راغب عياد
- كانت دقة الملاحظة عند عياد والمقترنة بقدرته على الانتقاء كى يتوصل إلى الجوهر جديرة بالإكبار ويعتبر هذا من أهم ما فى العمل الفنى .
- ومن خلال استلهامه حياة الشعب فى تعدد أدوارها ومراحلها المليئة بالعمل الفنى والكفاح والجهاد المستمر أثبت راغب عياد وجوده وثبت لنا فناً قومياً مصرياً ..
- صار راغب عياد يعلى من شأن الإفصاح عن أحاسيسه الداخلية..فصور المشاعر التى تثيرها الأشياء والأحداث من حوله وهكذا أصبح أول التعبيريين المصريين ` وكانت رسومه دائماً تعتمد على رسم الخط أكثر من التلوين ..فالأشكال والقسمات كان يلتقطها بحركة سريعة بل خاطفة كى لا تفقد طزاجتها.. والتى تتحرك بفضل طاقة انفعالية أكثر منها طاقة حسية ` .
الناقد /محمد حمزة
` كان صاحب نظرة تحليلية تأبى أن تلمس السطح وكان قاع المدينة والحوارى الخلفية تمثل أحشاء مصر الداخلية التى تحتجب وراء قناع خادع من مظاهر المدينة الزائفة فقرر الخوض فى هذا العالم الأسطورى، كاشفاً سلبياته بأسلوب نقدى لاذع يغلب عليه الطابع التهكمى . ثم بعد ذلك يوجه ريشته نحو الريف لتصاحب الفلاح فى كفاحه اليومى حيث تكتسب خطوطه ملامح جديدة تشوبها بعض الصراحة والقسوة التى يعانيها أفراد الطبقة الكادحة وراء حدود المدينة بأسلوب ميلو درامى شديد الإثارة، وفى هذه المرحلة يتنازل عن كثير من التفاصيل الوصفية ، ويتسلل إلى أعماله نسق هندسى شبيه بما كان يتسم به الفن المصرى القديم وتتسطح الأشكال تدريجياً متباعدة عن التجسيم والإيهام البصرى بالعمق.. ويختفى البعد الثالث، ليكون أقرب إلى جوهر الموضوع من داخل الداخل .. وفى السنوات الأخيرة بدأ اتجاهه إلى العالم الروحى ، فكثر تردده على الأديرة القديمة فى قلب الصحراء . يشارك الرهبان حياة الزهد والتقشف، ويصورهم فى مختلف نشاطاتهم خلف الأسوار العالية ، مستخدماً أبسط الوسائط والخامات وأرخصها مثل الأحبار العادية وأقلام البسط وأرخص أنواع الورق ، فيشع من لوحاته حس صوفى شديد العمق .. إنه نقطة الختام لحياة مليئة بالعطاء والولاء للقيمة الإنسانية التى هى أهم سمات المصرى الأصيل .
حسين بيكار 1992
.. عياد وطاقة الضوء
- راغب عياد (1892-1982) فنان نادر لكونه مصرياً قلباً وروحاً وفناً، استطاع أن يستلهم الفن المصرى القديم ليبدع فناً جديداً عالمياً يحمل سماتٍ مصرية أصيلة ويتوازى فى القدْر والقيمة كمصورٍ رائدٍ مع فنانا الرائد محمود مختار فى فن النحت ، وهذه نماذج غير متكررة إلاَّ نادراً، وراغب عياد ولد بحى الفجالة فى 10 مارس العام 1892، ودرس بمدارس الفرير بشبرا والخرنفش والتحق بمدرسة الفنون الجميلة المصرية العام 1908 وتخرج العام 1911 وعمل مدرساً بمدرسة الأقباط الكبرى بالقاهرة حتى العام 1924.. وكان يسافر إلى إيطاليا وفرنسا فى صيف كل عام.. وله مع زميله يوسف كامل حادثة جديرة بالتسجيل .. فبعد تخرجهما ، اشتغل كل منهما كمدرس للرسم ، وكان لعياد مرسمُُ ببيت الفنانين بالقلعة ، وكان يزوره يوسف كامل من حين لآخر .. وفى إحدى الجلسات تطور الحديث بينهما إلى حياتهما الفنية وضرورة السفر إلى إيطاليا والدراسة بها على أيدى أساتذتها الكبار.. واقترح عياد أن يقوم كل منهما بالتدريس فى المدرستين معاً ويسافر الآخر إلى إيطاليا ليتم دراسته الفنية.. وراقت الفكرة فى نظريهما وقابلا ناظرى مدرستى الأقباط والإعدادية.. فوافقا على الفكرة وشجعاهما .. وسافر أولاً يوسف كامل وزميله عياد يرسل له مرتبه شهرياً .. ولما انتهت مدة يوسف كامل سافر عياد فى الإجازة الصيفية وقابله هناك وقضيا الإجازة سوياً .. وأثناء مرورهما على إكس ليبان قابلهما محمد كامل سليم ` سكرتير سعد زغلول` وكان مدرساً بالإعدادية مع يوسف كامل وسمع قصتهما فطلب منهما أن يقابلا سعد زغلول ` وكان يستشفى هناك بعد خروجه من سيشل، وقابلا سعد زغلول الذى فرح لهما وقال ليوسف كامل `روح سدد الدين لزميلك` وعاد يوسف كامل إلى مصر وتولى عمله بالمدرستين وإرسال النقود لعياد فى إيطاليا حتى أتم دراسته.. جاء ذلك على لسان كمال الملاخ فى (كتابه خمسون سنة من الفن)
- استطاع الفنان الرائد راغب عياد بقدرته الفكرية فى الفن أن يصيغ لنفسه رؤية خاصة واتجاهاً ميزه عن الآخرين بل إنه فتح طريقاً مضيئاً لكثير من الفنانين المشهورين، أذكر منهم عبد الهادى الجزار على وجه الخصوص وسوف نتناول ذلك بالتحليل فى مقال قريب بإذن الله، وتكمن ريادة عياد ليس فقط فى صياغته الجديدة لفنه بل فيما تحتويه من قيمة بنائية تشكيلية عظيمة، تكمن فيها طاقة تعبيرية قوية فنجد الفلاح والحيوان فى لوحة `العودة` المرسومة بالفحم الأسود دالة على قوة الحركة ومكنونات الضوء وبلاغة الخط فى التعبير الحى للحركة بالإضافة إلى هندسة الفراغ والتصفيف البنائى للعناصر على سطح اللوحة ومفهوم السهل الممتنع فى تقنيات الأداء .
أ.د. احمد نوار
جريدة الحياة - 2004
منذ عام 1920 - 1922 تمثلت أولى محاولات راغب عياد الإبداعية بعد أن طاف طويلا حول المناظر الطبيعية والصور العارية، فنراه ينحو نحو موضوعات الحياة الشعبية التى أصبحت منذ ذلك الحين وحتى رحيله تستحوذ على اهتمامه، فنراه يصور الأسواق والمقاهي والموالد والأعياد والأفراح فى تكوينات جريئة بسيطة التركيب بعيدة عن الوصفية ومحاكاة الواقع، أقرب الى التعبيرية فى مبالغتها الساخرة، القريبة من الكاريكاتير والتى نجدها فى الفن الشعبى خاصة، ولعل من أهم ملامح هذا الشكل الشعبى، فى لوحات الفنان، (راغب) عياد يبدو كما لو أنه لم يضع تصميمات مسبقة للوحاته أو نظاما معماريا يلتزم به، مما يجعل اللوحة كمشروع مفتوح لم يكتمل يحتمل الإضافة والحذف. إلا أننا نجد على النقيض السمات المرتجلة فى فنه، مسحه مهمة تحدد تكويناته بنظام ما، يذكرنا بذلك النظام الذي استخدمه المصري القديم ويتمثل فى إلغاء المنظور الهندسى، والاستعاضة عنه بتتابع رأسي لصفوف بعضها فوق البعض.. لذلك لا نكاد نرى فى لوحاته وخاصة (السوق الكبير) التزاما بالترتيب المنطقي للمرئيات فى أحجام مع قربها أو بعدها أو بالأضواء والظلال التى تؤكد هذا الترتيب، بل نجد توزيعا متساويا للعناصر والإضاءة على سطح اللوحة، وإعطاء الخط دورا بارزا فى تحديد الأشكال وتجسيمها حسب قوامه (سميكا ورقيقا) بديلا عن التجسيم والظلال كما لم يهتم `عياد` أيضا بالإنسان من حيث هو إنما يعنيه من حيث كونه شكلا وعنصرا من عناصر تكوين شامل مكمل للإحساس بالحركة التى نلمحها فى لوحاته.
