عماد إبراهيم محمد خليل
عماد إبراهيم يعود مرة أخرى بأعمال فنية تجسد أعماق دفينة داخل الشخصية المصرية
- تمكن من تقديم حالة مصرية فريدة بفضل تتلمذه على أيدى رواد الفن أمثال محمد ناجى وأحمد صبرى وراغب عياد.. وكان يقلدهم فى البداية حتى وصل مع الوقت إلى نقطة انطلق منها .. وجسد نفسه ينظر إلى الزحام، يتأمله ولكنه لا يغوص فيه، ويبحث عن طريقة تجعله يستمتع به ويستفيد منه.
- بحث عنه فى الأحياء الشعبية وتفاعل معه فى الموالد والاسواق، وقدمه فى البداية بعين الناقد من خلال لوحة `آكل العيش ` التى تجسد الزحام والصراع فى أصدق صورهما من خلال طاولة كبيرة يعلوها آلاف البشر محاولين التقاط الخبز، ومنهم من يقع اسفل الطاولة بعد فشله فى الوصول.
- ظل شغولاً عدة سنوات بالزحام خاصة اذا كان هناك من ينتظر القطار ويقول : ` كنت أتربص القطار، انظر إليه وأتأمل البشر وهم يذهبون ويتحركون `، فشغلته مع قضية الزحام فكرة الانتظار : `هناك شئ فى حياتنا دائما ننتظره`.. كان يجلس فى المحطة ويراقب الناس، النائم والجالس والواقف، حتى يصل القطار فيتحول الهدوء والصمت إلى صراع يأخذ اشكالا مختلفة من الحركة : `جذبتنى هذه الحركة `، حتى انه انتقل معها للبحث عن إجابة للسؤال الذى شغله باله: ` لماذا يتحرك هؤلاء الأشخاص يوميا فى هذا الزحام؟ `، ففاجأته الإجابة بان هذا هو الانسان المصرى المكافح وراء لقمة العيش.
- مر القطار بمحطات عديدة حتى توقف عند قريى صغيرة فى قلب الصعيد، لينقل من خلالها الحياة فى الريف، وأبرز مظاهرها طاقة الفلاح المصرى : `عندما رسمت الريف أردت أن أقدم الحركة فيه، فكل شخص فى اللوحة له طاقة، حيث كسوت اللوحات بلون واحد ثم نسجتها مع الخط الأسود الذى يوحى بالترابط والعمق فى تلك البيئة `.
- وأصبحت المرأة الريفية بطلة فى العديد من أعماله، ليجيب من خلالها على سؤال حول ألوان ملابسها الزاهية، حيث وجد أن الريف به مساحات وفراغ، ولكى يظهر أى عنصر وسط هذا الفراغ لابد أن يكون بارزا من خلال الألوان. كما رسم الحيوانات والطيور كجزء لا يتجزأ من حياة الريف.
- لم تجذبه نساء المدن بكلاسيكيتهن، على حد قوله، بالمقارنة لامرأة الريف ذات الطابع العفوى :` لن تجد فى نساء المدينة من تحمل على رأسها الصحون أو الخبز أو حتى أبناءها وهى تسير بثقة دون خجل، فهذه الحركة وتلك القوة هما ما جذبانى إلى المرأة الريفية ` .
- الألوان دائما لدية رمز للطاقة التى تنبع من الحركة، فهى تخدم العمل الفنى اكثر من إبرازه، ` اللون هو أول ما أريد آن تقع عين المتلقى عليه بمجرد النظر إلى العمل `، ويمكن أن تجد لدية كتلة لونية زرقاء توحى بالصفاء وأخرى صفراء تعد مركزا للصراع داخل اللوحة، ويتخلل تلك الكتل اللونية الخط الأسود لابراز الوجوه داخل اللوحة، وليس لابراز الملامح حفاظا منه على مبدأ الكيان الواحد .
-فى بعض الأعمال تجده يستغنى عن الألوان مستخدما الأبيض والأسود لكى يخدم فكرة العمل، ولكن ذلك ليس اتجاها جديدا له، بل يقول :` دراما الموضوع أحيانا تحتاج إلى ذلك`، كلوحة معاناة الناس التى يحاول فيها العديد من الأشخاص فى مكان واسع التخلص من كتلة كبيرة.
- إثناء رحلته يعود مرة أخرى للزحام خاصة فى الموالد، التى كان يتردد عليها كثيراً: ` حضرت العديد من العروض حيث يأخذك صوت المزمار إلى أعماق التراث المصرى وتدهشك القوة والحركة والعصيان والدوران والإيقاع .. إنها حالة إنسانية `.
