محمد محمد على أحمد
دنيا الفنان محمد على ولوحات من قاهرة المعز ومناظر من الريف هم فنانون هواة ... يبدعون فى أوقات الفراغ بعيدا عن الأضواء .. أطلق عليهم شاعر فرنسا الكبير ابولينيير بدائيو العصر الحديث .. هم أصحاب مدرسة الفن الفطرى .. وهى مدرسة جديدة فى الفن .. قديمة قدم الإنسان .. قوامها الفطرة التى تنبت كالزهور البرية .. اعتمدوا فى فنهم على دوافع أصلية بعيدا عن تعاليم معاهد الفنون الجميلة وبعيدا عن أى ملامسة للمدارس الفنية المعاصرة ومعظمهم فلاحون وموظفون صغار وباعة وأصحاب حرف . وقد ظهرت أسماء كثيرة من الفنانين الفطريين فى مصر ** - امتدت أعمالهم بين النحت والتصوير .. بدءا من المثال محمود اللبان بائع اللبن .. والرسامين : رمضان سويلم الفلاح وحسن الشرق البقال ولويس توفيق الترزى .. ومحمد على الذى رحل عن عالمنا منذ أسابيع قليلة .. صانع الحلى وضابط الإيقاع .. وكان واحدا من ثلاثة لا يفترقون : هو والشيخ امام والشاعر أحمد فؤاد نجم .. كان يضمهم منزل واحد بحوش قدم بالغورية .. وكان معهم أيضا فى نفس المكان محمود اللبان . - ولوحات محمد على تمتد من قاهرة المعز حيث تصور سحر الحياة الشعبية .. إلى صور ومناظر من الريف المصرى صاغها بأسلوبه الزخرفى الذى يضاهى الأرابسك الإسلامى .. فهو حافل بالنقوش والمسطحات اللونية الغنائية .. لكن لا يلتقى معه فى نفس المنطق .. ذلك لأن له لفته التعبيرية الخاصة .. والتى تعتمد على الفطرة والبديهة الحاضرة . * ضابط الإيقاع - على الرغم من أن الفنان محمد على كان لا يعرف القراءة .. ولا يعرف من الكتابة حروف اسمه .. إلا أنه كان يجيد التعبير عن أفكاره بالخطوط والألوان .. مثلما كان يحفظ كل أشعار أحمد فؤاد نجم ويرددها عن ظهر قلب بل كانت فى أوقات كثيرة من معين فنه .. بمعنى آخر كان يترجمها إلى صور فى لوحات ذات ألوان صداحة .. وقد انتقل قبل رحيله بعشر سنوات من حوش قدم إلى درب المقشات بالقرب من بوابة المتولى حيث كان يعيش فى شقة صغيرة مكدسة بأعماله . - فى بداية حياته عمل محمد على بخان الخليلى فى تشكيل الفضة والمعادن النفيسة وتحويلها إلى حلى : سلاسل وأقراط وعقود ودلايات تتميز بتلك اللمسة المتكررة من الفن الفرعونى وأيضا الفن الشعبى والاسلامى . وقد تعرف على الشيخ امام الذى سكن معه فى نفس المنزل وانضم إليهم الشاعر أحمد فؤاد نجم .. وعاشوا معا لا يفترقون .. نجم يكتب قصائده .. وامام يلحنها ويغنيها وظل محمد على مكتفيا بعمله فى الصاغة وذات يوم اقترح عليه نجم أن يترك عمله فى تشكيل الحلى وينضم إليهم كأحد أفراد الكورس وبمعنى أصح أن يكون هو الكورس الوحيد .. وضابط الإيقاع وجاءت موافقته خاصة أنه كانت له خبرة كبيرة سابقة فى الدق على الدف حيث انضم لفترات قصيرة من قبل لفرق الإنشاد الدينى مع الشيخ حسنين والشيخ شرف وشوقى وأبو الحسن ممن ينشدون الأدوار والأذكار ومدائح الرسول فى الموالد .. وينتقلون من مكان إلى مكان بطول أحياء القاهرة الشعبية وعرضها .. وفى ربوع الريف . * الصدفة والفن - بمجئ عام 1968 .. ترك الشيخ امام ونجم محمد على وظل وحيدا .. وفى يوم اشتاق إلى الشيخ امام وانتابته الوحشة وبشكل تلقائى وببساطة شديدة وجد نفسه منجذبا إلى التعبير .. فتناول قطعة من فحم الشيشة وبدأ فى تشكيل ملامح الشيخ امام على حائط ورسمه بحجمه الطبيعى . - وفى صباح أحد الأيام زاره محمد جاد وهو مثقف نسيه التاريخ .. له افضال كثيرة على الثقافة فى تلك الفترة أقلها اكتشاف المواهب ومساندتها .. وعندما تطلع إلى الحائط ورأى الشيخ امام مرسوماً عليه بكامل هيئته اعجب بخطوطه التعبيرية وقوة موهبته وشجعه على الرسم واحضر له ألوانا وأوراقا .. وظل محمد على يرسم أقنعة ووجوه من مخيلته وفى عام 1970 بدأ يرسم مجموعة كبيرة من اللوحات تصور انفعالاته وتخيلاته عن مأساة الشعب الفلسطينى .. وأقام أول معارضه لهذه الأعمال