إنجى حسن افلاطون
فلاحة
- شعرت بنشوة غامرة، خلال تلك اللحظات التى أمضيتها فى معرض الصديقة العزيزة إنجى ذلك لأنى انتقلت حقا إلى الريف الذى أحببته، وإلى الأرض الطيبة التى عشت فيها وتعلقت بها .
- إنها قطع من صميم حياتنا فى الريف، وصور صادقة نابضة بالحياة والجمال، أبدعتها ريشة الفنانة البارعة، ويبث فيه من روحها ومن نبل مشاعرها ورقة عواطفها ، ودقة احساسها، ما جعلها تخفق حيوية وتتدفق تعبيرا..
- ولست أتردد فى الاعتراف بأن قلمى الذى حاول طويلا أن ينقل إلى المدينة صورا من حياة قومى الكادحين فى القرى لست أتردد فى الاعتراف بأن قلمى قد عجز حقا عما استطاعت ريشة إنجى أن تبدعه .. فالله يرعاها.
بقلم : بنت الشاطىء
1952/3 /12
فى رحلة الأربعين عاما الفن المستقل أو نقد النقد
- وكان الاكتشاف هو أولئك التلاميذ الشبان ( للمستقلين الجدد ) .
- إنجى أفلاطون ذات السبعة عشر ربيعا .. تلميذة التلمسانى منذ عامين .
- رائعة هى هذه `المناظر الليلية ` بخضراتها المتداخلة وكأنما هى أدغال من الأفاعى .. بمساواتها التى يتخللها الاصفرار واخضرار الزمرد.. وكأنها ساحرة ركبت فراشاتها، فسيطر اصفرار هو أقرب إلى لون الكبريت على لوحاتها الثلاث الممتازة .
- لوحة ألوانها لا تضم إلا الأزرق والأخضر والأحمر الداكن.. ولكن بأية براعة تستخدم هذه الألوان .
- هل تعيد هذه اللوحات إلى الذاكرة أحدا ما ؟ ربما بعض أعمال `ماسون ` الذى قد لا تعرفه قط والأمر على أية حال ليس بذى أهمية.. لأن الطابع الشخصى واضح فى أعمالها .
- وقد كشف التلمسانى عن مواهبه كأستاذ ممتاز .. فلم يكتف بأن جنب تلميذته تأثير انتاجه هو ، بل علمها كيف تستخدم ألوانها على نحو لم يعد هو ذاته قادرا عليه .
- ولو قدر لهذا النجاح ألا يدير رأس إنجى أفلاطون ، فأنها سوف تكون رسامة من المستوى الذى نحبه .
بقلم : مارسيل بياجينى
لاباترى 1942
- إن إنجى أفلاطون تختار الأوجه والجماعات وتداعب الأيدى والحركات التى يقوم بها الرجال والنساء وهم يعملون . وتعلم إنجى أفلاطون أنه إذا أراد أن يسمع صوته فلا يجب أن يكون مصطنعا أو أن يقع فريسة ( الموضة ) السائدة لذلك فإن إنجى لا تستمع إلا لذلك الصوت المصرى الذى هو صوت أصلها العريق صوت رمال ومياه النيل والآفاق الواسعة التى تحترق بلهيب داخلى .
مقتطفات من مقدمة - جان لورسا
كتالوج معرض الفنانة فى إخناتون مارس 1964
- إتخذت إنجى أفلاطون الطريق إلى فن اجتماعى وواقعى فى نفس الوقت، يبدأ من العزيمة القومية ويتحرك بتصميم فى المجلات التشكيلية مع الكائنات ومع الحياة الكاملة للناس فى وطنها ..
- ولطريقة عرضها خواص البلاستيكية الطيبة سواء فى الشكل أو اللون أو الملمس وهى لا ينقصها شىء مما يقود إلى الواقعية الحديثة، الواقعية الجديدة الأكثر نطقا والأغنى من الواقعية القديمة، الواقعية التى اتخذت الطريق نحو اكتناز كل ما أكتشف من قبل والبحث ، بالاضافة إلى ذلك، عن اكتشافات عظمى مستقلة فى نفس الاتجاه .. إنها تسير بكل ما لديها من عاطفة قوية فردية نحو فن قومى ذى أصداء عالمية .
مقتطفات من خطاب لجوزيه الفاروسيكيروس
القاهرة فى 18 /9/ 1956
- طفت ساعة بين جحيم دانتى والمطهر حتى وقعت على مشارف الفردوس التى أرجو أن أدخله قريبا بفن إنجى أفلاطون . فبعد مرحلة السريالية التقليدية فى أوائل الأربعينيات كانت هناك تلك المجموعة الخطيرة المستوحاة من سجن النساء فى القناطر وهى فى نظرى من أروع ما سجلته ريشة الفنان فى مصر : - ملحمة مصر التقدمية فى أصفاء الرجعية والعملاء وقضبان السجن انعكست على ثياب المجاهدات قاتمة حقا ولكن شرف الفن تسامى آلام الحياة ثم بدأت الخيوط والخطوط العمودية المتصلة تتقطع فازدادت مساحة الأبيض ومعها ازداد الأمل ، الأمل لهذا التطور بلغت إنجى أفلاطون مرحلتها الأخيرة بين الأبيض ليسود الخلفية والأمل يضئ الحياة ومع ذلك فنحن لا نزال مع التخيل فى الواحات وبين الرمال بيضاء حيث الماء شحيح واردة الحياة تقاوم العدم .
- توج كل هذا جلال الجبال فى سيناء.. وبهذا التحول الجديد تشيع الغنائية الجديدة فى فن إنجى أفلاطون وبعد بؤس الواحات والقناطر تبدأ تباشير الأحلام.
بقلم : لويس عوض
الكلمة التى سجلها الدكتور/ لويس عوض فى الكتاب الذهبى الشامل للفنانة 1942 / 1985
- منذ أقامت الفنانة إنجى أفلاطون معرضها الخاص الأول سنة 1952 وهى دائبة المشاركة فى حياتنا الفنية سواء من خلال فنها أو من خلال نشاطها العام . بعد رحلة فى عالم الأشكال ودراسات من أجل امتلاك سر الخطوط والألوان وجدت إنجى أفلاطون تعبيرها الخاص فى هذه التكوينات الغنية باللون ينبئ فيها الخط عن حركة وحياة ويتشكل منها نسيج باهر تصبر الفنانة على صياغته بدقة وأحكام .. لا تخفى المحاور التى يدور حولها مضمون عملها حس زخرفى نلمسه فى صياغتها.. وإذا كان ريفها يشغى بالحركة والعمل فإنه يحفل أيضا بالجمال الذى تلتقطه نظرتها وتحيله إلى ألوان وخطوط تهتز بتموجات النور .
- لو كان لبعض أعمالها أن تتحول إلى خامة أخرى لوحدت فى نسيج السجاد أو الزجاج ما يحفظ لها وضاءتها وزهو ألوانها. عبر تحولات مضى فن إنجى أفلاطون حتى انتهى إلى مرحلة تلمح خصائصها فى أعمالها الأخيرة تلك التى تمثل انتاج السبعينات هى جولات معظمها فى عالم الريف محاورها فى الحركة والعمل ومضامين أخرى تشغل عالم الفنانة ولكنه تفضى بها إلينا بلهجتها التشكيلية المميزة .
بقلم : بدر الدين أبو غازى
20/3/1973
- لقد عشت مع إنجى أفلاطون منذ صباها الفنى وأحسست أنها ولدت بالحياة كلها .. بكل ما فى الحياة من روعة الخضرة والألوان .. وقد تطورت إنجى كما تتطور الحياة . وعلى قدر ما أهيم فى جمال كل تطوراتها على قدر ما أخشى عليها مع كل تطور .. إنها الحياة .. فى انتظار التطور وأمنياته مع خشية المجهول الذى يمكن أن يحقق كل هذا التطور ..
- إن إنجى أفلاطون عبقرية فنية لا تخمد أبدا بل تزداد انطلاقا وتزداد روعة .
بقلم : إحسان عبد القدوس
1987/12/10
- كانت إنجى على الدوام جميلة رقيقة ملائكية الشكل وعلى فراش المرض كانت فى شبه إغماءة ، وقد سقط الضوء الخافت على جبينها فبدت أكثر رقة وجمالا وشفافية كأنها لوحة من لوحات `رينوار ` أو غيره من التأثيرين، ليس من لوحاتها، فهى ما رسمت إلا الفلاحين والفلاحات والمسجونين والمسجونات .
