شفيق رزق سليمان
للالوان المائية سحر خاص ادركه كبار الفنانين بمصر اوائل هذا القرن وظلت معارض القاهرة تحفل بروائع لوحات تتغنى بجمال الطبيعة وتقدم رؤية فيها رهافة الاحساس وبراعة الاداء .
- غير ان اللوحة المائية بهمسها الرقيق اصبحت شيئا نادرا فى معارض الفن وبين اساتذة هذا الفن ظل الفنان المعلم ` شفيق رزق ` وفبا لهذا الوسيط التعبيرى ممتلكا ادواته و اسراره تجددت روأه و اساليبة ولكن الالوان المائية ظلت وسيلته المفضلة و الاثيرة .
- الاستاذ شفيق رزق فنان من جيل المعلمين الذين اتجهوا الى الفن بعد تخرجهم فى مدرسة المعلمين العليا وتجمعوا حول شيخ من شيوخ الفن هو الاستاذ ` حبيب جورج ` منذ اوئل العشرينات واتخذ هذا التجمع رسميا شكل جماعة من الجماعات الفنية اسسها ` حبيب جورجى ` عام 1930 مع مجموعة من الفنانين المعلمين باسم ` جماعة الدعاية الفنية `
- وكان صالون القاهرة يفسح مكانا خاصا لاعمال هذة الجماعة التى غلب عليها التعبير بالالوان المائية حتى كاد هذا الفن ان يقترن بوجودها .
- وكان الفنان شفيق رزق من روادها الاوفياء . وقد استطاع هذا المعلم الفنان الذى تتلمذ على يديه العديد من فنانى مصر استاذا وعميدا لكلية التربية الفنية مواصلا فى صمت وتواضع رسالته الجليلة .
- تحول من واقعية النظرة للطبيعة الى الرؤية التجريدية ولكنة ظل محتفظا بشاعريته الرهيفة وببراعتة فى الاداء وقدرته على التكوين و التركيب و التلخيص فاستوعبت لوحاته جوهر المشاهد التى يمثلها عالمه التصويرى .
بدر الدين ابو غازى
ـ اسس الفنان فى الثلاثينات هو ومجموعة من زملائه وجماعة الرعاية الفنية باشراف الفنان الراحل / حبيب جورجى وكانوا عشاق التصوير بالالوان المائية وجد فى الالوان المائية وسيطا تعبيريا يلائم رؤيتة الفنية الخاصة جعلته ملتزما العمل بها طوال اربعين عام على اتخاذها وسيلته المفضلة بشكل يكاد ان يكون مستمرا ويستجيب بطريقة مباشرة تلقائية لانطباعه وينقل باخلاص همسات مشاعره انها ذات الوان شفافه وبريق يكسبها صفات مميزة تستاثر الاشجار فى معظم الموضوعات الفنية فى البناء العام للتكوين .
د/ مصطفى عبد المعطى
عاشق الأشجار.. شفيق رزق (1905-1989)
- شفيق رزق. عاشق الشجر، تهفو ريشته احيانا الى الأحياء الشعبية فى الغورية.. وبوابة المتولى وباب الفتوح، تتبدى روعة الوانه فى الظلال الزرقاء.. ترتمى على الطرقات الضيقة فى استرخاء.. والناس يخبون فى جلابيبهم الفضفاضة، من يصدق ان الريشات الرفيعة والوان الماء، تكشف عن كل هذا السحر الشرقى.. وتعيد الى خيالنا قاهرة المعز.. والمشربيات تطل من خلفها نسوة مستخفيات.. ودكاكين المانيفاتورة.. والعطور والبخور والمسابح.. والمسجد القديم..
- الشكل الإنسانى فى لوحات رزق حى.. متحرك.. نابض.. يغمر المكان بالأمان، فى الحوارى الضيقة وعلى أطراف الحقول، الناس عنده ملائكة تخطر على الأرض، يهرولون الى حيث لا ندرى، يسعون لأن الله كتب عليهم ان يسعوا.