بقصر ثقافة الريحانى .. وبعد ذلك تفرغ تماما للرسم وبدأ عالمه التلقائى الخام ينساب على سطوح اللوحات بلا حدود ولا قيود . - وتتميز أعماله بسمات الفنان الفطرى من الحدود المغلقة وانعدام الظل والأفق المرتفع والإيجاز والتلخيص مع غزارة التفاصيل وغنائية الألوان هذا وتتميز أعماله بأسلوب له خصوصية فنية كما لو كانت قد نظمت فى ذاكرته بصورة زخرفية جسوره وكأن العقل الباطن لديه يعمل طول الوقت .. ينظم ويختار كل ذى دلالة من بين انطباعاته المختزنة . - وفى أعماله يمزج الحقيقة بالخيال ولا يتقيد بالنسب أو قواعد المنظور .. حيث تحتفظ اللوحة بشكلها المسطح .. وجوه أشبه بالأقنعة والرؤوس عادة أكبر مما يجب والخطوط التى تحد الشخوص والأشكال سميكة ولينة وتعتمد على الاستدارات والانحناءات .. والألوان صارخة شديدة الثراء فى قوتها وصخبها تتميز بالجرأة والانطلاق أشبه بالغناء الشعبى أو صوت الأرغول وانطلاق الموال . * المرح والسخرية - ولكن تبدو العلاقة بين الأشخاص والأشكال مسرحية تمنح إبداعه طابعا سريالية وعاطفيا .. ففى لوحاته مزيج من المرح والكآبة والجدية والسخرية مع مسحة روحية نلمسها على وجوهه المسكونة بالتعبير الغامض وهو يصور المكدودين والمضحكين والمشعوذين من تلك الصور التى تختزنها ذاكرته البصرية وعقله الباطن مما يراه حوله مثل السقا والمداح وقارئ البخت والمهرج والحاوى مع أعمال مرتبطة بالبيئة الشعبية بقاهرة المعز مثل الخبيز داخل البيوت والمقهى الشعبى وبائع الخبز ومناظر من وحى الريف مثل راعية الغنم والفلاح والفلاحة وكلها تمتزج بالدندشات والثرثرات الزخرفية حيث ينظمها طابع اربيسكى يشكل نظرته لحى الغورية وما يموج به من مرئيات .. وقد تعددت معارض الفنان محمد على ومعظمها أقيمت باتيلية القاهرة . - تحية إلى روحه بعمق تلك اللمسة التلقائية الغنائية والتى جسدت ملامح الشخصية المصرية فى جانبها الشعبى العميق .
بقلم : صلاح بيصار
مجلة حواء -2009
فى غرفة بحارة `حوش قدم ` : العثور على ` محمد على ` حياً ! كان فى البدء صائغاً ثم أصبح فناناً بالفطرة !
- مع تقاطع شارع الأزهر تبدأ ناصية شارع الغورية ببائعات اللبان فى مقابل قبة الغورى، ثم يأخذنا الصخب معى بكل ألوانه الزاعقة ليسير معنا متصادمين أكتاف ، مع الرائحين والغادين فى الشارع سبق الممتد بالمتاجر والصناع حتى المغربلين ، تناقض حاد بين الأصالة والزيف تتبدى- فيما تتبدى - فى محاولة التعايش بين حوانيت العطارة وحوانيت بيع الأوانى البلاستيك: حوانيت العطارة بأسرارها وغرائبها ولفحات البخور السارى يدلف أنوفنا فما نكاد نرتاح لحظة لعبقة حتى تبددها رائحة نفاذة لشواء `كبده ` أو ` لحم رأس` . ثمة هناء يدلف قلوبنا إن الشارع لم تعرفه بعد مياه ماسورة مجارى انتهى عمرها الافتراضى.. هذا شارع ليس له عمر افتراضى : يبدو أزليا كالقيم المجردة لا تحسب له فى العمر سنوات، تقول `عجوز` وتقول `طفل` وصادق أنت فى الحالين : فهو عجوز طفل ، وطفل عجوز . تتفرع من شارع الغورية انحناءه تؤدى إلى شارع `حوش قدم` الذى تتفرع منه حارة `حوش قدم` وليس بين الشارع والحارة أى فرق تستدل منه على السبب الذى جعل من هذا شارعا ومن تلك حارة، فكلاهما ضيق ومرصوف بالحجر وتحميه عراقته من الانهيارات الحديثة . - فى هذه الحارة لحوش قدم يبدأ وينتهى عالم الفنان محمد على الذى لا يعرف من القراءة والكتابة إلا رسم توقيع اسمه `محمد على` يكاد يكون صامتاً معظم الوقت إلا فى تبادل الحديث العابر المقتضب مثل : `أتتفضل` و ` تشرب شاى !؟ لكن ابتسامة ما لا تفارق عينيه كأنه على وشك الانفجار بالسخرية . - هذا الانفجار غالباً لا يحدث ويظل تعقيبه عما يدور حوله مدلولات من الألوان والأشكال من مخزون كلمات مكتوبة فى قلبه عجز لسانه عن بسطها جدلاً مشاركاً فى حديث . - يقولون عنه : `الفنان التلقائى` لأنه لم يتعلم الرسم ولغة التشكيل فى معهد أو أكاديمية. وأقول عنه ` فنان النبض الشعبى` لأنه نهل من النبع الأصلى مباشرة بلا واسطة : فهو فى موقع ، ومن موقع اصطنعه كبار الفنانين الأكاديميين لأنفسهم اصطناعا عسى أن يبلغوا بألوانهم وتكويناتهم التماس البكر مع رؤية الشعبيين ونبضهم، وهذا التماس البكر مع النبض الشعبى هو الانجاز الباهر الذى حققه `محمد على` فى تعبيره الفنى بلا جهد أو اصطناع لأنه كان ` تماساً ` حميماً مع تكوينات نفسه وعينه وذاته. العثور على محمد على حياً ! - وللفنان `محمد على` اثنان وستون من سنوات عمره منذ ولد فى مايو 1930 - غير أنك تقول عنه `طفل` وتقول عنه `عجوز` وتكون فى الحالين صادقاً فهو يمثل `الغورية ` التى أنجبته ونشأته وعلمته وألهمته: مثلها: `عجوز طفل` وطفل عجوز . - كان فى البدء صائغاً يعمل فى تشكيل الذهب والفضة ثم عرف طريق الألوان والفرشاة منذ عشرين عاماً، فأصبح هذا الطريق قراءته وكتابته ولسان حاله، وحديث صمته الطويل الدائم . - لوحات `محمد على` كثيرة تزحم غرفته ذات السقف العالى والأرض الحجرية والجدران السميكة - `غرفة فى بيت قد يتعدى من العمر القرن أو القرنين ويبدو كأنه تعدى الدهر كله ! `. - واللوحات معلقة على الجدران ذات المساحة الطولية، وقسم منها متراكم إلى جور بعضه واقفاً على أرض الغرفة المرصوفة بنفس رصف الشارع والحارة . - رجال ، نساء ، أطفال ، وجوه تملأ اللوحات تعكس التعب والمشقة والقهر والصبر.! ولا عجب … فهذه وجوه سواء الشعب المصرى المتعب المشتغل دأباً فى صبر واحتمال ونكته تحت طحن الرحى . - مع التعب والشقاء المنعكسين بإلحاح فى لوحات الفنان `محمد على` لا تجد اليأس أبدأ أو السوداوية، فالطفل والعجوز داخله يدركان بالبراءة والخبرة أن : `دوام الحال من المحال` و` إن مع العسر يسراً ` لذلك تجد الفنان `محمد على` وقد أغرق لوحاته بالألوان الجياشة المرحة تحمل فى مرحها : الفرح والشجن والحزن متلازمين . حزن : نعم ، يأس : لا - تنتقل عيناك بين لوحة `المجذوب ` الشباك- النافذة ` `شاعر الربابة`، `صانعة الخبز `، `موزع الخبز`، `السقا`، `بائع العرقسوس`، `الزفة ``القرداتى`، `البدوية والغنم` .. الخ .. تجد الموضوع الرئيسى نبضاً شعبياً فى وجوه الناس وزخارف الشبابيك وحجر رصف الطريق والقباب والمآذن والألوان الزاعقة الصاخبة يكسرها، لم يجمعها اللون الأزرق القابض، وتلملم فى هذا النبض الشعبى مكوناته المنعكسة والمنبثقة والمنطلقة من المسجد والكتاب والمرتكزة على رؤية صاغت نفسهم من عقيدة إيمانها الراسخ بالله عبر 1400 سنة كان الأزهر وعلماؤه - سكان وجيران الغورية - منارة العزة والكرامة، والوعى لمصر المحروسة وشعبها الأمين . - وفى الفن التشكيلى يأخذك الدليل لترى بعينك وتمعن النظر والتأمل : وكفانى أنى أخذتك من الغورية وحوش قدم حتى غرفة `محمد على` مشيرة إليه وإلى لوحاته تاركة بين يديك بعض لقطات مصورة قد تنجح الطباعة فى نقل شبح ألوانها الأصلية إليك فتلمح ظلاً من اللون والنبض لا بد لك من استكماله بتلبية دعوة مفتوحة للجميع لزيارة معرضه الدائم، فى غرفته أو حارته حوش قدم حيث تغرق فى حشد من الألوان والإبداع الحامل لنبض نفسك وأهلك ولا تنتظر أن تسمع من الفنان `محمد على` سوى كلمتين هما ` أتفضل` ، ` وتشرب شاى؟ ` .
صافى ناز كاظم
مجلة نصف الدنيا
محمد على صائغ الكلمات
- وتعد البداية الحقيقية لهذا الفنان الفطرى ، بعد انفعاله بأحداث مذبحة ` أيلول الأسود ` فى العام 1970 ، والتى عبر عنها من خلال مجموعة من اللوحات تصور مأساة الفلسطينى وكان المعرض الذى أقيم لهذه المجموعة أول معارضه ، وحضرت هذا المعرض وفود عربية كثيرة تصادف وجودها لانعقاد مؤتمر القمة العربية فى القاهرة الذى سبق وفاة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر مباشرة ، فى الوقت الذى كان فيه ` الشيخ إمام ` والشاعر أحمد فؤاد نجم فى السجن .
