- حصل على دبلوم الفنون التطبيقية عام 1939، والمعهد العالى للتربية الفنية للمعلمين عام 1941 وعلى شهادة الفن من مدرسة `راسكن` للفنون بأكسفورد انجلترا وشهادة الزمالة من جامعة لندن عام 1950 ليواصل تدريس التصوير لطلاب التربية الفنية وكانت له مكانة كبيرة فى الثقافة الفنية فى الندوات ولجان التحكيم وفى الاشراف على الرسائل العلمية.
- تعرف الارناؤوطى إبان دراسته فى انجلترا على التيارات الحديثة فى الفن التجريدى الهندسى المنبثق من المدرسة البنائية، وتتلمذ على يد المصور البريطانى الشهير ` بن نيكلسون` ومن ثم فقد تطور اسلوبه الذى اتسم بالواقعية التى تعكس استاذية فى الرسم سواء للبورتريه أو للمنظر الطبيعى، أو للتكوينات السيرياليه عقلية الطابع فى التصوير الزيتى والطباعة الليثوغرافية، متطورا إلى التجريدية الهندسية التى أعمل فيها ثقافته العميقة وقدرته التأملية المتفلسفة.
- فى النصف الأول من الستينيات صور الارناؤوطى مجموعة لوحات خالصة التجريد بعنوان طبيعة صامتة تقوم على التكوين الهندسى الاستاتيكى المعتمد على احكام العلاقة بين الخطوط والالوان، يغلب عليها اللون الابيض ومشتقاته مع توزيعات لمساحات لونية فى مناطق محدوده، التكون فى تلك اللوحات اشبه بالكولاج والنحت البارز شحيح البروز وكأن راقات من الورق قد تراكمت وشف بعضها ما تحته ثم رسم عليها بالخطوط والالوان، كان فى هذه المجموعة من اللوحات أقرب إلى منهج استاذه `بن نيكلسون` ثم تدريجيا ادخل عناصر لينه أشبه بقوس قزح مع اشكال هندسية ومساحات شطرنجية، ومواصلة منهجه التلوينى ` الاستاتيكى` الذى تحرك قليلا بفعل الخطوط المقوسة والمائلة والظلال التى تسقطها المساحات الهندسية على الارضية ، واستخدام الالوان المتعددة البارد منها والساخن والمحايدات، وظهور نزعة تدريج اللون على بعض المساحات لتبدو وكأنها شرائح متموجة وفى النصف الثانى من الستينيات صور مجموعة أكثر ديناميكية من عائلة الفن المستقبلى، تحت مسميات لها دلالتها ـ ديناميكية - تكوين حركى ـ عصر الفضاء - الصناعة الثقيلة والبعض الآخر باسماء كواكب فلكية، مثل مارس والمشترى، أشكال هندسية وأخرى لينة تتداخل وتتسابق وتتراكم على سطوح لوحاته فى تنظيمات تكعيبية مجردة خالصة وبألوان أقرب إلى المونوكرومية واتجاهات الخطوط تضفى حركية ملموسة فى التكوين.
- وفى السنوات الأخيرة من حياته صور مجموعة من اللوحات تتسم بالزهد فى التفاصيل والحركات والتراكم والتقاطع والتداخل بين العناصر، فى لوحات شديدة الاختزال ولجأ إلى المساحات المربعة، حيث كان ذلك خروجا عن العرف بأن اللوحات تكون مستطيلة تتبع النسب الذهبية الكلاسيكية، تتضمن تلك اللوحات المربعة شرائط متوازية مائلة على اللوحة ملونه باتقان شديد فتخلى بذلك عن إعمال مهاراته فى التظليل والمنظور وتدريج الوان المساحات كما رسم مجموعة بالغة الأهمية من الناحية التجريدية عبارة عن لوحات مقسمة إلى مساحات بعضها مصقول وبعضها مطفى وهى بنفس اللون وبذلك فقد إقتحم هذا الفنان الرائد الطليعى اتجاهات ` المينيماليزم` و `الهاردايدج Minimalism and Hard- Edge التى ازدهرت فى أمريكا فى الخمسينيات والستينيات.
