مدخل إلى عالم الفنان ` أبو خليل لطفى `
- بين ` كافافيس ` و ` أبو خليل لطفى ` !
- نقلا عن رواية لإحدى الشاعرات اليونانيات تصف زيارتها إلى شاعر الإسكندرية ` كافافيس ` - كما وردت فى كتاب ` نعيم عطية ` عن الشاعر الكبير - قالت : ` عندما دخلت غرفة استقباله كان الضوء خافتا شحيحا . كان يحب الضوء الخافت - ضوء شمعة أو مصباح غازى - ولا يستخدم الكهرباء . ولما ألفت عيناى الظلمة رحت أتأمل ` كافافيس`؛ كان نحيفا ، شاحب اللون ، ضعيف البصر ، أشعث الشعر ، أنيق الملبس ، على وجهه مسحة من الحزن ، وفى عينيه جاذبية عميقة تلمع فى نظراته أسرار قديمة ، ويأتى صوته من بعيد .. من أغوار الزمن السحيق ولما ودعته وانصرفت .. أضحيت وأنا أنزل الدرج الرخامى غير متأكدة من لقائه والجلوس إليه ، خيل إلى أن كل شئ كان حلما ؛ فصوته وشكله ولقاؤه كان أشبه بحلم ولى !!
- شئ من هذا كنت استشعره فى كل لقاء مع الرسام الملون ` أبو خليل لطفى ` وكانت لقاءاتنا نادرة ، تحكمها المصادفة البحتة ، كان كالطيف الذى وصفته الشاعرة اليونانية ، وإن كان كثير الحركة ، حاد الملامح ، وهو مثل ` كافافيس ` عاش حياته وحيداً ، عزوفا عن الأضواء التى يحرص عليها معظم أنصاف الموهوبين ، ويحتلون بها مواقع لا يستحقونها. وكان مشغولا بتلاميذه فى الكليات الفنية المختلفة ، وبفنه .. ويبدو أن هذا الانشغال قد ملأ كل وقته ، فلم يترك - كما كان متوقعا من أمثاله- أثارا نظرية ، ومؤلفات فى الفن ، وفى السيرة الذاتية ، تعين نقاد فنه على سبر أغوار نفسه ، وفنه ، وفكره ، وفى ظنى .. أنه لولا كتابات ` كاندينسكى ` النظرية فى الفن ، وبالذات كتابه ذائع الصيت : ` روحانية الفن ` الذى أصدره بالألمانية سنة 1911 ، وترجم بعدها عديد إلى عديد من لغات العالم وتناقلت الأقلام والألسنة عباراته ، وأحكامه ، وتبناها كثير من فنانى العالم ، ونقاده ، حتى من لم يتيح لهم الاطلاع على النص الأصلى أو ترجمة له .. أقول له : لولا كتابات ` كاندينسكى ` ما كان فنه بهذا القدر من التأثير فى أقلام الوسطاء من النقاد وأذهان الرسامين المحدثين ، ولم يكن ` أبو خليل لطفى ` عضوا في جماعة فنية ، أو حزب ، أو قريبا من صناع القرار، أو نقاد الفن ، لهذا بقى فى منطقة الظل ، أو بدقة فى منطقة الضوء الخافت !
- اللقاء الأخير :
- كان لقاؤنا الأخير فى نقابة الفنانين التشكيليين ، منذ شهور ، وجاء هذا اللقاء بعد زيارة له إلى الولايات المتحدة الأمريكية ، وكان قد ذهب إليها شابا ، في السادسة والعشرين ، ونال دبلوم معهد التصميم ` بشيكاغو ` سنة 1947، وحصل على ماجستير من جامعة ` أوهايو ` سنة 1949 ، كما درس الفن بجامعة ` نيويورك ` بين عامى 1950 ، 1953 ومن التواريخ المذكورة ندرك أن الولايات المتحدة ، فى تلك الفترة ، قد أصبحت نقطة جذب للفنانين الأوروبيين الذين أفسدت عليهم ` النازية ` ومناخات ما قبل ، وبعد الحرب العالمية الثانية جو الإبداع ، وكانت آخر لوحة رسمها ` كاندينسكى ` فى ألمانيا فى أغسطس سنة 1933 ، وذلك بعد إغلاق مدرسة ` الباوهاوس ` فى 20 يوليو من العام نفسه ، ولم يكن أمامها غير الولايات المتحدة لتنتقل إليها ، وتفتح أبوابها من جديد . ويُعد المعرض المشترك الذى ضم فنانين من الولايات المتحدة ، وفنانين أوروبيين والذى أقيم بمتحف الفن الحديث بنيويورك سنة 1936 تحت عنوان : ` المعرض التكعيبى - التجريدى ` اعترافا رسميا بالدور الأمريكى فيى الفن ، خلاصة القول .. إن ` نيويورك` كانت عاصمة من عواصم الفن النشطة ، فى الفترة التى ذهب إليها الشاب ` أبو خليل لطفى ` طالبا للفن والمعرفة ، وكان من الطبيعى أن يتأثر بشدة بما كانوا قد انتهوا اليه .