- أجمل لوحاتها لوحة صغيرة رسمتها من وراء قضبان الأشجار فى حديقة سجن النساء حاولت وحاول غيرى شراءها ولكنها آثرت دائما الاحتفاظ بها . لم أعرف مثلها لوحة تعبر عن الأمل المزدهر فى أسوأ الظروف .
- ماذا يا ترى نستطيع ـ نحن أصدقاءها الكثيرين ـ أن نفعل لتخليد ذكراها وفنها ولتعريف أوسع دائرة من الأجيال الجديدة بلوحاتها ؟
- لقد عرضت فى أنحاء العالم ونالت أرفع الجوائز ، ولكن الجمهور المصرى كان دائما أعز جمهور لديها ، فقد وهبته اعز أيام حياتها .. أو حياتها كلها .
بقلم : أحمد بهاء الدين
الأهرام 19 /4 / 1989
- وهل يمكن حقا أن نفهم فنها معزولا عن نضالها ؟ إننى لا أعنى اختيارها لموضوعات لوحاتها فحسب وإنما أعنى أسلوبها فى التعبير كذلك.. هذا الوهج الذى تشى به ألوان لوحاتها الأولى، وهذا الحزن الخفيف على الوجوه والعيون ذات النظرة المتطلعة إلى بعيد ثم هذه النمنمة التى شاعت فى لوحاتها الأخيرة وكأنها نوع من الإدراك بأن الطريق طويل، ثم هذا الاحتفال بالمرأة الشعبية المصرية فى لوحاتها وكأنه جزء من وعيها بالظلم المزدوج على تلك المرأة فى مجتمعنا .
- وعلى قدر اهتمامها بالرسم كانت إنجى واسعة الثقافة تقرأ كثيرا وتناقش كثيرا، كثيرا ما طالت نقاشاتنا فى مرسمها بمنزلها وعندما قامت لجنة الدفاع عن الثقافة القومية كانت إنجى واحدة من مؤسسيها وظلت مواظبة على حضور اجتماعاتها الأسبوعية والمساهمة فى نشاطها وفى إصدار مجلتها `المواجهة ` حتى رحيلها .
- ولقد خسرنا برحيلها أعظم خسارة وكانت الخسارة مزدوجة لاصدقائها الشخصيين وأنا منهم ـ لكن إنجى أفلاطون كانت من هذا الجيل ـ جيلنا ـ الذى بدأ يجمع أوراقه استعدادا للرحيل، ويتطلع إلى الخلف متساءلا إن كان قد أدى واجبه بما فيه الكفاية .
بقلم د.عبد العظيم أنيس
أغسطس 1989
- الظاهرة الملفتة فى مصر أن المرأة فى عالم الرسم متفوقة . وكما أن عندنا مثلث ذهبى فى الأدب وفى القانون وفى الصحافة فقد ظهر مثلث ذهبى فى الرسم أيضا ففى الأدب ظهر عندنا طه حسين وعباس العقاد وتوفيق الحكيم وفى القانون عبد الرازق السنهورى وعبد العزيز فهمى وعبد الحميد بدوى وفى الصحافة محمد التابعى ومصطفى أمين وإحسان عبد القدوس .
- وقد بدأ زحف المرأة إلى عالم الرسم وظهر المثلث الذهبى الجديد للرسامات منذ الخمسينات ويتألق الآن برسوم إنجى أفلاطون وجاذبية سرى وتحية حليم .
- ويتصادف معرضان مهمان فى وقت واحد لإنجى وجاذبية ، وهما تختلفان ظاهريا ، لأن الريف هو المكان المفضل لإنجى ، والمدينة هى المكان المفضل لجاذبية ولأن إنجى تعزف بالآلات الوترية وجاذيية تعزف بالآلات النحاسية . وإنجى تعزف انغاما وترية بالكمان فى حساسية شاعرية ورقيقة وصافية السريرة بينما تعزف جاذبية أنغاما نحاسية صاخبة تكشف عن قدرة ومهارة مؤكدة ، وأشجان وألحان لونية متقنة .
- وتكشف إنجى عن ريف مصر الذى أحبته بخروجها عن عالم المدينة الضيق فتقدم واقعية جديدة هى الواقعية الشعرية وتقدم الريف متألقا ومتأنقا ، فى فتافيت الضوء المتساقطة وخطوطها المهمشة وألوانها الصريحة غير المركبة واستخدامها الحاذق للون الساخن البرتقالى والأحمر والبارد الأزرق والكابى وتستخدم الأبيض كما يستخدم الموسيقار الصمت فى دندنة ناعمة ، فتحس حبا عميقا وتسبيحات بالضوء واللون وكأنها تعيد تنظيم ما تراه من الماء والشجر والمرأة والفلاحة .
بقلم : كامل زهيرى
الجمهورية 24 /2 /1985
- عندما شاركت ( إنجى أفلاطون ) للمرة الأولى فى المعرض الثالث لمجموعة ( الفن والحرية ) عام 1942 كانت أصغر عضو ( 17 عاما ) وقد انقضت سنتان منذ أن أكتشفها لأول مرة وعلمها ( كامل التلمسانى ) وكان هذا كافيا كى تنطلق كفنانة حرة خلال مراحلها الفنية المختلفة حتى اليوم، وأقامت أول معرض خاص لها فى القاهرة مارس 1952 ثم تبعته عدة معارض خاصة حتى عام 1985 عندما أقامت معرضها الشامل للأعمال المنفذة خلال الأربعين عاما السابقة وساهمت واشتركت فى أهم بيناليات الفنون الخاصة فى العالم وفى الصالون المستقل Independent فى باريس 1966 بالإضافة إلى هذا أقامت معارضها الخاصة فى عدة عواصم أوروبية وفى الهند .
* المعرض الثالث للفن الحر :
- المفاجأة المدهشة فى هذا المعرض هو تنوع لون الخضرة ( Verdure ) والذى يتراوح بين أعلى درجات الهذيان والخطرفة ( Delire ) فى أعمال ( Caneva ) لإنجى أفلاطون وهذه الفنانة الشابة أصغر الفنانات الأحرار فى مصر تستفيد من التسهيلات المحدودة نسبيا والمتاحة لها بذكاء نادر إنها تحطم كثافة أشجارها وتشابك أغصانها بمساحة شفافة معبرة لكى تعمل على تهدئة عين المشاهد وهى ببراعة تصف وتحدد بؤرة عملها على الـ Canevas أحيانا ببقعة ضوء تأتى من باطن الأرض عن طريق طائر حالم يتحدى ويقاوم هدوء الفضاء أنها بمهارة ترتب كل العناصر لعالمها الخيال حول هذه البؤرة وقد يكون الخيال الفنى لانجى أفلاطون هو الخيال الأكثر تحررا وتطورا فى هذا المعرض وهذا بحق نوعية ( Qualita ) غير عادية ربما يكون ما تحتفظ به فى هذه الموهبة الصغيرة ضد رد الفعل لكل من العامة والنقاد .
بقلم : جورج حنين
- إن `كلمة فلاح ` تعنى الشىء الكثير وهى تشمل مختلف أنواع العمل والملامح الشخصية للفلاحين Lespaysans المصريين ( وإنجى أفلاطون ) أستاذة كبيرة فى فن البورترية portraits .
- إن فرشتها السريعة تمسك وتلتقط فى الحال بكل ما هو مهم ونمطى ( Typical) بدون الانتباه إلى التفاصيل فالبستانى وصياد السمك حاملا شبكة الصيد وصانع الخزف يعمل بعشق وحب وراعية غنم تعتنى بعنزاتها كل هذا ما هى إلا صورة متماسكة فنية وهى فى الوقت نفسه صور عامة ابدعتها واثرتها (enrchesser ) برؤية إبداعية للفنان ( تحكى قصة الجمهورية العربية المتحدة وشعبها بالألوان بعيدة عن الدراسة الفنية فى أنشودة الرعاة ( idylle) إنها تكرس عملها لكفاح الشعب العزلى من أجل الحرية والاستقلال ( رعب الغزاة ) ، ( لاجىء من سيناء )، ( فلسطين ) .