بقلم : د. مصطفى الرزاز
من كتاب الفن المصرى الحديث
التجريد يجسد العاطفة
- تفهم للفنان ` مصطفى الأرناؤوطى ` ( 1920 - 1976 ) معنى الجمال الفنى كحثيثة تتعلق بالشعور ، وقد كشف عن مفهومه الجمالى هذا وعن اتجاهه الفنى المتفرد ، بل وعن طريقته فى النظر إلى الحياة من خلال ممارساته الفنية . فهو يعثر على الجمال فى أبسط الأشياء وأكثرها عادية، بعد أن يضيف إليها جانباً من عاطفته وأفكاره وذكرياته ، فيحولها إلى صور مدهشة ، وكادت الألوان والخطوط والإيقاعات فى لوحاته أن تتحول إلى إشارات رمزية وعاطفية ، ذات طاقات روحية وشعورية ، وتنزع نحو اتجاه الغنائية ، إذ منحها الخيال حياتها الخاصة . وتتمثل ` التجربة الفنية ` هنا فى شكل تعبير فريد , حيث ينصب جوهر الفن على العاطفة ، وحيث يستعيد ` التعبير الفنى ` تجربة الإحساس بالتخيل والتعبير . ويظهر الفن الذى تحرر من رقابة العقل صافياً بعدما استغرق الفنان فى اتحاده الصوفى مع موضوع فنه . وسوف تتحقق إرادة ذلك الفنان فى أكثر حالاتها نقاء بفضل إعطاء التعبير دوراً جوهرياً . وفى الوقت الذى تتجاوز فيه الصور الفنية العالم الظاهرى ، فسوف يصبح الحدس هو السبيل للإبداع العفوى الذى انعكس على الطابع التجريدى ، وبهذه الطريقة يحصل الجمال فى الفن على استقلاله عن الجمال فى الطبيعة .
- ومن المعروف دور ` يوسف العفيفى` فى توجيه ` مصطفى الأرناؤوطى ` لارتياد عالم ` الفن الحديث ` وفى تثبيت الاعتقاد فى نظرية الفن كممارسة تأملية ، على أساس أن مفهوم الجمال يمثل ` ظاهرة إنسانية ` تدرك بالحدس ، وليس على أساس فكرة الفن كمحاكاة أو كتسجيل مطابق لما يرى بالبصر وقد دعاه فهمه هذا إلى البحث والتجريب بحرية بدلاً من التقوقع داخل دائرة التعاليم الأكاديمية المقيدة للإبداع بدلاً من اتخاذ الفن مجالً لسرد الحكايات أو لتسجيل المناظر الطبيعية . وعلى الرغم من اهتمام معظم فنانى هذا الجيل وبخاصة فى مراحل دراستهم بمسألة تجويد مهارات الرسم الأكاديمى إلى درجة عالية من الإتقان فإن ` الأرناؤوطى ` ومع تعرفه على ` الاتجاهات التجريدية الحديثة ` قد تبلورت رؤيته الفنية فى الجمع بين منتهى ` العقلانية ` ومنتهى `الشاعرية ` أو بين ` الوضوح الدقيق ` و `الغموض` المحير.
-وفى أثناء بعثته فى ` إنجلترا ` تعرف ` الأرناؤوطى` على أكثر ` الاتجاهات التجريدية الحديثة ` فهناك تتلمذ على يد الفنان الإنجليزى ` بن نيكلسون `. ومنذ الخمسينات من القرن العشرين تبلورت موهبته الفنية المتميزة فى اتجاه الجمع بين النزعتين المتناقضتين ` العقلانية` و ` الشاعرية ` مما يفسر تمرده الواضح على الحدود والقواعد الجامدة ونشوده نحو عالم الفن بمثالية تؤلف بين ` الوضوح والدقة ` من ناحية و` الماورائية الغائمة ` من ناحية أخرى .
- وقد استلهم الفنانون التجريديون الأفكار والمعانى الروحية والعاطفية بطريقة مجازية وصوروها بالألوان فى كامل نقائها وبقوة تأثيرها النفسى وتعاملوا مع الأشكال فى هيئتها التبسيطية الساحرة لتدعيم لغة التشكيل البحت على عكس لغة الوصف الأدبى . هكذا توصل ` الأرناؤوطى ` إلى نوع من الفن يتمثل جماله فى نقائه وبساطته , ويتجاوز ثنائية ` الذاتى / الموضوعى ` . وبذلك كرس طاقته الإبداعية من أجل خلق شكل فنى جديد . فلم يكن التكوين التجريدى المحكم والرصين للوحة ` تكوين ` (1968) ينقصه التأثير العاطفى أو الأجواء الحالمة . وبهذا الأسلوب وصل الملمس الناعم للوحة حداً ظهر معه وكأنه قد أنجز بآلة غير أنه بوسع الدقة المتناهية تحريك العاطفة التى تجمع بين البساطة والتعقيد أو بين التجلى والغموض أو بين العقلانى والخيالى .أما اتجاه التجربة الفنية نحو ` غير المتوقع ` فإن بوسعه أن يبعث شعوراً بدهشة ممتعة .