من أجل هذا لا يتوقف عياد طويلا عند ملامح الناس ولكنه بخط هنا وخط هناك يسجل عجالة نفسية للوحته وملمحا يكشف عن الحركة والنظرة والوضعة. انه مثل (لوتريك) مصور حانات مونمارتر و(دومييه) فنان التجمعات فى الحياة اليومية له أيضا أسلوبه التعبيري قد لا يطيل تأمل الناس من داخلهم لأن همه هو التعبير عنهم فى تجمعاتهم وحركتهم. ومع أن أعمال راغب عياد تتسم بحيوية أساسها أصالة موضوعاته التى استلهمها من البيئة المصرية، والحياة الشعبية. إلا أن هذا قد ميزه عن معاصريه من جيله وهم محمد ناجى، وأحمد صبرى ويوسف كامل لأن الأشكال عنده لم تكن محفوظة دائما متنوعة وثرية، ففي كل لوحة تجد بساطة التعبير وعفوية الأداء، وطرافة الموضوع، فهو لم يهتم بالتفاصيل الدقيقة لملامح الأشكال الآدمية آو الحيوانية، ولا ثنايا قماشه، ولا حسابات الظل والنور، أي أنه لم يهتم بالتجويد ولم يجعل خبراته تعلو على شكل أدائه المهم عنده هو التعبير بأقل الخطوط وابسط المساحات اللونية بقليل من المبالغة التهكمية، كما أن رسمه من ناحية الأداء لم يختلف كثيرا عن التصوير، الأداء واحد فى كلا المجالين، الرسم والتصوير) على عكس بعض الفنانين حيث يبدو كأن أداءهم فى الرسوم السريعة شىء منفصل عن أدائهم فى الأعمال التصويرية.
إن عياد لم يفقد الكثير من القيم التى اكتسبها من رسوماته السريعة فهو يضع عناصره ويجعلها دون أن تفقد حيوية الرسم وعذوبة التعبير، فهو بحق فنان متسق الرؤية وموحد الفكر. من هنا يحق أن تنسب له الريادة فى هذا المجال لأنه أول من نقل موضوعات الحياة الشعبية الى مدرسة التصوير المصري المعاصر التى تأثر بها العديد من الفنانين البارزين مثل ندا والجزار وتحية حليم وممدوح عمار وغيرهم.. بعد أن حددنا أهم ملامح أسلوب راغب عياد فى فن التصوير ننتقل الى مرحلة أخرى موازية فى أهميتها وملامحها لفن التصوير ألا وهى الرسوم التى استخدم فيها خليطا من أدوات التعبير الفنى - الألوان المائية والأحبار والأقلام الفلوماستر الملونة - يستخدمها استخداما واعيا محملا بطاقات تعبيرية، فى لوحات موالده وأعياده وكنائسه، وتجمعات الناس فى الزار والأسواق، وحول ملاعب الخيل. فهو فى هذه الملتقيات الشعبية يجد المناخ الملائم لمزاجه الفنى، يستخدم مواهبه للتعبير عن الحركة والجموع فى اطار من الملاحظة السريعة النافذة، معتمدا فى كل ذلك على عنصر الخط العفوي السريع البسيط. ففى لوحاته، (المرح الشعبى ورقص الخيل، والخبيز وسوق الجمال والعمل فى الحقل والثيران والمحراث وقطيع الحمير، وحديث النساء) نجد الخط يندفع بسخاء وعاطفية ويفصح عن إيقاعه السريع، الراقص أحيانا، المتوتر فى عنف أحيانا أخرى، الهادئ فى استرخاء أحيانا ثالثة، كما نجد الاقتصاد فى الألوان وبعدها عن التزويق والزخرف، نجد الميل إلى التسطيح وتحطيم نسب الشخصيات الطبيعية واقتراب ملامح الوجوه والحيوانات من التكرار الذي عرفه الفن المصري القديم والفن القبطي، وهو الوضع الجانبى للوجوه بعيون مستطيلة منحرفة مع بقاء الأجسام فى وضع أمامي الى تكرار الحركات فى تتابع نمطي حيث نجد رساما يعرف سبيله الى الاختيار والانتقاء من الطبيعة ومن روح الحياة الشعبية بخطوط يصيغ بها رؤاه الجمالية الفريدة.
د. رضا عبد السلام
من كتاب الرسم المصرى المعاصر
- راغب عياد، هو أحد رواد فن الرسم والتلوين المصرى الحديث. من الجيل الأول الذى أخذ على عاتقه، مهمة تصحيح مسار الحركة المصرية الحديثة للفنون التشكيلية، واعادتها إلى جذورها التراثية، شكلا وموضوعا ومضمونا. يقول الناقد: بدر الدين أبو غازى (1924 - 1983): ` ان الفنون التشكيلية (الحديثة) بدأت فى مصر مغتربة، معتمدة على التعاليم الأوروبية، منبتة الصلة بالتراث الحضارى لمصر، فبينما اتجه الادباء إلى الأدب الغربى، بعد أن أخذوا من المنابع العربية القديمة الكثير، انشغل الفنانون التشكيليون بالبحث عن لغة فنية مميزة ، بعد أن قطعوا رحلة التكوين على المنهج الأوربى فى مصر (على يد الاساتذة الايطالين والفرنسيين فى مدرسة الفنون الجميلة)، وفى البعثات التى اوفدوا إليها فى الخارج `.
- بدأ تأثير أوروبا على الفنون التشكيلية فى مصر، مع الحملة الفرنسية، والعائدين من بعثات محمد على باشا، ثم الأوروبيين من أساتذة الفنون الجميلة فى مصر، الذين تخرج على أيديهم معظم الرواد الأوائل، فأصبح طريق البحث عن الهوية محفوفاً بالصعاب والعقاب، القى على عاتق راغب عياد وصحبه من الرواد، واجبا ثقيلا تصدى له كل منهم على طريقته.
- امتدت جذور أسلوب راغب عياد، إلى ما يسمى بالفنون الشعبية، التى تصور قصص أبو زيد الهلالى وعنترة وما إليها. وهى فنون تعتبر فى حقيقتها، امتداداً للهوية المحلية المتبلورة عبر التاريخ، والتى كانت سائدة قبل التأثيرات الاوروبية التى أشرنا إليها. هوية تستمد شخصيتها، من تقاليد منمنمات المخطوطات الإسلامية، ابتداء من العصر العباسى فى القرن الثالث عشر. كما تذهب بعض مناهلها، إلى تقاليد الرسوم المصرية القديمة. كما تبدو فى الشظايا الصخرية، المعروفة باسم `أوستراكا`.
- نلاحظ صلة وثيقة بين ابداع راغب عياد والرسوم الشعبية، من حيث حرية التعبير بحركة الأجسام والأيدى والأرجل، والتكوينات الروائية المزدحمة بالعناصر. بل تمتد أصول هذا الابداع فى بعض الجوانب، إلى المنمنمات الإسلامية نفسها، حين يصور التجمعات البشرية بشكل عام. هذه اللوحات ذات صلة مباشرة برسوم `يحيى بن محمود الواسطى` الرسام العراقى الشهير، الذى أبدع منمنمات مقامات الحريرى سنة 1220 ميلادية، وأسس دعائم الاتجاه التعبيرى البغدادى فى الرسم والتلوين، وشمل تأثيره فن تزويق المخطوطات، فى أنحاء الإمبراطورية الإسلامية، طوال قرنين من الزمان بعد وفاته. فرسوم الواسطى هى المصدر الحقيقى، لكل من الرسوم الشعبية المصرية، والكثير من أسلوب راغب عياد.
- جوانب أخرى من ابداعه، ترجع إلى فترات زمنية أبعد من الفنون الإسلامية، تقع فى العصور المصرية القديمة، والرسوم الجدارية والنحت البارز فى المعابد والمقابر. ربما كانت لوحة `العمل فى الحقل` المحفوظة فى متحف الفن الحديث، أوضح مثال لهذا التأثير الطاغى للرسوم الفرعونية. يتجلى فى التصفيف واهمال المنظور، والإهتمام بالزاوية الجانبية فى رسم الأشخاص والحيوانات خاصة الوجوه ولو تأملنا رسم الثور يجر المحراث فى أعلى الصورة، لتذكرنا على الفور رسم الثيران المصرية القديمة، كذلك الفلاح الذى يرفع الماء بالشادوف فى أدنى الرائعة. لقد صور راغب عياد جميع الأعمال التى يؤديها الفلاح فى لوحة واحدة، عن طريق تقسيمها بخطوط وهمية عرضية إلى عدة شرائط مع اغفال التغيرات والتحريفات التى يفرضها المنظور. نرى العناصر والموضوعات وقد افترشت مسطح اللوحة، بنفس المقاييس والأحجام، مسترجعاً بذلك التقاليد المدهشة للهوية، الذى ينفرد بها الشرق على مدى التاريخ، فى مقابل الرسوم الغربية.
