صلاح جاهين..شاعر الكاريكاتير
-أعياد كتير بيبتدوا، ويفرغوا
- وبيفضل العالم كده،
- مكبوس، ودمه تقيل تقيل..
- ياربنا
- يا اللى خلقت لنا الأيادى، للهزار، والعمل..
- إدينى قوة ألف مليون أيد،،
-عشان أزغزغه!!
- كانت تلك إحدى أمنيات صلاح جاهين.. فبينما كان الشاعر العظيم (ت. س. إليوت) يحلم بأن يزعج العالم فتمنى قائلاً: (أتواتينى الجرأة على إزعاج الكون).. ليلتفت إليه العالم.. ولكن `جاهين` الشاعر والإنسان - معاً - يريد أن `يزغزغ` هذا العالم المكتئب ليضحك معه.. لأنه لا يستطيع أن يضحك بمفرده، طالما أن هناك ظلماً يقع على إنسان ما فى هذا الكون الفسيح.
- وربما كانت مئات الرسوم الكاريكاتورية التى أبدعتها ريشة الفنان صلاح جاهين، ما هى إلا رسائل موجهة إلى هذا العالم البائس.. أو محاولة دائمة لبلوغ هذا الحلم الذى راوده يوماً ما فى قصيدته (قصاقيص ورق).. وهى أن يكون له (ألف مليون إيد.. لكى يزغزغ) هذا العالم حتى يستلقى على ظهره من الضحك.. وربما تكون هذه الكلمات رغم بساطتها تمثل فلسفة جاهين الكاريكاتورية.. وربما - أيضاً - لصدق الهدف، ونبل الغاية، أصبح جاهين بحق رائداً لمدرسة الكاريكاتير المصرية والعربية الحديثة.. ولكى نتعرف على جاهين الفنان والشاعر والإنسان لابد وأن تكون البداية من بعيد.
- لم يكن هناك من يستطيع أن يتخيل - فى بداية الخمسينيات - أن صلاح جاهين، سليل العائلات الكريمة، سيقع فى عشق هذا الفن المشاكس المسمى بالكاريكاتير.. ولم يكن هناك - على الإطلاق - من يستطيع أن يتكهن أن أبن هذا المستشار الناجح، سيخالف التقاليد العائلية ويهجر كلية الحقوق.. ويتمرد على كلية الفنون الجميلة، ليصبح شاعراً يؤلف الأغانى، ويمشى فى الأسواق والموالد، ليكتب الأوبريتات، وينظم الأشعار ويدنان فى غدوه ورواحه بالرباعيات، ويحترف صناعة الكاريكاتير.
- فعندما خرج صلاح جاهين من منزله، إرتبط بالشارع المصرى بكل ما فيه، ولم يتمكن من العودة مرة أخرى إلى دفء المنازل، ومقاعد الدرس الوثيرة.. فقد ذاب فى قلوب المصريين مثل قطعة السكر، إذ إمتلأ قلبه بعشق هذا الشعب ، وعشق هذه الأرض، وعشق هذا الوطن.
- ومن أراد أن يقترب من صلاح جاهين، لا يفيده كثيراً أن ينظر إليه من جانب واحد، أو يتناول واحداً من إبداعاته المتنوعة دون الألتفات إلى باقى الأشكال المختلفة من الفنون التى مارسها، فأتقنها وأجادها.. فهذا الكم الوفير من الإبداعات المتعددة صادر عن فنان واحد وقلب واحد لا يتجزأ.. لذا فليس بمقدورنا هنا، ونحن بصدد الكتابة عن أعماله الكاريكاتورية، أن نتناولها بالبحث والدراسة بمعزل عن جل أعماله الشعرية والفنية المتنوعة.. فعلاقة جاهين بالكاريكاتير كانت علاقة ضرورية ومنطقية أيضاً.. فهو لم يصبح رساماً لمجرد أن (دمه كان خفيفاً) أو أنه (أبن نكته).. ولكنه صار كذلك لأنه رأى أكثر مما نرى.. ووعى أكثر مما نعى.. فرصد أكثر مما نرصد.
- ومن هنا فإن عظمة أعمال جاهين الكاريكاتورية، تكمن فى كونها نابعة من قلب هذا الشعب وهزل هذا الشعب وجد هذا الشعب.. إذ أنه لم يسع - مطلقاً - لإفتعال الموقف الكاريكاتورى بقدر سعيه لإستخراجه والبحث عنه واستخلاصه من أعماق هذا الشعب الساخر دائماً.. لذا فهو كان ينهل دائماً من معين لا ينضب، وهو إنسان هذا الوطن.. ولهذا إحتفظ جاهين - دائماً - بقدراته العالية ولياقته الفنية وعطائه المتوقد والمتدفق.. لأن هدفه كان الإنسان وليس المجد الشخصي.. لذا كان الإنسان المصرى حريصاً على أن يمنحه المجد، بعد أن أخذ من جاهين أجمل ما يمتلك من إبداعات.
