فاطمة .. ورحيل الطاقة المفاجئ
- حركة الزمن لا تتوقف بل تمتد إلى قياسات أسرع بفعل آليات المجتمع المعاصر وفى غياب حقيقى عن قياسات مثلى للوجدان وشفافية الروح ، وفى نفس الوقت تفاجئنا الأقدار تباعاً بالرحيل الأبدى فحقيقة الموت لا ريب فيها .. وتمتد لتخفق القلوب برحيل أب أو أم ،أخ أو صديق- ثم تنهض- فى الحال بما يسمى المخزون الإنسانى والعاطفى يتفجر بشعورية متدفقة تنهمر معها الدموع المتلاحقة ترسم حالة لمشهد حزين يتعاظم فيه جلال الخالق ، ولدت الدكتورة فاطمة إسماعيل فى السادس عشر من شهر أكتوبر العام 1952ورحلت فجر الاثنين الماضى، حاصلة على ليسانس لغات شرقية -جامعة القاهرة العام 1976، وانضمت للعمل بالمركز القومى للفنون التشكيلية العام 1976 وعملت بمجمع الفنون بالزمالك ، ولم تتوقف طموحاتها عند حد فكانت تحلم بالإعداد الذاتى للثقافة الفنية وبحماس غير مسبوق وبتوهج وامض يدفعها بالطاقة الممتدة إلى نفس الاتجاه اجتهدت فى البحث والدراسة وحصلت على درجة الماجستير العام 1990وكان موضوع رسالتها `مصادر الإبداع عند سيف وانلى`، والطاقة المتواترة لديها تذكرنا بالضوء المتتابع الذى يعتمد على دفعات متوالية من الطاقة الداخلية … بما يتوافق مع تكوينها النفسى والذهنى وهذا يذكرنا فى الاجتماعات المتوالية على مدى أكثر من عقد ونصف من الزمان فكانت مداخلاتها آنية سريعة متدفقة على النحو الحداثى الرؤية، وامتدت خبراتها فى تفعيل النشاط الفنى والثقافى والتنظيمى والعلاقة المباشرة بالفنانين والمفكرين والنقاد من المصريين والعرب والأجانب أكسبها كل هذا خبرة ومعرفة فى هذا المجال ولم تنس فاطمة ما بداخلها من استيعاب متطلبات مهامها فى العمل الثقافى وبدأت تضع علامات لبحثها الجديد تمهيداً للحصول على الدكتوراه فى مجال النقد الفنى..وبإصرارها الذى لم ينقطع حصلت على درجة الدكتوراه فى النقد الفنى العام 2001وكان موضوع بحثها `أهم الاتجاهات الفنية فى الستينات` ، لتحقق مرحلة تأسيسية هامة فى حياتها وتؤدى دوراً مؤثراً تجاه المجتمع قائماً على علم ومعرفية حقيقية.. وتعاظمت خبراتها الإدارية والتنظيمية ومن ثم اختيرت مقررة لبعض الندوات الدولية المصاحبة لدورات بينالى القاهرة الدولى وترينالى مصر الدولى لفن الجرافيك ، كما تم اختيارها رئيساً للإدارة المركزية لمراكز الفنون لتكون أول رئيس لهذه الإدارة الجديدة، ودأبت باستمرار على وضع النجاح هدفاً .. والتحديث الإدارى منهجاً .. وإعداد الكوادر الواعية، امتدت الآلام فى جسد فاطمة منذ أكثر من شهر ونصف وبعد جراحة بدأت رحلة التدهور!؟ وبالرغم من ذلك لم تتوان فى بداية الأمر عن المواظبة على أداء عملها والإعداد لافتتاح الدورة السادسة عشرة لصالون الشباب وباشتداد المرض ومحاصرة الآلام لم تنهزم وظلت تتابع ساعة بساعة كل ما يتعلق بالصالون .. وبمتابعتى اليومية لها وعن قرب لمصادر آلامها التى كانت تجهلها فى البداية حتى تم مصارحتها منذ أيام قليلة ، لم تتردد بقلقها وإصرارها بالتغلب على الآلام التى حاصرتها فكتمت عليها بداخلها وارتدت ملابسها وتزينت واستقلت السيارة وفاجأت الحضور المكثف فى افتتاح صالون الشباب فى الثامنة مساء الخميس قبل الماضى ونزلت من السيارة وقد تحوَلت إلى ابتسامة ممتدة للجميع داخل طاقة فولاذية تخفى الألم وفى عمق جسدها .. إرادة الحياة ..وبعد دقائق كانت الآلام أثقل من وزنها وأقسى من أن تتحملها فدخلت فى صالون قصر الفنون واستقلت مع آلامها ورغبتها ممتدة من قلبها وروحها لمشاركة مئات الشباب فرحتهم فى عيدهم السادس عشر.. وبعد مشاهدتى جميع أعمال الفنانين عدت إلى صالون كبار الزوار وجدت فاطمة تتحدث مع مجموعة من الفنانين عن الصالون حدثتها: لا ترهقى نفسك أتركى لنا هذه القضايا المهم الآن أن تعتنى بصحتك … وطالباً منها العودة للبيت للراحة فهمت بالوقوف وعيونها تتلالأ فيها دموع محبوسة مع ابتسامة عريضة لم تنقطع وضوء نابع منها وهى تقبل جميع الفنانين دون استثناء ومع كل قبلة تتأكد ابتسامتها وتابعت بحميمية هذا المشهد حيث أننى آخر المودعين فانحبست الدموع فى عينىّ وخفق قلبى وشعرت بأنه الوداع الأخير !؟ وفى مساء يوم السبت 11/9/2004 تدهورت حالتها.. وفى ظهر الأحد كان الحوار الأخير معها وبصوت كحفيف الهواء آت من عمق سحيق تنسحب معه الروح .. وامتدت الآلام فى تصاعد مستمر وتمكن المرض اللعين من فاطمة .. فاطمة التى صعدت روحها إلى السماء فى الثالثة من صباح الاثنين الماضى ليفقد قطاع الفنون التشكيلية أحد قياداته البنائين. وتوقفت آلة التوهج، والدوام لله وحده .
أ.د. احمد نوار
جريدة الأخبار - 2004