- لم تشذ المنمنمات الإسلامية عن هذه الهوية، حيث اتبع الفنانون طريقة أقرب إلى التصفيف حين أرتفعوا بخط الأفق فى لوحاتهم إلى أعلى، وصوروا الطبيعة بعين الطائر. رسموا مجموعات الاشخاص والأشجار والحيوانات فى مقدمة الصورة، ومن خلفهم جبال شاهقة لكنها لا تحجب صور الجيوش والمعسكرات، التى تدق أوتادها فيما وراء الجبال. اتاحت هذه الطريقة للرسام الكبير راغب عياد، ولرفاقه الفنانين فى مصر القديمة والعصر الإسلامى، الاكثار من العناصر المرسومة، فى المساحة الضيقة التى تتيحها اللوحة، ويعتبر هذا البعد الفنى من سمات الهوية المحلية، ومن معالم معظم لوحات راغب عياد، بعد عودته سنة 1929 من بعثته فى ايطاليا، واجتهاده بصدق، وموهبة فريدة، واحساس عميق بتراثه، فى البعد عن التبعية والتأثيرات الأوربية، حتى أصبح بحق من بناة الهوية المصرية الحديثة فى الفنون التشكيلية.
- لم يكن فى بعثة راغب عياد إلى ايطاليا من جديد يؤثر على شخصيته الفنية. كان يتردد منذ تخرجه على أوروبا، حيث شاهد الإتجاهات والأساليب المستحدثة آنذاك. ساعده على تفهمها والمامه بها، اتقانه اللغة الفرنسية منذ الطفولة فى مدارس الفرير. وحين عمل مدرسا بعد التخرج، لم يكف عن الطواف بأحياء القاهرة الشعبية، متأبطا دفتر التخطيطات، مسجلا بخطوط سريعة، حركات رواد المقاهى، وأولاد البلد فى الموالد والأفراح. يراقب برسومه الخاطفة، سلوك الباعة والسابلة فى الأسواق، وحياة الفلاحين وعائلاتهم وحيواناتهم والطيور، وكل ما يدور فى قاع المدينة. يشكل كل ذلك فى دفتر التخطيطات، ثم يعود بحصاده إلى المرسم، حيث ينشئ التكوينات المفعمة بالجاذبية، المتمتعة بما يبثه فيها الإسقاط الفورى من حيوية.
- هكذا استطاع قبل بعثته إلى ايطاليا، أن يتخلص من الموضوعات الأوربية، التى درج على رسمها باشراف الاساتذة الاوربيين، أثناء الدراسة فى مدرسة الفنون الجميلة. الموضوعات المحصورة فى رسم التماثيل الاغريقية، والنماذج الحية العارية، والتكوينات الثابتة من الزهور والخضر والفاكهة، أضافة إلى المناظر الطبيعية الناعمة. تعتبر لوحتا `مدخن الجوزة ` و` ريا وسكينة ` من بواكير أعماله، التى استلهمها من الأحداث اليومية والحياة العامة. اتبعهما بسلسلة من اللوحات، تدور موضوعاتها حول المناطق الشعبية، وأحياء الراقصات وبيوت الليل. بذلك يكون هو رائد تلك الموضوعات فى حركتنا المرئية الحديثة. طرقها فى زمن كان التوجه فيه، إلى المناظر الطبيعية الهادئة، والصور الشخصية للسادة وسيدات القصور، أما الفلاحون فكانوا يظهرون كعناصر مكملة للمنظر الطبيعى الجميل، فى جو شاعرى لطيف، لا علاقة له بالواقع المرير.
- أنفرد راغب عياد بين الرواد الستة الأوائل، بتصوير الروح المصرية الصميمة، كما تبدو فى جانبها الشعبى. ربما كان هذا التوجه إلى قاع المجتمع، هو الذى قاده إلى الأسلوب التعبيرى، المتسم بالسخرية أحيانا. البعيد عن السفسطة والتعالى، والنزوع الاكاديمى ببروده وسكونه وجموده العاطفى.
- لا يتوقف جانب الأصالة فى ابداع راغب عياد، على علاقته الوثيقة بالمفاهيم الفنية الشرقية، خاصة المصرية القديمة والإسلامية، بل يمضى قدما فيتخذ صفة توثيقية، لصور الحياة المحلية وعاداتها وتقاليدها، مما أضفى عليه عمقا تاريخيا وهوية متميزة. فقد خرج فى لوحاته عن المحاكاة الأكاديمية. ونظر إلى الطبيعة بعين مصرية، لها مذاق خاص فى الرؤية. تستقى معاييرها الجمالية، من تاريخ سحيق يمتد آلاف السنين، نلمسه فى الجداريات الفرعونية، والعناصر المرسومة على الخزفيات الاسلامية. نظر إلى البيئة من حوله، بعين طفل ترعرع فى حى الفجالة، وهو من أكثر أحياء القاهرة عراقة. تحدث بالخط واللون بلهجة دارجة، وبقلب مفتوح، وتعبير صادق نابع من القلب، قد يكون مقابلا شكليا لكلمات المواويل الفولكلورية، فلا يجوز قياس ابداعه بمعايير ثقافات أخرى. فلكل حضارة معاييرها ولكل شعب جمالياته، ومثيرات وجدانه وعواطفه. كما أن له مدركاته ومصطلحاته اللغوية والشكلية، التى تقع أهميتها العالمية فى أنها تصب فى نهر الثقافة الانسانية. هكذا نستشف القيمة العالمية لإبداع راغب عياد، من أنه يضرب بجذوره عميقا فى الحياة المصرية وفنونها.
- تبلور أسلوبه سنة 1937، واستقر على الصورة التى نعرفها، حين ابدع لوحة ` الدلوكة ` - المحفوظة فى متحف الفن الحديث - وهى تمثل رقصة شعبية سودانية. أصبح منذ هذا التاريخ رائد `التعبيرية المصرية`، المختلفة عن الاوربية بأنواعها. فقد ابتعدت عن الطابع الكاريكاتورى للتعبيرية الاجتماعية الألمانية، والمبالغات الصارخة، دعم التعبيريين الفرنسيين وأن اتفق معهم فى التقاط صور الوجه الآخر للحياة. لكنه تميز بالخطوط القوية المحددة، البعيدة عن النعومة المرفهة، والتفاصيل غير الضرورية، فى تصوير الحشود والتكوينات المعقدة، التى اعتمد فيها على موسيقية الخطوط وايقاعها وتشابكها - وهى تقاليد جمالية تتصل بالفن الاسلامى. كما فى لوحات ` المرح الشعبى` 1930، أحبار وألوان مائية. تصور الألعاب الشعبية. و` رقصة الخيل` 1953 - زيت على قماش - محفوظة فى متحف الفن الحديث. و` فى العيد ` وهى لوحة شهيرة ، محفوظة فى متحف الفنون الجميلة بالاسكندرية ، صورها سنة 1938 لعائلة شعبية ، تتكدس فوق عربة كارو يجرها حمار. أما لوحة ` الخبيز`، فضمن سلسلة العادات والتقاليد، التى رسمها بالأحبار الملونة على الورق.
- ساد هذا الاسلوب التعبيرى الواقعى، أعمال فناننا الكبير منذ ذلك التاريخ، منسحبا على سلسلة صور الأديرة والكنائس والرهبان. بلغ من فرط واقعيته، حد رسم السيدة مريم العذراء، على هيئة فلاحة بسيطة تحمل المسيح الطفل، فى صحبة يوسف النجار، الذى يبدو بدوره شخصية عادية. صورهم فى لوحة الخروج من مصر، بعيدين عن هالات التقديس، مهددين بالضياع. يمضون فى فراغ موحش، تمتد من خلفهم جبال تخلو من أى أثر للحياة.
بقلم : مختار العطار
من كتالوج متحف الفن المصرى الحديث 1992 - صندوق التنمية الثقافية - وكتاب ( رواد الفن وطليعة التنوير فى مصر ) الجزء الأول
راغب عياد ومعرض إحيائى للفنان
- شهدت القاهرة 1992 معرضاً للفنان ` راغب عياد ` وهو من مبدعى الجيل الأول فى مجال الرسم ، والرسم الملون .
- التحق بمدرسة الفنون الجميلة سنة 1908 .. وبعد تخرجه عمل مدرساً ، وشارك زميله الفنان التأثيرى` يوسف كامل ` فى زمالة دراسية ، وصداقة عمر يضرب بها الأمثال.
- ومن المواقف الاخلاقية التى لم تمح - ونأمل ألا تمحى - من ذاكرة المبدعين المصريين .. ذلك الاتفاق الفريد على أن يقوم كل منهما بمهام الآخر فى مدرسته ، ويرسل له راتبه إلى ` روما ` .
- حيث الدراسة ، والتأمل ، والاحتكاك بالجديد فى الإبداع الفنى. ونجحا بالفعل فى إقناع ناظرى مدرستيهما بما اتفقا عليه .. وسافر ` يوسف كامل ` سنة 1922 مبعوثاً من ` راغب عياد `.
- كان هذا السبب المباشر فى أن تقرر الدولة سنة 1924 أول اعتماد مالى لتشجيع الفنون الجميلة .. وكان قدره عشرة ألاف من الجنيهات .
- ومن هذا الاعتماد سافرت أول بعثة فنية إلى الخارج : سافر ` يوسف كامل ` و `راغب عياد` و`محمد حسن` إلى إيطاليا .. و` أحمد صبرى ` إلى فرنسا .