- والعين الواعية المتتبعة لحركة الإنسان المصرى عبر مسيرة حياته المفعمة بالأحداث الجسام على مر العصور والتاريخ.. تستطيع أن تكتشف بسهولة، أن هذا الشعب الغريب الأطوار فى حركة دائمة يتشكل وفقاً لظروف الموقف الذى يواجهه.. وما يأتيه هذا الشعب يومياً من أفعال وردود أفعال قد تكون أشد غرابة ومبالغة من أى كاريكاتير.. فما كان على جاهين سوى أن يلتقط هذا الواقع ويسجله.. ولكن كيف سجله وكيف تمكن من رصده وإعادة صياغته فى أشكال فنية متعددة.. فتلك كانت عبقرية جاهين.. فقد استطاع أن يفتح عينيه على آخرهما ليرى أكثر مما نرى.. ويفتح قلبه ليتسع لما ضاقت به صدورنا.. ويفتح رئتيه لتختلط أنفاسه بكل خلجة من خلجات هذا الشعب العظيم.
- وقد لا نستطيع أن نعرف - على وجه التحديد - أيهما أعطى للآخر.. جاهين الشاعر أم جاهين الرسام.. ولكن الشئ المؤكد أن الكاريكاتير عند جاهين استفاد من شعره.. والشعر عند جاهين أخذ من فنه الكايكاتوري الكثير.. فهو كشاعر توفرت لديه قدرات خاصة على التحليق فى الخيال، لخلق عالم خاص، قد يصل فى بعض القصائد إلى حد الفنتازيا.. جعله قادراً على تجاوز الواقع، حين يفكر فى صناعة الكاريكاتير.. وقد مكنه ذلك من المبالغة فى تخيل المواقف غير المعقولة بشكل لم يتوفر لغيره من رسامى الكاريكاتير.
- وإستفاد - في ذات الوقت - كاريكاتير جاهين من شعره.. لأنه كشاعر، تمرس وتدرب على إختزال المعانى، وتكثيف الصور وإيجاز الفكر فى شطرة واحدة، وهذه شروط أساسية فى مقومات الكاريكاتير الجيد.. فرسام الكاريكاتير فى حاجة إلى الفكرة البسيطة التى ليس لها تعليق.. أو لها تعليق من بضع كلمات يختزل بها ما قد يعجز عن توضيحه مقال سياسى أو إجتماعى، قد لا يتسع له العديد من الصفحات.
- وتلك الإستفادة المتبادلة ما بين الكاريكاتير والشعر، وصلت إلى حد التزاوج والإمتزاج فى كثير من الحالات، عندما أخذ الشعر من روح الكاريكاتير صوراً شعرية كاريكاتورية عبر عنها جاهين فى عدد ليس بالقليل من قصائده الجيدة، كادت أن تمثل حالات تفرد هو بها بخلاف (الشعر الحلمنتيشى) المبتذل الذى إنتشر فى أربعينيات هذا القرن.. لذا فإن صور جاهين الكاريكاتورية فى الشعر كانت شيئاً مختلفاً، فهي أقرب ما تكون إلى صورة المتحركة أو رسوم الكارتون.. فهى متقنة التركيب عالية القيمة .. تضج بالحركة والحياة، تحس بمجرد قراءتها أنه لا يقوى على صياغتها سوى رسام كاريكاتوري متمكن قادر على التخيل، وتحريك الأشياء، وليس شاعراً يكتب قفشات مضحكة من تأثير المخدر.. ولو أردنا أن نستشهد بنماذج من أعمال جاهين الشعرية التى ينطبق عليها هذا التصور فقد لا تتسع لنا صفحات تلك المقدمة.. ونكتفى هنا ببعضها:
- ففى قصيدة بعنوان `عيون البقر` يقول المقطع الأخير منها:
- يا حلاوة عيون البقر
- شعراً شبهوا عيون حريمهم به،
- ونا الشاعر، وله واحده بيحبها..
- إنما يستحيل!..
- سيبنا م الشعرا،
- إحنا ناس فقرا،
- واللى يعشق فتاه، فيها م البقرة
- يبقى لمؤاخذة `ثور`!!
- إنها صورة كاريكاتورية متكاملة تتضمن بالإضافة إلى روح الدعابة المقصودة على ثورة مستترة ضد الصور البيانية التقليدية في الأشكال الأدبية القديمة البالية.