1970 الأدب الأجنبى رقم 11 - 1970 موسكو
فرنسية عن ترجمة انجليزية للغة الروسية
- ولكل فنان حقيقى فترة يولد فيها من جديد أو يعيد اكتشاف نفسه والعالم مثلما كانت الرحلة إلى الجزائر بالنسبة لديلاكروا ، وفترة العمل بمنجم الفحم بالنسبة لفان جوخ ، وفترة الحياة بجزر تاهيتى بالنسبة لجوجان ورحلة المغرب العربى بالنسبة لماتيس ورحلة الحبشة بالنسبة لمحمد ناجى .. وهكذا كانت فترة سجن النساء بالقناطر الخيرية هى إعادة اكتشاف إنجى افلاطون لموهبتها وللحياة معا وهى الخمائر الحقيقية لنضج الشخصية المتفردة لها فى التصوير الزيتى .
- وكما رسمت السجينات فى حالاتهن وتجلياتهن المختلفة فرادى وجماعات فى طوابير الطعام وعنابر النوم أو حصص الوعظ أو مشاغل التأهيل المهنى كذلك رسمت من خلال نوافذ العنبر المطل على النيل المراكب التى تحمل بلاليص الفخار وأشرعتها المعبأة بنسائم الحرية ورسمت الصيادين والمراكبية والحمالين الذين تحملهم تلك المراكب وتلك جميعاً كانت أجنحتها الخضراء الفضة للتحليق بعيدا نحو عالم الحرية المفقود .
- من حياة الترف إلى عذاب السجن :
- فبعيدا عن الأضواء والجماهير ، ومن خلال التأمل الهادىء فى ليالى الصمت أدركت أن المعانى السياسية الزاعقة لا تكفى لتعطى للعمل الفنى قيمته وأن هناك جوهرا أعظم يكمن فى خلاصة الإحساس بهذا المعنى وابتكار شكل جديد يحمله .
- ومن خلال الحرمان الطويل من مشاهدة الطبيعة ـ إلا ما يسمح به مستطيل نافذة العنبر المحجوب بالقضبان ـ أدركت أن الطبيعة هى المعادل للحرية ، وأن جمالها سيظل الملهم الأكبر للفنان .
- وإذا كان جمال الطبيعة محورا للفن وتعبيرا عن الحرية فإن الجمال يبلغ جمال حفل العرس والزواج حين يغمر الإنسان الطبيعة بالعمل ، والعمل رمز للإنسان مثل ذلك المراكبى الذى كانت ترسمه على صارى مركب عبر نافذة العنبر .
- وما دامت قد انتقلت باللوحة إلى صعيد آخر ، والتعبير عن معنى الحرية ، فقد أصبح للحركة فيها مفهوم مختلف عن مفهوم الحركة العضوية أو الخطية المباشرة .
- وقوام الحركة الجديدة هو الضوء القوى واللون الناصع واللمسات المتوهجة المتزاحمة .
- وأصبحت سرعة الإيقاع فى اللوحة بديلا تعبيريا مناهضا للصمت المفروض والزمن الممطوط وذلك عن طريق ضربات الفرشاة القصيرة المتلاحقة فى مسطح صغير حيث تتراصف المشخصات وتتلاحم موحية بالضجيج .
- تلك القيم الخمس أصبحت أعمدة راسخة لأسلوبها الفنى الذى تميزت به منذ خروجها من السجن عام 1963 ، واتجهت إلى القرية ترسم وترسم ، تهتم بالإنسان ، بالعمل ، بالحركة ، باللون ، بالضوء ، بالملمس ، بالإيقاع ، بالإحساس الذائب فى نسيج لغتها التشكيلية المبتكرة ، التى لا تعرف هل تذكرك بالانطباعيين أم بفان جوخ أم بالسجاد الفارسى أم بالزخارف الصينية واليابانية القديمة ، فنسيجها التصويرى يتألف من بقع لونية متجاورة ومتوالية وضربات ضاربة لاهثة من فرشاة لا تعرف السكينة على أرضية بيضاء ناصعة ، حرصت إنجى على أن تبقى منها ثغرات ضوئية متناثرة وسط الضجيج اللونى فتحدث وميضا بصريا كدنانير تفر من البنان على حد وصف الشاعر العربى القديم .
- أصبحت لوحاتها احتفالات طقوسية بالخصوبة والتجدد والعطاء فى الطبيعة ، أغنيات مرحة للجنى والحصاد ولزهو الإنسان بسيطرته على الطبيعة التى صارت بين يديه امرأة فاتنة تسلم له ثمارها وهى مزدانه بأبهى زينه ، أما دقات الدفوف وجلجلة الزغاريد فى هذا المهرجان فهى ضربات الفرشاة المحملة بالأحمر والأخضر والأصفر والأزرق والطوبى ، وكأنما أطلقت هى الأخرى من اعتقال طويل ، فصارت كل ضربة فرشاة تولد من داخلها دوامة من الضربات المتباعدة حولها فى مجال فلكى خاص كعناقيد النجوم فى سماء صافية ، وهى أيضا معزوفات تقترب أحيانا من ضجيج الآلات النحاسية احتفالا بالحرية المستعادة ، وأحيانا تقترب من دندنة العود ، لهذا فنحن لا نكاد نجد فى هذه اللوحات فراغا أو مساحة لونية ساكنة ، على شاكلة الفنون الشرقية بوجه عام .
- على هذا الدرب سارت إنجى معظم مراحلها الفنية التالية حتى نهاية رحلتها ، وإن تضاءل الزحام فى لوحاتها شيئا فشيئا وحلت محله مسحه تأملية صوفية أو حالمة ، فقد انفسح المجال للمساحات البيضاء بين عناصرها المجسمة أو لمساتها اللونية الصاخبة وتزايدت الومضات التى تتخلل غصون الأشجار وسيقان النخيل وسعفه وأبراج الحمام . إن هذا الفراغ المضىء بغير شمس، فى مجموعات لوحات سيوة والواحات وسيناء الجنوبية والعريش والأقصر.. تلك المناطق التى ظلت إنجى وفيه لها تزورها كما يزور المتيم أضرحة الأولياء .. هذا الفراغ يعطى إحساسا مخمليا دافئا وإحساسا بالشفافية فى نفس الوقت.. إن اللانهائية والصفاء والوهج الأبيض الحنون الذى يضىء ولا يحرق لم يكن مستمدا من طبيعة خارجية ، بل من أعماق روحها، وإن المرء ليشعر بأن اللوحات قد امتلأت بالهواء النقى كأنفاس هادئة تتردد بانتظام من رئة غير مرئية.
- وقد عاشت إنجى أفلاطون ستة وعشرين عاما بعد خروجها من السجن تكرس حياتها للفن والدفاع عن حق الآخرين فى الحرية والحياة ، تصدر الكتب عن حقوق المرأة ، وتشارك فى المنظمات الإنسانية والثقافية والسياسية، وتتعرض للمطاردة والاعتقال، وتستبعد من قوائم التكريم وجوائز الدولة ومقتنياتها، حتى أن مجموعة أعمالها بمتحف الفن الحديث أقل من أعمال أحد الفنانين الشبان، فى الوقت الذى قدرت قيمتها أكبر الهيئات الدولية ومنحتها الحكومة الفرنسية أعلى وسام لديها وهو وسام الفارس كما دعيت لتعرض لوحاتها فى مختلف عواصم العالم شرقا وغربا .
بقلم : عز الدين نجيب
( نقوش فوق الضوء إنجى أفلاطون ( 1924 ـ 1989
- إحتلت الفنانة إنجى أفلاطون مكانة رفيعة فى تاريخ الفن المصرى الحديث .. لم تكن فقط واحدة من أهم فنانات الجيل الثالث الذى بدأ تألقه مع بداية الأربعينات وحتى نهاية الثمانينات.. ولكنها أصبحت واحدة من أهم فنانات الحركة التشكيلية فى مصر طوال تاريخها الحديث ضمن الأسماء الكبيرة الرائدة : مرجريت نخلة ـ عفت ناجى ـ تحية حليم ـ خديجة رياض ـ جاذبية سرى ـ مريم عبد العليم ـ زينب عبد الحميد وغيرهن .. معظمهن مصورات للحس الإجتماعى المصرى والروح الشعبية واضحة فى أعمالهن خاصة إنجى أفلاطون التى إنشغلت بالعمل الإجتماعى وإنضمت إلى الإتحاد النسائى ومزجت حب الوطن بحب الفن فى ملحمة حياتية أكسبت إبداعتها شاعرية لمناضلة تتجه بنقوشها فوق قماش الرسم إلى الضوء والحرية والحقيقة أكسبتها شهرة وتواجد وتقدير عالمى .