- باحتفال كبير حضره خمسة آلاف طالب فى مدرج الحقوق .
- وهى الفترة التى شهدت توهج الثلاثة ، حيث كان نجم يتفجر شعرا ويلحنها الشيخ ويرسمها الفنان ` محمد على فقد جاءت لوحاته ، تترجم القصائد إلى خطوط وألوان فطرية صارخة وحديثة وحارة ، ثم فى مرحلة تالية تخلى على الارتباط بالقصائد واتجه الى رسم الحارة وما يدور فيها بمسحة فى البهجة والتفاؤل حيث تناول الموالد الدينية وحفلات الزواج والسبوع وزحام الأسواق ، وألعاب الاراجواز ، والسيرك الشعبى وصخب الباعة الجائلين والمشعوذين وصور مشربيات البيوت القديمة والنسوة بالملاءات اللف أو بأزيائهن وألوانها الزاهية الصارخة وذلك بأسلوب الفنان الفطرى الذى لا يعرف شيئا عن المدارس الفنية أو الاتجاهات .
- الأسلوب الذى لا يتقيد بالواقع إنما يأتى انعكاسا للانفعالات والأشكال المختمرة فى ذهنه عن الواقع ويتميز بمقدرة واضحة على استخدام الألوان الصريحة ، التى تبدو شديدة الثراء فى صخبها وقوتها ، وهو الأسلوب الذى يشابه فى تعبيره ما يقوم به الفنان الشعبى المجهول منذ مئات السنين والذى نجد رسوماته حتى اليوم على واجهات البيوت الشعبية فى مناسبات الحج والزواج التى لا تقيم وزنا للمنظور الأكاديمي فقد نجد رسم الجمل يأتى فوق الطائرة.
بقلم : سيد هويدى
جريدة القاهرة -2009
ظاهرة التلقائى
- الذى عاش فترة الغليان السياسى فى زمن السبعينيات ، واقترب من الاحتجاجات المتكررة للحركة الطلابية فى الجامعات المصرية ، لايمكن ان ينسى الثلاثى ( نجم - إمام - محمد على ) ، رغم أن الكثيرين احتكروا الظاهرة على الشاعر الكبير أحمد فؤاد نجم ، والفنان الشيخ إمام ، ونادرا ما يأتى ذكره ، أو لو أتى ذكره يأتى على استحياء ، وهناك أدلة كثيرة على ذلك ، وهذا يبدو متمما لطبيعة الأشخاص ، فالفنان الراحل محمد على كان أيضا يتحدث على استحياء ، رغم أنه يشارك بشكل رئيسى فى أخطر ظاهرة فنية فى زمن السبعينيات ، ظاهرة تمددت وتعددت تجلياتها بشكل أقلق النظام السياسى ، وحاول أن يقمعها بأكثر من شكل ، بإصدار قرارات تمنعهم من دخول الجامعة ، ولكن بقوة الحركة الطلابية كانوا يدخلون ، تم القبض عليهم وتغييبهم فى ظلمات السجون ، ولكنهم فور خروجهم تعود الليالى ليعلن عود الشيخ إمام وصوته وكلمات أحمد فؤاد نجم ، وطبلة ( إيقاع ) محمد على التمرد على الأوضاع .. ورغم ذلك فكان ذكر محمد على خافتا عند كافة الكتاب ، مثلا يقول الصديق يوسف القعيد فى مقال له عن الظاهرة : كنا نجلس فى صالون صغير والشيخ إمام لم يأت بمفرده ، كان معه أحمد فؤاد نجم ، وكان معهما شخص ثالث عرفت ( كما وصفه القعيد ) هو الذى جمع شمل الشاعر والفنان ، وهو الذى وحد بين الاثنين حتى صار الثلاثة جسما واحدا ، وظاهرة أسمعت صوتها لمن به صمم ، وأوصلت تأثيرها إلى أقطار عربية أخرى ، وغير عربية ، رغم أنهم لم يخرجوا من مصر إلى هذه البلاد إلا متأخرين ، ولكن صوت الشيخ امام وعوده ، وكلمات نجم وتمردها ، وإيقاع محمد على المنضبط ، هذا الإيقاع الذى أصبح مؤثرا وضروريا ولافتا للانتباه ، كان إيقاعا بسيطا ، ومعبرا ومنسجما ، والذى شاهد الثلاثة وهم ينفذون أحد ألحان أى أغنية ، سيلاحظ كم التعديل الذى يطرأ على كافة عناصر اللحن أثناء ولادته ، وكان لى حظ معايشة صناعة بعض هذه الألحان ، وصوت الشيخ عندما يرتفع لقنع محمد على ، أو توجيه أحمد نجم للشيخ امام وهو يقول له : ( طول المازورة ده شوية يا إمه ) .. وهذا اختصار ( إمام ) .. أو يوجه محمد على : ( خللى إيدك خفيفة شوية عالطبلة يامحمد ) .. وهكذا يظل الثلاثة يحاورون ويداورون اللحن والكلمات ، حتى تأتى الأغنية مدوية كما فى ( أناديكم .. أناديكم ) .. أبوس الأرض تحت نعالكم وأقول أفديكم ) .. أو فى ( جيفارا مات .. جيفارا مات ) .. وكانت طبلة ( إيقاع ) محمد على بوقا بدرجات ونسب حسب كافة العناصر الآخرى فى الأغنية والتشييد والطقطوقة .. - ولا أبالغ عندما أقول إن محمد على ، ساكن ( حوش قدم ) هو الذى جمع شمل الاثنين ، ووجد الاثنان سكنا جغرافيا وروحيا ونفسيا فى بيت محمد على