- وقد قصيدة أخرى بعنوان `طرزان` يحكي لنا قصة طريفة بطلها - في غالب الظن - صلاح جاهين نفسه عندما كان صبياً.. فهذا الصبي الذي يدخل السينما يوم الخميس ليشاهد فيلم طرزان يجلس مستمتعاً بقرطاس اللب وفيلمه السينمائي، إلى أن يتخيل هذا المشهد الطريف:
- طرزان بيصرخ: عا عا عاه..
- خنق الأسد
- صرخت أنا كمان وراه
- ولما قال لشيتا: يا أمه زغرطى
- وحط رجله ع التعيس، فوق التراب،
- حطيت معاه رجلى، بدون جزمه وشراب
- ورسمت بعيون خيال، بدل الأسد،
- محمود أفندى حسين.. مدرس الحساب!!
- إن هذه القصيدة، فيلم كرتون بلا أدنى شك.. ينبض بالحركة والحياة.. فهى صورة شعرية لا يقوى على صياغتها سوى رسام ساخر متمكن، قادر على التخيل، وتمضى بنا الصور وتتكرر، حتى فى أرق أعماله وأكثرها قرباً من الفلسفة الجاهينية فى الكتابة، وأكثرها حميمية إلى قششلب الشاعر وهى الرباعيات:
- غمض عينيك وارقص بخفه ودلع
- الدنيا هى الشابه وأنت الجدع
- تشوف رشاقة خطوتك تعبدك
- لكن أنت لو بصيت لرجليك.. تقع عجبى
- النهد زى الفهد نط إندلع
- قلبى انهبش بين الضلوع وإنخلع
- يا للى نهيت البنت عن فعلها
- قول للطبيعة كمان تبطل دلع
- العشب طاطا للنسايم ونخ
- أخضر طري مالهش فى الحسن أخ
- عصفور عبيط أنا.. وغاوي بهجة وغنا
- ح أنزل هنا.. وأنشا الله يهبرنى فخ
- إنها صور شعرية بكل المقاييس.. ولكنك تستطيع أن تنكر عليها فنتازيا جاهين الكاريكاتورية بألفاظها الغريبة، وجسارتها اللغوية وتراكيبها الكوميدية المضحكة.. إنها ليست قريحة شاعر بقدر ما هي ريشة فنان مبدع، قادر على التخيل بالصوت والصورة والحركة والموسيقى.. إنها أعمال خرجت من ذلك القلب الفنان، الذى إنفلتت بداخله كل الفنون وإمتزجت، فأفرزت هذا الخيط المتداخل والمتناغم ما بين الجد والهزل.. والبهجة والشجن.
-.. ولكى نضع جاهين فى موضعه الصحيح من حركة الكاريكاتير المصري لابد لنا من إطلالة سريعة على حال الكاريكاتير قبل ظهور جاهين، وجيل جاهين أن صح التعبير.. فقد كان الكاريكاتير إما سياسياً أو إجتماعياً، وكان يبدو في حالة من البداوة الشديدة والتسطيح والمباشرة.. فإذا كان سياسياً فهو خطب مباشرة، أو هجوم سافر على الخصوم السياسيين، أو غضب مستطير ضد الأعداء والإستعمار.. وكانت كتيبة فرسان الكاريكاتير في تلك الآونة.. تضم صاروخان وزهدي ورخا وطوغان ثم عبد السميع.. بالإضافة إلى مجموعة من الرسامين الأجانب المحترفين، الذين ليس لهم علاقة بفن الكاريكاتير سوى تشخيصه ورسمه فقط، أما الأفكار فكانت توضع لهم من قبل روؤساء التحرير أو صحفيين ساخريين متخصصين في صياغة كلمات الكاريكاتير، ليقوم الرسام الأجنبي بتنفيذ هذه الأفكار حرفياً.. ومن أشهر هؤلاء الرسامين الأجانب كان (برنى - برنار - كيراز - فيدوف).
- وللحق نقول أن الفنان الراحل عبد السميع، هو الذي مهد الأرض للأفكار الجديدة، فهو الوحيد الذى أستطاع في فترة متقدمة، أن يتجاوز كل هذه الكتيبة بأفكاره الساخنة، ورسومه المتميزة.. إذ يقول عنه الفنان محيى الدين اللباد:
- `... كان عبد السميع أكثر الرسامين شهرة وشعبية وتأثيراً فى هذا الوقت`.
- وكان الكاريكاتير الإجتماعى لا يخرج عن كونه ترجمة بالصورة للقفشات والنكات المهذبة، التى يطلقها العامة ويتداولونها فى جلساتهم الخاصة.. وبالتالى فإن الكاريكاتير الإجتماعى كان مجرداً من الفكر وينصب بشكل أساسى على الموضوعات التقليدية، التى تتحدث عن العلاقة بين الزوج الضعيف، والزوجة البدينة المستبدة الشرسة.. بالإضافة إلى بعض المواضيع الركيكة.