- ولأن إنجى أفلاطون رحالة عظيمة فى ربوع الوطن .سجلت معظم ملامحه فى لوحاتها فإن رحلة إبداعها المثيرة قد سجلت ثلاثة مراحل مهمة .
المرحلة الأولى .. سريالية الذات
- فى السادس عشر من شهر إبريل عام 1942 ولدت إنجى أفلاطون فى قصر صغير منعزل بالقاهرة لأسرة أرستقراطية من أصول تركيا تفكر وتحلم وتتكلم بالفرنسية التى كانت تمثل روح الثقافة المصرية فى ذلك الوقت.. حتى أن الطفلة إنجى المتمردة دائما إستطاعت فى شبابها أن تتعلم اللغة العربية وأن تتحدث بها بلهجة مصرية خالصة وقد أضطر والدها حسن إفلاطون ( عميد كلية العلوم وعالم الحشرات الشهير ) إلى إخراجها من مدرستها الداخلية ـ القلب المقدس الفرنسية ـ وإلحاقها بمدرسة ـ ليسية الحرية الفرنسية ـ ليتمكن من متابعتها والحد من تمردها وشقاوتها وفى مدرسة الليسيه ظهرت أول بوادر موهبتها الفنية حين رسمت بتلقائية رسوماً مصاحبة لقصص شقيقتها والتى نشرها خالها فى مجلة يصدرها فى ذلك الوقت منتصف الثلاثينيات باللغة الفرنسية .
- ولعل والدتها التى تتميز بحس فنى وشخصية قوية وعقل ذكى وتعد أول مصممة أزياء فى شرقنا العربى هى التى دفعتها إلى مرسم الفنان الفرنسى إمبير عام 1941 وعمرها لم يتجاوز السابعة عشر عاما لتتعلم أصول الفن..وبعدها بعام تعرفت على الفنان كامل التلمسانى الذى زودها بثقافة فنية رفيعة
- وقد تميزت لوحات إنجى أفلاطون فى هذه المرحلة بالجو السريالى الذى كان سائدا ومنتشرا كالموضة فى ذلك الوقت.. وكانت ترسم أحلامها وخواطرها وكوابيسها فوق أرضية سوداء بطريقة روائية .. ومن أهم لوحات تلك الفترة ( الوحش والطائر 1941 ) ، ( الحديقة السوداء 1942 )، ( إنتفاخ شجرة 1943 ) وكان من الطبيعى أن تشارك الفنانة الشابة وبدعم من التلمسانى فى أنشطة جماعة الفن والحرية ( 1939 ـ 1945 ) والتى تضم فؤاد كامل ورمسيس يونان وجورج حنين والبير قصيرى وغيرهم .. وتعد هذه المرحلة التأسيسية فى إبداع وثقافة الفنانة بمثابة مرحلة القلق والتوتر والبحث عن ذاتها الحقيقية.. حتى أنها نقمت على الفن والفنانين والسريالية وكوابيسها وغموضها فتوقفت عن الرسم وإتجهت بقوة إلى العمل الجماعى الاجتماعى وإلى الأنشطة النسائية والحزبية وذلك من عام 1946 وحتى عام 1948.
- ومع إرتباطها بوكيل النيابة محمد محمود أبو العلا الذى إستقال من عمله عام 1950 ليتزوجها .. وجدت ما كانت تبحث عنه من استقرار وهدوء نفسى وسلامة للرؤية الفنية ونضج إبداعى لتبدأ سلسلة من اللوحات ذات الحس الإنسانى الاجتماعى والذى سيميز مسيرتها بعد ذلك ..
- فأقامت معرضها الأول عام 1951 وعرضت فيه بعض من أهم لوحاتها ( زوج الأربعة )، ( روحى وإنتى طالق ) ، ( لن ننسى ) عن الكفاح المصرى المسلح ضد الإنجليز فى القناة .. فمزجت بين قضايا المجتمع المصرى وقضايا الوطن . ومع وفاة والدها وزوجها فى عام واحد 1956 إندفعت إنجى أفلاطون فى العمل الوطنى والسياسى وتنقلت فى عدة مراسم مختلفة أهمها مرسم الفنانة الكبيرة مارجو فيون وتعرفت فيما بعد على العديد من الفنانين المرموقين فى ذلك الوقت كحامد عبد الله وسعد الخادم اللذين تركا أثراً كبيراً على مسيرتها الفنية بعد ذلك وعندما تم القبض عليها لنشاطها السياسى والحزبى بدأت إنجى أفلاطون رحلتها الثانية فى الإبداع .
المرحلة الثانية.. نافذة الواقع
- فى عام 1959 حصلت إنجى أفلاطون على الجائزة الأولى فى مسابقة ( العمل فى الحقل ) ولم يمكن تبليغها بالجائزة لأنها أودعت سجن النساء بالقناطر الخيرية قبل ذلك بيوم.. كان السجن بمثابة ضريبة إشتغالها بالقضايا الوطنية .. ولكنه كان أيضا جواز مرورها إلى عالم الفن الرحب متجاوزة إرهاصتها الأولى كهاوية.. وسرعان ما نجحت فى أن يحضروا لها الألوان والفرش ومسطحات الرسم وقد ألهمها الضوء المنبعث من النافذة الصغيرة ذات القضبان فى زنزانتها بالعالم الرحب والمشرق بالخارج.. كما ألهمها وضع السجينات وراء القضبان بقيمة الحرية ومعاناة البشر أى كانت طبيعة سجونهم مادية أو نفسية .
- وبدأت مرحلة تعبيرية قوية رسمت خلالها السجينات فى عنابر النوم وطوابير الطعام وحصص الوعظ ومشاغل التأهيل المهنى.. إلا أن أهم ما رسمته هو ما شهدته من وراء قضبان نافذتها.. الطبيعة الخلابة للنيل وأشرعة المراكب المنطلقة والحقول والفلاحين.. هنا بدأت لأول مرة ترسم مباشرة فوق أرضية قماش اللوحة دون تحضير وتعمل على إحلال الألوان المضيئة المشرقة محل الألوان القاتمة الصماء المعتمة.. وتتخلص من الظلال المقبضة لتسمح لبعض الضوء الساقط يحقق لمسات من الحرية المرجوة .
- وحتى خروجها عام 1963 أى قرابة خمس سنوات فى المعتقل .. نضجت الفتاة المتمردة وأصبحت فنانة واعية مثقفة رفيعة .. متمكنة من أدواتها فى الرسم والتصوير .. منتظرة الخروج إلى بحر النور والضوء والحركة والانطلاق لتغنى أغانيها للطبيعة المصرية وللإنسان المصرى المكافح منذ فجر التاريخ .
المرحلة الثالثة .. ضوء الحياة
- مع توهج حركة الإبداع والثقافة فى حقبة الستينات من القرن الماضى خرجت إنجى أفلاطون كرحالة عظيمة إلى ربوع مصر : الريف والصحارى .. والنجوع والواحات .. الدلتا وجنوب الوادى .. حملت ألوانها إلى سيوة والواحات وسيناء وفى كل مكان فى مصر .. كانت نهمة فى رسم كل ما تراه وتحسه من تنوعات الطبيعة وثرائها.. فتوسعت فيما أصبح أسلوبها وشخصيتها الفنية المميزة .. لم تعد تعمل على تحضير سطح لوحاتها .. كانت ترسم فوق القماش الأبيض مباشرة.. وبدلاً من أن تلون المساحات لتتورط فى حسابات الظل والنور والتجسيم والتسطيح .. إكتفت بوضع نقط بفرشاتها الممتلئة بالألوان.. نقط متجاورة إستطالت فيما بعد إلى خطوط أشبه بالحروف الموسيقية.. فهل كان وقوفها تحت أشعة الشمس فى منظر خلوى إلهاما لها لأن تتذكر الفنان الهولندى فان جوخ ووقفاته المشابهة .. وأسلوبه التنقيطى الذى تحول هو الأخر إلى خطوط كالأمواج الصاخبة.. لقد تلبستها على كل حال روح الإبداع وغمرها ضوء الحياة وأصبح أدائها هذا يضفى على كل موضوعاتها قدراً هائلاً من الحيوية فى تفسيرها للطبيعة .