- .. هذا ما نحسه مع أشكاله الإنسانية. يصورها بضربات سريعة محكمة.. تعبر عن الحركة والهوية فى آن، ومع أنه مقل جدا فى رسم العنصر البشرى.. يمنح أشجاره طابعا انسانيا، يراها طيبة.. قوية.. خجولة.. انثوية احيانا ومتفجرة بالفحولة والأقدام أحيانا اخرى، تحتوى خيالنا وتجذبه الى تلافيفها وتظلله بأوراقها وفروعها نحس معها اننا باقون ما بقيت، وان الهواء نقى ورطب.. مهما كان جافا مترعا بالغبار..
- تغمرنا طبيعة كل يوم بحشد هائل متنوع لا نهائى، من المؤثرات الجمالية يتصدى له الفنان ويختار وينظم، ويفسر تلك المؤثرات ثم يحيطها باطار، ليساعدنا على التأمل والاستمتاع.. والإدراك الجمالى والإنسانى، فترقى بأنفسنا الى عالم ما كنا لنبلغه لولاه .
- .. هذه المعاناه فى الاختيار الانتقائى والتنظيم الجمالى، والترجمة الإنسانية، هى المهمة التى اضطلع بها فناننا الكبير: شفيق رزق، عبر سنوات طويلة، عاشها يتمرغ على صدر الطبيعة، حتى فهم لغتها وترجم رسالتها، فى لوحاته المائية البديعة، التى لا نظير لها اليوم فى حركتنا الفنية.
- الأنغام الشرقية الهادئة، التى يتقن عزفها على آلتى العود والكمان، يتقن أيضا تصويرها بالأشكال والخطوط والألوان، استخدم فى ابداعها الألوان المائية، التى لا يطرقها واحد من فنانينا الآن.
- فتح عينه على نور الدنيا فى مدينة طنطا (1905).. وترعرع بكحلها بمشاهد الحقول والمروج على شط `الجعفرية` ساعات الغروب يشنف اذنيه بنقيق الضفادع وصرير الصراصير، بين الهيش وحول أشجار التوت والجميز.. بينما تسمح الأنسام الهينة عن جبهته ووجنتيه.
- قدر مكتوب كان يسوقه دائما الى حضن الطبيعة، حين بلغ والده المهندس سن المعاش، رحلت الأسرة الى بيت صغير تملكه فى القاهرة تحيطه حديقة باسقة الأشجار.. تفترشها الحشائش، وورود طالما زرعها شفيق ابن العاشرة وراقبها تشق أديم الأرض وتطل بألوانها المثيرة لتلقى شعاع الشمس، كم راقبها وناغاها.. وتلمس بتلاتها وخشى عليها من الهواء الطائر، واستشعر حيويتها التى تمثلها فبصمت لوحاته بطابعها.. وتجلت لنا فى إحدى لوحاته الأخيرة بعنوان `موسيقى الخريف` صورها فى حديقة والده فى كليفلاند اثناء رحلته الى أمريكا، دغل صغير فى أدنى اليمين، تداخل فيه درجات الأزرق والأحمر الطوبى، هو أول ما شد انتباهنا، تنبثق منه سيقان غليظة فى ايقاعات رأسية، نتسلقها بعيوننا.. منتشين بإيقاعات جانبية على شكل فروع رفيعة افقية.. تختفى أطرافها فى ضباب ازرق شفيف يغشاه الأصفر على استحياء.. فترتعش فى اعطافه تفاصيل هامسة، لا تلبث ان تذوب فى ابيض الورق المرسوم، لا نكاد نلتقط انفاسنا المبهورة، حتى يقفز بنا رزق عبر السماء.. لتتلقفنا ايقاعات رأسية غليظة، تهبط بنا إلى الأرض الممتدة الى عمق اللوحة، فندور حول الأفق لنبلغ المقدمة، حيث تستقبلنا موجات الألوان القوية تتزاحم فيها درجات الأزرق والأحمر والأصفر، كلها هدير أنغام متصاعدة من مئات العازفين، تصمت فجأة، معلنة نهاية رحلتنا الجمالية.. مفسحة المجال للسكون وتأمل المعنى والمغزى.. فنحس بالنشوة.. وحيوية الحياة.