ولم يكن بمقدور خريج حديث فى المعهد العالى للتربية الفنية أن ينفلت من سلطان الكتابات النقدية ، ووسائل الإعلام ، وسوق الفن . وتعرف على أصحاب أكثر الأسماء سطوعا مثل : ` جاكسون بولوك`و ` وليم دى كوننج ` و` مارك توبى` . وهناك أقام عددا من المعارض فى قاعات العرض الجامعية ، بالأسلوب الذى اعتنقه حتى رحيله ، وهو الأسلوب ` التجريدى التعبيرى ` . ونستطيع الآن القول - بعد أن اكتملت حياته بالموت - أنه لم يقلد ذلك الأسلوب الشائع تقليدا آليا ، بل هضمه أولا واستخلص منه ملامح تميزه ، لا تنتمى بكاملها إلى الحركة الفنية الأمريكية ، بل استخلص ما يميزه أيضا ، من الإرث الذى لا يستطيع فنان أن ينفلت منه : إرث النشأة والتكوين الأول ؛ فقد ولد فى حى ` القلعة ` فى 10 أغسطس 1920 ، وكان والده أحد الشيوخ المتصوفين ، ويمكن بالخيال أن ندرك تأثير ` المكان ` ذى العطر التاريخى والاجتماعى ، وتأثير جو التصوف الذى يشيعه والده فى البيت .. كما يمكن ، بالدراسة والتأمل ، فى لوحاته وعناوينها أن نستوثق بهذا التأثير ؛ ففى معرضه الذى أقيم فى 1970 فى قاعة ` أخناتون ` بالقاهرة ، مجموعة من اللوحات تحمل عنوانا واحدا هو : ` وحدات تصوفيه ` ومجموعة أخرى من اللوحات تحمل عنوان ` سر حرف الباء ` وفى معرض بجامعة ` ميتشجان ` اقامه سنة 1988 لوحات بالعناوين الآتية : ` المآذن البعيدة ` ` أهل الكهف ` بالإضافة إلى لوحات تحمل عنوان ` أساطير مصرية ` إلخ ..
- أعود إلى لقاء ` أبو خليل لطفى ` الختامى سألته عن سر ما يشوب ملامحه من حزن . أجاب بما معناه .. إن الحال قد تغير بين أول وآخر زيارة له إلى الولايات المتحدة . تغير البشر الذى كان يعرفهم ، ورحل بعضهم ، كان يتصور أن إقامة معرض جديد لأعماله هناك أمر ليس عسيراً ، فإذا به يكتشف أن قاعات العرض محجوزة لمواسم قادمة ، وقد باعدت ، بينه وبين العرض هناك ، سنوات كان يجب أن تملأ بالوجود الملح ، إن طوفان المتغيرات فى الأساليب الفنية ، والموضة ، وظهور جيل جديد من النقاد والمتذوقين من شأنه أن يضعف الذاكرة ، فلا تحتفظ إلا بما هو قائم ، وأضاف ، في الختام ، بتسليم : على الفنان المصرى أن يقنع بالتحقيق فى وطنه أولا .. إن وجد سبيلا !
- حول فنه :
- شاهدت له معرضين ؛ المعرض الأول سنة 1973 بمجمع الفنون بالزمالك ، وكان يحمل ثلاثة عناوين هى ` طمس واختراق ` ، ` نحو الاتجاه التعبيرى البصرى ` ، ` شاشة الأحلام ` ، أما المعرض الثانى فكان معرضا استعاديا ` Retrospective ` ، أقيم بعد رحيله ، إحياء لذكراه ، وهو من الفنانين القلائل الذين يحتفلون بعناوين لوحاتهم احتفال الشعراء بها ، وتنقسم عناوينه إلى مستويين : مستوى كاشف ، مضئ ، يتجاوز به الحدود المرئية للعمل الفنى ، ومستوى وصفى ، محكوم بوقائع العمل الفنى المرئية ، ومن استعراض مجمل ` عناوين ` لوحاته نكتشف إنه يميل إلى المستوى الكاشف ومن استعراض لوحاته ذاتها نكتشف ميلا إلى العوالم الجوانية ، بكل ما تنبض به من شعر ومشاعر . وكثيرا ما يفيق ` المربى ` و ` المعلم ` داخله ، فتشغله نوايا تطبيق بعض ما قرأه من نظريات لتكون مرشدا لتلاميذه ، كما فعل مع معرضه الأول الذى أشرت إليه.. والذى أطلق عليه عنوان ` شاشة الأحلام ` واعترف أمام قارئ ` كتالوج ` معرضه بأنه استوحى معرضه من دراسة دارت حول ` سيكلوجية التخيل الفنى ` لـــ ` أنتون إذنتروج ` فى كتابه ` النظام الخفى للفن ` ، وللأسف لم أقرئ هذا الكتاب حتى أقدم للقارئ فكرة عامة عن مادته ، وهو ما لم يفعله الفنان ` أبو خليل لطفى ` نفسه ، اكتفى بتقديم اختصارات ملتبسة ، كان أوضحها ذلك الاختصار الذى قال فيه ` المحاولات تستهدف خلق مواقع دخول واختراق ، ومواقع خروج على شكل فتحات تنفس ، لاحتمال أن تؤدى إلى إثارة حضور غامض يعطى للصورة وجودا حيا خاصا بها . إن هذا الحضور الغامض - فى بعض الحالات - ربما يسترجع خبرات لا واعية عنيفة `.