- وهكذا عبرت إنجى أفلاطون بأجمل وأصدق تعبير عن ريف مصر فى لوحات أشبه بالمواويل الملونة فرسمت : راكبى المعدية والعاملات فى الحقل وجبال الصعيد وحقول القصب والذرة والبرسيم وجنى القطن وبساتين الموالح والموز والبرتقال والخوخ ورسمت النخيل فى ملاحم رائعة .. جنة أرضية هى الريف والطبيعة المصرية .. الغروب فى أسوان والبيوت فى الواحات وأبراج الحمام وقد تعانق كل هذا فى ضوء باهر ممتلىء بالصحة والتفاؤل والحيوية عوضت بهما كل سنوات السجن والبحث الدائم عن هويتها وطموحاتها.. والتحم البشر والطبيعة فى نسيج واحد خيوطه تغزل بها لوحات أشبه بالخط العربى وتنويعات الخيامية بزخارفها الإسلامية ويشع الضوء من سطح قماش اللوحة ليزغلل ويداعب عين المشاهد كالمشربيات العربية الأصلية .
- صنعت إنجى أفلاطون بإبداعاتها مساحات لانهائية من الفسيفساء الرائع فيه روح الشرق والانتماء إليه فى بحثها عن السعادة والبهجة والحرية .
- وبعد ستة وعشرون عاماً من خروجها من السجن المعتم ومعايشتها لبهجة نور الحياة .. رحلت إنجى أفلاطون سعيدة راضية مرضية إلى نور الأبدية بعد عيد ميلادها الخامس والستون بيوم واحد .. ماتت الفنانة الكبيرة فى السابع عشر من إبريل 1989 تاركة ذكريات حميمة لكل من عرفها وتاركه كنوز من أعمالها التى يسلط عليها الضوء فى هذا العرض المتحفى الشامل تقديراً لمكانتها الكبيرة فى عالم الفن الرحب .
بقلم : عصمت داوستاشى
إنجى .. والحرية
- على الرغم من أن الفنانة `إنجى أفلاطون` ( 1924 - 1989 ) تأتى فى طليعة الجيل الثالث من عمر الحركة التشكيلية المصرية، التى يؤرخ لها منذ بداية النهضة الفنية مع رياح القرن العشرين العاتية، إلا أن `إنجى ` واحدة من قلائل تجاوزت إسهاماتهن حدود جيلها، لتحتل مكانة بارزة تجعلها من فنانى الصفوف الأمامية، أصحاب الدور الفعال والمؤثر على مدار تاريخ الحياة الفنية عموماً .
- يرجع أهمية دور `إنجى أفلاطون ` ليس لكونها الأرستقراطية التى تمردت على طبقتها بخروجها من محيط أسرتها إلى العمل والمجتمع الكبير فى زمن كانت سبل الترقى الاجتماعى مفتوحة أمام أفراد طبقتها، وليس لأنها صاحبة إسهام قوى فى مجال الكشف عن الضوء كقيمة جمالية فى الحياة والفن ، لكنها صنعت مزيجاً نادراً جمع بين حب الوطن والفرد فى آن واحد، عبر ارتباطها المبكر بالشعور والتيار القومى المتدفق المتوهج فى أربعينيات القرن الماضى عندما انخرطت ضمن نسيج جماعة ( الفن والحرية ) وهى الجماعة التى أثرت أفكارها على توجهات الفنانة الثورية ، ودفعتها إلى العمل النسائى العام .
- لذا يأتى معرض الفنانة `إنجى أفلاطون ` بقاعة أفق واحد اعترافاً بقيمة هذه الفنانة التى طرحت نموذجاً فريداً لعطاء المرأة فى وقت كانت مصر تقيم دعائم نهضتها الحديثة، وهو العطاء الذى يضعها فى قائمة شرف رموز التنوير، سواء بوعيها بدور الفن فى المجتمع أو بإسهامها الرائد فى مجال العمل الوطنى .
أ.د/ أحمد نوار
لوحات السجينات المهمشات أكبر حافز لقراءة مسيرة ابنه البرجوازية التى اختارت صفوف الفقراء
- قد تكون المناسبات العديدة التى ترتبط باسم الفنانة انجى أفلاطون فرصة لاعادة قراءة مذكراتها التى حررها وقدمها سعيد الخيال وأصدرتها دار سعاد الصباح فى1993 بعد أربع سنوات من رحيل الفنانه. وربما أيضاً التفكير فى إعادة طبع مذكرات إحدى علامات الحركة التشكيلية المصرية وإحدى وجوه حركة النضال الوطنى التقدمى، حيث تقيم حاليا قاعة عرض سفر خان بالزمالك معرضاً لجانب من لوحاتها الغزيرة بعنوان (( حياة فى صراع )) بالإضافة إلى كتالوج يشتمل على المقتنيات العديدة التى آلت إلى الوريث الوحيد أبن شقيقتها، قامت بتحريره وإصداره السيدة شيرويت شافعى الخبيرة الفنية، كما تحل ذكر رحيلها الخامسة والعشرين فى العام القادم وكذلك ذكرى ميلادها التسعين، حيث ولدت فى 16ابريل 1924وتوفيت فى 17 من نفس الشهر فى 1989.
- وهى المذكرات التى عكفت انجى على تسجيلها وإعادة صياغتها مرات ومرات تحت إشراف رفيق النضال السياسى فى صفوف الحركة الشيوعية المصرية سعيد الخيال، وبرزت فيها روح التلقائية الإنسانية المرحة التى ميزت الفنانة فى كتابتها، كما كانت فى لوحاتها، لتسرد من خلال سيرتها الذاتية نشأتها فى الطبقة البرجوازية العليا وتفتح وعيها السياسى مبكراً، وإيمانها بالاشتراكية العلمية فى ارتباط التحرر الوطنى بالتحرر الاجتماعى، ودفاعها عن قضية المرأة إيماناً منها بأنها الطريق لتحرر المجتمع. حيث أسست أفلاطون رابطة الفتيات الجامعيات وفتيات المعاهد التى كانت تدعو للمساواة وتطالب بحقوق المرأة فى المجتمع، كما كان لها مؤلفات مهمة فى هذا المضمار مثل (80 مليون امرأة معا) و(نحن النساء المصريات) وحين اعتقلت ما بين 1959 و1964 استكملت رحلتها الفنية مع التصوير الزيتى رغم صعوبة الوفاء لموهبتها الفنية وسط حياة السجن القاسية، فكانت تشكو دائما من احتفاظ مصلحة السجون بأعمالها، حتى تم السماح لها بعد كفاح بالاحتفاظ برسوماتها، ومنها ما يمكن لزائر المعرض مشاهدتها وتأمل كم التلاحم ما بين القناعات الأيديولوجية والصدق الفنى. فتجربة السجن بكل مراراتها قد حولتها روح الفنان إلى إبداع صاف، إلى تجربة ثرية تسمح لها بمعايشة السجينات وتلمس العدالة الاجتماعية الغائبة التى طالما حلمت بها، بل والتعرف على الطبقات المعدمة والمهمشة فى المجتمع عبر زيارة العنابر المختلفة، وخاصة عنبر المدد الطويلة الذى كان يضم النساء المحكوم عليهن فى جنايات القتل والاتجار بالمخدرات، كما تروى فى مذكراتها.
- وتضم المذكرات أيضاً مجموعة من الخطابات التى كانت انجى أفلاطون ترسلها إلى شقيقتها جولبيرى، أو (بولى) والتى كانت أقرب إلى توءمها الروحى، وتعكس ليس فقط مشاعرها اليومية فى أحد المعتقلات المصرية لكنها تصور مشاهد مهمة وبكتابة أدبية بسيطة وعميقة تنتمي لأدب الرسائل الذى يحظى دائما بالاهتمام من القراء، ويعكس كل ذلك قناعتها بأن الفن ليس إلا التعبير الصادق عن المجتمع والذات.