- .. من يصور `الجلال` و`العظمة`.. كما صورها رزق فى: موسيقى الخريف؟؟
- تعلم الرسم فى الابتدائى `1915/1919` على طريق الأمشق - أى النقل من كتاب مصور معد لهذا الغرض - لكن رغبته فى حرية التعبير، جعلت أستاذه يتجاوز هذا المنهج العقيم ويزين جدران الفصل برسومه الإبداعية، أما فى الثانوي 1919/1924 فشجعه أستاذه الجديد، على نقل الصور من بطاقات البريد واقامه مشرفا على جماعة الرسم، لكن رزق الفنان اليافع، كان مشغولا بالتدريب على العزف على آلة العود مثل شقيقه الأكبر، آلة الكمان.. التى استقدم لها والده `شاويشا` معلما من فرقة الموسيقى الملكية، أتقن العزف على الآلتين، فكان يتعجل العودة الى البيت فى الحى الهادى.. حيث لا راديو.. ولا تليفزيون.. ولا مواصلات فى ذلك الزمان ولا أصوات سوى حفيف الريح وشقشة الطيور ولا عمل سوى استذكار الدروس.. وعزف الموسيقى.. والرسم بألوان الماء.. أحس منذ يفاعته أنه جزء من الطبيعة، وبدأ مبكرا يدرك الحياة `إدراكا جمالياً` منزها عن الغرض، فبينما يعود اخوته الى البيت بورود الحديقة وثمارها، كان يعود بصورها وألوانها، سعيد بتشجيع الأسرة واعجابها.
- لعبت عمليات نقل الصور دورها، فى تدريب شفيق على الرسم والتلوين.. والتعرف على بعض أسرار الصنعة والفة ألوان الماء، وحين لا تعجبه الصور التى ينقلها، كان يضيف أو يحذف عناصر والوانا، متخذا `موقفا جماليا` من كل ما يراه أحس وهو يجلس الى الطبيعة برسمها، أنه فى كرسى الاعتراف، ينبغى له أن `يقول` كل ما يشعر به.. من حب.. وشغف، واستجابة كما كان يفعل مع بطاقات البريد المرسومة كان يحذف ويضيف.. ويختار وينتقى، من حشد الجمال الذى يغمر دنياه، كانت الطبيعة بحق، هى أول أستاذ لشفيق رزق.. يتحدث حتى الآن باسمها.. وينقل الينا تعاليمها المثيرة.. ورموزها الأخاذة، وغنت مصر فى لوحاته.. وتسربلت بالفرحة.. والندارة، والصبا والأمل، نتبين كل ذلك بعد قليل من التأمل والخلوص، والنظرة المنزهة عن أى اعتبار للمكان والزمان أو بما حشوا به رؤوسنا من افكار مسبقة عن المدارس وآخر الصيحات الفنية، لو اننا أحتضنا مناظر رزق بعيوننا إحتضانا، لأحسسنا بقوة الطبية وقدرتها على العطاء الدائم، كل الشوائب النفسية تتبخر.. ولا يبقى سوى الطهارة.. والنقاء الذى تتسم به شخصية الفنان الكبير، حتى أن أحد ممن عرفوه.. لا يذكر له سوأة واحدة.
- .. كل فنان له مرسمه الخاص.. الا رزق، فهو خلوى مرسمه فى الهواء الطلق.. بين المروج والحقول. لكنه ليس خلويا كالتأثيريين. بل واقعى يرسم الطبيعة كما هى فى عينيه الحالمتين، يراها بشكل يختلف عن رؤيانا، يستشف منها معانى الديمومة.. والتجدد.. والغموض.. والقوة الجبارة. لوحاته مترعة بالأسرار رغم وضوحها، لأنه يرسم اسرار الحياة والخلود احد اسرارها، رسم الاشجار آلاف المرات. لكنه فى كل مرة.. يرى جديد ومثير..