- ونخلص فى هذه العجالة السريعة، إلى أن جاهين جاء إلى ساحة الكاريكاتير التى كانت فى انتظاره وهى خالية، أو تكاد من الفارس الذى يأخذ بقيادة حركة الكاريكاتير المصرية ويعمل على تحديثها.. فجاء جاهين بأفكاره الطازجة، وجنونه المتدفق، وبدأ مع جورج البهجورى، الذى كان قد سبقه بوقت قصير فى تأصيل وتأسيس المدرسة المصرية الحديثة للكاريكاتير المصرى والعربى.
- وسرعان ما بدأ جاهين مع صدور العدد الأول من مجلة `صباح الخير`، فى صبيحة الثانى عشر من يناير 1956، في مواصلة إبداعه الكاريكاتورى الجديد، بشكل مختلف تماماً، بعيداً عن الأساليب التقليدية القديمة.. ليحدث إنقلاباً فى عالم الكاريكاتير المصرى.. ويؤسس المدرسة الحديثة، ويصبح ناظراً لها خلال فترة وجيزة من بداية إفتتاحها على صفحات `صباح الخير`، ليلتحق بها عدد من الأساتذة من جيل الرواد، على رأسهم رجائى ونيس وأحمد حجازى وبهجت عثمان وإيهاب شاكر.
- وقد إعتقادى أن تمييز جاهين المبكر، وبروزه السريع فى الكاريكاتير والشعر على حد سواء، يرجع إلى إستيعابه التام لتاريخ الشعب المصرى، من خلال قراءاته المستفيضة فى كتب التراث، التي تسجل الوقائع والأحداث اليومية لعامة الناس وبسطاء الشعب، خاصة كتاب `تاريخ عجائب الآثار فى التراجم والأخبار` للجبرتى.. وهو عاشق ولهان محب لهذا الرجل، وأعتقد أنه تأثر به إلى حد كبير، فقد أستفاد جاهين من قراءته للجبرتى بشدة، ويكفى للتدليل على ذلك أنه أختص الجبرتى فى واحدة من أهم قصائده وأكبرها، وهى `على أسم مصر` ونورد هنا بعض المقاطع الخاصة بالجبرتى التى يقول فيها:
- شفت الجبرتى بحرافيش الحسين وبولاق
- بابن البلد ماشى زى النمس فى الأسواق
- بالفلاحين بالشراكسة بكل صنف عجيب.
- مصر اللى عمر الجبرتى لم عرف لها عمر
- وطلع لقاها مكان مليان عوام وزعر
- جعيدية غوغاء يجيبوا تملى وجع الراس
- وخليط أفارقة هنادوه روم ملل أجناس
- والترك فى القلعة والمماليك خدودهم حمر
- إن من يكن للجبرتى كل هذا الإعتزاز، ويحمل بين جنباته هموم كل طوائف الشعب إلى هذا الحد، لابد أن ينتج شعراً وكاريكاتيراً يحتل فيه الإنسان البسيط أكبر مساحاته.. والقارئ المتمعن لتاريخ هذا الشعب العظيم والغريب - معاً - يستطيع أن يكتشف بسهولة، نبض هذا الشعب وإتجاه حركته المقبلة، خاصة عندما تضيق به الدنيا بما رحبت، وتتكالب عليه المصائب والخطوب، ويصبح العالم بين يديه أضيق من ثم الخياط.. في مثل هذه الظروف - وما أكثرها - نجد أن هذا الشعب الغريب يشحذ أفكاره العبقرية، ويلجأ إلى وسائله الخاصة العجيبة، فى مواجهة حكامه الظالمين على مر العصور والأزمان.. وأعرق هذه الوسائل هو الضحك.. فهو يسخر ويستهزئ بمن يظلمه، أو يقهره أو يتسلط عليه، فيؤلف عامة الناس النكات الساخرة ويطلقون الألقاب المهينة.. فيظل الشعب على تلك الطريقة، حتى يسقط عن ظالميه الهيبة ويستخف بجبروتهم وبطشهم، فتتساقط أقنعة الحكام الظالمين، حتى تنكشف عورتهم للناس، ويتضائل شأنهم ، ويظهر ضعفهم حتى يبات الواحد منهم لا يساوي شيئاً فى نظر العامة من الناس، وعلى هذا النحو تقوم منذ القدم فلسفة الشعب المصرى فى مقاومة الظلم، إلى أن تحدث الطفرة، فيتوحد الكل فى واحد يتحول إلى رمز لحركة المقاومة فيثور الشعب على ظالميه حتى يسقطهم، ويولي من يرتضيه حاكماً عليه.. وهكذا تبدأ الثورة عند المصريين البسطاء من الضحك.. حتى لنكاد أن نقول أن الضحك والسخرية، هم مفتاح الشخصية المصرية فى مقاومة الظلم.. والأمثلة كثيرة وعديدة، نكاد لا نحصيها فى تاريخ هذا الشعب العريق..