- ففى إحدى هذه الخطابات الموجهة إلى شقيقتها، تكتب ابنة الأرستقراطية ((المتمردة على طبقتها وزاهدة فى رخاوة تلك الطبقة))، قائلة من خلف قضبان السجن: ((العزيزة بولى.. لا يمكنك أن تتصورى فرحى حين وصلنى جوابك المؤرخ 27/6. كان أول أخبار تصلنى منكم بعد اعتقالي .. قبل كل شئ أهنئ ماما بمناسبة عيد ميلادها .. أنا فى صحة جيدة. وقد تعودت على الحياة هنا بشكل عام باستثناء الأكل لأنه فى مستوى أقل من المعقول وكميته قليلة جداً. أنني اكتب لكم الآن من برجى العالى فى الدور الثالث من السرير. حيث أصبحت رياضية من الدرجة الأولى بسبب الطلوع والنزول. أنني سعيدة لحسن اختياري لهذا الدور الثالث لأني أستطيع أن اعتكف فيه عندما تكثر الدوشة فى العنبر تصورى عشرين سيدة فى عنبر واحد طول الليل والنهار يأكلن ويشربن ويتكلمن ويلعبن ويهزرن وينامن معا! (..) أرجو أن تسعى لدى المباحث كى يوافقوا على تسليمى أدوات الرسم ..)).
- كما تروى انجى أفلاطون فى مذكراتها عن بدايتها مع الفن ((الحقيقى)) على يد الفنان كامل التلمسانى، وهى مقاطع تثير فضول القارئ للاطلاع على جزء مهم من تاريخ الحركة ليس فقط الفنية بل والوطنية فى تلاحم قلما يتواجد فى شخصية واحدة، ولذا ندعو لاعادة طبع هذه المذكرات وعن الإفراج عن مذكرات جولبيرى أفلاطون التى قام المركز القومى للترجمة بنقلها إلى العربية عن الفرنسية لكنها لم تر النور بعد. حيث تحكى بطرافة تميزها عن تتلمذها على يد أحد فنانى جيل الأربعينيات من القرن الماضى.فبعد أن ضاقت من دروس الرسم السطحية التى كانت أسرتها توفرها لها وتمردت عليها، اقترحت إحدى صديقات أمها اسم كامل التلمسانى الذى كان مثل غيره من الفنانين فى ذلك الزمان لا يستطيعون العيش من عائد لوحاتهم فقط .
بقلم : دينا قابيل
الشروق - 14/ 1/ 2013
كانت الفنانة إنجى أفلاطون فى مطلع مشوارها الفنى فى الأربعينيات تسقط خيالها عفواً على قماش لوحاتها، وكانت السريالية التى انتهجتها أسلوباً لها تحقق لها ذلك دونما حاجة إلى قدر من الصنعة، لكنها حين عادت إلى الرسم بعد انشغالها بالعمل الاجتماعى، أحست بالحاجة الى التعبير عن مشاعرها وأفكارها وخيالاتها، فبدأت مع `مارجوفيون 1907` بمرسمها بالمعادى عام 1948 أولى مداخلها الأكاديمية إلى ميدان الرسم، ثم تتلمذت على يد الفنان حامد عبد الله بمرسمه مع صديقتها الفنانة `تحية حليم`، تعلمت إنجى الرسم والتكوين وانطلقت مع خيالها ورؤاها فى الطبيعة تتأمل وتسجل خواطرها.. كما اكتسبت أسرار الصنعة من مصادر مختلفة، وتجارب متعددة، أحسنت فى التعبير عن إحساسها الدافق، ونجحت فى رسم الطبيعة المصرية التى يغلفها الضوء الساطع بألوان حية فى هارمونية وتوافق..
إن لوحات `إنجى` بكل ما تحتويه من موضوعات تدور حول الطبيعة والإنسان لها أصول تعود إلى الرسوم التى نفذتها أثناء رحلاتها ومشاهداتها الدائمة سواء فى قرى مصر وريفها أو فى الخارج. شأنها شأن محمد ناجى، وحسنى البنانى، كامل مصطفى وغيرهم.. ومن الرسوم التى عرضتها فى معرضها الشامل فى شتاء 1985 بمجمع الفنون بالزمالك - وتضمن رسوماً لموضوعات مختلفة منفذة بالفلوماستر والألوان المائية والباستيل عدت تأكيداً على قدراتها فى استخلاص رؤاها الجمالية للبيئة المصرية فى خطوط بسيطة وقليلة أو فى لمسات لونية متجاورة وطازجة.. فالرسم من الطبيعة يعنى لها الاختيار الموضوعى الأفضل كما يمنح العمل `الخيال والحيوية` فهى عندما ترسم بالخط لكى تحصل على الحركة و`الفورم` وعندما ترسم بالألوان المائية لكى تقتنص لحظة الضوء واللون فى الطبيعة وتعبر بهما عن الإحساس بالمكان.. ودائماً ابدأ تستعين `إنجى` برسوماتها من الاسكتشات أو الدراسات المتأنية الملونة بعد إعادة تشكيلها وعمل التكوين المناسب.. أو قد يصل الأمر فى تنفيذ إحدى دراساتها الملونة كما هى على اللوحة عن طريق التكبير `بالفانونس` ثم إضافة بعض التعديلات المناسبة، وهذا الاجراء استثنائى وليس فيه قصور، فلكل فنان أدواته وطريقة أدائه الخاصة..الكروكى..
د. رضا عبد السلام
من كتاب الرسم المصرى المعاصر
إنجى أفلاطون ..حرية السجن!
- إذا كانت الفنانة` إنجى أفلاطون` واحدة من الفنانات القلائل اللاتى جاء إسهامهن من خارج أسوار الأكاديميات الفنية ، فلأن بذرة التمرد ترجع إلى طفولتها من يوم أن رفضت الاستمرار فى الدراسة بمدرسة ` الساكركير` - مدرسة القلب المقدس - المدرسة الارستقراطية الفرنسية التى تخضع تلميذاتها لنظام صارم وتنجح فى إقناع أسرتها بترك هذا المجتمع المرفه إلى مدرسة ` الليسيه الفرنسية ` التى تتمتع بحرية أكبر وصرامة وأرستقراطية أقل وهى الحرية التى وجدتها فى المناخ الذى بحثت عنه أيضاً فى الجماعة الثورية ` الفن والحرية ` بعد أن درس لها الفنان ` كامل التلمسانى`
- فى الأربعينات من القرن العشرين كانت ` إنجى ` ابنة ` محمد باشا أفلاطون ` الأستاذ المرموق والعالم البارز فى مجال علم الحشرات ، وصغرى` فنانى مصر المستقلين فى وقت كان عمرها سبعة عشر عاماً، عندما وصفت بأنها ساحرة ركبت فرشاتها لتستثمر الإمكانات الفنية المحدودة المتاحة لها بذكاء نادر.
- دفعت ` إنجى ` دفعاً برغبة داخلية لتجاوز قواعد البيت الأرستقراطى ولغته الفرنسية ومجتمعه المغلق الصغير الذى يضم مجموعة من الأسر المسلمة التى تنتمى إلى أصل تركى .. وهو مجتمع معزول عن عامة الشعب، ومع ذلك اتصلت ` إنجى` عبر عالم الأدب والثقافة، وعن طريق أختها الكبيرة ` جولبرى` الأديبة المعروفة حينئذ بالمتحدثين بالفرنسية بالأفكار الثورية لمجتمع المثقفين فى الأربعينيات.
- فى الوقت الذى كان يحاول فيه والدها أن يوجه ميلها الفطرى للفن بتكليفها بأن تعمل بعض المستنسخات العالمية وأطاعته مرة، لكنها تمردت على هذا النوع من الرسم الذى يلغى ذاتيتها ويركز على النقل الأمين والحرفى بغير انفعال، ووجدت ضالتها عندما اختارت لها الأسرة مدرساً جديداً للرسم هو الفنان الراحل ` كامل التلمسانى` أحد مؤسسى ` جماعة الفن والحرية` والرسام والمصور قبل أن يعمل بالإخراج السينمائى وتحفظ له المكتبة السينمائية واحداً من أهم أفلام الواقعية المصرية ` السوق السوداء ` وهو الذى ترك كل هذا وسافر إلى بيروت ليعمل مستشاراً فنياً لفرقة ` إخوان رحبانى` حتى وفاته .
- وعلى الرغم من أن المعلم ` كامل التلمسانى ` وجماعته التى كانت تضم من بين أعضائها ` رمسيس يونان`،` سمير رافع`، و` جورج حنين ` ، كانوا من أكبر الدعاة فى المذهب السريالى ، إلا أن المعلم ` التلمسانى` آثر أن تكون التلميذة بعيدة عن التيارات الفكرية العنيفة، فلم يطلعها على أعماله، إلا بعد عام كامل من دروسه.