الأول فى الغورية ، ويصف خيرى شلبى هذا البيت باستفاضة فى مقال له .. يقول : ( فى الطابق الثانى شقة يسكنها محمد على ، الذى كان يعمل عامل مصابغ قبل أن يقنعه صديقنا الأديب محمد جاد الرب بأنه فنان تشكيلى سوريالى يمكن أن يقيم المعارض وتباع لوحاته بالشئ الفلانى ، فى الطابق الثالث فوق الأرض شقة يسكنها رجل حرفى عاجز البصر مع زوجة وزربة عيال ، فى الطابق الرابع والأخير حجرة ضيقة يسكنها الشيخ امام ) .. والذى يسترسل مع خيرى شلبى فى ماكتب ، سيظن أن هذا البيت واسع ، لكن من ذهب إلى هذا البيت سيكتشف أنه بيت ضيق جدا ، ويكاد الانسان يصعد بنفسه على سلالمه ، ورغم هذا الضيق ، كنا نجلس على كثرتنا ، ولايشعر أحد بهذا الضيق ، عندما يرتفع صوت الشيخ ، ويتوحد فيه الجميع ، وتدق طبلة محمد كأنها توقظ مصر جمعاء من سبات عميق . - حكى لى محمد حكاية البداية مع حكايات أخرى ، وعندما اندهشت وقلت له : أنت لديك الكثير لتقوله ، وتضع بعض الحروف الناقصة والضرورية قال لى : ` لا أريد أن أفسد الظاهرة بحكاياتى ، الناس تعاملوا مع الظاهرة كما رأوها ، وأنا لو حكيت سأنزلها من هذا المستوى إلى مستوى آخر ) .. كان اخلاقيا وشديد العذوبة ، هذا الفنان والانسان الجميل ، الذى بدأ حياته فى الغورية ، ( صباب للفضة ) يضعها فى قوالب ، وخواتم ، وأساور ، وحلقان ، ثم مشاركا لنجم والشيخ امام فى التمرد الفنى ، وبعد أن رحل الشيخ وتفرغ نجم لأشعاره ولأشياء أخرى ، راح محمد على يعالج لوحاته القديمة الشعبية ، يصور فيها الحارة بكل تفاصيلها ، والأطفال كما يراهم ، والبيوت التى ضاقت على أصحابها ، وكانت وصارت لوحاته تنطق كل هذه الحيوات ، وتنهض من خلالها حيوات كاملة ، وراح يقيم معارض فى أتيليهات ومراسم كثيرة ، وراحت متاحف تقتنى بعض لوحاته ، وكان قد حصل على تفرغ مفتوح من وزارة الثقافة ، وكنت أذهب له - فى بعض الأحيان - فى سكنه الجديد لأزوره ، وأحيانا كان يحفظ تراث الشيخ فى شرائط كاسيت ، وكان هو المصدر الأساسى لتوزيع هذه الشرائط . - لم يكن محمد على الذى اقترب عمره من الثمانين قبل رحيله ضابط إيقاع ( طبال ) فحسب ، بل كان بعمل ككورس أيضا مع ( أبو النجوم ) ، ونجم له حكاية طريفه عن هذا الكورس يقول : ( برزت مشكلة فنية أثارها الشيخ إمام ، وهى زميلى فى الكورس الاستاذ محمد على ، أنا سمعت ناس كثير بيغلطوا فى الفصحى ، لكن زميلى فى الكورال العزيز محمد على كان الوحيد من نوعه اللى بيغلط فى العامية ، يعنى مثلا بينطق الخاء .. غين ، يعنى كلمة الشخبطة ينطقها الشغبطة ، ودا مش لأنه ألدغ فى الخاء ، لكنه ينطق كلمة الضغط .. الضخط ) .. ويسترسل نجم فى كيفية تكوين الكورس وضبطه ، حين صار محمد على هو الكورس الاساسى ، بعد انفصال نجم عن الاثنين ، وقد كانت البداية الجغرافية والنفسية والفنية فى بيت محمد على ، وعندما هبط أبو النجوم أرض الغورية كان قلقا ويحكى : ( عملت الاستطلاع اللازم لأوضة محمد على ، لقيت خمس كراسى قش مكتوب على ضهورهم أسماء القهاوى اللى كانوا شغالين فيها ، قبل ما تؤول ملكيتهم - الله أعلم إزاى - لمحمد على ) ويدور حوار بين نجم ومحمد .. يسأل نجم . - هو أنا أقدر أنام هنا ؟ إنت تقدر تنام فى أى حته .. بس حتنام هنا فين ؟ - وهكذا يتحول الحوار إلى معرفة ثم إلى صداقة ، ثم إلى ظاهرة ثم إلى جزء كبير من تاريخ الحركة الوطنية المصرية ، ومحمد على واحد شامخ فى قلب هذه الظاهرة ، وهذا الفنان الملقب بالتلقائى هو تلقائى فى حب الوطن ، وفى الاندفاع نحو رفعة شأنه ، وكل شأنه ، وكل بطريقته ، وكل بطاقته ، محمد على الذى انطوت حياته على عناصر نبيلة وكثيرة ، أخشى أن يضيع ذكره بين عملاقى الظاهرة ( نجم / إمام ) .. - ولكن ستظل لوحاته التى ستقوم عنه الكثير ، إنه دس أحلامه وهواجسه وشخوصه ، بل حياته كلها فى لوحاته الفنية الرائعة ، وألوانه المبهجة التى لم تنتظر درسا فى كلية الفنون الجميلة ، آمل أن يلقى هذا الفنان الصديق الراحل محمد على العناية اللازمة لتخليد اسمه وفنه بين فنانى مصر المخلصين والأوفياء .