- فمن كتاب هوامش المقريزى لصلاح عيسى نقتيس هذا النص - بتصرف - الذى ورد فى المجموعة الثانية من `حكايات من مصر`، تحت عنوان `الأمير خاين بك`:
- (فى معركة مرج دابق خان الأمير المملوكى `خايربك` الجيش المصرى، وانسحب بفرقته بناء على اتفاق سابق مع الغزاة ، مما أدى إلى هزيمة الجيش المصري وسقوط مصر تحت أقدام العثمانيين.. ومكافأة له على خيانته، عينه السلطان العثماني سليم الأول حاكماً على مصر المحتلة.. فسار في الناس سيرة سيئة، فتحول إلى سفاك شرس ببطشه بالناس، حتى وصفه معاصروه بأنه كان جباراً عتيداً.. فتندر به الناس واستخفوا من بطشه، فأطلق عليه العوام لقباً صار فكاهة يتندرون بها وسموه `خاين بك`..
- والتاريخ المصرى زاخر بهذه المواقف التى تنبع بتلقائية بين عامة الناس فى مواجهة المظالم .. ولقد إستلهم جاهين - فى إعتقادي - هذه الروح المصرية فى أعماله الكاريكاتورية، لأنه تشبع بها فأفرزت نفسها فى أعماله، لذلك نجح جاهين إلى حد كبير في تأصيل الكاريكاتير المصري المعادل لكل تصرفات العوام وسلوكهم اليومي، ونكاتهم المروية فى جلساتهم الخاصة.. فالمصرى يضحك على بلواه أكثر مما يضحك على بلايا الآخرين.. ويسخر من نفسه قبل أن يسخر منه الغرباء.. ويبكت نفسه قبل أن تتطاول عليه الألسنة.
- وإذا كان بين أيدينا الآن في هذا الكتاب، مئات الرسوم الكاريكاتورية للفنان صلاح جاهين فإنه - رغم كثرتها - لا ترصد سوى الحركة السياسية والإجتماعية للواقع المصرى فى الفترة الواقعة ما بين عام 1972 وحتى عام 1985.. لذا يجب أن نعترف منذ البداية، أن كل هذه الأعمال ليست صلاح جاهين بأكمله.. بقدر ما هى تاريخ لفترة عصيبة من حياة مصر، وهى فترة السبعينيات بكل مسالبها وترديها وتراجعها.. فهذا الجزء من أعمال جاهين هام جداً، لأنه يسجل موقف جاهين المقاوم فى مواجهة كل هذه الإنهيارات، ووقوفه كالسد المنيع أمام تلك التراجعات، خاصة فى مجال القيم والسلوك الإجتماعى، والتقهقر الرجعى نحو الخلف وتردى الأوضاع الثقافية والفنية، وإختلال ترتيب القيم، ويتجلى ذلك بوضوح في الجزء الأول الخاص بالتعليم، والجزء السادس الخاص بالفن، وإن كان موقف جاهين الكاريكاتوري في مواجهة التردى السياسى لا يظهر هنا بحدة ووضوح فهذا مرجعه إلى أن كل هذه الأعمال رسمت لتنشر فى أعرق الصحف القومية وأشدها تحفضاً وتعبيراً عن النظام الحاكم.. ورغم إتفاقنا المسبق على البديهية التى تقول بأن موقف الفنان لا يتجزأ وأن الفنان في حد ذاته موقف أولاً وأخيراً.. إلا أننا لا نستطيع أن نكون متعسفين ضد الرجل، ونتناسى أن الكاريكاتير تحول في تلك السنوات إلى وظيفة رسمية بالنسبة له، لدرجة أنه صرح فى عام 1982 فى حوار صحفى: `بأنه لا يحب الكاريكاتير ولكنه مصدر رزقه`.
