وداعا .. كمال الجويلى
- الأثنين الماضى ودعت مصر واحدا من أهم رموز ونقاد ومبدعى الفن التشكيلى المصرى المعاصر وشيخ نقاد العالم العربى كمال الجويلى ، الذى رحل عن عالمنا تاركا لنا بورتريها خالدا لوجهه الطفولى برغم أعوامه التى تجاوزت الخامسة والتسعين ، ظل الجويلى طوالها شريفا مصرا على انتمائه لمصريته، لم نضبطه لحظة يقتبس من كتالوجات ` الخارج ` أو يزيف وعى ` الداخل ` كما ظل مترفعا عن ` الصغائر ` متساميا عن الصغار ` وقد عاصرت بنفسى ` معركة ` فرضها عليه أحدهم حول ` جمعية نقاد الفن التشكيلى ` وكيف تعامل معه برقى وسمو .. جعلنا نشعر - وقتها - نحن أعضاء الجمعية بأننا لسنا أمام رئيس الجمعية يدافع عن منصبه ويتمسك بشرعيته ، بل أمام أمير رقيق حالم .. شاهد الرومانسية والمثالية .. مثل أولئك الأمراء الذين كنا نراهم ونحن صغار يزينون صندوق البيانولا الشهير .. وقد كساه الشعر الابيض تاجا من الوقار ، يذكرك فقط بأن هذا الوجه البرىء يجاهد بالكاد ليغادر طفولته لولا نظارة سميكة تغطى جانبا من ملامحه .. وبعض خطوط وظلال رسمتها أنامل أزمنة قست على ملامح كثيرين، لكنها لم تجرؤ أن تخدش براءته .. ورقة شخصية وكأنها خبأت حنوها لهذا الوجه وحده ، وهو ما انعكس بجلاء على أعماله الفنية التى شكلت عالما فسيحا من الجمال والدفء ، الى حد ان الرائد أحمد صبرى عندما شاهده يرسم ، شبهه ببعض عظماء عصر النهضة ، بل تم تصنيفه باعتباره من أهم فنانى ` البورترية ` المعاصرين .. أيضا انعكس ذلك على كتاباته النقدية ، التى أسهمت بسلاستها وبساطة أسلوبها وجمال مفرداتها فى نشر الوعى التشكيلى بين جموع عريضة ممن كانوا يقرأون له ، خصوصا على صفحات ` الاهرام ` التى عمل رساما وناقدا فنيا بها منذ العام 1952 وحتى سفره ليعمل بالصحافة فى دولة الإمارات ، وهو أيضا ملك ناصية النقد وأتقن مفرداته.. لكنه أبدا لم يلجأ إلا إلى الجانب الحريرى من نصله .. لهذا أطلق على الراحل الكبير لقب ` الأب الروحى للفنانين الشباب ` لأنه اشتهر برعايتهم والوقوف الى جوارهم ، وتقديمهم ، ربما على مسئوليته الشخصية أحيانا ، فى المحافل والمناسبات الفنية المختلفة .. بل ترجم هذا النهج إلى مشروع عملى فريد من نوعه .. حين تأمل بعمق مايحدث على الساحة التشكيلية منذ بداية القرن العشرين ، ولاحظ أن التعليم الفنى لا يأخذ حقه ، وأن سلبيات الموجات الفنية المستوردة من الغرب بدأت تؤثر فى الشباب ، وليس لهم ذنب فى هذا فقرر ، وهو الناقد المرموق ، تنظيم دورات فنية ونقدية ، تقام فى مختلف المحافظات ، يحاضر فيها بنفسه مع مجموعة مختارة من كبار فنانى ونقاد جيله ، وبالفعل تم تنفيذ هذا المشروع الرائد من خلال المؤسسات الثقافية مثل هيئة قصور الثقافة وكليات ومعاهد الفنون ، وفيه تم توجيه هواة الفن بداية من الأطفال والشباب صغير السن .. إلى تأمل عبقرية الفن المصرى والحضارة المصرية بمختلف حقباتها والنظر إليها ، ومحاولة تعميق الإحساس بها ، والانتماء إليها ، ومن ثم التعبير عن ذلك من خلال مجالات الفنون المختلفة .
وقد خاض الفنان الراحل رحلة كفاح بدأها بدراسة الفنون الزخرفية ثم درس الفن على يد الرائد أحمد صبرى ، وكان يساعده فى ذلك الوقت الفنان الراحل حسين بيكار من خلال الالتحاق بالدراسات الحرة فى كلية الفنون الجميلة - قسم التصوير ، وربما لهذا كان - رحمة الله - من أشد المعارضين لشرط المجموع كمعيار للقبول فى كلية الفنون الجميلة، ومعه كل الحق فى ذلك ، لأن الموهبة لا تحتاج إلى مجموع ، وإنما الى إستعداد فطرى لدى الموهوبين .. وهو ماتتعامل به كليات ومعاهد الفنون فى كل الدول المتقدمة فنيا .. مع إيمانه بضرورة بل حتمية ان يدرس صاحب الموهبة ، حتى يعرف أصول المنظور المطلق والتصوير والنحت والجرافيك وغيرها من مقومات العمل ، لكن لا تحرم موهبه فنية واعدة من ذلك لمجرد أن مجموعها فى ` محنة الثانوية العامة ` كان أقل مما وضعه مكتب تنسيق القبول فى الجامعات !!