- وتتركز الفكرة المهيمنة على معظم أعمال ` الأرناؤوطى ` حول التعبير عن معنى ` النقاء ` كحقيقة أبدية بأقل عدد ممكن من الألوان والخطوط . ومن خلال هذه الفكرة عثر الفنان فى أنماط التشكيل الهندسى على مايعبر عن ذلك المعنى ( الصفاء ) ببلاغة واتخذت تصورات الفنان فى لوحة ` انتصار الإنسان ` شكلاً ملموساً يشبه الصفائح المعدنية .
- وقد نجح الفنان فى البرهنة على تفوقه الرائع فى أسلوب أدائه المتقن وفى طريقته التى انتهت بفنه إلى نوع من التشكيل الخطوطى المحدد والمنضبط مع التلوين الرائق والقادر على التأثير العاطفى . إذ أصبح عالم اللوحة هكذا أكثر تجريدية ونقاءا وتحديداً ومع ذلك يتمتع بحساسية خلابة ومذاق خاص . فإن العناصر الشاعرية والرمزية كانت سبيل الفنان لتجسيد أفكاره الكونية عن الحياة الماورائية بحسٍّ رصين وتأملى وتعكس فى هذه الحالة اللمسات الظلية ` الإحساس العاطفى ` بانتقالاتها الشاعرية على مساحات السطوح الملساء وهى تشبه صفائح الفولاذ بثنياتها وفى هذا سر الجمال المتمثل فى ثنائية : المجرد / المعبر أو المختزل / العاطفى . وقد استطاع الفنان بأسلوبه فى التعبير عن معنى النقاء جمالياً الاستغناء عن `التشخيص ` بل وصل التجريد فى لوحاته إلى غايته .
- أما الأنساق المحكمة والرصينة التى ميزت رسم الفنان للوحة `تكوين ` (1968) فلا ينقصها الأبعاد التأملية والدلالات الرمزية الحالمة ، لقد وصل مستوى صقل الرسم بملمسه الناعم حداً مدهشاً بدا معه وكأنه منفذٌ باستخدام الفراجير والمثلثات لرسم الزوايا والدوائر والأقواس بدقة متناهية غير أن بوسع الدقة المتناهية والصرامة أن تثير إحساساً عاطفياً يتعلق بفكرة ` الوضوح ` المناقضة لفكرة الغموض . هكذا ومنذ بداية الستينيات اتجه أسلوب الفنان نحو بلوغ بساطة متناهية مستوحاة من الهندسة الأولية فاتبع نظاماً إيقاعياً مضبوطاً جمع بين خصائص المذهبين ` التجريدية ` و `الكلاسيكية ` . وبمنطق المعماريين الذين يستخدمون فى البناء صفائح الفولاذ بملمسها المصقول والناعم تعامل الفنان مع ` الفراغ ` إلا أنه استطاع أن يجعل المادة الصلبة تعبر عن البعد الأخلاقى لمعنى الصفاء.
- وفى الحقيقة أن للشكل الهندسى البحت دلالته المعنوية وأبعاده الفلسفية ونزعاته الروحية ، وعندما تختمر الأفكار فى مخيلة الفنان فإنه يصبح من الممكن تصورها ملموسة رغم كونها مستقلة عن عالم الطبيعة . ومن هذه الوجهة استطاع الفنان التجريدى إنجاز لوحة تجسد معنى ` الصفاء ` مثلما عبر عن مسائل معنوية فى لوحات كثيرة متجاوزاً الحدود التقليدية فأظهر براعته الفنية فى إتقان الرسوم ذات التشكيل المنضبط والتلوين الرائق استناداً إلى فعالية ` الحدس الجمالى ` . هكذا أضاف ` الأرناؤوطى ` لأكثر الأشكال تجريدية وأكثرها نقاء مذاقاً شاعرياً وسحرأ خلاباً . إذ أن الإشارات المجازية والإحالات الرمزية كانت سبيلاً للتعبير عن أفكار ماورائية وتأملات فلسفية من خلال تجريدات ذات تأثير عاطفى مدهش .
وهدف ` التجريد الهندسى ` المحض الذى يتصف بالدقة الرياضية وبنقاء الخطوط هو تخليص الصور من الزخرف. وما عُرِض فى لوحة ` الصناعة الثقيلة ` بمتحف الفن المصرى الحديث عن جمود النسق الهندسى البحت إنما هو تغيرات الإيقاع الناجم عن ترتيب أوضاع الأشكال ذات الزوايا والتى أحدثت تأثيراً متوتراً وإيحاءا بالعمق بمنطق التكعيبية. وعلى الرغم من صلابة الأشكال فإنها لم تفقد تأثيرها الساحر المُشبّع بالعاطفة، ويؤكد الفنان على أهمية الفراغ فى مقابل الشكل بالنفوذ عبر فضاءات الشكل حتى تظهر الأشكال شفافة ومثيرة للشعور بالحركة كعنصر جوهرى وحيوى فى تجربة المشاهدة فلم تعد اللوحة بأسلوب` الأرناؤوطى` منقسمة إلى شكل وخلفية بسبب حالة الشفوفية الغالبة على العلاقات الشكلية والتى سمحت بالنفاذ عبر الحدود مثل النظر من خلال زجاج بلورى والفكرة الرئيسية تتمحور حول إذابة الحدود التى تفصل بين عالمى الرسم والنحت والعمارة بعدما منحت العناصر والتراكيب البنائية المجردة من الزخرف صفات تعبيرية وتحققت القيمة الجمالية للعمل الفنى بفضل العلاقات الشكلية للحجوم والكتل والفراغات مثلما تبرزها معطيات التركيب من الأشكال الهندسية ذات الزوايا والأقواس والسطوح المتماوجة .