- تعليق :
- ليس من الموضعية فى شئ أن أجرى مقارنة بين كتاب قرأته ، هو كتاب ` روحانية الفن ` لــــ ` كاندينسكى ` ، وكتاب لم أقرأه هو ` النظام الخفى للفن ` ، ولست على يقين من أن ` أبو خليل لطفى ` قد قرأه ، وإن كان من باب الإيضاح المحض .. أقول إن ` كاندينسكى ` قد عزز بكتابه ` بدهية ` أن العمل الفنى رفيع المستوى لا يتوقف عند حدود معطياته المرئية والتى لا تمثل إلا مفاتيح لكشف الجوانب المستورة . الروحية . فى ذلك العمل الفنى . ومن حسن الحظ فإن هذه البديهية تعد مدخلا رئيسيا لكشف أسرار تجربة ` أبو خليل ` الإبداعية .
- من اللوحات التى يقوم فيها ` العنوان ` بدور الكاشف لوحة بعنوان : ` موال النورج ` أنجزها سنة 1959 . لو لم نعرف عنوان اللوحة لتوقفنا عند حدود علاقات خطية مموسقة ، باللون الأسود ، تشغل كل سطح اللون الرمادى . لا وجود إلا لطبقة صوتية واحدة ، بآلة واحدة ، تتردد فى أرجاء المكان ، لكن عندما نعرف أن هذه النغمات موال ، وأن الآلة المؤدية هى آلة ` النورج ` فإن ` الإحالة ` إلى ما فى الواقع الخام من شعر وموسيقى لابد أن تحدث ، وإن تلك الإحالة لم تفقد العمل الفنى استقلاله بل زادته ثراء . وإذا كان ` النورج ` قد تحرك فى حيز مكانى ذى بعدين ، فإن ` موال الساقية ` 1959يفتح لنا طريقا إلى العمق ، بخربشات دوامية ، على أرضية طينية اللون ، ويجعلنا ننظر من علِ إلى ذلك الحضور الروحى الذى يستعصى على التفسير بالكلمات. وفى لوحة ` الطيور المهاجرة ` 1974 نشاهد أشباه طيور ، تندفع جماعات فى فضاء هندسى . ملون . ولا شك أن معلومة الهجرة التى قدمها العنوان تضيف إلى المشهد المرئى ، المتزن . بعداً شعريا ، يحرك داخل كل متلق درجات متباينة من الحزن الشفيف إلى فرح الانعتاق . وهو يلتقط أكثر المواقف ، والحالات ، رهافة ؛ ففى لوحة ` استكشاف اللانهائى ` يقف بنا أمام لحظة تحول ، منعشة للخيال تمثل أطيافا إنسانية لا ندرى إن كانت فى طريقها إلى التجسد ، والحضور ، أم فى طريقها إلى التلاشى والغياب .. فى فضاء ممتد وحتى عندما يمتلئ أسطح لوحاته بوحدات هندسية تذكر بالمشربية ، فإنه يلين من صرامتها ، ويغشيها بطبقات مراوغة من اللون ، ويذوبها في الفضاء المحيط ، وينحرف بها عن وصف مرئيات بعينها إلى إغرائنا بالدخول إلى حالة تعبيرية دافئة ، كما فى لوحة : ` تدفق 1977 ` ولوحة: ` تمدد ` 1977.
- إذا كانت لوحات أى فنان تفتح أمام مشاهديه طرقا إلى الوصول إلى أعماقه ، فإن لوحات أبو خليل لطفى ` المتخمة بزحام العناصر ، وتراكم العجائن اللونية ، وديمومة الحركة داخل حدود تضيق بها ، وصراع الأشكال العضوية والأشكال الهندسية ، واشتباك طرائف الحذف والإضافة ، ومحاورات التلقائى والمخطط . تكشف عن روح قلقة . صاخبة . مشغولة بهموم الإنسان المعاصر ، وبإنجازات فن القرن العشرين ، حريصة على أن تجد مكانا لها فى خارطته .
بقلم : محمود بقشيش
مجلة:إبداع (العدد 6) يونيو 1994
أحلام اليقظة الملونة أبو خليل لطفى
- .. بعيداً عن الجوائز والمقتنيات والدعاية والأعلام.. وكل ما هو ضحل ورخيص وبلا قيمة، يعيش فناننا القدير: أبو خليل لطفي (63 سنة) في شقته العالية المطلة على حديقة الميرلاند بالقاهرة.. مرسمه وورشته فى نفس الوقت. أقل الفنانين بيعاً من أكثرهم جدية. من أعمقهم فكراً وفلسفة وإخلاصاً وصدقاً.