- وكان` عياد ` أول من نادى بإنشاء أكاديمية مصرية فى روما فى سنة 1941.
- أنتدب لتنظيم المتحف القبطى وفى سنة 1950 عين مديراً لمتحف الفن المصرى الحديث..
- وأقام لمثال مصر الأول ` محمود مختار ` جناحاً لأعماله بالمتحف .. انتقلت بعد ذلك إلى متحفه بالجيزة ...
- المعرض
- أقيم معرضه الحالى 1992 بأجمل قاعات العرض بمصر .. وهى قاعة ` اكسترا` .. يملكها الفنان ` مينا صاروفيم ` .. وقد تولى بنفسه اختيار الاعمال .. وبروزتها .. ومعظمها مرسوم على الورق بألوان (الفلوماستر) والألوان المائية ، وأنقذها بذلك مما كانت تتعرض له من إهمال .. وقدمها فى أبهى صورة إلى المشاهد ..
- من لوحاته
- ضم المعرض منتخبات من مراحل مختلفة أنتج بعضها فى `روما ` وأنتج أكثرها فى مصر. ودارات جميعها حول موضوعاته المفضلة: ` الأسواق الشعبية`.` العمل فى الحقل`.` المقاهى الشعبية ` .. أى كل مايدور فى الحياة اليومية من وقائع اعتيادية .. ولم يتراجع هذا الميل عندما استغرقته الحياة داخل الأديرة .. فقد التقط منها المواقف البسيطة والإنسانية.
- أسلوبه
- يتسم أسلوبه بالبساطة .. غير أنها بساطة العارف . وربما كان أقرب تعبير لوصف أسلوبه .. هو تعبير` النفرى ` إذا اتسعت الرؤية ضاقت العبارة ..
- فهو يجمع بين بلاغة الإيجاز، وتلقائية وحيوية الخطوط والألوان .. وصراحتها. يختار من كل ` الألوان ` لوناً أو اثنين .. بالاضافة إلى لون ورقة الرسم وهو يختارها بعناية.
- ففى لوحة ` بيت المقدس `- على سبيل المثال - يختار ورقة سماوية اللون ، ويسيد زرقتها الصافية على مجمل عناصر اللوحة .
- ولوحة ` فى الحقل` يختار لها ورقة برتقالية . تربطنا منذ الوهلة الأولى بقيظ الصيف والعمل .
- وفى لوحاته عن` الأديرة ` يسيد لوناً رمادياً مزرقاً يناسب الحالة التعبيرية. وينتقى من كل` الخطوط `.. ما يتجلى فى رسوم الفن المصرى القديم، ويبدو تأثره بجماليات ذلك الفن واضحاً فى التكوينات، وفى كثير من التفاصيل .. ولعل اللوحة المنشورة تؤكد هذا .
- وعندما يستخرج الوجوه .. فإنه يخلع عنها جلالها ، ويخلع عليها طرافة تدعو إلى الابتسام.. دون أن يسقطها فى طابع الرسوم الهزلية .. وأهدافها :
- فهو لا يريد لنا أن نستخفف بشئ جليل .. ولكنه لا يريد لجلال مصنوع أن يكون حاجزاً يحول دون اتصال حقيقى ؛ لهذا يبسط الأمور ، ويجعلها أليفة .. فنحبها .
جريدة اليوم : ديسمبر 1992
راغب عياد .. رائد التحديث
- لقد سعدت بالجلوس مع فنان مصرى رائد للتحديث ومؤمن بوطنه ،ألهب بفكره ومشاعره كثيرين لينضموا إلى مسيرة وطنية تؤكد الهوية المصرية ، وتسعى لإحياء الفن المصرى بجميع أشكاله ، وقف أمام الوضع السياسى ليعلن الفن كلمته أن مصر للمصريين.
- فى عام 1972 كان لقائى الأول مع الفنان ` راغب عياد ` ، كنت أتردد على مرسم الفنون بمعهد الدراسات القبطية يوم الجمعة من كل أسبوع، حيث يلتقى عدد من الفنانين والموسيقيين
والمعماريين والمفكرين حول عالم الآثار ` د.سامى جبره ` ، وهناك كنت أسهم فى تنفيذ جدارية أبدعها ` صلاح عبد الكريم ` و ` منصور فرج ` و ` إيزاك فانوس ` ، لتغطى جداراً فى محطة رمسيس للسكه الحديد ، وكنت أصغر المشاركين .وسرعان ما اقتربت من الفنان ` راغب عياد `، فقد كان بشوشاً هادئاً رزين وكلماته تخرج بفلسفة وحكمه ، وآراؤه فى الفن دخلت إلى أعماقى ، فقد شعرت أنه يلهمنى فى بداية حياتى الفنية كمثل أعلى ، سرعان ما عرفت الكثير عنه ، فقد وجدت أنه يتردد على نادى مدرسة سان جوزيف بالزمالك وهو قريب من كلية التربية الفنية ، حيث أعمل ولم أتردد أن أنضم إليه لأبحث فى عمق شخصيته وعن سر فنه ومصادر إبداعه .
- لم يكن ` عياد` يعمل من فراغ ، بل إن قدراته الإبداعية المتميزة مكنته خلال تاريخه العريق أن يسهم ويضيف إلى الثقافة المصرية الكثير ، كانت أسئلتى الكثيرة تجعله يجلس وينظر إلى الماضى محركاً يديه برفق، وبصوته الهادىء ليخرج من كنز الذكريات حقائق مبهرة عن مدى الصدق والتعاون والكفاح من أجل إنشاء مصر النهضة ، التى حلم بها جيل بأكمله ، وكان دور الفن جوهرياً ، بدأ دراسة الفنون الجميلة فى أول دفعة مع ` محمود مختار ` النحات الذى أشعل حماس الأمة المصرية بتمثاله ` نهضة مصر ` ، ومع ` محمد حسن ` و ` أحمد صبرى ` .. كانت الدراسة تواكب ما يتم فى أوروبا داخل أكاديميات الفنون . وفى بداية القرن الماضى بدأت الخطوات الأولى لعودة الفن كلغة جديدة للتعبير ، أهملت لعقود طويلة بسبب اغتراب الحاكم المستعمر .
- إن وطنية ` راغب عياد ` دعته أن يكون أول جماعة فنية مع ثورة 1919 ، وكان إعلان أهداف الجماعة التى ضمت الرعيل الأول من الفنانين المصريين وأيضاً الأجانب المقيمين فى مصر والمؤمنين بإحياء تراثها تحت رعاية ` ويصا واصف` ، ظهرت جماعة ` الخيال ` لتضم الفنانين ` حامد سعيد - محمود مختار - محمد حسن - أحمد صبرى - يوسف كامل - محمد ناجى - شاروبيم - بريفال - هاردى - مزراحى - مارتان - كولوتش - إينوشنتى ` ، وأقاموا معرضهم الأول فى الفجالة 1919، وأعلنوا أهداف الجماعة وهى إحياء الفن المصرى بجميع أشكاله ونشره فى داخل البلاد وخارجها عن طريق الدعاية والتعليم والإذاعة وإقامة المعارض بمصر والخارج.
- بالطبع فإن النهضة والإحساس بالقومية فى تلك الحقبة من تاريخ مصر جعلت الفن والأدب يلتقيان من أجل مصر، انضم لهم ` هيكل ، العقاد ، المازنى ، محمود عزمى ، مى ` بكتاباتهم ، وتكونت لجنة تابعة لجماعة ` الخيال ` هى لجنة ` أصدقاء جماعة الخيال ` من الأدباء والمثقفين.
- ذهب ` راغب عياد `إلى روما 1925 ليدرس الفن، وهناك قصة مشهورة لعلاقة الأخوة والصداقة بينه و ` يوسف كامل `، استطاعا أن يتبادلا الدراسة ، واحد يدرس فى إيطاليا ويقوم الآخر بالعمل فى مصر وإرسال نفقات الدراسة لزميله ، لقد سمعت ` هدى شعراوى ` من ` راغب عياد ` هذه القصة وهى فى روما فى طريقها إلى سويسرا لتقابل ` سعد زغلول `، وانبهر زعيم مصر بهذا التفانى والعزيمة الصادقة التى دفعت الفنانين لإظهار وحدة الفكر ووحدة الهدف ، واستطاع ` سعد زغلول ` ، و` هدى شعراوى ` أن يدبرا منحة من الدولة .
- فى إيطاليا شاهد ` راغب عياد ` تحولات الفن إلى الشرق ، وكيف أن العديد من الفنانين اتجهوا لدراسة جماليات الفنون فى اليابان والصين ومصر وإفريقيا ، لقد فتح قلبه وشعر بسعادة بالغة للتقدير غير المنظور للحضارة المصرية والاكتشافات التى أدهشت العالم بهذا التراث الإنسانى ، الذى يحتاج من الفنان وقفة تأمل ودراسة .