- وإن كانت` إنجى ` قد قدمت غير المتوقع عندما طلب منها ` التلمسانى ` أن ترسم لوحة ليراها فى الزيارة التالية ، ويقرر على أساسها كيف يتعامل مع هذه التلميذة الأرستقراطية ، ففوجىء بأنها اتجهت اتجاهاً غير متوقع فقد شحنت لوحتها بالرموز والدلالات عندما صورت نفسها وهى تحاول الخروج من فتحة شجرة تحاصرها النيران ، حيث اتسمت اللوحة بالجرأة والحيوية التى تكشف عن شخصيتها القوية.
- لفت نظر الأستاذ فى اللوحة تلك الجوانب التعبيرية ، فقرر أن يطلع التلميذة على تاريخ الفن ويحدثها عن الاتجاهات الفكرية والسياسية فى العالم ، بل أيضاً دعاها إلى المشاركة فى نشاط جماعة ` الفن والحرية ` وإن جاءت أعمالها فى هذه الفترة متشائمة وبألوان قاتمة داكنة يملأها الحزن والرموز والخيالات، لأنها تعلمت على أيدى الأستاذ أنه ليس هناك شىء ممنوع فى الفن بعد إتقان استخدام الأدوات والتقنيات.
- جاء المعرض الثالث لجماعة الفن والحرية والذى شاركت فيه` إنجى ` كعلامة فارقة فى حياتها ونقطة تحول غيرت مسار حياتها كلها ، فقد تردد اسمها بين أسماء فرسان جماعة ` الفن والحرية ` وفتح لها هذا النشاط نافذة أطلت منها الفنانة الصغيرة على حقيقة مصر ومشاكل مواطنيها خلال فترة الحرب العالمية الثانية.
- وفى إشارة لأعمال الفنانة الصغيرة بالمعرض الثالث لجماعة الفن والحرية .. قال الناقد ` جورج حنين `: ` إن مفاجأة المعرض الثالث للفن المستقل تتمثل فى تنوع أشكال الخضرة البالغ حد الهذيان فى لوحات إنجى أفلاطون`.
- واندفعت` إنجى` للقراءة وحضور المحاضرات والندوات التى كانت تقام فى نادى الأبحاث العلمية والذى يعد ملتقى المثقفين الثوريين حينذاك، واتسعت اهتماماتها وبدأت تخرج من محيط الأسرة والمدرسة إلى المجتمع الكبير الذى كان ينذر بتفجر التيارات الرافضة نتيجة القهر ووطأة سطوة الاستعمار، فشاركت فى الجمعيات النسائية التى تهتم بقضايا المرأة فى المجتمع ، بل وسافرت عام 1954 لتشارك كعضوة مؤسسة للمؤتمر الأول للاتحاد النسائى الديمقراطى الدولى وهو المؤتمر الذى يؤرخ للبدايات الأولى فى نشاط الحركة النسائية العالمية، حيث اختارت هيئة الأمم المتحدة عام 1975 كعام عالمى للمرأة بمناسبة مرور ثلاثين عاماً على انعقاد هذا المؤتمر .
- شكلت هذه الفترة المرحلة الثانية من رحلتها وهى مرحلة العمل الوطنى ، حيث شكلت وزميلاتها أول مجموعة نسائية جديدة فى مصر ` رابطة فتاة الجامعة والمعاهد `، لذلك تحولت من الرسم إلى الكتابة رغبة فى التأثير الأسرع، ففى عام 1947 صدر لها كتاب بعنوان ` 80 مليون امرأة معنا ` ، وكتب مقدمته عميد الأدب العربى الدكتور ` طه حسين ` ويتجاوز الكتاب قضايا فى الداخل إلى آفاق عالمية ، لكنه يسعى إلى ضرورة ارتباط الحركة النسائية المصرية بها .
- أما الكتاب الثانى والذى أصدرته ` إنجى ` فى عام 1949 بعنوان ` نحن النساء المصريات` الذى يتعرض للقضايا الاقتصادية والاجتماعية للمرأة المصرية ، ويحدد مطالبها قبل منتصف القرن العشرين، وكتب مقدمة الكتاب المؤرخ المصرى` عبد الرحمن الرافعى ` فيما نشرت كتابها الثالث بعنوان ` السلام والجلاء ` فى عام 1951 ودعت فيه إلى ضرورة التحرر الوطنى من الاستعمار فى العالم .
- انخرطت ` إنجى ` فى الحركة الوطنية وراحت مع زميلاتها الدكتورة ` لطيفة الزيات`، ` هدى شعراوى` ، و` هدى بدير` ، يطالبن بضرورة ` الأجر المتساوى للعمل المتساوى`، وأيضاً ` حق الانتخاب للمرأة المتعلمة`.
- ولأن الأسرة لم تكن غائبة تماماً عن هذا التطور، بل كانت تحاول تقويمه من وجهة نظرها ، فحاولت أن تبعدها عن مصر وعن السياسة وحجتها فى ذلك السفر إلى باريس لاستكمال دراسة الرسم لكن ` إنجى ` رفضت الفكرة ليس كرهاً للفن ، لكن التزاماً بمسئولياتها الوطنية وقررت بعد هذا الموقف أن تشتغل حتى تحصل على حريتها فعملت بأجر ستة جنيهات فى الشهر كما عملت فى أحد المعامل، ثم فى مدرسة ، وفى عام 1948 تزوجت وكيلاً للنيابة ` محمد محمود أبو العلا `، حيث كان يشغل وظيفة وكيل النائب العام ، فشجعها على العودة للرسم ، ومن ثم جاءت للفن ثانية كى تعبر عن مصر فاتخذت الريف رمزاً لها وموضوعها المفضل تصور الطبيعة المصرية البكر والفلاحين أثناء العمل سواء فى الحقول أو الأسواق .
- تزامن مع هذه العودة حريق القاهرة ، قبل قيام ثورة 23 يوليو، حيث كان الغضب الشعبى جارفاً، ومظاهر المقاومة والاستعمار والاحتلال فى قمتها ، بل وصلت إلى حد الكفاح المسلح على شط قناة السويس، فأخذت ترسم صوراً للمقاومة الشعبية والنسائية فى مدن القناة .
- جاء معرض ` إنجى ` الخاص الأول فى مارس عام 1952 بقاعة آدم بوسط مدينة القاهرة ، ليكشف عن ارتباطها بالقضية الوطنية سواء فى لوحاتها التى تناولت ظروف المرأة المصرية الفقيرة أو من خلال اللوحات التى تناولت شهداء معارك الفدائيين عند قناة السويس ضد قوات الاحتلال الإنجليزى ، فقد عبرت بصدق عن حسها الوطنى وأفكارها الثائرة عندما ترجمت نشاط المرأة المصرية الذى تزعمته الراحلة ` سيزا نبراوى` عام 1951 ، ومن رحم هذا المناخ الرافض للقهر والاحتلال تشكلت اللجنة النسائية للمقاومة الشعبية بعد إلغاء المعاهدة المصرية - البريطانية وبدء الكفاح المسلح فى منطقة قناة السويس ضد القوات البريطانية .
- اتسم أسلوب ` إنجى ` فى معرضها الأول بالتعبيرية التى تتجاوز النسب الطبيعية، اعتماداً على تحوير العناصر من أجل تأكيد الرمز، وإن ظلت ألوانها قاتمة، بينما كان الإنسان هو العنصر الرئيسى فى هذه اللوحات .
- لم تتوقف` إنجى` عن الرسم ، حيث توالت معارضها بعد ذلك حتى بلغ عددها 26 معرضاً حتى عندما صدر قرار باعتقالها فى عام 1959، كأول مصرية تتعرض للاعتقال، فقد قضت أربعة أعوام ونصف العام فى السجن كانت خلالها متفرغة تماماً للفن بعد أن انتزعت بيدها ` حق الرسم ` داخل السجن ، ففى البداية صادرت إدارة السجن أول لوحة لها ، فلجأت إلى تهريب لوحاتها فمنعوا الورق والألوان إلى أن زار المفتش العام السجن الذى تنزل به ` إنجى ` ولحسن الحظ ، فقد كان ذا ميول فنية، فأصدر أوامره بالسماح لها بالرسم ، شرط ألا ترسم السجن ، وبعد فترة بدأت ترسم كل شىء، وتعبر عما تراه بصدق .