- فى مدرسة المعلمين العليا `1924/1928` تخصص شفيق رزق فى العلوم والرياضة، الا ان الرسم كان مادة اساسية يرسب فيها الطلاب أحيانا. أما المتفوقون. فقد شكل منهم استاذهم - الرائد الراحل: حبيب جورجى - جماعة.. كان بمثابة المدرسة التى تعلم فيها صنعة الرسم بالألوان المائية.. و`كيف يتأمل الطبيعة وتذوقها`.. تعلم ما يسمى `المدرك الجمالى` للمرئيات كيف يحذف ويضيف.. ثم يضع الحاصل النهائى فى اطار.. تعلم تهيئة `القالب الذى يجسده فيه رؤياه.. ويفرغ موهبته الفذة. من أسبوع لأسبوع، كان أستاذهم يحدوهم إلى حيث الجمال والإلهام، إلى شاطئ النيل والقوارب فى روض الفرج.. أو الى اندر الأشجار وأروع الازهار والصبار فى حديقة الاورمان.. أو الاصالة فى كل من الناس والعمارة فى حى الأزهر.. أو الفطرة والنقاء فى المروج والحقول فى أطراف المدينة فتبلورت لديه القدرة على انتقاء الجماليات المستخفية، فى هذا الحشد من المشاهد المثيرة، وأصبحت لوحاته ترهف أحاسيسنا، وتوقظ فى عيوننا قدرات نسيناها فى غمرة الحياة العملية المرهقة. وتستنهض فينا `الوعى التخيلى`.. أى المعانى الانسانية، و`الوعى السطحى`.. اى تذوق النظم اللونية والتكوينات الشكلية والايقاعات الخطية، انها كالجسور.. تعبر بنا نحو عظمة و`رمزية` الطبيعة، بل شواهد تقنعنا بان الحياة جديرة بأن تعاش..
- .. تحولت جماعة الهواة بعد التخرج 1928 إلى جماعة رسمية اسمها `الدعاية الفنية` رسالتها نشر الثقافة الجمالية، فى زمان كانت فيه حركتنا الفنية فى المهد مازالت هكذا كتب على شفيق رزق أن يكون واحدا من الرواد الذين شقوا الطريق نحو الغد الذى نحياه الآن نعود من يومها ان يشترك فى المعارض الجماعية.. حتى بعد أن تفرقت جماعته وتوزعتها الوظائف، لم ينشغل باله أبدا بالشهرة وذيوع الصيت وتسويق لوحاته، بل ان أول معارضه الفردية هى ذلك الذى شهدناه فى مطلع الشهر الماضى فى القاهرة.
- فى هذا المعرض، تزاحم من حوله طلبة كلياتنا الفنية يسألونه عن تلك الخامة العجيبة.. التى يبدع بها لوحاته، كانوا لا يدرون شيئا عن الألوان المائية، لا يعرفون سوى الزيت.. والاكليريك، أو الخيش والخشب وقطع القماش وقصاصات الورق.. يلصقونها على لوحاتهم بدعوى المعاصرة، واضعين نصب عيونهم المجددين الاوربيين وعلى راسهم بيكاسو. ومع أن عبقرية هذا الرجل العظيم، محل مراجعة فى هذه الايام على مستوى العالم:
- الا أن الالوان المائية، خامة شرقية بالدرجة الاولى لها تاريخ يرجع الى اكثر من خمسمائة عام استخدمها العرب فى رسم المخطوطات والصور الجدارية صبغات تذوب فى الماء، منها ما يسنى الفريسكو والتبرا استخدمها الفنانون القدامى فى اوروبا لرسم المناظر الطبيعية، مثل الالمانى: دور 1471/1528.. وكثيرون من الهولنديون والفلمنكيين، وفى القرن الـ 18 ظهرت روائع اللوحات المائية فى بريطانيا عند تيرنر `1775/1851`، ووليم بليك `1757/1827`.. الذى استخدمه فى غير المناظر الطبيعية.