- لم ينشغل ` راغب عياد ` بتقليد الخط الأوروبى أو حتى إعادة ترجمته فى قالب مصرى ، بل إن فهم جوهر الفنون الحديثة وسرعان ما عرف أن المصور الحقيقى للإبداع هو أن يعود إلى جذوره التاريخية يتفاعل معها وينهل منها.
فى إيطاليا أبهرت أكاديميات الفنون التى أنشأتها عديد من الدول الأوروبية ، لتتيح لفنانيها الشبان فرصة الدراسة فى جو فنى وثقافى ، وفى يوليو 1924 كتب إلى ` أحمد ذو الفقار ` سفير مصر فى روما مقترحات إنشاء الأكاديمية المصرية فى روما، ووضع ` راغب عياد ` تصوراً متكاملاً مطالباً الحكومة المصرية أسوة بالدول المتحضرة التى لا تقل مصر عنها وتشمل الأكاديمية ( مراسم للفنانين ومكان للإقامة وقاعة عرض وأماكن للأنشطة وحديقة ) ، واقتراح أن تمنح الدولة المصرية منحاً للفنانين لإكمال دراستهم ، وذلك لتكوين جيل من الفنانين ليكون على وعى بالثقافات الأخرى .
- ولقد لاقت دعوة ` راغب عياد` قبولاً لدى مجلس الوزراء ، وفى عام 1929 تم ميلاد الأكاديمية المصرية فى روما برعاية الملك فؤاد . عاد ` راغب عياد ` لمصر وأصبح بفكره وثقافته ووظيفته مؤهلاً ليلعب دور فى الحركة المصرية ، فقد أصبح مديراً للمتحف القبطى وكان من بين اهتماماته أن يجمع التراث القبطى من الأديرة والقصور والمدن المختلفة فى مصر ، وبعين الفنان المثقف كانت دراساته الخطية لتلك الأماكن تتحول إلى أعمال فنية ، فالأديرة والكنائس والحقول والأسواق والحياة الثقافية ترجمها بصدق وبرؤية معاصرة إلى إيقاعات جمالية .
- كانت الدراسات السريعة فى البيئة الحقيقية هى المصدر الذى يتفاعل معه فى مرسمه خلال نظرية مصرية معاصرة فيها يبنى نسق فنى جديد ، اعتمد على تحليل الأشكال الطبيعية وتحويلها إلى أشكال فنية اتسمت بالسرد وتنظيم العناصر فى مصوغات توازى ما نراه فى الفن المصرى القديم ، لقد كان يحلم بفن جديد ، فن يؤكد شخصيتنا وهويتنا المصرية ، ومن خلال بحثه ودراسته ومعايشته وصل إلى أسلوبه الفنى المتميز.
- لقد عمل ` راغب عياد ` مديراً لمتحف الفن الحديث 1950 وكرمته الدولة ومنحته الجائزة التقديرية فى الفنون 1965، وأنجز ` راغب عياد ` أهم أعماله الفنية عن الحياة فى الأديرة بالصحراء فى وادى النطرون مستلهماً روحانية المكان وجماليات العمارة القبطية وحياة الرهبان ، كما اهتم بالحياة اليومية فى الريف المصرى وكانت الأماكن الأثرية مصدراً قوياً لدراساته وتأملاته التى انعكست على أسلوبه الفنى وصبغته بالمصرية.
- خصص الفنان جانباً من حياته فى رسم اللوحات الدينية فى عديد من كنائس مصر ، وتوجد أعماله فى كنيسة الزمالك وكنيسة كلية الفرير بالظاهر وكاتدرائية الجيزة وبطريركية الإسكندرية .
- لقد عاش ` راغب عياد ` مواطناً مصرياً وطنيا من أجل مصر ، ومات فى أحضان مصر.
بقلم : د . جمال لمعى
مجلة الخيال : العدد ( 35 ) فبراير 2013
راغب عياد آخر جيل الفنانين الرواد
- ساهم فى تكوين الجماعات الفنية ، وفى لجان وزارة الثقافة ، وفى لجنة الفنون التشكيلية بالمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية ، كما شارك فى كثير من المؤتمرات الدولية الفنية بالخارج.
- شارك فى معظم معارض ` صالون القاهرة ` الذى تنظمه جمعية محبى الفنون الجميلة منذ عام 1924 على امتداد أكثر من نصف قرن ، وعرض فيه أهم أعماله ، هذا فضلاً عن معارضه الخاصة التى تجاوزت الأربعين معرضا ومشاركاته فى المعارض العامة بمصر والخارج .
- يحتفظ متحف الفن الحديث بالقاهرة، ومتحف الفنون الجميلة بالإسكندرية بمجموعات من أعماله كما أن الكثير من أعماله ضمن المجموعات الخاصة والعامة فى مصر والخارج.
- منحته مصر جائزة الدولة التقديرية للفنون سنة 1965 وهى أعلى تقدير لرجال الفنون .
- ومنحته إيطاليا وساماً رفيعاً تقديرا لفنه.
- كما منحته أكاديمية الفنون فى مصر الدكتوراه الفخرية .
- توفى فى 16 ديسمبر 1982.
- فى السادس من شهر ديسمبر / وعام 1982 يقترب من نهايته ، اختتمت فى صمت حياة فنان من رواد الفن التشكيلى المعاصر، صاحب الحركة الفنية فى مصر منذ بدايتها ، وكان علما من أعلام التجديد التى ارتفعت وظلت خفاقة فى سما التحولات التى مر بها فن التصوير المعاصر فى مصر.
- وعندما اجتمعنا حول نعشه نوداعه فى الكنيسة التى تزدان بلوحاته الدينية كنا قلة من أهل الفن والثقافة ، لو احصيناها ما تجاوزت عشرة أفراد من عارفى فضله وآثره ، وهكذا كان الصمت هو الذى شيعه ، وكان الصمت هو الذى واراه التراب.
- ولو انصفت موزاين العدل الثقافى لكانت جنازة راغب عياد جنازة رسمية وثقافية ، يشارك فيها المسئولون ، ورجال الأدب والفنون ، وتتقدمها أكاليل الورود ، وجموع من أساتذة الفنون وطلبتها اعترافا بفضل رائد أعطى حياته للفن ، وشق طريقا لحركات التجديد فى الفن المصرى المعاصر.
- غير أن الفنان التشكيلى ما زال غريبا فى مصر .أو هو على الأقل لا ينال التقدير الجدير بعطائه العظيم فى حياتنا الثقافية ، ولعل أصحاب الفنون التشكيلية مسئولون بقدر كبير عن هذا الوضع فهم أقل أهل الثقافة ابرازا لشأن شوامخهم وأقلهم تكريما لهم ، ويكفى أن نقارن بين اهتمام الموسيقيين بروادهم ، واهتمام المسرحيين والشعراء والأدباء بشوامخهم ، وبين أعراض الفنانين التشكيليين عن آبائهم وتنكرهم لهم ، لندرك أنهم قد هونوا بذلك من أنفسهم ، ومن دورهم الخطير فى حياتنا الثقافية ، فانصرف الاعلام عنهم ، وضاقت مجالات التعريف بهم رغم ما لهم من نقابة وتجمعات فنية ، ورغم انتشار كليات الفنون ومعاهدها فى مصر.
- ولعلنا نستخلص العبرة مما اكتنف رحيل آخر جيل الرواد فنراجع مواقفنا .
- لقد اختتم براغب عياد السفر الأول فى تاريخ الحركة الفنية فى مصر ، ذلك التاريخ الذى تتحدد بدايته الرسمية بإنشاء مدرسة الفنون الجميلة عام 1908 ، وهو العالم الذى شهد إنشاء الجامعة الأهلية فكان انشاؤهما علامة من علامات النهضة التى أخذ كبار المفكرين يبشرون بها ، ويدعون إلى إقامة مؤسساتها ، وهكذا أخذ تعليم الفنون الجميلة مكانة إلى جانب دراسة الفلسفة والأدب والعلوم الإنسانية فى الجامعة الأهلية وتلاقى طلائع الفنانين مع جيل الكتاب والمنكوبين من الشباب الذين دخلوا الجامعة ، بحثا عن الفكر والمعرفة والثقافة ، خارج نطاق المدارس العليا الحكومية التى كانت تعد طلبتها للوظائف العامة .
- تشابهت نشأة مدرسة الفنون والجامعة فكلتاهما ثمرة فكر ومناخ ثقافى أخذ يتفتح ..كانت الدعوة إلى الجامعة دعوة جهيرة مباشرة تبناها مصطفى كامل ، وسعد زغلول ، وقاسم أمين، وأيدها لطفى السيد وغيره من المفكرين ، بينما هيأ لاقامة المدرسة احساس بحاجة المجتمع المصرى إلى الفنون ودخولها حلبة الثقافة ، وقد تردد ذلك فى كلمات قاسم أمين ، وفى كتابات لطفى السيد فى الجريدة عن الفنون الجميلة ، وأهمية التوازن بين العقل والذوق فى حياة المصريين ، ولا سبيل إلى ذلك ما لم ` ندخل فى مجمع علومنا الفنون الجميلة ، كما كان يقول .