- ولكى نكون منصفين لتاريخ جاهيم الكاريكاتوري، لابد وأن نعود إلى الوراء كثيراً، لكى نراه في أخصب أيام حياته في أواخر الخمسينيات وطوال الستينيات، أيام الجنون الجميل والعطاء المتدفق، حيث الحياة بلا إكتئاب ولا ملل.. والضحك بلا حساب وبلا ثمن.. وقبل أن تلقى به هزيمة يونيو 67 فى: `هاوية من الحزن لا قرار لها` - على حد تعبيره - لذا يتوجب علينا أن نعيد إستقراء أعماله بتأن، لنستلهم منها تفاصيل ملامح عصر بأكمله، كان جاهين واحداً من أهم عمالقته، ملأ فيه حياتنا شعراً ورسماً وفناً جميلاً، لا تزال أصداؤه تفرز فينا أحاسيس جميلة تتغير ولا تنتهي.
- فعندما بدأ الإنقلاب الحقيقي في حركة الكاريكاتير المصري في منتصف الخمسينيات على صفحات `صباح الخير`، بقيادة جورج البهجورى وصلاح جاهين.. بدأت منذ ذلك التاريخ تتشكل الملامح الأولى لمدرسة جاهين الكاريكاتورية، وسرعان ما أكتملت المدرسة، وتبلور إتجاه عام لهذه المدرسة بإنضمام أعمدة حركة الكاريكاتير من جيل الرواد العمالقة، بظهور رجائي ونيس وحجازى وبهجت عثمان وإيهاب شاكر.. ثم جاء محيى اللباد وصلاح الليثى وناجى كامل، ومن منتصف الستينيات بدأ يسطع نجم رؤوف عياد وشريف عليش وجمعه فرحات، وتوالت الأجيال الجديدة.. وإن كان كل منهم استطاع أن يتميز منذ البداية بأسلوبه الخاص، فأضاف كل على حده إلى صرح الكاريكاتير المصرى ما أثرى به هذه المدرسة وأغناها بتراث كاريكاتورى قد لا يتسع لنا المجال هنا للحديث عنه، ولكن ما يجدر الإشارة إليه هنا أنه عندما ظهرت مجلة `صباح الخير`، كان المجتمع بأكمله فى حالة مخاض، وكانت مصر تشهد تغيرات سياسية وإجتماعية وثقافية على كافة المستويات، وهذه المتغيرات نتج عنها فيما بعد تغير شامل في تركيب البنية الإجتماعية للمجتمع المصرى بأكمله، وكان لابد أن يواكب هذه الثورة الإجتماعية، تغير فى مناهج التفكير، وكانت هذه المهام ملقاة على عاتق جيل جديد من الشباب التقدمى المتحمس غير هؤلاء الذين مارسوا السياسة داخل أحزاب ما قبل الثورة.. وكان جاهين واحداً من هؤلاء الشباب الذين إضطلعوا بمهمة صياغة ثقافة جديدة، فكر جديد، وكاريكاتير جديد، يواكب المتغيرات التى كانت تشهدها كل عناصر الحياة فى المجتمع المصرى فى تلك السنوات الخصبة.
- وكان لصلاح جاهين دوره الفعال فى تلك الآونة فقد ساهم بكل إبداعاته فى بناء المجتمع الجديد بطريقته الخاصة فى التناول.. ولنأخذ على سبيل المثال واحدة من القضايا التى كانت مطروحة على الساحة الثقافية والإجتماعية - فى مصر - فى تلك الفترة، ونقيس عليها مساهمات جاهين الكاريكاتورية، والدور الذى لعبه في سبيل تعميق المفاهيم الجديدة التى كانت تفرض نفسها فى شكل ضرورات ملحة.. ولتكن قضية تحرر المرأة من قيود التقاليد مثالنا:
- فعلى الرغم من أن الصرخة المدوية التى أطلقها قاسم أمين، مطالباً بتحرير المرأة، انطلقت فى مطالع هذا القرن، إلا أن المرأة لم تكن بقادرة على إجتياز حواجز العادات والتقاليد والأعراف السائدة بسهولة، ولم يكن بمقدورها أن تخترق الحجب والحواجز المضروبة حولها، إلا فى حالات نادرة، ومن خلال الأسر الأرستقراطية.. وحتى بعد نجاح المرأة فى إختراق برزخ العادات التقاليد، فإنها تخرج للمجتمع فى شكل زهرة جميلة تتزين بها الصالونات، ولكنها تظل دائماً غير قادرة على الفعل إلا فى حالات نادرة، فى حدود ما يسمح به المجتمع والرجال.