بقلم : شعبان يوسف
أخبار الأدب -2009
صائغ الذهب الذى اتجه إلى الرسم
- ترك مهنته فى حى الصاغة، ليقيم أول معارضه عن مأساة الشعب الفلسطينى
- لا يتقيد بالواقع، ولديه قدرة واضحة على استخدام الألوان فى صخب وقوة
- عالمه البساطة والشوارع الضيقة والحيوانات الخرساء، وهو لا يعرف الابتسامات المصنوعة ولا المظاهر الخادعة
- شارع الأزهر يزدحم جانباه بسيارات النقل التى تقف لصق الرصيف لتفرغ أو تستقبل بضائعها، أما نهر الشارع فمزدحم بالسيارات التى تتابع متباطئة لكثرتها... ومن هذا الشارع العريض يتفرع شارع `الغورية` العتيق المزدحم بالبشر والحوانيت الصغيرة المتجاورة وعربات باعة اللبان والعطارة والبخور والبضائع الملونة.
- عندما تنحرف يساراً لتدخل شارع `حوش قدم` تنتقل فجأة من هذا الجو الصاخب إلى شارع هادئ ضيق متعرج، تحده جدران قديمة مرتفعة تشير إلى تاريخه، وتخف حدة الضوء الساطع، ومنه تتفرع حارة `حوش قدم` حيث المنازل المتهالكة وكأنها تتعانق أو تتساند.. تدخل احداها لتصعد على درجات متآكلة، وتعبر ممرات مظلمة لتصل فى النهاية إلى حجرة الفنان `محمد على`.. عرضها متران وطولها ثلاثة أمتار وبها نافذة ضيقة وحيدة مرتفعة، فى هذه الحجرة المزدحمة ينام الفنان ويأكل ويعيش ويرسم ...
- الجدران مغطاة بلوحاته الملونة، وفى أحد أركان الحجرة بقية اللوحات مكدسة فوق بعضها، والفنان يستقبلك مبتسماً مرحباً ويعرض عليك أعماله بفخر مع كلمات قليلة هى اسم اللوحة والمصادر التى استوحى منها رسمه.. انه لا يعرف القراءة، ولا يعرف من الكتابة إلا حروف اسمه، فهو لا يجيد الحديث لكنه يجيد التعبير عن أفكاره بالخطوط والألوان.
** الفن الفطرى: ما هو؟
- مع نهاية القرن التاسع عشر بدأ الاهتمام بظاهرة الفن الفطرى.. البعض يعتقد أن هذه الظاهرة بدأت مع نضج المجتمع الصناعى والبعض الآخر يتصور أنها ظاهرة قديمة لكن الاعتمام بها لم يبدأ الا منذ أقل من قرن واحد..
- كان أول الفطريين وأشهرهم هو `هنرى روسو` الفرنسى (1844 - 1910) الذى كان موظفاً بالجمارك ولذلك لقب بالجمركى .. وسمى فنه `بالفن الساذج` وهناك من يلقبه: `أشهر البدائيين` .. وفى بعض البلاد أطلق على أمثال هنرى روسو اسم الفنانين `الوحشيين`.
- ومع تزايد الاهتمام بهذا النوع من الفن أقامت تشيكوسلوفاكيا فى مدينة براتسلافيا معرضاً دورياً دولياً فى المتحف الوطنى السلوفاكى مرة كل ثلاث سنوات بالتعاون مع هيئة اليونسكو منذ عام 1966: للفن الفطرى فى العالم، وسميت الجائزة الكبرى لهذا المعرض باسم `الجمركى روسو` اعترافاً بريادته لهذا الفن.
- وقد اتفق النقاد ومنظمو هذا المعرض الدولى - الذى لم تشارك فيه من الدول العربية غير العراق - على اطلاق الفن الفطرى (أر -انسيتيك) واستبعاد التسميات الأخرى، لأن السذاجة تتضمن قلة الإدراك، والوحشية تدل على القسوة والعنف، والبدائية لا تتفق مع سكان المدن الذين يخرج من بينهم معظم هؤلاء الفنانين.