- .. من الجيل التالى للمجموعة الشهيرة التى تضم: مختار وناجى وكامل وصبري وعياد. من جيل المتمردين: كامل التلمسانى وفؤاد كامل ورمسيس يونان وجورج حنين وسعد الخادم. من فرسان حركة `الشرقيون الجدد` و`الفن والحرية` - 1940. الحركة التى شقت الطريق بين الصخور الأكاديمية والأنطباعية التى سادت مصر منذ افتتاح مدرسة الفنون الجميلة العليا سنة 1908.
- أذكر يوما قائظا في الكويت من صيف 1976 تعدت فيه الحرارة خمسين درجة مئوية. كنت وافداً جديداً ذهبت أبحث عن الصديق القديم في منطقة `الشويخ` التى تتقلب على جمر الرمال والحجارة تنبجس فيها شويكات عالية موحشة. ضاربة بلونها للصفرة.
- مقاتلة من أجل البقاء تستلقى بينها مجمعات سكنية تشبه عربات قطار قديم خرج عن قضبانه فتناثرت هنا وهناك. فى جناح صغير فى إحدى تلك العربات عاش أبو خليل عشر سنوات متعبدا فى محراب الفن. تحول المأوى إلى استوديو عامر باللوحات والقماش والألوان والأدوات... والفلسفة والأفكار.
- فى العاشر من أغسطس 1920 ولد أبو خليل فى حى القلعة. واحد من أعرق أحياء القاهرة. درج طفلاً يمرح فى الشوارع الفسيحة الخالية من المارة. بجوار اثنين من أجمل وأرشق العمائر الإسلامية فى العالم: مسجد الرفاعى وجامع السلطان حسن. شب يتأمل العمارة الإسلامية ويتشرب القيم الاجتماعية الأصيلة. ويتابع بعينيه الفضوليتين نحاتى البلاط المعصرانى فى حى السيدة عائشة. هذا الجو الفنى الشرقى ترك بصمته على شقيقه الأصغر فأصبح مهندساً معمارياً يتبرع بتصميم مآذن المساجد في كل مدينة ينتقل إليها. فى `قنا` بالصعيد. صمم وأقام مئذنة ارتفاعها ستون متراً وأنفق على تنفيذ قمتها من جيبه الخاص. فى شارع النحاسين بالأزهر. هذه الفذلكة من الشقيق تكشف عن طابع خاص غمر أسرة فناننا `أبو خليل` منذ نعومة أظافره يطلق على بعض لوحاته أسماء دينية صريحة مثل: `تسابيح` إلا أن الأسماء عنده لا تحمل مضامين مقصودة. لا يفكر فيها إلا بعد الانتهاء من العملية الإبداعية.. كل ما فى الأمر أنه يسبق المتلقى إلى إطلاق الأسم من قبيل الحدس والتخمين. لكى يلقى الضوء على مدخل عالمه الفنى.
- أبدع لوحة تسابيح فى الستينيات الأسلوب البصرى. أوب آرت من حديث تنظيم وتوزيع أشكال هندسية متماثلة ومحسوبة وفق قوانين رياضية. كلها بالأبيض على الأبيض. لا تتميز الأمامية عن الخلفية إلا بالبروز الهين فى الأشكال الملصقة فى تصميم دائرى.
- تعلم فى حى القلعة كيف يتأمل جماليات الخشب المخروط فى النوافذ والمنابر. وزخارف أحجار المآذن والقباب.. وكل ما تنضح به التصميمات الإسلامية من عبق شرقى، تذوقه طوال سبع سنوات قبل أن ينزح إلى الجيزة ليبدأ مشوار التعليم العام فى المدرسة الابتدائية. ويلفت أنظار مدرسى الرسم على مر السنين.
- المرحلة الثانوية كانت تعقب الإبتدائية مباشرة فى ذاك الزمان. أربع سنوات بعد سن السابعة دخل بعدها أبو خليل المدرسة السعيدية الثانوية بالجيزة ليبدأ حياته الفنية المستمرة حتى الآن. ألتقى بشخصية فريدة لا يجهلها واحد فى حقل التربية الفنية. إنه المعلم: يوسف العفيفى.. الذى رحل عنا منذ بضع سنين بعد أن ترك بصمته على الحركة التربوية الحديثة فى بلادنا. لولا أن نكران الجميل وإهمال الرواد أصبح من طبيعتنا المتخلفة لأقامت كلية التربية الفنية تمثالاً فى صدر مبناها للرجل الذى أسسها ووضع مناهجها وأسلوب عملها. حين عاد من لندن سنة 1932 مدرساً فى السعيدية.. كشف عن الموهوبين من تلاميذه فأصبحوا حوارييه. على مدى أربع سنوات.. كان أبو خليل تلميذاً نشطاً عاشقاً للفن التشكيلى. ضمن جماعة الرسم المدرسية التى قادها العفيفى فاتحاً بها مجالاً جديداً فى المجتمع المدرسى. لم تصدر وسيلة إيضاح أو خريطة أو إعلان أو أي شئ يتطلب تصميماً ورسماً وتلويناً إلا عن طريق `الجماعة` التى أصبحت فى دائرة الضوء مع فريق كرة القدم، بفضل توجيه العفيفى وقيادته، تحول أعضاؤها فى أيامنا هذه إلى قادة لنهضتنا الثقافية.
