حريم .. حريم ` يفضح العنصرية فى لوحات المستشرقين`
- بلغ الاستشراق الغربى ذروة نشاطه فى القرن التاسع عشر، وامتد هذا النشاط إلى بدايات القرن العشرين. وتأسست فى العواصم الغربية استوديوهات أخرجت لنا العديد من اللوحات المبهرة عن الحياة فى الشرق. وكان للفنانين دور مثير فى رسم النساء الشرقيات، فلم تخل لوحة من لوحات المستشرقين من التعرض لحياة النساء فى الشرق، وكان رسمهن يعد أحد أهم المواضيع الأثيرة لدى الفنانين الغربيين الذين بدوا متأثرين إلى حد كبير بالحكايات التى سمعوها عن الشرق وغذتها فى مخيلتهم الترجمات المتوالية لألف ليلة وليلة. لذا اختلطت الحقيقية بالخيال فى غالبية هذه الأعمال، خصوصاً أنها اعتمدت فى الغالب على مخيلة هؤلاء الفنانين الذين واجهوا صعوبة فى رؤية مثل هذه المشاهد بالعين المجردة.فعبرت الغالبية العظمى من هذه الأعمال عن حياة الترف فى قصور الأمراء والنبلاء مصورة أجنحة الحريم والحمامات ولحظات التزين والتسلية، والمتعة التى كانت تحظى بها النساء والمحظيات من الجوارى. وتظهر لنا العديد من هذه اللوحات الاستشراقية الكلاسيكية مدى ما كانت تتمتع به حياة النساء من ترف وخمول وكسل .
- وحاولت الفنانة المصرية رشا رجب تسليط الضوء على مثل هذه اللوحات من خلال عرض `حريم - حريم ` للفت الانتباه إلى أحد الجوانب التى تستند إليها رؤية هؤلاء المستشرقين للحياة فى الشرق، والعنصرية المتمثلة فى نظرتهم الدونية لذوى البشرة السوداء. هذه العنصرية انعكست فى أعمالهم والأدوار التى توكل للشخصيات المرسومة فى أعمالهم، حيث تتولى النساء من ذوات البشرة السوداء فى غالبية الأحيان وظائف الخدم والعبيد أو من يقومون بخدمة الأخريات من ذوى البشرة البيضاء.
-التقطت رشا رجب هذا الخيط وحولته إلى موضوع يدور حوله عرض `حريم - حريم` الذى قدمته فى قاعة الباب فى القاهرة. ويعتبر الأداء الحى أو ما يسمى بالانكليزية `بيرفورمانس` أحد أشكال التعبير الحركى التى عرفت طريقها إلى جملة الفنون البصرية، ويرتكز على العلاقات التشكيلية بين العناصر المختلفة المكونة له من لون وحركة، وأداء تمثيلى .
- وفى هذا العمل قامت رجب بدور الوصيفة وسط أجواء تتشابه إلى حد كبير مع أجواء لوحات لكلود مونيه وأوجين ديلاكروا المعلقة صورها على جدران القاعة. ففى الواجهة وضع ديكور لحمام تركى، يحتوى على صنبور يصب فى حوض حجرى، وإلى جانبه ثمة حجرة أخرى يتوسطها سرير، يفصل بين الحجرتين ستار من القماش تدخل من خلفه الفنانة فى بداية العرض بصحبة دمية لامرأة بالحجم الطبيعى تعمل على تنظيفها وتزيينها قبل أن تصطحبها إلى السرير .ولسبب ما تغضب عليها وتستبدلها بدمية أخرى تمارس معها الدور نفسه الذى قامت به مع الأولى .
-فى هذا العمل تقمصت رجب دور الجارية أو الخامة السمراء التى تكرر وجودها فى العديد من الأعمال الفنية لفنانى الاستشراق الغربى.هذه الشخصية التى عادة ما كانت تقوم بدور هامشى فى سياق هذه الأعمال لتضعها أمامنا فى المواجهة كشخصية محورية تتصدر العمل الذى قدمته فى محاولة منها لتلمس الآلام والأحاسيس التى كانت تشعر بها تلك الشخصية، ونفى حالة التهميش التى أريدت لها عبر أعمال المستشرقين. وهذه الحالة لم تكن نابعة من واقع الحال فى الشرق، بقدر ما كانت انعكاسا لأفكار وأراء خاطئة سادت المجتمع الغربى فى وقت من الأوقات، وربما ما زالت بعض رواسبها موجودة حتى اليوم.
- تقول رجب : `منذ أن اطلعت على كتابات إدوارد سعيد حول الاستشراق، صرت أنظر فى شكل مختلف لأعمال الفنانين الغربيين المتعلقة بهذا الجانب، وخصوصاً ما أثارته حول اختلاف الأعراق والنظرة، تبعاً للون البشرة `. وأضافت : `لما كنت أنا نفسى سمراء باعتبارى منحدرة من أصول نوبية، فقد وضعت نفسى فى مكان المرأة الملونة فى عالم المستشرقين، وشعرت بما كانت تشعر به النساء فى ذلك الوقت حيث كانت المرأة الملونة مضطرة للقيام بكل الأعمال الخدمية للمرأة البيضاء من تنظيف بيتها إلى تنظيفها هى نفسها، إلى الرقص والعزف والغناء لها فى بعض الأحيان. وفى الوقت نفسه لم يكن من حق الملونة أن تتحدث عن أوجاعها ومآسيها، هل هى آسفة أم سعيدة لحالها، ومن هنا ومن خلال قراءات عدة حول الاستشراق، وأحاديث مستفيضة مع أستاذى الفنان أحمد فؤاد سليم حول هذا الجانب، خرجت بفكرة هذا العرض، ولا أنكر أنه موضوع يصعب تجسيده،فقد حيرنى ذلك وآخذ منى وقتاً طويلاً حتى استقر على ما اخترته ليعبر عن الفكرة والرسالة التى أردت تقديمها من خلال هذا العمل.
- وجه رجب وملامحها المصرية السمراء كانت عاملاً مشتركا ً بين هذا العمل وعمل آخر، أقيم فى جناح منفصل من القاعة نفسها للفنان يواكيم أيكل وهو فنان نمسوي درس علم النفس فى النمسا ونيويورك. لكن أيكل اتجه إلى الفن خلال السنوات العشرين الأخيرة، وأولى اهتماماً خاصاً للحضارات الناشئة حول الأنهار الكبيرة. وفى العمل الذى يقدمه يحاول أيكل إيجاد وسيلة للربط بين نهرى الدانوب والنيل من خلال دمج مياه كلا النهرين معاً، خلال العرض الأدائى الذى قدمه مصوراً بالفيديو مستعيناً بملامح رشا رجب، فى الإشارة إلى الحضارة الفرعونية. وينطوى العمل الذى قدمه الفنان النمساوي فى مضمونه الرئيسى على فكرة التمازج بين الحضارات المختلفة فى مقابل الصراع الذى يحاول أن يرسخه البعض كضرورة وعلاقة تلازمية فى ما بين هذه الحضارات .
ياسر سلطان
جريدة الحياة - 7 / 2 /2009