- فالفنان الفطرى هو الذى لم يتلق تعليماً، مع توفر القيم فيما يبدعه من اعمال .. انه فن ينبع من القلب ومن الغريزة مباشرة دون أى اعداد أو تدريب مدرسى سابق .. فن يمارسه أصحابه فى أوقات الفراغ، ويتميز بالنقاء وقوة التعبير.. لم ينتجه أصحابه من أجل البيع كما هو الحال عند الفنان الشعبى، ولا للعرض أو ليكتب عنه النقاد كما يفعل الفنانون الدارسون.. ان اهدافه تنتهى بانجاز العمل الفنى .. والفنان الفطرى يكتفى بالاستمتاع والتلذذ أثناء الرسم أو النحت، ويتميز بأعلى درجات الصدق والاخلاص، فهو يحقق التعبير أو التنفس أو التسامى بالغرائز المكبوتة، وفى نفس الوقت تتضمن أعماله مواصفات الجمال الفنى مثل: الايقاع والتوافق والتقابل والتوازن والاستقرار وما إلى ذلك.
- واذا كان تقييم أعمال كبار الفنانين ينظر بعين الاعتبار إلى قدرة الفنان على التعبير بتلقائية عن المشاعر الدفينة، فان أهم ما يميز الفن الفطرى أنه يحقق هذا الجانب وحده .. وهو قوة التعبير التلقائى بغض النظر عن الخبرات المكتسبة على مدى تاريخ الفن.
- صحيح هناك أوجه تشابه بين الفن الفطرى من جانب وفنون الطفل وفنون الشعوب والقبائل البدائية وفنون الانسان الأول الذى سكن الكهوف وانتاج الفنان الشعبى الذى يجمل الأدوات والمنتجات التى يصنعها.. من جانب آخر.. لكن وجه الاختلاف بينه وبين كل الفنون يتركز فى أنه ينبع من الفطرة الانسانية الصافية بدون تقليد لا للانتاج السابق ولا لمظهر الاشياء، دون التأثر بالثقافات التى وصلت إليها حضارة الانسان أو مناهجه العقلية.
- ورغم وجود صفات مشتركة بين انتاج الفنانين الفطريين أنفسهم الا أن العجب فى أمر هذا الفن أن كل فنان فطرى يختلف أسلوبه عن الآخرين ويتخذ مظهراً لا يشاركه فيه أحد ويتمتع بنوع من التفرد داخل اطار هذا النوع من الفن .. ويلقى اعجاباً واسعاً من جمهور المثقفين ..
** الطريق إلى الرسم
- ولد فناننا فى مايو عام 1930 وظل حتى عام 1952 يعمل فى `الصاغة` يشكل الذهب والمعادن النفيسة صانعاً منها الأسلاك والسلاسل والحلى .. وكان يرسم عليها رسوماً فرعونية تعلمها فى البداية وظل يكررها فى ملل. وبدأ يحاول رسم أشياء أخرى غير تلك التى يشكلها على المعدن النفيس، بعد أن يفرغ من عمله.
- فى تلك الفترة تعرف على `الشيخ إمام` الذى جاء يسكن فى `حوش قدم`، وتصادف أن سكن فى نفس المنزل، وانضم الشاعر أحمد فؤاد نجم إليهما وكانوا ثالوثاً لا يفترق. فعاشوا معاً: الشاعر يكتب قصائده والشيخ امام يلحنها ويغنيها بينما `محمد على` يعمل فى الصاغة ويصحبهما بعد أن يفرغ من عمله فى المساء.
- وذات يوم اقترح عليه `أحمد فؤاد نجم` أن يترك عمله فى `الصاغة` ويعمل معهما كأحد أفراد الكورس أو بمعنى أضح أن يكون هو الكورس الوحيد وضابط الايقاع .. فترك عمله وتبعهما ..
- وظل حتى عام 1968 يرسم فى وقت الفراغ حتى تركة الشيخ امام والشاعر وبقى هو وحيداً .. فانصرف للرسم معظم الوقت حتى زاره أحد الفنانين وأعجب باعماله وشجعه على الاستمرار فى الرسم .. فراح يرسم أقنعة ووجوهاً من مخيلته، وفى عام 1970 بدأ يرسم مجموعة كبيرة من اللوحات التى تصور انفعالاته وتخيلاته عن مأساة الشعب الفلسطينى وأقام أول معارضه لهذه الأعمال، وعند انعقاد مؤتمر القمة العربى بالقاهرة زارت وفود المؤتمر معرضه، وبيعت معظم اللوحات، وقد عاد الشيخ امام ونجم إليه فى ذلك الوقت وشاهداً نجاحه .. فتفرغ تماماً للرسم ..
- كانت كل لوحاته سياسية تعبر عن القصائد السياسية التى يضعها الشاعر .. إنه لا يعرف القراءة والكتابة ولكنه يستمع إليها من خلال الشيخ امام ويعتمد فى رسمها على أحاسيسه فقط .. فكان أحمد فؤاد نجم يكتب والشيخ امام يلحن ويغنى ومحمد على يترجم القصائد إلى خطوط وألوان.