- تعرف أبو خليل لطفى على خامات الرسم والتلوين... وحركة الفن الحديث الأوروبية وروادها فى النصف الأول من القرن. وجه العفيفى تلاميذه على اختلاف طبائعهم الفنية فنصح `أبو خليل` بتأمل الفنون الإفريقية.. حين لاحظ ألوانه المنوعة الناصعة.. وهوايته رسم النوافذ الإسلامية المعشقة بالجص: الشمسيات والقمريات التى ألفها فى طفولته فى حى القلعة. هكذا استلهم تصاوير `المجلة الجغرافية` وأبدع مجموعة من الأقنعة النسق الأفريقى، من خامات مختلفة كالصلصال ومعجون الورق والألوان والخرز والأسلاك. أتقن تلك الأقنعة حتى نعقدت زخارفها وخاماتها واشتهر بها بين إقرانه إلى أن انتقل مع عائلته إلى المنصورة ليحصل على البكالوريا من ثانويتها سنة 1937، هناك تدرب على رسم الطبيعة الصامتة وردهات المدرسة وأعمدتها وفنائها وأسوارها باستخدام قواعد المنظور. لم يكن مستغرباً بعد ذلك أن يجتاز بتفوق مسابقة القبول بمدرسة الفنون الجميلة العليا، حيث شرع - منذ اليوم الأول لإنتظامه - فى تغيير الألوان الواقعية والنسب، وتكوين الموضوعات المرسومة. والنماذج الصامتة والحية. الأمر الذى أثار حفيظة `أحمد صبري` أستاذ الأكاديمية المتزمت قاوم دون جدوى هذا الانحراف عن الأكاديمية، حتى انتهى به المطاف إلى إهمال `أبو خليل` وعدم الألتفات إلى عمله أو مناقشته. بديهى بعد ذلك أن يلتحق `أبو خليل` `بقسم الزخرفة الديكور حالياً`، ليبتعد عن الفنان الكبير الراحل.. مضى فى طريقه عاشقاً للنشاط الإبداعى.. من حيث هو كذلك. متيماً بتجريب الخامات وأساليب استخدامها دون أهداف تعبيرية معينة. كأنما يتعجل الأعوام حيث يرأس أستاذه القديم: يوسف العفيفى قسم الرسم `1942` بعد عامين.. تخرج بتفوق وبعث إلى ولاية أوهايو بأمريكا ليحصل على درجتى الماجستير والدكتوراه.
- يمثل أبو خليل لطفى فى حركتنا الفنية نمطاً خاصاً من الفن التجريدى. يشيع فى المعارض العامة لكنه لا يلفت أنظارنا لضحالة مبدعيه وافتقارهم إلى الصدق والإيمان بما يفعلون. أما لوحات أبو خليل فتجذبنا بقوة لما فيها من إثارة وطرافة ودعوة للتأمل. نحس به فى كل ما يخطه من رسوم وألوان. يدخل إبداعه كثيراً في إطار `الفن الانفعالى الحركى` الذي ظهر فى أمريكا فى منتصف القرن. تعبير مباشر عن `حالة` فردية ذاتية نفسية وبدنية تجتاح كيان الفنان على مدى نصف ساعة أو ساعة. ينتهي خلالها العمل الفنى. لا علاقة له - بأى أفكار فلسفية أو أهداف إجتماعية أو أشكال منظورة فى الطبيعة من حولنا. نستطيع - إذا صح التعبير - أن نسميها نوبة إبداعية تشمله بعض الوقت فتسفر عن لوحة ما. بعد أن ينتهى العمل تماماً.. يتأمله قليلاً ثم يخلع عليه اسما `الجليد الأسود`.. `رحلة ليلية`.. يتبع أحياناً أساليب مختلفة تستغرق وقتاً تذكره أحياناً بمضامين موضوعية فيطلق أسماء مثل `حرب لبنان`.. `المغرور`.. `السير فى الفضاء`.
- إلا أن هذه `النوبة` أو `الحالة` أو `الانفعال الحركى` ليس عفوياً غير مقصود.. يستعد له أبو خليل بالأدوات والقماش والخامات المختلفة من ألوان زيتية عادية ولاكيه وبنزين وسكاكين.. وأمشاط أحياناً وأى شئ يظهر التأثيرات التى قد تخطر على باله أثناء `العملية الإبداعية` التى تستغرق دقائق معدودة تفرضها سرعة جفاف الخامات البلاستيكية. لا يستطيع مراجعة ضربات فرشاه وأدواته. إذ وقع خطأ - فى تقديره - عليه أن يصلحه بإزالة الألوان وإعادة القماش إلى أصله ويعده من جديد للتنفيذ.