- تحققت فكرة المدرسة بدعم من الأمير يوسف كمال ، وبجهود بعض الفنانين الأجانب الذين وفدوا إلى مصر ، وتحققت فكرة الجامعة بدعم من الزعماء والمفكرين ، وعن طريق اكتتاب ساهم فيه المستنيرون من المصريين .وتلاقت مسيرة المؤسستين الثقافيتين فى حركة التنوير.
- توافد على المدرسة والجامعة شباب متطلع إلى المعرفة والثقافة ، شاغله الاتصال بمعطياتها أكثر من اهتمامه بالشهادة والوظيفة .
- وتلاقى فى مدرسة الفنون الجميلة - عند افتتاحها - أفراد قدموا من الريف - أو تركوا الأزهر ، أو قطعوا مسيرتهم فى التعليم النظامى ، يشدهم إلى ` الفنون الجميلة ` انبهار بسحر الكلمة والمعنى.
- بين هؤلاء طالب تلقى دراسته الأولى بمدارس الفرير ، وشهد فى حى الحرنفش مراسم الفنانين الأجانب الذين اتخذوا من هذا الحى فى مطلع القرن العشرين مركزا لنشاطهم الفنى . وهكذا طرق الطالب راغب حنا عياد أبواب مدرسة الفنون الجميلة، وفى ذهنه تصور لدورها ومهمتها.
- ولم يكن راغب عياد- على حد قوله - طالبا متميزا لأنه كان من الرافضين للقواعد الفنية الضيقة المقيدة ، وكان من الكارهين للدراسات الأكاديمية البحتة كالرسم من التماثيل ، وتصوير الطبيعة الصامتة ، وفن تصوير الأشخاص وغير ذلك من مناهج تعليم الفنون فى مدارسها .
- على أن الدراسة بمدرسة درب الجماميز ( 1) لم تكن كلها على هذا النهج ، فقد وجد الطلبة فى ناظرها المثال لابلانى ، وفى أستاذ التصوير فورشيلا وأستاذ الزخرفة كولون فنانين محبين للطبيعة المصرية ، لفتوا أنظار تلاميذهم إلى ملامح الوجوه ، وخصائص البيئة ، وخرجوا بهم من مراسم المدرسة إلى أحياء القاهرة وضواحيها وأسواقها ، لتسجيل ما تراه العيون .
- وما كادت أعوام الدراسة تنقضى فى مدرسة درب الجماميز حتى اصطدم الجيل الأول بمرارة الواقع الثقافى ، فبرغم ما كان فى السنوات التى سبقت الحرب العالمية الأولى من اشراقات تبشر بعصر النهضة ، فإن مجال الفنان التشكيلى فى المجتمع كان مضيقا .شهدت هذه السنوات نشأة الجامعة ، وازدهار الشعر ، وظهور المسرح الغنائى ، والمسرح التراجيدى ، ولكنها لم تستقبل من نشاط الفن التشكيلى الوليد سوى مشاركات عامة فى الجنازات القومية .والمظاهرات التى تحمل تماثيل لمصطفى كامل ومحمد فريد هى بدايات المثال الناشىء محمود مختار على طريق الفن القومى ، كما أنها لم تشهد من معارض فن هذا الجيل الناشىء سوى معرض أقيم عام 1911 وجمع لوحات وتماثيل شكلت الملامح المصرية الأولى فى فن طلائع الخريجين.
- كان فى الجيل الأول أفراد موهوبون تفاوتت قدرتهم وتباين قدرهم ، فمنهم من لم تسعفه الظروف أو لم تسعفه قدرته على مواصلة الطريق، ومنهم من صمد وواصل المسيرة وأسهم بقدر أو بآخر فى اقامة دعائم الحياة الفنية فى مصر ، وفى طليعة هؤلاء أربعة هم : المثال محمود مختار ، والمصورون محمد حسن ، ويوسف كامل ، وراغب عياد ، ثم لحق بهم بعد عامين من تخرجهم المصور: أحمد صبرى .
- وبعيدا عن بيئة مدرسة درب الجماميز كان اثنان من دارسى القانون وهواة الفن يترددان على مراسم الفنانين الأجانب فى الاسكندرية ثم يتوجه أولهما ` محمد ناجى ` إلى فلورنسا لدراسة الفن على نفقته ، ويعود بعد ذلك فيستكمل اعداده الفنى فى ` جيفرنى ` بفرنسا عام 1918 ، قريبا من رائد الحركة الانطباعية كلود مونيه ..أما الثانى ` محمود سعيد ` فيدخر لدراسة الفن رحلات صيفية يلتحق خلالها بأكاديميات الفنون الحرة ، ويتردد على المتاحف الكبرى ليستكمل اعداده الفنى فى ظل روائع الفن الفلامنكى وإبداعات عصر النهضة الايطالية.
- وشكل هؤلاء السبعة جيل الرواد فى حياتنا الفنية .
- اختلف عطاء كل منهم ، وتنوع قيمة وقدرا ، ولكنهم على أى حال شقوا طريقا صعبا ، وعبروه وأقاموا دعائم حركتنا الفنية.
- يكفى الحكم على دورهم الرائد العظيم أن تتأمل كلمات كتبتها الأديبة مى بمناسبة معرض الصور المصرى الذى أقيم عام 1919 ، برعاية مجموعة من السيدات المصريات بعد دخول المرأة الحياة العامة فى أعقاب الثورة.
- كتبت مى هذه الكلمات :
` لقد أضيف إلى الأحاديث المزعجة التى ملأت أندية القاهرة فى هذه الأيام موضوع لم تألفه بعد اجتماعاتنا ، موضوع الفنون الجميلة ، لم يكن فى هذا المعرض ثمة ما هو منقول عن الطبيعة مباشرة ، أو معبر عن فكرة شخصية سوى رسمين اثنين ، ألا أن من الرسوم المنسوخة عن رسوم موضوعة وفوتوغرافيات ما كان حسنا`.
- كانت بدايات الفن التشكيلى اذن تعتمد على المنقول ، ولا ترقى إلى مستوى الابداع ، وكان الذوق العام يميل إلى طراز الباروك والروكوكو الذى كان يحتل بيوت الأثرياء ، ومحلات بيع التحف ، واللوحات الفنية.
- ولكن عودة محمود مختارمن بعثته إلى باريس عام 1920 بنموذج تمثاله` نهضة مصر` الذى نال تقدير دوائر الفن فى الخارج ، ولقى من زعماء النهضة كل عون وتأييد ، هذه العودة أحدثت شيئا هو أقرب إلى معجزات التحول ، اذ ارتبط المجتمع برؤية جديدة ، ومفهوم آخر للفن ورسالته غير مفهوم الزينة والتجميل ، مفهوم اقترنت فيه الثورية بالخط القومى ، والعودة إلى منابع التراث ، والرؤية الإبداعية للبيئة بكل مقوماتها ، وما أن أقيم فى عام 1921 معرض الربيع وهو ثالث المعارض التى أقامتها الجمعية المصرية للفنون الجميلة عام 1919 ، حتى لمسنا فى هذا المعرض تحولا اذ التقت فيه تماثيل ` المصرية ` ` وابن البلد ` لمختار إلى جانب مناظر من سوق السلاح لراغب عياد ، ولوحات محمد ناجى من وحى الأقصر ، ومشاهد من بوابات القاهرة ومساجدها ، ومناظر المربع ليوسف كامل ، وصور الفلاحين والمناظر الريفية لمحمد حسن .
- وكان هذا التحول فى الموضوع عند البعض ، والتحول فى الموضوع والأسلوب معا عند القلة ، ايذانا بدعوة للذاتية الثقافية وخروجها عن القواعد التلقينية القائمة على النهج الأوربى .
- وقد أخذت هذه الدعوة شكلا وتجمعا برئاسة مختار ، فكانت ` جماعة الخيال` التى تأسست عام 1927 من مجموعة من الفنانين والأدباء صاحبة الدعوة إلى فن قومى أصيل .
- وقد استطاع مختار أن يجد فى التراث جذور لأسلوبه الفنى الذى تحقق فيه التوازن بين التراث والعصر، فرسم الطريق للفن المعاصر، وخلف لمصر ملحمة جمعت أطراف التعبير عن روحها . وتجاوز أثره عمره المحدود على هذه الأرض ، فقد كان أول الراحلين من الرواد قبل أن يكتمل ثلاثة وأربعين عاما.
- أما ناجى ومحمود سعيد فقد ظهر فى لوحاتهما معالم المصرية فى التعبير الفنى .وكان ناجى مبشرا بالعودة إلى اللوحات المصرية الجدارية القديمة ، ونموذجا لالتقاء المفهوم الشرقى مع المفهوم الغربى فى الفن .وكان محمود سعيد مصريا بالمنطق المعمارى المكين الذى يسود تكوين لوحاته ، ومصريا بحساسيته البصرية فى اللون ، وبالنور الذى يشع من لوحاته وبرؤيته الخاصة للبيئة .
