدلت الثوابت وسادت أفكار تغريبية فى الفن كما فى المجتمع ، أفكار تدعو للإطاحة بكل ما هو مصرى وعربى وتطالب بالسباحة فى بحر الغرب المضطرب الأمواج.
- عند ذلك الحد توقف عبد الوهاب مرسى ، وبدأ يبحث عن جذوره كفنان مصرى عربى، وهاهو فى `50` لوحة معظمها منفذ بألوان الزيت يقدم حصاد الرحلة المرهقة.
- أول ما يلفت الانتباه فى هذه المجموعة الفنية هو هذه القدرة على استلهام التراث الفرعونى والإسلامى وتقديمه فى صياغة عصرية جذابة ومدهشة، وقد فسر لى الفنان الكبير السبب بقوله : ` لقد عملت فى مركز تسجيل الأثار الفرعونية 18 عامأ متصلة ، فثبت لى كم نحن جاهلون بتراثنا العريق `.
- ففى لوحة ` حكاية مصرية قديمة ` يشدنا هذا المشهد المسرحى الذى احتضن بطلات اللوحة ، وقد اتخذت الشكل الشائع لرسم المرأة فى الرسوم الفرعونية، حيث الوجه بروفيل، بينما الجسد فى المواجهة، ولكن علينا أن نؤكد أن الفنان لم يحاك هذه الرسوم الفرعونية تماماً، بل استعرض منها الشكل العام، فالنساء عنده محرمات من وجود الأذرع مثلاً، كذلك اختفت تفاصيل كثيرة مثل القدمين التى استقرت فى مساحة قاتمة.
- وزع الفنان بطلات لوحات بأسلوب مكن البنايات المعمارية من التواجد القوى فى العمل ، تلك البنايات التى تذكرنا بمفاخر من العمارة الإسلامية من حيث جلال الواجهات التى ازدانت بالعديد من الموتيفات والعناصر والهندسية مثل المربع والمعين ، فى هذا العمل ، تحرر الفنان من ركود القوانين الكلاسيكية فى فن التصوير، مثل المنظور ، ` الفورم` ، تحديد مصدر ثابت للضوء ، فقد جاء المشهد المرسوم مسطحاً كما نشاهد ابداعات القدماء على جدران المعابد ، واستبدل بالمنظور أو البعد الثالث، تعدد المستويات، فهناك بعض النساء وقفن فى نفس المستوى الذى استقرت فيه البنايات المعمارية، والبعض الآخر استكان فى المستوى الأرضى على حافة اللوحة من أسفل ، إن هذا التباين فى المستويات هو الذى يحقق المنظور وفقاً للتراث العربى الإسلامى فى الفنون الجميلة ، كما رأيناها فى إبداعات الأولين.
- ثنائية السطح واللون
- مع ظهور المدرسة التأثيرية فى النصف الأخير من القرن الماضى فى أوروبا، أصبح الفنان فى حل من اتباع السلف الصالح من الفنانين عند معالجة سطح اللوحة، حيث دأب الفنانون طوال القرون الفائتة على منح اللوحة سطحاً ناعماً قدر الطاقة، وكانت درجة نعومة السطح هذه تعد من القيم الجمالية التى تحتسب عند تقدير اللوحة ، فكلما تمكن الفنان من صنع سطح أكثر نعومة، كلما زادت قيمته الفنية.
- أما الآن فالوضع مختلف، فأصبح نعومة السطح أو خشونته تحتمها ضرورات العمل أو الموضوع المرسوم، وقد انحاز الفنان عبد الوهاب مرسى فى معظم لوحاته إلى إنجاز أسطح خشنة بشكل عام ، حيث تلعب هذه الخشونة دوراً فى تعميق إحساسنا بتاريخية اللوحة، وامتدادها فى الزمن.
- إن عجينة اللون عند هذا الفنان تتسم بالكثافة والثراء، خاصة وأنه جنح لعزف موسيقى الظل والنور ببراعة واقتدار.
- عندما تشاهد لوحاته لأول مرة، لا يمكن أن تستقر على تفسير وحيد ، بل تجد نفسك دائماً تلهث خلف فك رموز وطلاسم اللوحة ، إن لوحات عبد الوهاب مرسى تلمح ولا تصرح، تهمس ولا تصرخ، ففى لوحة ` المراة والهلال ` نتلمس هذا الجسد الأنثوى المتخفف مثل انضباط النسب التشريحية، والغارق فى غابة من المساحات والزخارف الهندسية ، بينما اللون الأخضر الزرعى- رمز الخير- يغمر كل الجسد، فى حين يستقر هلال على دائرة قاتمة أعلى اللوحة.
- إن الأحمر القانى الذى يحيط بالهلال ، وتخترقه وحدة زخرفية من المساحات الهندسية قد يشير إلى صراع الشر مع الخير، باعتبار أن الأخضر رمز لهذا الخير!
- إن الميل لملء فراغ اللوحة بخطوط قاتمة صارمة، تخترق العناصر والمساحات بخجل، يؤكد استلهام عبد الوهاب لأسلوب الفنان الإسلامى القديم، الذى كان يشعر بالذعر أمام الفراغ، فنجده قد طعم هذا الفراغ بشبكة لا نهائية من الزخارف النباتية والهندسية دعمت فكره الدينى، الذى يظن أن الشيطان يتسلل من هذا الفراغ من ناحية ومن ناحية أخرى أكدت فكرة الله/ المطلق ، الذى ليس له أول أو أخر.
- فى إحدى لوحاته المدهشة، اقترب الفنان من الهرم ، ذلك البناء الشامخ الذى يرمز دون مواربة إلى العصر الفرعونى كله ، قدم عبد الوهاب تكويناً خلاباً قوامه عدد من الأهرام متعددة الأحجام والأشكال، ومنثورة بحكمة فى فضاء اللوحة، إن تداخل عناصر اللوحة بشكل يوحى بشفافية هذه العناصر كما لو كانت مصنوعة من الزجاج، هى إحدى سمات أسلوب عبد الوهاب مرسى، فمثلاً ، نجد الهرم وقد اخترق جزءا من أحد الوجوه الفرعونية أو نتحسس هذه المجموعة من البشر والتى تحور شكلها ولخص بطريقة هندسية مثيرة، والتى ملأت الجزء السفلى من اللوحة .
- يؤكد عبد الوهاب مرسى نفوره بشكل عام من عمل ` الفورم` ( التجسيد) لشخوصه وعناصره وله فى هذا الأمد رأى واضح حيث يقول: ` لأن لنا سمات وصفات ومنهجاً استلهمناه من الأصول، والفن المصرى القديم والعربى الإسلامى مسطح، ويلعب خط تحديد الأشكال دوراً مهماً فى إبرازها `.
- يبدو انشغال الفنان بتحقيق البعد الدرامى فى اللوحة أساسياً، وقد تمكن من توظيف اللون بطريقة تفاقم من حبكة الدراما، فمثلأ نجد الأصفر المضئ يخترق عتمة الألوان القاتمة أو يشتبك الأحمر الدافئ مع هدوء الأخضر، فتفجر اللوحة بحرارة مدهشة.
- عبد الوهاب مرسى فنان نابه ومتدفق الإبداع، يصطاد من التراث أثمن ما فيه ليصيغه لنا فى سبائك فنية حديثة منضبطة الإيقاع، عالية القيمة، تدعمه موهبة طاغية وخيال طازج ، وحس وطنى رفيع.
بقلم : ناصر عراق
من كتاب ملامح وأحوال
|