- أسلوب `الاغتراب` لساعة أو بعض ساعة، هو أخر ما وصل إليه الفنان. استخدمه فى إبداع معظم لوحاته التى قدمها فى معرضه الثامن والآخير فى الكويت سنة 1978 يتبع أحيانا أساليب مختلفة تستغرق وقتا أطول لأنها تدخل تحت إتجاهات الفن البصرى أو `الأوب آرت` تتطلب حسابات رياضية وتنظيمات محسوبة وحيلاً تكتيكية ووحدات هندسية.. تعكس أسلوبه الإنفعالى السريع الحاسم فى عفويته. لا يستطيع أحد نسخ عمل من هذا الطراز ولا الفنان نفسه لوحات معقدة على بساطتها. يبدع كلا منها فى دفعة انفعالية واحدة. مقصودة وغير مقصودة فى آن. يهيئ لها نفسه كما لو كان يستعد لإصلاح قفل باب أو توصيلة كهربائية. تلك الأعمال المنزلية التى يهواها ويجد فى إدائها متعة لا تقل عن متعة الإبداع الفنى. أما أثناء الإبداع.. فلا وقت للانتباه يفكر بيديه مباشرة بأسلوب تنفيذي. تسبق يداه تفكيره. قصاراه أن تتابع عيناه نتائج وضع الألوان على سطح القماش وتشكيلات الخدوش والتصميمات وهى ترسم وتتبلور خلال عملية `الأسقاط الفورى` أسقاط الانفعال على اللوحة. تحويل الإحساس إلى شكل ولون.. اللامرئي إلى مرئى.
- فى مثل هذه الأحوال يتوه أبو خليل فى جو من الهيام الروحى. يعيش حلماً ممتعاً مثيراً لابد أن تتم حلقاته فى نفس الجلسة السريعة وإلا فسدت وضاع إلى الأبد. لا يكاد يبدأ حتى تتوالى الأفكار والخيالات مترجمة `ترجمة فورية` إلي أشكال وألوان دون أي تصميم مسبق. اللوحة في نظره `إنشاء جديد`. غير مسبوق. لا مثيل له. له منطقة الجمالى الخاص. كائن قائم بذاته له شخصيته وحياته كأى موجود آخر. مواز للطبيعة. ليس تقليداً لها أو مستلهماً منها أو تحويراً لبعض عناصرها. تتفق هذه الفلسفة مع وجهة النظر العينية في الفن وشعارها الشهير: `الفن يكون ولا يقول`. `التجريد النقى` و`الرياضى` و`المنيمال` و`التلقائي` و`الايهامى`.. نماذج من هذا المفهوم جنباً إلى جنب مع التجريد الحركي الانفعالى`.
- ليست كل أعمال أبو خليل من هذا الطراز الحركي الانفعالى. لكن معظمها `يكون` و`لا يقول`. استلهم الخط العربى ذات مرة تمشياً مع الموجة التى تأثر بها فنانونا في الستينات.. لكنه عدل عن الفكرة لأن جماليات الحروف الهجائية لا تتوافر فيها `الجدة` و`النشأة الأولية` مع ذلك نجد لدي فناننا لوحات يظهر فيها `التشخيص`.. عدة مربعات على سطح القماش متساوية المساحة أو متغايرة. فيها صور منقولة من الصحف والمجلات. تذكرنا بالفن الجماهيري `الأوب آرت` لكنها ليست ملصقة أو منقولة نقل مسطرة. مجرد إشارات لأصل الموضوع مع شغل باقى فراغ اللوحة بالملامس والألوان والتشكيلات المجردة. نقل في أحداها صوراً عن حرب فيتنام وفى أخرى صورة مصنع يحترق.. لمجرد أنه تأثر بالمشهد الفوتوغرافى في الصحيفة أو المجلة.. وخطر له أن ينقلها لرغبة عارضة من باب `ولم لا؟`. اللوحات عند فناننا `مسألة شخصية` خالصة لا شأن لها بالمجتمع من حوله.
- .. نظرته هذه كانت سبباً فى تركه `جامعة أوهايو` بالولايات المتحدة. أرسله إليها `معهد التربية للمعلمين` ليحصل على شهادتى الماجستير والدكتوراه فى التربية `1947`. تبين فى العام الأول أن الحركة الفنية فى تلك الولايات ليست على درجة مناسبة من التطور.
- انتقل إلى مدينة `شيكاغو` وألتحق بمعهد التصميم. الذى يتبع فى مناهجه أسلوب مدرسة العمارة والتصميم الفني الألمانية.. المعروفة باسم: باوهاس. قضى بهذا المعهد عامين كان فيهما القرار الفاصل لمعالم الشخصية الفنية التى يتصف بها فناننا الكبير. ولكى نزداد قرباً من هذه الشخصية، ينبغى لنا أن نسوق بضع كلمات نوضح فيها طبيعة `الباوهاوس` التى تركت بصمتها على العمارة والفنون والحياة برمتها في القرن العشرين.