- يتبقى بعد هذا دور المصورين الأربعة من طلائع خريجى مدرسة الفنون الجميلة فهم بعد استكمال عددهم الفنى فى الخارج قد عادوا إلى مصر للاسهام فى حركتها الفنية ، كل بما هو ميسر له.
- أدى محمد حسن دورا فى نهضة الفن التطبيقى وإحيائه إلى جانب آثره فيما خلفه من صور للأشخاص تحمل جماع خبرة سنادها الواقع والتمكن الاكاديمى ، وما خلفه من لوحات للريف المصرى وسكانه ، بلغ قدرة فائقة فى التعبير عنها فى إطار إلتزام ` العمود الاكاديمى `.
- وقام أحمد صبرى بدور معلم الفن وأستاذ أجيال تتلمذت عليه فكان طرازا من أساتذة المراسم الذين أدركوا واجب الأستاذية ، وتفانوا فى أدائه .. ولكنه خلف أيضا تراثا فذا فى فن تصوير الأشخاص يرى فيه الأستاذ الكبير عباس العقاد : ` الآثر الصالح الباقى فى فن التصوير ` .
- وبقى يوسف كامل وراغب عياد اللذان ارتبطت حياتهما وكانا آخر الراحلين من جيل الرواد كلاهما بدأ حياته فى وظائف تدريس الرسم بالمدارس العامة ، وكلاهما شق طريقه وسط صعاب كثيرة حتى أتيح له أن يستكمل اعداده الفنى فى بعثة الفن الرسمية الأولى إلى أوربا عام 1929 بعد أن تعاونا معا على استكمال الدراسة فى الخارج .قبل أن تتقرر بعثات الفنون الحكومية فى عهد برلمان مصر الحديث عام 1924 .
- تلاقت أقدارهما فى الكثير ، واختلفت فى الكثير .
- تلاقت فى مناصب الفن الرسمية ، وفى بعض النشاط الفنى العام ، وفى تقديم رؤية للبيئة المصرية ، وأن اختلفت أساليب التناول وعندما بدأ لقاء المجتمع بأعمالهما من خلال معرض ` صالون الربيع ` فى أول العشرينات كتب الناقد الأجنبى ` وودز ` يقول :
` أن فخر صالون الربيع يتقاسمه يوسف كامل وراغب عياد `
- أما يوسف كامل فقد جذبه إلى الانطباعيين اعلاؤهم لعنصر النور ، فأخذ فى اعتناق وسائلهم ، والاقتراب من عوالمهم ، وقد ظل وفيا للنزعة الانطباعية ، وقدم من خلالها رؤيته لمصر الأسواق والضواحى والأحياء القديمة .
- بينما خاض ` راغب عياد ` رحلة جريئة ، لاح وكأنه نسى تعاليم المدرسة ، فتحرر بأسلوبه من الزخرف ، والوشى ، والبهرجة الفنية ، وانتقل التصوير معه من الرومانسية والاكاديمية إلى الواقعية التعبيرية الصريحة ، وحرر أسلوبه من بلاغة
` المقامات` التقليدية ، ومن البديع التشكيلى، فأدى لفن التصوير دورا يتشابه مع دور المازنى فى الأدب.
- من صميم البيئة الشعبية ، بيئة إحياء المدن استمد راغب عياد موضوعات فنه الأولى فى العشرينات ، هكذا تبدو فى لوحات العشرينات : ` مدخن الجوزة ` ،` ريا وسكينة`، ومناظر من سوق السلاح .
- ولقد تابع هذا الخط وأنجز لوحات هى علامات طريق منها لوحات ` الدلوكة ` عام 1937 التى بلغ فيها ذروة فى التكوين والتعبير والتوفيق الرائع بين مجموعة من القيم اللونية أضفت على اللوحة بلاغة تشكيلية مميزة.
- وكانت هذه اللوحة بداية لمجموعة لوحاته الزيتية التى إمتدت حتى نهاية الأربعينات، ومثلت الأسواق حول القاهرة ، والعمل فى الريف ، كما سجلت ببراعة واقتدار حيوانات البيئة .
- وظل راغب عياد يرصد صور الحياة الشعبية بعين نافذة يستوقفه منها عنصر الحركة فى تشكلها ، وغناء الألوان فى اجتماعها.
- تلك هى الحقبة التى تمثلها لوحته: ` السوق الكبير` وهى لوحة حقق بها عياد أروع خصائصه اللونية، وقدراته التعبيرية، عن ملامح الناس، وسمات الحركة ، وجرأة الخطوط والتكوين.
- ولا يتوقف عياد طويلا عند ملامح الناس الداخلية ولكنه بخط هنا ، وخط هناك ، يسجل ملامح تكشفت عنها الحركة والنظرة والوصفة فيبلغ بهذا أحيانا التزاوج الرائع بين الشعر والسخرية.
- ولقد خلدت لوحات عياد موالد مصر وأعيادها ، وتجمعات الناس حول ملاعب الخيل ، وحفلات الزار والرقص ، واستخدم للتعبير عنها الألوان المائية ، والأحبار والأقلام الملونة استخداما واعيا محملا بطاقات تعبيرية .
- ومن العلامات التى نستطيع أن نضعها على طريق انتاجه ونحدد بها مراحله تلك الأعمال التى تلت مرحلة الأفراح والأعياد ، وركز فيها طاقته لتصوير ` العمل ` ذلك الموضوع الذى استحدث على رقعة من الإبداع التشكيلى فى الستينات بخاصة ، وكان السد العالى من العناصر التى جعلت لموضوع ` العمل ` الصدارة عند كثير من التشكيليين .وكان عياد فى مقدمة هؤلاء. صور العمل فى الريف، فى لوحاته التى استخدام فيها الأسلوب المصرى القديم فى إلغاء البعد الثالث ، والاستعاضة عنه بالبناء الرأسى للتجمعات ، والمشاهد على سطح اللوحة وكذلك كان` السد العالى` من محاور إبداعه الفنى.
- غير أن عياد رجع بعد تجوال فى بيئة مصر ، وبين أحيائها الشعبية ، إلى هدأة تأمل صامت وئيد حين عكف على تسجيل الأديرة المصرية فى لوحاته ، ولعل الطابع الدينى للموضوع أضفى على أعماله سكينة بعد حركة ، وصمتا بعد صخب ، كما أتاح له أن يعبر عن مبانى الأديرة فى أضفى أشكالها ، وفى جلال ألوانها البيضاء فجمع الجلال والشعر فى تلك الأعمال.
- لقد ظل راغب عياد حتى أيامه الأخيرة حريصا على مواصلة ابداعه الفنى الذى مهد به الطريق لحركات التجديد التى خاضها تلاميذه ، وقدر له أن يشهدها ، ويتابع تحولاتها ، فهو من هؤلاء البنائين الذين نبتت فى أرضهم أزهار كثيرة وهو من الذين تفتحت رؤى جيلنا على ثورتهم الفنية .
- واذا كان الجيل الذى تلا عياد قد اتجه إلى باطن الحياة الشعبية ، وصور سحرها وأسرارها وتفنن فى التجديد فهو مدين له بتمهيد الطريق.
- وسواء اقترابت إجاهات التجديد من رؤيته ، أو بعدت عنها، فإنها مدينة له بفضل كبير مقياسه حالة الفنون فى بداية ظهوره ، ودوره فى اتجاة التمصير والتجديد .
- سيظل دور راغب عياد ، فنانا ، وأستاذا ، ومسئولاً عن بعض متاحفنا ، دوراً مذكوراً بما قام به من جهد كبير فى معاهد الفن ومتاحفه .
- هو أستاذ من أساتذة هذا الجيل غير منازع .
- وهو رائد من رواد الفن غير منازع.
- وهو أحد أعلام حركة التجديد غير منازع.
- عندما مات المصور الفرنسى الكبير جورج براك وقف ` إندرى مالرو ` وزير ثقافة فرنسا على قبره ، وقال :
- ` أن براك يمثل جزءا من مجد فرنسا` وكذلك ، فإن راغب عياد يمثل جزءاً من مجد مصر .
بقلم : بدر الدين أبو غازى
مجلة إبداع ( العدد 1 ) يناير 1983
- من صميم الحياة الشعبية ، ومن واقع سلوك الناس فى المجالات التى يتمسكون فيها بمعتقداتهم الدنيوية وعاداتهم المعيشية ، وأزيائهم القومية استطاع أن يصور خصال الشعب الدائب على العمل والكفاح من أجل لقمة العيش بأسلوب كاريكاتيرى فيه دعاية ومتعة للناظرين زهاء خمسين عاما منذ عاد من إيطاليا عام 1930.
- ولد راغب ( حنا ) عياد فى 10 فبراير عام 1892 ودرس بمدرسة الفرير إلى أن حصل على شهادة الكفاءة ، ولم يكد يسمع نبأ افتتاح مدرسة الفنون الجميلة فى مايو عام 1908 حتى سارع بالتقدم إليها وقلبه ينبض بالفرحة والابتهاج عندما بدا له الأمل بتحقيق أمنيته فى أن يصبح فنانا مثل أولئك الذين كان يتحدث عنهم أحد أصدقاء أبيه من موظفى دائرة الأمير يوسف كمال ، من الفنانين الأجانب الذين غطت لوحاتهم جدران قصر الأمير بالمطرية..