- يريد الفنان أن يجعل المشاهد يصمت أمام اللوحة ليسمع صوت ضجيج الناس وحركة التراب، وليندهش مما تفيض به اللوحة من عفوية وطزاجة، كما يريد أن يوصل له ما يفكر فيه الشخص وهو يرقص، فهو لا يقدم مجرد عرض بل يقدم أعماق وجذور داخل الشخصية نفسها.
(مروة السنوسى - حوار (عماد عبد الهادى
مجلة البيت - أكتوبر 2011
عماد إبراهيم .. ومعايشة المشهد
- يأتى المشهد فى لوحات عماد إبراهيم محملا بتلك الدرجة من الاقتراب والفهم والمحاكاة والتنوع فى التناول والأداء فالمشهد فى لوحاته يحمل ذلك الخليط الذى يجمع بين تلك السمات المركبة والتى تكون مفردات معايشته وتلك السلاسة فى التناول ووقعه وتأثيره على المتلقى والمتذوق دون أن يخل باستمتاع كل منهما بما يمارسه ويعتبر المشهد فى لوحات عماد إبراهيم متزنا مهما تطرق إلى مبالغات وخروجا عن النص التصويرى المألوف فهو من صنف المصورين المسيطرين على مبالغاتهم مهما تمادوا فيها كما أن مشهده من صنف المشاهد التى تنتمى إلى التوثيق المحمل بانطباعاته عما يسجله فى لوحاته دون الولوج إلى استعراضات إبداعية يلجأ إليها العديد من المصورين كما تنوع لديه منظور المشهد ذاته فى بعض الأحيان وفى بعض الموضوعات دون أن يفقد المتلقى إحساسه به .
- وقد صار نضوج الحالة الإبداعية لديه متوازيا مع انتقاله من حالة معايشة إلى أخرى وكذلك فى انتقاله من تقنية لأخرى إلا أن المعايشة للمشهد ظلت قاسمه المشترك فى كل تناولاته وهى ما أحدثت عنده ذلك التميز وأعطت لتصويره تلك المساحة الواسعة من البراح فأصبح مشهده التصورى من صنف المشاهد المرنة القابلة للحذف أو الإضافة دون الإخلال بالمضمون الخاص بالمشهد والمفهوم الخاص به كمبدع وما أحدث لديه تلك الميزة هو الحالة التصاعدية لمشواره فى فن التصوير ومراحله التى مر بها دون كلل أو ملل ومثابرته على طرح قناعته دون الالتفات إلى كلمات منتقد أو عزوف متلقى .
- وقد لعب التجريد واختزال التفاصيل فى مفردات المشهد لديه دورا إيجابيا فقد استطاع التعبير عن مشهده بيسر وسلاسة يحكمهما الإحساس وليس الحسابات دون الدخول فى تفصيلات مملة أجهز عليها إبداع وحرفية من سبقوه من جهابذة التصوير.فأظهر تعابير الفرح والحزن وما بينهما من درجات المشاعر من خلال لمسة فرشاة وأكد ساعة المشهد من نهار أو ليل وما بينهما من درجات الإضاءة من خلال حسن اختياره لمزيج ألوانه ودرجاتها وجاءت حركات شخوصه لتضيف موسيقى المشهد التى تأرجحت بين الصخب والهدوء وما بينهما من تفاوت لدرجات ومصادر تلك الأصوات وكذلك أتت ( بورتريهات ) عماد إبراهيم بروح شخوصه والتى أشارت إلى مناطق فى سلوكهم وطباعهم ولم يقتصر فيها على ملامحهم المميزة كما يفعل البعض من المصورين وكذلك تجلت حالات المعايشة لديه من خلال تناولاته لباقى طرحه والتى حملت رائحة المكان وأحوال أهله وهمومهم وأظهرت حالات البهجة والرهبة والرغبة وألقت الضوء على مخاوفهم وأحلامهم وأمانيهم والتى برزت من مشاهد مجموعة ( القطار ) ومجموعته عن ( العيد ) و ( ألعاب الصبية ) ومجموعة ( الانتظار ) التى أصر على إخراجها للمتلقى من خلال خطوط على خلفية من لون واحد متدرج تشعر المتلقى بتأوهات أصحاب الهموم وتنهداتهم .