- وعندما جاءت ثورة يوليو 52، إتخذت أساليب المنعالجة لهذه القضية شكلاً عملياً وإيجابياً.. فخروج المرأة من منزلها إلى الجامعة، ومنها إلى العمل.. فرضتها - فى تلك الفترة - ضرورات إجتماعية ملحة.. وأوجبتها حتمية تاريخية، وتحول إجتماعى كانت تشهده الحياة المصرية.. وقد لعب كاريكاتير جاهين في هذه الأيام دوراً ريادياً واعياً في هذه القضية، فخلال تلك التحولات.. واظب جاهين على نشر سلسلته الكاريكاتورية الشهيرة (قيس وليلى).. و(نادى العراة) بمجلة صباح الخير على مدى ما يربو على ثلاث سنوات (56 - 59) والمتتبع لمفرداتهذه الحملة التي قادها جاهين إبان عام 1956 يكتشف دون جهد عسير، أنه كان على وعى تام بمعطيات تلك الحقبة من تاريخ مصر.. فهو لم يناقش خروج المرأة للعمل، أو عدم خروجها، ولم يناقش حرية المرأة أو قيودها، ولكنه تجاوز كل ذلك بما هو أبعد وأعم، وحطم حاجز الحرج، وجعل نساء أعماله الكاريكاتورية يندفعن خارج سياج التقاليد بقوة، ويخلعن ثيابهن فى (نادي العراة) ويندفعن إلى العمل الإيجابى فى (قيس وليلى) في مواجهة قضية الحب وما علق بها من تخلف وسلفية .. ونلحظ هنا أن وعيه بقضايا المرأة لم يأت بتكليف من السلطة، ولكنه أملته عليه قناعاته الفكرية، ووعيه الفنى المبكر فطرته الإبداعية المفرطة.. إن صدق جاهين الفنى مع نفسه، وإخلاصه الفطرى لقضايا مجتمعه، إقتضى منه تلبية احتياجات هذه المرحلة، لبلورة هذه القضايا بشكل سريع، مستشرفاً آفاق المستقبل المرتقب، فأسهم بإبداعاته الفنية المتقدمة فى إزاحة التراب المتراكم - عبر سنوات طويلة - على معدن هذه الشعب النفيس ليجلو عنه ما علق من صدأ سنوات القهر والتخلف والسلفية.
- توالت بعد ذلك سلاسل جاهين الكاريكاتورية على صفحات `صباح الخير`، مواكبة للتطور مساهمة فى إحداثه، وإتمام تفاعلات الصراع المحتدمة ما بين الجديد والقديم.. فهو صاحب السلاسل الشهيرة: (ضحكات مكتبية - في دواوين الحكومة - الفهامة - صباح الخير أيها...... - قهوة النشاط).. ولم تكن هذه السلاسل في شكل حملات إعلامية مواكبة لقرارات الحكومة في ذلك الوقت، ولكن جاهين الذي كان قد تغلغل في وجدان هذا الشعب (الحدق) منذ البداية، لم يكن ليصعب عليه أن يضبط الموظف المصري.. متلبساً بممارسة الروتين والبيروقراطية وتعقيد الأمور، وعرقلة التطورة الطبيعى الذى كان يشهده المجتمع المصرى.
- والمتتبع لأعمال جاهين الكاريكاتورية فى ذلك الحين، يستطيع أن يعرف ومن أول وهلة أن جاهين كان يقود حملة قومية ووطنية ضد التخلف والرجعية ومعاداة التقدم، ليخلص نسيج الشعب المصري مما علق به من شوائب، وما رسخ فى وجدانه من معتقدات خاطئة تعوق تقدمه، وتكبل أقدامه من الإندفاع نحو التقدم.. ولم يكن جاهين رساماً منتمياً لحزب سياسي معين، فيقوم بدور المترجم والمنفذ لأفكار الحزب وسياسته، وتحويل برامج الحزب إلى رسوم كاريكاتورية كما كان يفعل رسامو الكاريكاتير التقليديون الذين عاشوا عصر ما قبل صلاح جاهين.. ولكنه كان يعبر وبشكل مستقل تماماً عن أفكاره الخاصة، ومعتقداته التى امتلأت بها روحه، فراح يعبر عنها في أشكال مختلفة، سواء كانت رسوماً كاريكاتورية، أو أشعاراً لها بريق خاص.. استطاع من خلالها أن يتبوأ مكان الريادة فيها.