- لقد غير نمط حياته، ورغم كفاحة فى الحياة ورؤيته الصادقة للأشياء فانه راح يعبر عن كل ذلك بألوان حادة صارخة .. ثم بدأت تهدأ حدة التمرد وراح يرسم ما يعن له من أفكار خارج اطار الشعر السياسى وبدأ يعبر عما حوله.. وأصبحت لوحاته متفائلة، وان كانت تعبر عن الناس المطحونين الذين يعانون الفقر والبراءة، فألوانه البراقة تتضمن نوعاً من الشجن، يجتمع الحزن والفرح فى آن واحد.
- لكنه لم يتوقف عن التعاون مع أصحاب العمر، وقد قام محمد على بتصميم الغلاف وعمل الرسوم الداخلية لآخر ديوان أصدره الشاعر أحمد فؤاد نجم تحت اسم `أغنيات الحب والحياة`.
- لوحات محمد على تتضمن مميزات كل الفنانين الفطريين: التلقائية والصدق والبساطة، وهو يلتزم عادة بالبيئة التى حوله، ولا تخرج أشكاله عن دائرة محدودة تدور حولها أعماله، ورغم أن خطوطه لم تلتزم بقواعد الفن المدرسى التى تفرض نفسها على الفنان الدارس الا انها تبدو بسيطة فى غير تكلف، والألوان تتميز بالانطلاق والجرأة.
- إنه يخلط الحقيقة بالخيال ولا يتقيد بالنسب أو قواعد المنظور، فاللوحة عنده تحتفظ بشكلها المسطح ولا تظهر فيها أعماق خادعة .. الرؤوس عادة أكبر مما يجب .. العلاقة بين الأشخاص والأشكال مسرحية غير منطقية تمنح ابداعه طابعاً سريالياً وعاطفياً .. وفى غمرة الانفعال يقوم الفنان بالإسقاط الفورى لمشاعره وأفكاره، المساحات كبيرة ملونة فى معظم انحاء اللوحة .. ثم يتوقف عند احدى هذه المساحات وكأنه يستريح قليلاً فنرى زخرفة أو ثرثرة تشكيلية، اذ نجده يضع تفاصيل دقيقة كزخارف الدانتلا تتخذ عادة شكلاً هندسياً فتعطى للوحة نوعاً من الطرافة والبراءة وخفة الظل كما فى لوحته `راعية الغنم`.
بقلم/ صبحى الشارونى
مجلة الدوحة أغسطس 1984
الفنان محمد على (1930 - 2009 ) الحارة المصرية .. والإبداع الفطرى
- كان محمد على يغنى ويشارك فى الموسيقى ` كضابط إيقاع ` بالطبلة والدف فى الفريق الصغير للشيخ إمام، متغنيا بحب مصر ومحفزاً أهلها للصمود فى محنة الهزيمة، فقد تفجر فى نفسه ينبوع الإبداع بالرسم، فكانت خلاصته لوحات تعبيرية ساذجة يمتزج فيها الإحساس بآلام المخاض لوطنه باستشعار أفراح قادمة، وشيئا فشيئا أخذت تتوالد فى لوحاته عناصر البهجة والأمل، من خلال إحيائه مأثورات الحارة المصرية فى مناسباتها المختلفة وحياتها اليومية : كالموالد الدينية وحفلات الزواج والسبوع والطهور، وصخب الباعة الجائلين ..
- لقد عرف كيف يعيش حياة الطبقات الفقيرة فى الحوارى الشعبية : بالتحديد عرف مذاقها الحريف ومزاجها العاطفى ونبرتها الساخرة .. عرف فرحها وحزنها .. هرجها وكربها .. صبواتها وغيبوبتها ... وعرف فوق كل ذلك : أفانين ` النقاش ` الشعبى فى تزيين واجهات الدكاكين وعربات الأطعمة والكارو، وطقوس الزينة على جدران البيوت فى المناسبات المختلفة ، كما عرف كيف يسترق من وراء المشربيات همهمة الأسرار وضحكات الغوانى !
- فى أسلوب تعبيره نجده يبدأ من حيث ينتهى الفنان الشعبى المجهول منذ مئات السنين إن لوحاته تحمل قدرا واضحا من الغنائية بمعنى التطريب اللونى الصاخب والتوقيع الرتيب المتكرر فى وحدات زخرفية تتمثل فى ` دندشة ` المشربيات أو تتابع المثلثات وتقابلها فى متوازيات لونية وخطية كالتواشيح، ربما كان لخبرته كضابط إيقاع على الطبلة والرق مع أغنيات الشيخ إمام أثر فى ذلك .
- وبقدر الصخب والتعارض اللونى فى لوحاته، فإنه يعمد إلى ملء الفراغ تماما بالعناصر المشخصة الزخرفية، مما يذكرنا بالفنان الإسلامى فى المخطوطات القديمة فى بغداد وأصفهان ، وإن كان محمد على أكثر خشونة وبدائية وسذاجة ..
بقلم : عز الدين نجيب
من كتاب ( الفن المصرى وسؤال الهوية بين الحداثة والتبعية )
|