- لقد أرتكز عماد إبراهيم فى كافة مشاهده على المزج بين ثلاثيته التى أصبحت تلازم أعماله وهى ( الصوت والضوء والحركة ) وقد ظهر ذلك جليا وبصورة كبيرة فى تجربته الأخيرة والتى ستكون قيد العرض منتصف هذا الشهر بقاعة ( الزمالك للفن ) والتى تعرض تناوله لمشاهده عن ( المولد ) والتى منحته ما كان ينقصه من مساحات البراح لطرح وجهة نظره عن تلك الحالة الصوفية المتخمة بالعناصر.. - فكثيرا ما تناول المبدعون تسجيل ورصد وتوصيف تلك الاحتفالات والمراسم والطقوس التى ترتبط ارتباطا شرطيا بميلاد الأولياء ومشاهير أهل الصلاح .. تلك الاحتفالات التى تنتشر فى طول مصر وعرضها والتى تتميز بها مصر عن غيرها من الأمصار والبلدان وتصاحبها تلك الاحتفالات التى يقصدها المريدين والموالين من كل فج .. لتلبية نداء ذلك الغائب الحاضر سواء كان صاحب مقام أو صاحب يوم ميلاد .وقد أهتم العديد من الفنانين والأدباء وغيرهم من أصحاب المعالجات الادبيه والفنية والتوثيقية بتسجيل تلك المراسم والطقوس التى اتخذت شكلا من أشكال العرف والاعتياد.. وقد تأرجحت حالات معالجة المتن فى الموالد ..بين متن مكتوب وآخر مصور أو اجتماع كلاهما فى معالجة واحدة تضم العنصرين .. ويأتى تناول ومعايشة (عماد إبراهيم ) كواحدة من تلك الإبداعات التى جاهدت لتضع معالجة ذات مفهوم خاص وخصوصية فى التناول وتميزا فى الأدوات والمفردات وصاحبتها تلك الهالات الصوفية التى صدرها للمتلقى فى سهولة منيعة وإسهاب غير ذى ملل .. مقدما من خلال طرحه مشهدا مركبا .. اختلطت فيه عناصر الصوت والضوء والحركة وأنتقل فى مشاهده وسط ثلاثتهم فى رشاقة تناغمت مع سلوكيات ومناسك ومظاهر وطقوس ليلة المولد بتفاصيلها وأضوائها ذات الألوان والوميض وضجيج مكبرات الصوت التى تتلاعب بها حركات الريح وانفعالات المريدين الجسدية والتى تصاحب حركاتهم مميزة بين ذلك المريد الحقيقى الهائم فى فضاء صوفى وروحى بحت وبين محتفل جاء للترويح وأصوات المنشدين وتغنيهم بسيرة صاحب المقام ..
- لقد نجح ( عماد إبراهيم ) فى فرض هيمنته على المشهد وانتزع من ملامح أشخاص لوحاته انطباعاتهم ومشاعرهم وبسط سيطرته على المشهد حركيا ولونيا وترك للمتلقى انتقاء واختيار ما يريد سماعه من ذلك البث المنطلق على خلفية المشهد المختلط الأصوات وجاءت انعكاسات ألوان أضوائه على مجاميع مشاهده بصورة زادت من واقعية إحساسنا بتلك السخونة والتى تصدرها تلك الحالة الصوفية والروحية الناتجة عن مزج تلك العناصر الثلاث ..أما مناظير مشاهده فقد قدم فيها نموذجا مزدوجا للتناسب فى العلاقة بين موقعه كمسجل للمشهد وبين مجاميع أشخاص المشهد من جهة وبين هؤلاء المجاميع وبعضهم البعض من جهة أخرى.. ونجح فى نثر أضواءه عليهم ليضع حدود وأبعاد مشهده فى تمكن ...لقد أشعرنى ( عماد إبراهيم ) بتلك الحالة الصوفية الرصينة ولآلاء أضوائها فى عينى وتحركت شخوصها أمامى واسمعنى أصواتها التى تأرجحت بين الهمهمة والنحيب والدعاء والذكر .
- لقد لعبت المعايشة دورا رئيسا فى أعمال عماد إبراهيم فصدرت لنا نموذجا بصريا عذبا ذو خلفية لموسيقى الخط واللون وحين ذهبت إلى توصيف لحالة إبداعه وطرحه فلم أجد سوى ( معايشة المشهد ) .
ياسر جاد
فتاة البرتقال... رسومات فنية على هامش موسم البهجة
- تفوح في أسواق مصر تلك الأيام رائحة ثمار البرتقال، تعد مُشتريها بالبهجات، وتُهنئهم بحصاد هدايا الشتاء، فالبرتقال ذلك المُلهم للصور الشعرية، وجد طريقه إلى قاعات الفن التشكيلي كثيمة للبهجة والحضور الطاغي؛ لكنه اتشح بسمة مُغايرة في المعرض الفني الذي يستضيفه جاليري الزمالك في القاهرة وعنوانه «فتاة البرتقال». صاحب المعرض الفنان التشكيلي المصري عماد إبراهيم، استلهم فكرته من مشاهدات حية له في قرية «مزغونة» أحد ضواحي محافظة الجيزة. فقد قادته إحدى جولاته الاستكشافية عن قصص تُلهم مشروعه التشكيلي، إلى سوق «الاثنين»، وهي سوق بقرية «مزغونة» موطن أحداث لوحاته، حيث تضج المنتجات الزراعية والمواشي، وتحتضن الخضرة حركة الفلاحين وحكاويهم، حتى قطعت حبل تأملاته «مشنّة» برتقال أُلقيت أمامه فغبّرت المكان بحبّاته، مُعلنة عن ظهور «فتاة البرتقال».