- أما الإيقاعات المنتظمة فتعكس فى اللوحات الفنية ضروب` الإيقاع` فى الطبيعة وترددها . ووراء الإيقاع فى عالم الرسم الشعور بالإيقاع الطبيعى الكامن فى أعماق لاشعور الإنسان وذلك هو مايشعر المشاهد بالغبطة أثناء التطلع إلى الرسم مع اكتشاف القوة التى توفرها استدارات الخطوط وانحناءاتها بقدر المرونة الكامنة فيها مع الفواصل التى تؤكد التحديد وتحقق العلاقة الترابطية بين عناصر العمل الفنى.
- وقد حظى المفهوم الجمالى المتمثل فى اتساق التشكيل وفى التماثلات والتناسبات المثالية بمكانته بين الفنانين فى كل زمان.أما الفنان الحديث فإنه أراد أن يجمع فى أعماله بين ` النظام واللانظام` معاً. فرغم المظهر الصارم للتجريدات الفنية الناتج عن عمليات التسطيح والاختزالات الخطوطية واللونية وعن التوازنات المحكمة والفراغات المحسوبة بدقة دون المبالغة فى التفاصيل أو فى الإيهامات بالعمق فإن للتجريد طاقته العاطفية . و` المنهج العقلانى` المهيمن على أسلوب التشكيل فى لوحات ` الأرناؤوطى ` يميز - كذلك - المذهب النقائى ، إلا أن استخدام التدرجات اللونية مع تكرار الدرجة فى مناطق مختلفة بحساسية ، قد أسهم فى إعطاء الخصوصية للأسلوب . كذلك سمحت الطريقة المميزة فى ربط المساحات بين الخلفية والأمامية ، ببزوغ الطاقات الذاتية بحيوية وتدفق عاطفى ، بل بدرامية مؤثرة ، ولم يتقيد الفنان بالحدود ` الزمنية والمكانية ` من أجل أن يحقق التعبير عن الحقائق الإنسانية بمفهومها الكونى ، ومع التركيز على الجوانب الذهنية تأكد كذلك الطابع العقلانى فى هذا النوع من الفن . وبذلك يتوفر التأثير المتبادل بين العاطفى والعقلانى فى عالم التشكيل الفنى .
- لقد استعرض الفنان موهبته فى تصميم شكل بالخطوط والألوان ، ليمثل امتداداً خارجياً لما تتوق إليه روحه الخلاقة ، ومعبراً عن عواطفه وأفكاره ، بأقل ارتباط بقواعد التمثيل التقليدية لمحاكاة العالم البصرى . ومن شأن ` الأشكال المجردة ` مثل الخطوط المستقيمة والمربعات والدوائر والمقوسات والمستطيلات الصماء ، بتنويعاتها مع إظهار الفروق الدقيقة والنغمات الضوئية ، أن تعكس حالة من الغموض تستدعى من المشاهد التفكير والتأمل بتمعن ، والأساس العقلى والرياضى للنمط المثالى من العلاقات الشكلية ، يعثر على الجمال فى النموذج الذى يرضى العقل وينشد الكمال ، حيث التوافق بين حيوية الشكل الإنسانى وشمولية المفهوم الذهنى ، ويمكن العثور على صدى للجمال المتمثل فى التناسق وفى العلاقات الرياضية فى المثالية التى تنتصر للعقلى وللقيم المطلقة التى تسمو على الظواهر المتبدلة فى مقابل الخيالى والغريزى . وكان ` الأرناؤوطى ` بحق فناناً مفاهيمياً قبل أن يحصل هذا المذهب الفنى على شرعيته ضمن الأساليب الفنية التى شكلت حركة الفن المصرى الحديث مما منحه حق الريادة الطليعية .
بقلم : د./ محسن عطية
من كتاب(طليعة التجديد فى الفن المصرى الحديث- سسلسلة ذاكرة الفنون- عدد مارس 2016)