تاريخ الرسم الصحفى
- يُعد الفنان والناقد ` ناصر عراق ` من أكثر أبناء جيله ولعاً بالصحافة - أو بدقة إيماناً بها وبدورها لتنويرى، وبقدرتها على خلق ذهنية عربية تستطيع الإسهام فى الحيوية الثقافية العالمية ...
- فاز أخيراً 1999 بالجائزة الأولى فى مسابقة جائزة ` أحمد بهاء الدين ` ، عن بحث شائق بعنوان ` تاريخ الرسم الصحفى فى مصر` ، ويعد هذا البحث الأول من نوعه فلم يسبقه إلى هذا الموضوع أحداً .. وكانت البحوث السابقة قاصرة على ` النص الصحفى ` ، من حيث بنيته .. ومجالاته ... وموضوعاته المختلفة .. واقتصرت بعض البحوث حول إبداعات بعض رسامى الكاريكاتير ؛ مثل البحث الذى أنجزه ` د. عمرو عبد السميع ` ، حول إبداعات والده رسام الكاريكاتير الكبير` عبد السميع`، كما أعد الفنان` صلاح بيصار`، كتاباً حول إبداعات كبار رسامى الأطفال فى الصحف المصرية.
- وكتب بعض النقاد مقالات ودراسات حول إبداعات بعض الفنانين الذين يحتفون بالرسوم التوضيحية الصحفية بالقدر نفسه الذى يقبلون فيه على إنتاج فن ` لوحة الحامل` أمثال :` حسين بيكار` و` محمد حجى و` حلمى التونى` و` الحسينى فوزى` و ` حسن فؤاد` .
- ولم يكن فى خطة ` ناصر ` الاكتفاء بموهوب واحد - وما أكثرهم فى الصحافة المصرية - بل أراد أن يكتب عن كل الموهوبين ؛ لهذا اختار لهدفه منظورين متكاملين: ` منظور الطائر ` الذى يتيح للعين المعالم الإجمالية دون التفاصيل، و ` منظور الميكروسكوب` الذى يتيح للعين رؤية التفاصيل، الدقيقة وحدها، وكان عليه أن يقوم بدور الجراح الماهر ودور البناء فى آنٍ واحد ، كان عليه أن يميز الجزئى من الكلى، وأن يستخلص من الكلى حكمته وقد فعل ذلك بمهارة ملحوظة .
- زمن الفعل
- اختار ` ناصر` بحس الصحفى الذى يتعقب الحقائق المثيرة أينما وجدت وبوعى المؤرخ الوطنى ... مساحة زمنية مفعمة بالأحداث الجسام . وقد أتاحت له تلك الأحداث مادة ثرية نسج من خيوطها صورة باهرة لنضال الشعب المصرى من أجل الحرية ومن أجل تألق مواهب مبدعيه فى آنٍ واحد.
- اختار مساحة زمنية لتلك الدراما الحضارية تبدأ من الغزوة النابليونية سنة 1798 إلى الاحتلال الإنجليزى سنة 1882 وعلى الرغم من أن الغزوة العسكرية الفرنسية كانت استعمارية فقد أجمع المؤرخون على أن مصر لم تعرف الصحافة إلا مع قدوم الحملة الفرنسية .
- ومن المعروف أنها أحضرت معها أول مطبعة عربية لطبع المنشورات والبيانات ، ويذكر` ناصر` أن الدكتور` أحمد حسين الصاوى` قال فى كتابه` فجر الصحافة فى مصر`: ` إن بونابرت كان يخشى آلا تفى الطابعات والحروف التى طلبها من حكومة باريس بالغرض وبخاصة فيما يتصل بالطباعة العربية فكتب إلى العالم ` مونج ` يطلب إليه أن يعد للحملة مجموعات من حروف الطباعة العربية .
- وقد ظهرت الرسوم لأول مرة مصاحبة للشعارات والبيانات التى كانت تصدرها الحملة، ومن العجب أن الأخطاء المطبعية التى تلقاها فى صحف اليوم بالعشرات لم يكن يسمح لها ` نابليون ` أو ` محمد على `.
- أول رسم
- أما أول رسم ظهر فى الصحافة المصرية فقد ظهر على غلاف مجلة الوقائع المصرية سنة 1828، وقد لاحظ ` ناصر` أن ظهور الرسوم أو تسللها - حسب تعبيره - قد حدث عبر الإعلانات التى تروج للسلع الترفيهية مثل العطور والمشروبات الكحولية وغيرها .