تتصاعد الدراما التي وجد التشكيلي إبراهيم نفسه مُسيجاً بها، بعد أن يُفاجأ بأن من ألقت «المشنة» هي فتاة بارعة الجمال الريفي، وصغيرة السن، يتم تعنيفها من قبل أهلها للعمل المتواصل في جمع المحصول وهي تقول: «مش ح أشيل»، ومن خلفها رجل بائس يمسك بعصا يضربها بقوة «شيلي يا بنت»، وهي تبكي وتصرخ. وما أدهش الفنان هو عدم اكتراث المارة وعدم تدخلهم، حتى علم بعدها أنها كانت تحمل ما هو أثقل من «مشنات» البرتقال، وهو ثقل أكبر في روحها بسبب إجبار أهلها لها على الزواج المبكر رغم أنها أقرب لعمر الطفولة، وهي تمثل بذلك حال مئات الفتيات من نفس بيئتها وعمرها وظروفها المعيشية.
تُبدد الحكاية الرابضة وراء اللوحات الانطباعات المُبكرة التي يُحيلنا إليها عنوان المعرض، بكل ما يوحيه من بهجة، لكنها بهجة تنحسر تدريجياً من المرور على وجوه «فتيات البرتقال» في اللوحات التي لا توحي أبداً بالبهجة، وإنما بالحزن والغضب، وجعلهن صاحب اللوحات في مواجهة بتعبيرات الوجه والجسد عن رفضهن للسوق الذي يضج بالبرتقال الناصع، مع حركة البيع والشراء. يقول صاحب المعرض لـ«الشرق الأوسط»، إن التقاطه مشهد «فتاة البرتقال» الذي عبر به مصادفة، دفعه إلى تقديمه عبر معرض فني، لمناقشة مشكلة حاضرة بقوة في المجتمع ويتم تجاهلها، على حد تعبيره. مضيفاً: «أنا مؤمن بأن معنى الفن هو تقديم وإلقاء الضوء على المشكلات والقضايا الاجتماعية والإنسانية بشكل رئيسي، في إطار جمالي وفني عن طريق معالجتي بأدواتي وخاماتي الفنية مثلما يفعل كاتب الروايات والقصص والشاعر عن طريق اللغة والصورة الفنية». يضم المعرض 25 لوحة بمقاسات مختلفة بعضها جداريات يصل طول أكبرها إلى مترين، يفرض لون البرتقال نفسه على أسطحها، قوياً ومُشتبكاً مع الألوان الأكريليك وأقلام الفحم وضربات الفرشاة. ومن المقرر أن يستمر حتى 10 ديسمبر (كانون الأول) المقبل.
ويُعلق الناقد الفني علي حامد، في كلمة سجّلها في «كتالوج» المعرض بقاعة الزمالك بقوله: «لقد أحدثت فتاة البرتقال داخل الرسام صدمة نفسية، تشكيلية وتعبيرية، وتحولت من مجرد واقعة حدثت ذات نهار حار في سوق قروية في أثناء إحدى رحلاته الريفية الاستكشافية، وهو يبحث عن أفكار وأشكال وموضوعات للرسم والتصوير، لتصير رمزاً وتعبيراً وطريقة تفكير ورؤية جديدة مُغايرة للعالم من حوله، هو صار بعدها يخزن ما يمر به من مواقف، ويستمع إلى حكايات وحوارات وشغب البشر، فيتحول كل ذلك إلى صور درامية تشكيلية تُعبر عما يدور في المجتمع، متمثلاً ومتحققاً في حالة (فتاة البرتقال)».
يأتي معرض «فتاة البرتقال» بعد عدة معارض للفنان عماد إبراهيم، آخرها معرضا «الجهنمية»، و«المولد»، ويقول إبراهيم إنهما عن طقوس شعبية مصرية، ضمن اهتمامه بمشاهد الحياة الريفية المصرية اليومية مثل، أسواق القرية، والعمل في الحقل، وألعاب الأطفال.
منى أبو النصر
الشرق الأوسط : 1 ديسمبر 2018
|