- تأسست `مدرسة العمارة والتصميم الفني` - الباوهاوس - 1919 في مدينة `فيمار` بألمانيا. ظلت تثري الفكر الأوروبي الجمالي طوال أربعة عشر عاماً حتى أغلقها `النازي` سنة 1933. أقامها المهندس الشاب: والتر جروبيوس واستقطب لها نخبة من فنانى الطبيعة حينذاك: بول كلى.. فاسيلي كاندينسكي.. ماهولي ناجى. بغرض العمل على خلق بيئة جديدة، تشبع حاجات الإنسان الروحية والمادية جميعاً. ولما كانت الأفكار الثقافية لا تنمو أسرع من المجتمع الذى تسعى إلى خدمته، فقد استهدفت الباوهاوس إعداد جيل من `الحرفيين المهرة` يزيل الحواجز العالية التى تفصل `الحرفي` عن `الفنان`.. وتوحيد الفنون جميعاً من نحت ورسم وتلوين وتصميم، لإنتاج السلع الإستهلاكية والفنون التطبيقية أو أدوات الاستخدام اليومي.. من هنا كانت التكنولوجيا واكتشاف الخامات الجديدة وإمكانياتها فى إنتاج كل ما هو `جميل ومفيد` فى نفس الوقت.
- مادة `التصميم` التى يدرسها طلبة الكليات الفنية هذه الأيام. يرجع الفضل إلى الباوهاوس فى إعطائها شكلها الراهن. وكثير من الأعمال الفنية الخالية من المعنى وتواجهنا فى كل المعارض المحلية والعالمية، يمكن تصنيفها كأعمال تجريبية للخامات والتشكيلات من المحتمل أن ينتجها حرفيون مهرة من تلاميذ الباوهاوس.
- هذه هى طبيعة معهد التصميم الذى ألتحق به أبو خليل فى `مدينة شيكاغو` `1948-1950`. تعلم فيه كل ما يتعلق بالخامات وطبعائها والأدوات والأجهزة واستخداماتها استوديوهات المعهد كانت عامرة على الدوام بالخامات وأدوات التشكيل مناشير ومخارط ولحام. نحاس وصاج وألومنيوم وخشب ورق وأسلاك. عمل طوال عامين فى تصميم وتشكيل مجسمات مجردة بلا أهداف نفعية معينة، تشكيلات مستمدة من طبيعة الخامات وإمكانيات الأدوات.. وأفكاره الفنية أبدع مجموعة كبيرة من المجسمات البنائية الورقية المثيرة. فرخ ورق واحد يتحول بالتصميم إلى `مجسم` ذى قالب جمالى دون حذف أو إضافة.
- اشترت منه زوجة ماهولي ناجي `رائد الباوهاس الألمانية` أحد أعماله. فرخ بلاستك شفاف مقوى بشبكة من السلك على شكل مئذنة. مجرد تشكيل رياضى هندسي بقصد استخدام أقصى إمكانيات الخامات المتوافرة. المهارة مضافة إلى كل من الخامات والإدارة. بلا موضوع أو مضمون. نفس الطريق الذى استطاعت به `الباوهاوس` استخراج الأشكال `المنوعة المعاصرة` المحيطة بنا فى المبانى والأثاث ووحدات الإضاءة وأدوات الحياة اليومية. طريق `التجارب الحرة` للتدريب على إظهار إمكانيات الخامات يمثل التشكيلات التى كان يبدعها أبو خليل.
- عاد إلى أوهايو بعد نقضاء العامين فلم يطق المكوث لأكثر من شهرين انتقل بعدهما إلى `نيويورك` هذه المرة `1950-1953`. إلى قسم التربية الفنية بجامعتها. حيث عرض فى قاعة قريبة مجموعة لوحات زيتية تجريدية كالمجسمات التى كان ينتجها فى `شيكاغو`. لاقى ترحيباً واسعاً شجعه على المضي فى طريق التجريد الكامل.
- حياته فى نيويورك أسهمت في تشكيل شخصيته الفنية.. وأعطائه الطابع الثقافى الرفيع الذى نلمسه اليوم. فى سن النضج الكامل.. العطاء العاطفى السخى اللامحدود.. التقى هناك بطليعة شباب الفنانين الذين حددوا مسارات الفن الأمريكى فى الربع الثالث من القرن: جاكسون بولوك.. مارك رولكو.. روبرت جودنو. كان الأخير مراسلاً لمجلة `أخبار الفن` عاش معه أبو خليل فى غرفة واحدة بجوار الجامعة وتعرف من خلاله على آخر أشكال الحركة الأمريكية والتقى بفنانى الطليعة.. تأثر بزيارة بولوك في مرسمه في `لونج آيلاند` تأثراً عميقاً. شخصيته المتواضعة الفذة الخلافة هو وزوجته الفنانة.. ومجموعة الصناديق الخشبية التى يستعين بها فى تنويع ملامس لوحاته وتشكيلاتها. تحددت الفكرة آنذاك وأضاءت فى ذهن أبو خليل: الفن ليس تحويراً للواقع.. بل خلق واقع جديد.. مستقل عن الطبيعة.