- وفى القرن الـ 19 انتشرت فى فرنسا، حتى أن: بول سيزان `1829/1906` طرق بابها رغم صعوبة مناسبتها لأسلوبه المعروف، كما استخدمها بعض الامريكيين فى ابداعهم التجريدى، لإظهار قدراتها على العطاء فى الابداع المعقد، وهى خامة تتطلب من الفنان الجهد حتى يستفيد من مزاياها فى نواحى النضارة.. والشفافية.. والتدرج والاختلاط على السطح المرسوم.. وشكل البقع اللونية من حيث الخفة والرشاقة والاعتماد البالغ على لون الورق، تلك الخصائص الفريدة، أتقن فناننا الكبير: شفيق رزق، استخدامها.. فى كل من مناظره الطبيعية والشعبية، وترجم بها مشاعر الحب والحنين والعشق الصوفى لكل ما هو جميل وإنسانى فى حياتنا.
- عسير علينا أن نتصور فنانا مثله، عاش عمره يرسم الأشجار والحقول.. والأحياء الشعبية، يتحول فجأة إلى التصميمات التجريدية، الخالية من أى شكل طبيعى أو مضمون إنسانى، لكنه حين أحيل إلى التقاعد `1965`، دفعته عدة أسباب - عاماً بعد عام - إلى الحياة داخل نفسه، كان عميداً لكلية التربية الفنية، حيث تتخذ تعاليم `التجريبية` وضعا مميزاً يخلق جواً من القناعة بأنها سمة العصر وكان الفنانون الواقعيون يتهمون بالتخلف علنا، كما تطورت الحياة فى القاهرة إلى شكل يحول بينه وبين الطبيعة، اقتلعت الأشجار من الشوارع.. وانحسرت الحقول وتطاولت مكانها العمائر الحديثة.. وماتت فى الحدائق الأشجار والحشائش والأزهار، وتعقدت وسائل الانتقال، وأصبح الركون إلى الخيال المطلق، أمتع من النظر إلى الواقع الكادح، إلا أن تجريدات رزق `1970/1974` احتفظت بنكهة المناظر الطبيعية وفتنتها، لم تكن تجريدا مطلقا كما هو عند موندريان `1872/1944`.. ولا تعبيرية مثل كاندينسكى `1866-1944` بل نوع فريد من التجريد مبنى على الإشارة والكتابة والرمز والتلميح، مع ايضاح `القيم الجمالية` بشكل حاد، من حيث البناء.. والتوافق.. والتنظيم والإثارة، إلا أنه فقد أثمن ما لدى الفنان.. وهو الطابع المحلى الذى اتسمت به لوحاته الواقعية السابقة.
- كان يصمم ابداعه التجريدى فى تخطيطات أولية صغيرة، ثم يكبرها بدقة تامة. ومن المعروف أن `الفنانين البصريين` وعلى رأسهم فيكتور فاريلى، المولود فى المجر سمة 1908 يتبعون هذا الأسلوب فى الإبداع، كانت اتجاهات رزق فى تلك المرحلة، رغبة عارمة فى الرسم والتلوين، تتبلور معالمها اثناء التخطيط الأولى، ويتضح المضمون والعنوان.. فيؤكدها بمزيد من التجسيد.. ثم تبدأ عملية التكبير، حيث تدخل تفاصيل جديدة على النظم اللونية.. والإيقاعات الخطية.. وتوزيعات المساحات الداخلية. ومن الأمثلة النموذجية لهذا الاتجاه لوحة بعنوان: `بيت الفنان` - 1973، إشارة الى منزل فيلسوف الفن المعروف: حامد سعيد.. بالمرج، وهو مؤلف من قباب من اللبن، متوارية بين الأشجار والنخيل وسط الحقول، نستطيع فى هذه اللوحة أن نتبين سيقان النخيل والأشجار وأوراقها، أما `الشراع والقمر` - وهى من أشهر أعماله التجريدية - فتتضح فيها `الرمزية الهندسية` للعناصر الطبيعية، فهى حافلة بالإيقاعات الرأسية والأفقية والتوافقات اللونية، كتابة عن الأشرعة.. والماء.. والفراغ والأضواء.
