- يمزج الفنان بكرى محمد بكرى فى هذه اللوحات بين المعالجات التقليدية القديمة لفن الحفر على الخشب، وبين الابتكارات الجمالية الحديثة. فهو يحتفى بمنجز هذا الفن المعروف فى التراث الإسلامى والشعبى بأدائه الزخرفى التعبيرى وبقيمه التجريدية الخالصة، ويطعمه بعناصر ومفردات تشكيلية حديثة بواسطة التصوير البارز بالحفر على قوالب ومساحات خشبية متنوعة، ويستخدم خامة الزيت كأداة لونية تكسب الأشكال المصورة حيوية ومذاقاً خاصاً. وتحرر حركتها وإيقاعها من جاذبية الأرضية الخشبية المصمتة، والتى تشكل الأساس المعمارى للتصميم.
- يتكئ بكرى فى اللوحات على الحرف العربى كمثير جمالى، ويصنع من أشعار على قنديل ومحمد عفيفى مطر، وبعض أيات القرأن الكريم وشائج بصرية، تساهم فى إنضاج الشكل، وإقامة نوع من الحوارية الفنية بين لغة الشعر، ولغة الحفر من ناحية، وبينهما وبين جماليات الخط العربى من ناحية أخرى. ويحرص على أن تظل هذه الحوارية مفتوحة على الشكل والتكوين، تتحرك فى فضاء اللوحات بليونة وتلقائية. ونلاحظ أن هذه المتكاءات تتشرب جوهر الخامة التقنى، وتشف عن حدوسات جمالية، تتخطى ما ترشح به من هواجس ودلالات شعرية مسبقة، كما أن الفنان لا يتعامل مع هذه المتكاءات على أنها مجرد حلية، أو زخرف فنى، أو قيمة خارجية مضافة إلى اللوحة، يفرًغها في وحدات مستقلة، ثم يقوم بلصقها فى التكوين، وإنما هى جزء أساسى من نسيج ولغة الحفر نفسه. تساهم فى بناء الشكل والفراغ، وتنويع مساقط النور والظل، وتهميش زوايا الأشكال والمساحات والخطوط، وكسر حدتها الهندسية البارزة، وفى الوقت نفسه، تسطيح التضاد الباده بين مساحات البارز والغائر فى اللوحات. وفى أحيان كثيرة تلعب هذه المتكاءات الشعرية دور الناظم لكل أبعاد اللوحة، وتشكيل فى الوقت نفسه المفتاح الدلالى لها، حيث تكشف عن مخزون اللوحة الروحى والجمالى، صانعةً نوعاً من التجاوب النغمى، أو ما يشبه الصدى لأجواء اللوحة الباطنية.
- فى لوحة بعنوان` لا تسل عن على` يتسيد البناء الهرمى المثلث بشكله المتقاطع والمتجاور، فراغ اللوحة من أسفلها إلى أعلاها. وعلى أضلاعه الخارجية تتناثر المقطوعة الشعرية فى تدفقات خطية متشظية وملتبسة، يصعب قراءتها، أو وضعها فى نظام معين. وفى أعلى اللوحة صورة بارزة لطائر يحلًق، وفى الوقت نفسه، يبدو كأنه محاصر بحزوزات خطية منثنية ومتعرجة، ومتقاطعة إلى حد التماهى على جناحى الطائر نفسه.
- إن سؤال القصيدة يتوحد مع سؤال اللوحة، فكلاهما يحلق فى فضاء الوجود، متسربلاً بمتاهته الخاصة، باحثًا عن الجوهر النقى للحياة وفى أسفل صورة الطائر فى اللوحة ثمة رزازً لونى شفيف.
- يتبدى على هيئة وحدات مربعة صغيرة، مطلية بنثار من الأزرق الفاتح، والأبيض المخفوق بحمرة وردية والأصفر المطفى.
- يخفف هذا الرزاز اللونى من ثقل مساحات اللون البنى الطبيعى للقالب الخشبى، الضارب فى اللوحة بتدرجاته المختلفة. والصقول بطبقة من صبغة ` الجمالكة` الشمعية كما يضفى على اللوحة جواً شعرياً مسكوناً بالدهشة والتأمل العميق.
- فى معظم اللوحات نلاحظ وجود شريط أزرق أو أحمر أو أخضر، له بريق معدنى يخترق الضوء والظل فى إشعاعات بصرية خاطفة. وبرغم أن هذا الشريط خاصة حين يستمد وجوده من نسيج الحفر نفسه ينجح فنيًا في إظهار ثراء اللون والخامة، وإبراز الأبعاد المختلفة للتكوين، وإضاءة مساحات النور والفراغ فى ثنايا الأشكال والخطوط، إلا أنه حين يتشكل من خطوط زيتية عابرة على جسد اللوحة يتحول إلى مجرد حلية خارجية مقحمة على اللوحة وعلى النسيج الرفيع للحفر نفسه.
- يبقى أن أحيى الفنان بكرى محمد بكرى فى هذه الإطالة السريعة على عالمه الخصب المرتبط بعمق وأصالة الإنسان المصرى، والذى يعيد إلى فن الحفر بهاءه الفنى الرفيع، بعيداً عن ثرثرة الاستهلاك الشعبى والمماحكات الشكلية الرخيصة.
بقلم: جمال القصاص
مجلة : إبداع ( العدد 6 ، 7 ) يونيو1997