- إذا كانت فلسفة الباوهاوس هى المدخل الأول لتفهم وتذوق لوحات أبو خليل لطفى، فلاشك أن فلسفة جاكسون بولوك و`التجريد التعبيري.. الإنفعالي الحركي` هى المدخل الثانى.. مضافاً إلى ذلك السمات الشخصية الفريدة التى يتصف بها إبداع فناننا الكبير.
- بول جاكسون بولوك (1912-1956) رسام أمريكي من أصل اسكتلندي وايرلندى. يعتبره النقاد والمؤرخون معلماً هاماً على طريق الفن التشكيلي فى القرن العشرين. أول من حرر الفن الأمريكى من الهيمنة الأوروبية. أطلق الناقد: هارولد روزنبرج على إبداعه أسم: `الفن الحركي`. بعد أن شاهده يبسط قماش لوحته الفسيحة على الأرض بدون شاسيه.. ويدور حولها راقصاً يسكب الألوان من الجهات الأربع. يحس بولوك حينئذ أنه جزء من اللوحة - هذه كلماته - لا يستخدم الفرشاة ولوحة الألوان وحامل الرسم التقليدى. بل أدوات غريبة كالسكاكين والعصى. ومعاجين قوامها الألوان والرمل أو مجروش الزجاج. أو ألوان خفيفة تسيل من الأقماع والأكواب. أشياء كثيرة أخرى غير معتادة فى عالم الرسم والتلوين.. تسفر عن خليط من اللعب والهواية.. والغريزة والصدفة.
- نلاحظ هنا كيف يلتقي أبو خليل مع صديقه بولوك فى `الأسقاط الفورى` للمشاعر والانفعالات.. والتعبير الحركى.. والأدوات والخامات المستغربة.. وعدم الألتزام بالفرشاة والحامل ولوحة الألوان. إلا أننا لا نتبين الكثير من القصد فى معظم أعمال فناننا على الرغم من السرعة الفائقة التى ينفذها بها. هذا فى رأينا أفضل معظم فناننا على الرغم من السرعة الفائقة التى ينفذها بها. هذا فى رأينا أفضل من حيث إن `الوعى` لا ينبغى أن يغيب تماماً عن العملية الإبداعية. هكذا نجد لوحات أبو خليل أكثر تعبيرية. تقول فى معظم الأحيان.
- مجموعة اللوحات التى عرضها فى `الكويت` منذ سنوات تكشف عن `مضامين` إنسانية واجتماعية.. وقدرة على تحويل الخيال إلى حقيقة مرئية، وتجسيد الأفكار الفلسفية فى تشكيلات جمالية مبتكرة. تتسم بالجاذبية والطرافة والإثارة. صفات إذا توافرت لعمل فنى ارتفعت به إلى درجة الروائع. `استكشاف اللانهائى` اسم أطلقه على لوحتين عبر فيهما عن احساسه نحو ما يدور الآن فى الفضاء الخارجى. نظم لونية غريبة توحى بالغموض والسرية. تمتزج بها خيالات تشخيصية كأنها مسافرة فى رحلة لا نهاية لها. أرواح هائمة تنتظمها تشكيلات هندسية متشابهة فى ارتفاع كالتسابيح. أما لوحة `السير فى الفضاء` فصممها الفنان فى دقة رياضية تنطوى على براعة كاملة فى الأداء. نحس `الوعى والقصد` فى كل صغيرة وكبيرة فيها.. حتى فيما يبدو لنا عفوياً للوهلة الأولى.
- لوحات كأنها قصائد من الشعر الرقيق الهامس. عميق المعنى بليغ الإشارة. اختار أبو خليل أسماءها مداخل إلى عالمه. لا يكاد المتلقي يقرأ العنوان ويتأمل اللوحة حتى تضمه إلى داخلها ويصبح جزءاً منها. كل صورة تعبير فريد مستقل بذاته. لكنها جميعاً ترتبط بشخصية مبدعها. تسبح تارة من المستكشفين فى الفضاء. أو تنطلق مع `الطيور المهاجرة` أو تنظر إلينا من خلال `عيون النصر`.
- الألوان والخطوط والملامس المتباينة، تخلع على إبداع أبو خليل حيوية غريبة لم يسبق لنا أن صادفناها بين فنانينا. أما `المضمون` الذي نلمسه في كل الأحوال، فهو `مأساة إنسان القرن العشرين` الذي يستشعر العزلة والوحدة والضعف.. بالرغم من كل ما يحوطه من أسباب العلم والحضارة.
الناقد: د./ مختار العطار
من ( كتاب رواد الفن وطليعة التنوير فى مصر - الجزء الأول )