- .. فى رحاب الطبيعة، كان رزق يعرف متى يرفع.. فرشاته عن لوحته، متى يكتمل `الاسقاط`.. أو `التجسيد` أما مع التصميم التجريدى والرمز والتلوين، فصادفته صعوبات جمة فى تحديد نهاية عمله الإبداعى، كان فى الحقيقة، يجرد القيم الفنية ذاتها، الايقاع. التوافق.. التباين.. النظم اللونية.. الديناميكية الدراماتيكية.. فضلا على الاثارة والجاذبية.. كان ينهى لوحته ومازال فى نفسه شئ منها، قد تمر أسابيع.. يعود بعدها ليضع خطا أو لونا أو ملمسا.
- النيل والنخيل، مسألة فلكية.. معركة لونية.. حركة.. أمواج وسحب.. انفجار لونى.. ترابط كل هذه أسماء لوحات تجريدية ابدعها الفنان بألوان الزيت لأول مرة، لأن ألوان الماء لا تناسب التصميمات الدقيقة المتأنية، لكن الزيت على فرشاه أصبح شفافا مع انه مخلوط بالمخففات `التربنتينا` على عادة المصورين، وبالرغم من انخراطه فى الابداع التجريدى سنة بعد أخرى، لم يستطيع ان يتخلص من أسر الطبيعة، كان يجردها من مظاهرها المتعارف عليها..
- لكى يغوص بها إلى اعماق الغموض، استقى تركيباته الشكلية واللونية والخطية من ذاكرته الثرية المزدحمة بالصور والخيالات الطبيعية، ومع كل الترحيب والحفاوة اللتين استقبل بهما التجريبيون استاذهم القديم، كان يشعر فى سريرته كمن ترك وطنه وهاجر الى أرض جديدة، وكم أحس بالشوق.. والحنين الغامر، للعودة إلى الأشجار والسهولة والحقول، والسماء الرحبة والبطاح الفسيحة، كان يحس مع التجريد احساس عصفور فى قفص من ذهب.. فى بيت حديث.. فى وسط المدينة.. مطلوب منه ألا يكف عن الغناء.
- واقبل اليوم الموعود.. فى يونيو 1974، يوم العودة الى الحب القديم يوم أن سافر أول مرة إلى امريكا فى ضيافة ولده، الى كليفلاند فى ولاية اوهايو، واحدة من أكبر مدن البلاد، تقع على بحيرة `ايرى` احدى البحيرات الخمس فى الشمال، القريبة من الحدود مع كندا، أشتد اعجابه بدنياه الجديدة فنسى تجريداته الخاوية، وجلس الى ألوانه وأوراقه يصور دهشته ورؤاه.
- بأشكال متجددة للطبيعة التى لا تفرغ `الشجرة العارية` - 38X56سم - ألوان مائية على ورق - كليفلاند بأمريكا 1981.