- ولأن جاهين كان إبناً شرعياً لأفكاره الخاصة المتقدمة والمتطورة المتجاوزة لأشكال التقليدية القديمة .. فإننا نجده عندما يبتعد عن القضايا السياسية والإجتماعية في الكاريكاتير، لم تكن لتبهره الأفكار وجديد.. فعلى مدى سنوات طويلة، تناول في سلسلته الشهيرة `صباح الخير أيها......` الكثير من الموضوعات الجريئة، التي لم تكن مطروحة من قبل في ساحة الكاريكاتير، والتى تميزت بفنتازيا جاهينية مبهرة، وكان يضمن هذه السلسلة فى كل مرة قصيدة صغيرة، بها صورة شعرية كاريكاتورية، بالإضافة إلى حوار ضاحك قصير ألمعى يصب فى نفس المعنى والموضوع الخاص بكل حلقة.. وهذه الأشكال والعناصر الكاريكاتورية إستحدثها جاهين الذي كان فى حالة تحد دائم وسباق مع نفسه، من أجل استنباط أشكال غريبة وجديدة فى الكاريكاتير، سرعان ما يهجرها ويذهب للبحث عن شئ آخر لم يقترب منه إنسان من قبل، أنها فترة خصبة من تاريخ مصر، وحياة الفنان صلاح جاهين.. أبدع فيها أروع أعماله.. ولكن هذا الحلم الجميل، وهذا العالم الجميل الذى كان جاهين يتصور أن بإستطاعته أن يمد مليون ذراع `ليزغزغه` حتى يضحك.. تغير بعد ذلك وتبدل، ولم يظل على حالة بعد هبت عليه رياح هزيمة 67 ليس في مصر فقط، وليس بالنسبة لجاهين وحده.. ولكن العالم بأسره تغير، لذلك لم تكن هزيمة 67 سوى بداية الدرجات نحو قاع الحزن العميق..
- فقد بدأت حقبة جديدة وغريبة فى حياة البشرية، اجتاحت العالم كله، فبعد أن كانت الحرب الفيتنامية إبان حرب 67 هى الشئ الوحيد الذى يقلق ضمير العالم ويؤرق شعوب الأرض كلها بما فيها الشعب الأمريكى نفسه.. وكان الرأي العالمى فى أشد حالات إنزعاجه مما يحدث فى ذلك الوقت، وقد توالت الأحداث بعد ذلك.. ورحل عنا رجالات هذا العصر العظام، فمات نهرو، ورحل عبد الناصر وتيتو وسو كارنو وسيكتوري، وانتهى عصر بأكمله، وتقلص دور كتلة عدم الإنحياز، وانحسرت حركات التحرر فى دول العالم الثالث، وانتهى عصر الإستعمار التقليدي.. وبدأ عصر جديد من المؤامرات والمخابرات والدسائس والإنقلابات والتجسس.. وتولى مصائر الشعوب في دول العالم الثالث، حكام مواطنون في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية أشد بأساً من الأستعمار نفسه، وأكثر ظلماً لشعوبهم.. فأذاقوا الشعوب من صنوف العذاب والفقر والحرمان، وما كان يستحي الأستعمار - نفسه - من إرتكابه.. وأعيد نهب العالم الثالث من جديد بواسطة حكام أشباه الآلهة، وبواسطة الأحتكارات الأجنبية والتوكيلات العالمية، والمهريين للأموال، وتبددت ثروات الشعوب، وراح عرق الكادحين ، وجهد العاملين هباء منثوراً .
- فى هذا الجو البشع، أفاق صلاح جاهين بعد صدمة النكسة، ورحيل عبد الناصر ليجد نفسه، وهو الفنان ذو القلب الرقيق، أمام فظائع ترتكب ولا يهتز لهذا العالم قلب.. فبينما يموت الآلاف من الجفاف والتصحر، ينفق العالم المتحضر بلايين الدولارات من أجل التخلص من نفاياه المشعة، وبينما يطلب الآلاف من سكان المخيمات الفلسطينية فتوى بتحليل أكل أجساد شهدائهم من جراء الحصار المضروب حولهم.. تلقى فى البحار ملايين الأطنان من المواد الغذائية الملوثة بالأشعاع، يتمنى من يموتون جوعاً فى المخيمات أن يأكلوها، حتى وإن كانت مسممة..!!
- وسط هذا الجو الميلودرامى، لم يتوقف جاهين عن العطاء، ورغم الإكتئاب المزمن الذى أصابه كان يفاجئنا في كل صباح جديد فكرة كاريكاتورية جديدة ترسم على شفاهنا الإبتسامة، حتى وإن كانت مشبعة بالمرارة.. أي طراز من البشر ذلك الفنان الكبير، الذى استطاع أن يواصل الإبداع دون إنقطاع، رغم كل هذه الأحداث الجسام التي مرت عليه، وعلى الوطن، وعلى البشر جميعاً.
- لقد كان جاهين واحداً من شهود هذا العصر الجميل..
- ولكنه رحل وترك لنا هذا التراث العظيم، الذي بين دفتى هذا الكتاب، لعنا ونحن نقلب صفحاته بين أيدينا، نضحك من قلوبنا.. أو نبتسم بمرارة، أو نبكى أو نصرخ.. أو نترحم على روحه الفنانة الطاهرة.
بقلم/ محمد بغدادى
(من كتاب سداسية صلاح جاهين الكاريكاتورية)- دار المستقبل العربى