- وسمع عاشق الفن أن أباه غاضب وحانق عليه ، وأنه لن يرضى عنه حتى يراه قانونيا يشار إليه بالبنان ، أو موظفا متربعا على مكتب بإحدى الوزارات . ومر عامان وتخرجت أول دفعة من مدرسة الفنون الجميلة الأهلية فى عام 1910 وكان من بينها راغب عياد الذى عين فوراً مدرساً للرسم بمدرسة الأقباط الكبرى ليعلم الصبية كيف يرسمون القلة والإبريق والتفاحة ، بينما كان يشعر فى أعماق نفسه بظمأ شديد ، ولم يكن تدريبه الفنى كافيا لاشباع هوايته ورغبته فى تحقيق ما لم يكن يعرف كنهه على وجه التحديد ، فقد كان يحس شيئا آخر غير رسم النماذج الحية العارية أو النقل عن تماثيل الجبس البيضاء .
- وبدأ يفكر فى السفر إلى باريس ليحلق بزميلة محمود مختار وكثيراُ ما كان يسمع عنها من أساتذته بمدرسة الفرير ومدرسة الفنون الجميلة ، وتحققت أمنيته فى صيف عام 1914 ، ولكنه لم يكد يستقر به المقام حتى أعلنت الحرب العالمية الأولى فعاد أدراجه على الفور تاركاً زميله مختار الذى كان قد سبقه إليها فى عام 1911 - على نفقة الأمير يوسف كمال - تركه ليخوض تجربته القاسية هناك.
- ومع صيحات ثورة عام 1919 دعا زملاءه من الفنانين والهواة إلى إقامة أول معرض مصرى فى دار الفنون والصنايع المصرية بشارع بولاق ( 26 يوليو حاليا) حيث يوجد الآن مبنى ` لا جينيفواز ` وكان للإقبال الرائع على اقتناء جميع المعروضات والمطالبة بالمزيد من مراسم الفنانين خير حافز لهم على مواصلة جهادهم الفنى بفضل دعوة الاتحادات النسائية والشعور الوطنى الذى غمر كل طبقات الشعب من أجل تدعيم النهضة الوطنية الشاملة.
- وأقيم المعرض الثانى فى عام 1920 ولقى نفس النجاح ، وأعقب ذلك تأليف الجمعية المصرية للفنون الجميلة وتولى سكرتاريتها فؤاد عبد الملك صاحب دار الفنون والصنايع ونظمت الجمعية أول معرض لها فى 15 أبريل سنة 1921 واشترك فيه 55 فنانا من بينهم 32 مصريا وفى سنة 1922 افتتح المعرض باسم ` صالون القاهرة ` واسندت سكرتاريته إلى الفنان راغب عياد.
- وفى غمرة الانتصارات الشعبية للثورة ضد الاحتلال البريطانى اتفق راغب عياد وزميله يوسف ( على ) كامل على أن يتولى كل منهما عمل الآخر ويرسل إليه مرتبه للدراسة فى إيطاليا ، ولم يمض أسبوع على هذا الاتفاق حتى كان يوسف كامل يشق عباب البحر فى طريقه إلى روما بينما تولى راغب عياد القيام بتدريس نصابه بمدرسة الإعدادية وكان يبعث إليه بمرتبه شهرياً طوال سنة 23 / 1924 .
- وفى الأجازة الصيفية سافر راغب عياد إلى روما ليلتقى بزميله يوسف كامل هناك حيث كان يقيم مع عائلته فى مسكن بالدور الثامن بإحدى العمارات الشعبية فى حى ` مونت ماريو ` وذهبا سويا للقاء الزعيم سعد زغلول عندما كان يستشفى فى ` اكس لوبان ` بعد الإفراج عنه من معتقل سيشل ، وعندما علم بتعاونهما أثنى عليهما وطلب من يوسف كامل أن يعود ليؤدى ما عليه من دين إلى زميله .
- وفى سنة 1925 وقف ويصا واصف رئيس مجلس النواب منوها ببعثة التبادل الأولى من نوعها ، وأهاب بالمجلس أن يوصى باعتماد 12 ألف جنيه سنويا لإيفاد البعثات الفنية وترجمة كتب الفنون إلى اللغة العربية ( والمطلب الثانى لم ينفذ) وتمت الموافقة على ضم الفنانين راغب عياد ويوسف كامل إلى بعثة وزارة المعارف العمومية ( التربية والتعليم حاليا) لمدة خمس سنوات ، كما أرسل الفنانان محمد حسن وأحمد صبرى ، وتبعهم الكثيرون بداية من سنة 1927، وقبل أن يعود راغب عياد إلى مصر فى سنة 1930 حاملاً ثلاثة دبلومات فى التصوير والزخرفة والترميم كان قد تقدم فى سنة 1929 إلى سفير مصر فى إيطاليا باقتراح إنشاء أكاديمية مصرية أسوة بأكاديميات الدول الأخرى ، وفى سنة 1930 - بعد عودة راغب عياد - تم افتتاح الأكاديمية المصرية على مرتفعات ` كولى ابوبو ` المطلة على ملعب الكولوسيوم فى روما مقابل إنشاء معهد ليوناردو دا - فينشى فى مبناه الحالى بشارع 26/ يوليو بعد أن كان يشغل مبنى ضيق فى شارع الألفى .
- عاد راغب عياد وعين مدرسا بمدرسة الفنون التطبيقية تحت إدارة المزخرف البريطانى ` جون إدن ` . وفى سنة 1937 وقف محمود لطيف عضو مجلس النواب يدافع عن جهود الفنانين المصريين ويندد بسيطرة الأجانب المتسلطين على الحركة الفنية ، ووافق المجلس على عدم تجديد عقود استخدام الأجانب كما نصت معاهدة
` مونتر` فى تلك السنة على إحلال المصريين محلهم ، وانتقل فناننا راغب عياد إلى كلية الفنون الجميلة فى مكان ( حمزة كار ) أستاذ الزخرفة البريطانى الجنسية - وكان محمد ناجى الفنان السكندرى أول مصرى يتولى إدارة مدرسة الفنون الجميلة بعد الفنان الإيطالى ` كاميلو إينتوشنتى ` - وفى سنة 1940 انتقل راغب عياد إلى المتحف القبطى وظل ست سنوات دب فى أثنائها الخلاف بينه وبين حنا سميكه مؤسس المتحف ( مرقس سميكة باشا) وأمين ثالث ، فانتل راغب عياد مرة ثانية إلى كلية الفنون الجميلة ثم عين فى عام 1950 مديرا لمتحف الفن الحديث إلى أن أحيل إلى المعاش فى عام 1954 وهو فى الثانية والستين .وفى تلك الأثناء دفعه وفاؤه لزميله محمود مختار إلى إعداد متحف صغير فى ثلاث قاعات كانت تستعمل اصطبلا لعربات صاحب الفيلا ` الكونت ميشيل زوغيب ` المقام بها متحف الفن الحديث على الطراز العربى ، وكان المتحف يضم ما أمكن جمعه من تماثيل مختار إلى أن أزيل المبنى مع بيت على باشا شعراوى الذى كان يجاوره بشارع قصر النيل.
- وفن راغب عياد بدأ أكاديميا كما تلقاه فى مدرسة الفنون الجميلة المصرية على أيدى فنانين إيطاليين إلى أن عاد من روما .وفى منتصف الثلاثينيات استهواه الفن القبطى والفن المصرى القديم ومن هذا المزيج استنبط فنا من الرمزية الكاريكاتيرية بخطوط زخرفية ، ومواضيعه مستمدة من واقع الحياة الشعبية مثل المداحين والمنشدين فى الموالد ، والصهبجية والراقصات فى الأفراح ، ورقص الخيل والتحطيب ، والعمل فى الحقول ، وأسواق البعير والجمال والأبقار والحمير فى الريف المصرى بتقاليده المورثة.
- وبلغت جملة ما أقامه من معارض أكثر من ثلاثين معرضاً خاصاً غير اشتراكه فى عشرات المعارض الجماعية .وكانت من أعز أمانيه أن تتيح له وزارة الثقافة التجول فى ريفنا للمزيد من الدراسة والتعبير بفنه الأصيل عن مباهج الحياة الشعبية فى الأقاليم .
- وحصل على الجائزة التقديرية الرابعة فى الفنون التشكيلية بعد الفنانين محمود سعيد ومحمد حسن والمهندس على لبيب جبر ثم راغب عياد لعام 1965 وتوفى فى 6 ديسمبر 1981 بعد اشتراكه فى المعرض العام الذى أقيم بمتحف الفنون الجميلة بالإسكندرية عام 1981.
بقلم : محمد صدقى الجباخنجى
مجلة : القاهرة ( العدد 11 ) 16-4-1985
|