- من نافذة البيت.. شاهدها رزق.. كأنها تستحم فى أشعة الشمس جعبتها من كل ساحر بديع، لم ير ناطحة السحاب والطرقات المركبة، بعضها فوق بعض طبقات، بل الجما السائد الذى تقدمة الطبيعة للإنسان كلما كف عن افسادها، رسم سلسلة من اللوحات البديعة.. بمذاق جديد مفعم بالبهجة والاثارة، إذا تأملناها نخطو بخيالنا فى تلافيفها ونتجول فوق صخورها وفى وديانها، نسمح بعيوننا على خضرة الحقول المستحمة فى أشعة الشمس.. ونستمتع بزرقة السماء وهى تظلل ملحمة الألوان فى الأشجار، بوشاح أتقن الفنان صياغته بالألوان المائية.. التى ترق احيانا حتى لا نكاد نراها، وتتوهج احيانا تلفت انتباهنا إلى ان الربيع اقبل بمهرجان السعيد، وبأن الطبيعة تنبض بالمعانى والأفكار، ونستعيد ما قاله العلماء من ان النبات يشعر بمن يحبه، بمقدمه ويترعرع، حتى فى أشجاره الخريفية التى سقطت أوراقها، نحس مع ايقاعاتها الملحمية، اننا فى حضرة المبدع الأكبر الذى سواها.
- .. فى كليفلاند.. يبقى شفيق رزق فى بيت ولده الطبيب يصور الأشجار فى الحديقة الواسعة من النافذة، أو تصحبه الأسرة احيانا الى بقعة خلوية، تتركه فيها من لوحاته وألوانه.. وحقوله واشجاره، ثم تصطحبه فى طريق العودة، لا يستمد الجدة فى ابداعه من تغير `الموضوع`.. بل من `ادراكه الجمالى` المتغير، وهذا هو الفارق بين `فنان الطبيعة` وفنان الاستوديو، كل لوحة تصحبنا فى رحلة الى عالم لم نشاهده من قبل، إنه عالم الأحلام المتجددة.
- والعملية الإبداعية عند رزق بسيطة مثله، يجلس على الحشائش.. أو على مقعد صغير، بجواره كوب الماء والفراجين والألوان.. يثبت لوحته على سطح خشبى خفيف يستند على ركبتيه.. ثم يدخل فى عالم التخطيط والتلوين.. يرسم بالقلم الرصاص، وإذا لم يتسع الوقت للتلوين، اكتفى بوضع `المفاتيح` اللونية ثم يستكمل الإبداع فى البيت من الخيال، وربما كان هذا الأسلوب من بين مكتبات المرحلة التجريدية، فهو فى البيت يحول `الرؤية` الى `رؤيا`..
- و`الحقيقة الموضوعية` الى `حقيقة ذاتيه.. و`الواقع الى واقع تارة ينقل الينا اشياء لا يراها غيره، موسيقى الفروع الجافة.. ومناغاة الأوراق الوليدة، وابتسامات الزهور النزقة.. وتطاول الحشائش تود لو تصبح أشجاراً.. وارتماء الأوراق الجافة آسفة على أرض الحديقة، وصمود السيقان الغليظة فى مواجهة الريح، وزرقة السماء تتخلل أخضر الأوراق، المتدرج فى نظام بارع وايقاع أخاذ.
- يتعامل مع الأشجار ككائنات حية، تحس. وتعبر عن مشاعرها بأن تتخلص من اوراقها.. أو تنشر أريجها الغامض.. أو تنتهز فرصة هبوب الرياح لتوشوش ببعض الكلمات، إنه يرسم الوجه الآخر للشجرة.. الذى لا يراه الناس، يروى لنا بالألوان والخطوط قصة لقائه مع الأشجار ويفشى على صفحة لوحاته ما كشف عنه من أسرار.
- .. ربما كانت لوحاته الأخيرة `32 لوحة - 1982`.. بمثابة نقطة اللقاء بين فن الرسم وفن الشعر، فهى قصائد تشكيلية مرئية، وإذا كان الشعر قرين `التأمل`.. فقد أطلق رزق على معرضه: تأملات شجرية لأنه يرى فى الأشجار حكمة الحياة وبهجتها.. وغموضها وروعتها. حين يتأملها.. يشعر أنها تتأمله بدورها، تكاد تحدثه.
- إنه عاشق الأشجار، ولوحاته حديثها الصامت.. الذى لا ينتهى.
الناقد./ مختار العطار
من ( كتاب رواد الفن وطليعة التنوير فى مصر- الجزء الأول )
|