- وقد قام ` ناصر` نماذج منها نشرت فى جريدة الأهرام سنة 1895، ولم يكن فى ذلك الزمن رسامون مصريون يقومون بهذا الدور بل كانوا من الأرمن ومن جنسيات أخرى . وكان من الطبيعى بعد أن فتح الاستعمار الإنجليزى سوقاً رائجة المنتجات الإنجليزية أن تدور الإعلانات حولها
- الرسوم الكاريكاتيرية
- كان لابد أن يتوقف الكاتب بالتحليل عند مجال من أخطر المجالات الفنية وهو ` الرسم الكاريكاتيرى `، لما يتمتع به هذا الفن من طاقة تحريضية هائلة بسبب قدرته على الإضحاك والنقد الكاشف والطابع الخطابى الذى يتوجه به مباشرة إلى القارئ؛ لهذا كان من الطبيعى أن يجد فرصته فى مجلة ` اللطائف المصورة ` وقدم` ناصر` عدداً من الرسوم الكاريكاتيرية السياسية التى ظهرت فى المجلة سنة 1915، ويبدو من أسلوب الرسم أن أصحابها - كما لاحظ ناصر رسامون أجانب، وأن تلك الرسوم كان قد سبق نشرها فى إحدى الدوريات الأوروبية .
- وقد اكتشف ` ناصر` أثناء بحثه فى الجرائد المصرية القديمة رساماً كاريكاتيرياً مصرياً يدعى` إيهاب خلوصى ` ورسومه بالفعل على جانب كبير من الموهبة ... وكان من الطبيعى أن يحتفى ` ناصر ` بمجلة ` روز اليوسف ` وإن شئنا الدقة قلنا بمدرسة ` روز اليوسف ` فقد ضمت أفذاذ هذا الفن من أجيال متعاقبة أمثال :
` صاروخان ` و ` زهدى ` و ` صلاح جاهين ` و` الليثى` و` رجائى ونيس` و` حاكم ` و` جمعة` و ` حجازى ` و ` رؤوف `، ولأن فن الكاريكاتير فن ناقد بطبيعته لاذع فى نقده فإنه يزداد ألقاً مع الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية .
- ونحن لا ننسى ردود الفعل التى حدثت عند ظهور الرسم الكاريكاتيرى لـ ` صلاح جاهين ` الذى صور فيه هجاء لاذعاً على فكرة تطبيق الميثاق وفضيحة تلوث مياه الشرب.
- وأصول رسوم ` ناجى العلى ` غنية عن التعريف .. وأذكر أن كتاب ` شمال يمين ` للفنان ` محمد حجى ` وهو كتاب كامل من الرسوم الكاريكاتيرية التى رسمها الفنان بنفسه ، منتقداً السياسة الأمريكية بشدة ، وقد رفعها المتضاهرون أثناء إحدى المظاهرات المضادة لتلك السياسة من طرابلس.
- ويبدو أن صديقنا الفنان الناقد ` ناصر عراق ` قد تأثر - بعض الشئ - بالطبيعة الاقتحامية بفن الكاريكاتير فيفاجئنا - بين الحين والحين - بخطاب مباشر إلى القارئ كأن يقول` تعالوا أقول لكم ... كذا! `.
- وعلى الرغم من حرصه على أن يكون جادًّا أو عابساً بعض الشئ فإنه يلتقط من الحقائق التاريخية ما يستدعى الضحك ولكنه .. كما يقول الشاعر - ضحك كالبكا..
- فيذكر واقعة مخزية من ` سعيد باشا ` بقوله - أعنى قول ` ناصر` :
- هى المرة الأولى فيما أعلم التى يُقدم فيها حاكم مصرى على إهداء المطبعة الرسمية الوحيدة والمملوكة للدولة لأحد موظفيه - يقصد ` مطبعة بولاق `- ويستطرد ناصر بقوله : لا تتعجب عزيزى القارئ من السبب الذى دفع والى مصر إلى اتخاذ هذا القرار المثير ، ذلك أن ولى النعم أراد أن يكون ذلك سبباً لاتساع معاشه!!.
- ملاحظات ختامية
- وعلى الرغم من الجهد الكبير الذى بذله ` ناصر عراق ` فى بحثه عن الحقائق التاريخية فقد أدهشنى أن غاب عن ذاكرته اثنان من أفذاذ فن الإخراج ليس فى مصر وحدها بل فى العالم العربى.
- أولهما : هو الفنان ` عبد السلام الشريف ` مؤسس هذا الفن فى مصر ، وثانيهما : الفنان متنوع المواهب ` عبد الغنى أبو العينين `، وتاه من قلمه حشد من كبار الرسامين الذى أثروا الصحافة المصرية برسومهم الرائعة أمثال : ` جودة خليفة ` و ` نبيل تاج ` و ` جميل شفيق ` و ` عدلى رزق الله ` و` عبد العال` ، وربما لو كان قد تذكر هؤلاء أثناء اتهامه الرسوم الصحفية المعاصرة بتدنى مستواها بالقياس إلى رسامى الأجيال السابقة لعدَّل من موقفه.
- كما أدهشنى تجاهل أغلفة مجلتى ` الهلال ` والمصور ` الرائعتين للفنان والمخرج الفنى الكبير` محمد أبو طالب` .
بقلم : محمود بقشيش
مجلة الهلال : يناير 2001