أيضا قاتل حتى اللحظات الاخيرة من رحيله من أجل كسر العزلة بين الفنان والمجتمع ، ودعا الى عمل المعارض وسط الجماهير البسطاء فى الشارع .. وكذلك شدد على ضرورة وضع منظومة لتجميل الشواراع والميادين والبيوت وكل ما يحيط بنا حتى تعتاد العين رؤية الجمال فترفض القبح ، وهى الدعوة التى أطلقها قبل نصف قرن من خلال كتاباته ، التى وجدت صدى لدى مسئولى المحليات وغيرهم لما تحولت مدننا ومياديننا الى ساحات للقبح بكل صورة كما نرى ونعانى الآن.
والراحل كمال الجويلى - شأن كثير من العباقرة - فنان متعدد المواهب، متنوع الإبداعات .. فهو الرسام المتميز، والناقد القدير والمثقف الكبير، وخبير الترميم المتفرد، ويكفى أنه شارك صديق عمره النحات الكبير أحمد عثمان مؤسس كلية الفنون الجميلة بالإسكندرية فى ترميم ونقل تمثال رمسيس. إلى ميدان الرماية فى الهرم فى تصرف لا يزال يثير الدهشة والجدل بل والاستياء.. فى أوساط عديدة للنخبة المصرية فنية وغير فنية - وقتها كان التمثال ملقى على الأرض فى أربعة أجزاء فى ميت رهينة. وقد حضر الجويلى عملية ترميمه.
ولم تكن دماثته المثيرة للدهشة ورقته المفرطة وهدوء أعصابه الشديد فى مواجهة `تصرفات الصغار فقط` ، لكنها مواصفات جعلته يواجه عواصف المحن والشدائد بصمت المتسامى فوق آلامه وأحزانه، وبكبرياء طاقة روحية شديدة الخصوصية تجعله يتجاوز هذا العالم بكل منغصاته، ولعل هذه الطاقة الفريدة هى التى مكنت الراحل كمال الجويلى - ضمن ما مكنت - من التصالح مع نفسه فى ظروف شديدة القهر والقسوة، حينما فقد إبنه الوحيد الفنان الشاب هانى الجويلى فى فاجعة مؤلمة أدمت قلوب الوسط الفنى والثقافى المصرى كله .. لكن هذا `الهادئ المتسامى` يتحول - على غير العادة - إلى `بركان ثائر` حين تمس كرامة الفن أو الفنان المصرى .. حدث هذا فى مناسبات عديدة.. لعل أشهرها تصديه لوزير الثقافة الأسبق فاروق حسنى ومن معه من مسئولى قطاع الفن التشكيلى، والأهم من وراءهم من `لوبى الكبار` حين تم نقل مجموعة من أهم مقتنيات متحف `الفن المصرى الحديث` التى لقتنتها الدولة من الفنانين بأسعار تعد أقل من قيمتها الحقيقية بكثير كى توضع فى المتحف كذاكرة بصرية للأمة كلها.. نقل هذه الثورة الفنية لتزيين أروقة وطرقات وغرف `مستشفى استثمارى كبير` .. وقد ثار الجويلى وحشد معه مجموعة من الفنانين والمثقفين ضد ما رأه عدم احترام للفنانين ولأعمالهم، فالمسأله ليست تجارة ولا تصرف شخصى للوزير أو رئيس القطاع، فأعمال متحف الفن الحديث ذات قيمة فنية عالية ومن قرر وضعها فى `مستشفى` لم يدرك تلك القيمة الفنية والتاريخية والإبداعية لهذه الأعمال.. وهو الموقف الذى أجبر الوزير ومسئوليه على التراجع.. ولا يبقى سوى الإشارة إلى أن مشروع الراحل `الجويلى` الفنى والنقدى والفكرى، سيظل واحدا من المشروعات التى أضاءت، وجه هذه الأمة الإبداعى عبر عطاء تنويرى امتد على مدار أكثر من ثمانية عقود.. وكم أتمنى أن تبادر وزارة الثقافة - خصوصا أن على رأسها الآن مثقف كبير وصديق عزيز هو الأستاذ حلمى النمنم - بجمع كتاباته النقدية والفكرية فى كتاب، يوثق هذه الرحلة ويليق بعطاء شيخ النقاد التشكيليين فى مصر والعالم العربى.
السيد رشاد
الأهرام العربى - 2016/1/23