- كانت السجينة تبيع لوحاتها لصالح السجن ، ثم ما لبثت أن أصابها الملل من البؤس ومشاكل المجتمع ، فوجدت نفسها فى شوق إلى الطبيعة ، فراحت ترسم غروب الشمس من خلف القضبان، وشراع المراكب الصغيرة من بعيد ، وهو يتحرك فى النيل ، فتحول فى تصورها إلى رمز للحرية ومنذ ذلك الحين بدأت الطبيعة تؤكد وجودها فى إبداعات ` إنجى أفلاطون`.
- فى معرضها الذى أقيم فى ألمانيا الشرقية عام 1970 ، قالوا : ` إنه معرض خاص بالمرأة ` ، بينما قالت ` إنجى ` : ` بل إنه تعبير عن الواقع ، والمرأة جزء من هذا الواقع ، وقد تمكنت بصفتى امرأة من أن أدخل بيوت الفلاحين وأجلس مع الفلاحات وأرى على الطبيعة كيف تعيش المرأة فى الريف ، كامرأة عاملة ، تعمل فى كل مكان ، الحقل ، السوق ، المنزل ، إذن المرأة تتحدى الفقر وترعى الأسرة `.
- كما عبرت ` إنجى` عن نساء الحضر بصورة واقعية، فقد أرسلت عبر لوحاتها ` تحية إلى عروس الجنوب` إشارة التضامن مع واقع المرأة العربية المناضلة، عندما جسدت نضال ` سناء محيدلى ` بألوانها تلك السيرة العطرة ، فقط ظلت ` إنجى أفلاطون ` ملتزمة بقضايا مجتمعها الإنسانية متسقة مع أفكارها الثورية والتعبير عنها مهما كلفها ذلك من تحديات وتضحيات .
- وفى السابع عشر من أبريل عام 1989 رحلت ` إنجى أفلاطون ` بعد أن حفرت خطوطاً من ذهب وفضة فى سجل النضال الوطنى ، ستظل مضيئة ليس فقط باعتبارها فنانة لامست أحاسيس وعواطف البسطاء وعبرت عنها ، لكن أيضاً باعتبارها نموذجاً لكفاح المرأة المصرية ، دفعت ثمناً لخروجها عن السرب .
بقلم : سيد هويدى
القاهرة 16-7-2002
إنجى أفلاطون الثائرة .. فى ذكرى مولدها
- فى هذا الشهر تأتينا ذكرى ميلاد الفنانة الرائدة الثائرة إنجى أفلاطون ، تلك العلامة الفريدة فى تاريخ التشكيل المصرى التى نستدعى روحها الوثابة الخلاقة الصلبة ودورها البناء فى تجسيد بديع لعلاقة الفنان بمجتمعه وتجل فذ لنهضة المرأة المصرية فى مواجهة قوى الظلام والردة والتقوقع .. تذكرتها وهى تشرق فى سماء الحركة الثقافية فتاة رقيقة رهيفة تحلق فى سموها البديع وتعطى نموذجاً لصلابة وشجاعة ووعى نقى جسور ما أحوجنا إليه الآن .. رأيتها وهى تتألق فى تلك الرحلة الشهيرة لفنانى مصر لزيارة السد العالى على نفقة وزارة الثقافة حين ذاك التى استضافت حشداً من أشهر الفنانيين التشكيليين . وظهرت لوحاتها وقد اختفى منها البطل الفرد أو النجم ليذوب فى الكيان الكلى لبقية العناصر من الآلات إلى أشكال طبيعية ويصير الكل إلى واحد والواحد هنا هو العمل المحموم العمل الجماعى هو البطل، ورأيتها وهى تجوب العالم وتفضح الكيان الصهيونى وتضطلع بالدور القيادى التنويرى المأمول من الفنان المصرى والمرأة المصرية المثقفة فى معرضها الذى أقيم بموسكو حين قالت :` هدفنا ، ومهمتنا أن نستميل جميع شعوب البلدان العربية وكل الشخصيات الثقافية إلى النضال ضد المعتدين من اجل مساعدة الوطن على تقريب يوم الانتصار. وذلك فى أعقاب النكسة ، ورأيتها وهى تتشكل وتتحول وتنهض باحثة عن أسلوبها فى رابطة وثيقة عميقة بين الفنانة التشكيلية المجربة المثقفة المجددة وبين هموم المجتمع وقضاياه وسوف نتطلع إلى سماوات من إبداعها فى ثلاث مراحل هامة من تاريخ مصر السياسى الأولى فى بداية الثورة فى لوحة البنائين والثانية فى مطلع السبعينات من القرن العشرين فى فترة حرب الاستنزاف والثالثة فى بداية الثمانينيات حيث مجتمع الانفتاح وبداية الحراك الاجتماعى فى مصر .
- ففى لوحتها ` البناءون ` والتى أنتجتها فى عام 1954 وهى ألوان زيتية على خشب.
- ومصورة من متحف الفن الحديث بالقاهرة وأبعادها 55 × 85 سم.
- تبدو لقطة صاخبة من مشهد البناء حركة دائبة مستمرة من أسفل إلى أعلى حولها الفراغ الواسع الممتد ولنتأمل ذلك التصميم الذى صنعته وهى تعزف تشكيلاً بديعاً . من الخطوط الرأسية والأفقية المتعامدة هى التى خلقت صورة البناء حيث التطور من أسفل إلى أعلى برسوخ يعضده التخطيط العام للعمل الذى يوحى بقوة الكتلة الناشئة عن البناء ، والخطوط المنحنية لأجسام العمال تنقل العين بسرعة إلى النقطة التالية وهى التى تولد الحركة النشطة إلى أعلى والخطوط هناك غير مكتملة توحى بالامتداد واستمرار عملية البناء والتفاؤل حيث انفتحت منابع العلامات وتعددت الدلالات، والشكل العام : هو شكل متوازى مستطيلات يعبر عن مبنى أثناء عملية الإنشاء مكون من مستطيلات واسطوانات وخطوط متعامدة ومتقاطعة تتعامد مع أشكال العمال والحجم المسيطر هو حجم كتلة المبنى الذى تتضاءل أمامه البشر، أما منظور اللوحة فيجعلها كأنها لقطة فوتوغرافية من بعيد لقطة عامة تتجاهل التفاصيل والأشخاص والنقل الدقيق بل تركز على منظومة العمل وإيقاع الإنتاج الكل فى واحد فى طريق العمل للوصول إلى السعادة للجميع ، فالتنمية تحتاج إلى تضافر الحشود المنطلقة وتحتاج إلى كل قوى العاملين فى كل التخصصات وليس هناك نقاط مضيئة على حساب أخرى معتمة بل درجات الضوء موزعة بالتساوى لإبراز العمومية والتوحد والتساوى والموضوعية فليس لدى انجى أفلاطون أبطال بارزون أو أشخاص بعينهم ولكنها معزوفة العمل والتوحد فى الهدف ومثاليات المجتمع الناهض مع التحديد بالأسود لعروق الخشب فى بناء الهيكل على إيقاع البناء اللونى الدافىء المبهج النشط المرتبط بالشمس والحياة منحته انجى للعمال فقط ، السماء بدرجات رمادية وزرقاء ضبابية وغير واضحة وكأنها سماء ملبدة بالغيوم على وشك أن تمطر حيث عملية البناء والتقدم محفوفة بالمخاطر والتربص وليست آمنة سهلة . حيث تلك الآفاق الحبلى بالخير العميم ، كما يوجد تحديد بالأسود للعناصر الرئيسية للوحة واستخدام هذا اللون يدعم الخطوط ويكثف القوة الضوئية لأى لون مجاور، ويضفى القوة والجدية على الخطوط ذات الملمس الخشن من أثر ضربات الفرشاة. أما فى لوحتها ساحة المعركة وأبعادها 55 × 84 سم وتاريخ إنتاجها 1970 بألوان زيتية على قماش وهى مصورة من متحف الفن الحديث . نرى ساحة قتال تنتشر فيها الأسلاك الشائكة والجنود يتقافزون فى فرح وسعادة ويلوحون بأسلحتهم ، العلم المنتصب متواجد فى مقدمة اللوحة وموزع فى الخلفية بكثرة وسحب تتضح فى الأفق مع بعض مرتفعات رملية زرعتها بإيقاع فريد وخطوط لينة تشكل موجات، متراقصة فى بهجة وسرعة أما البناء للشبكة البصرية المسيطرة على مسطح اللوحة فهو مركب وشبكى متراص بدقة وعناية فائقة وهو يترقرق بأبصارنا فى نعومة ودون أن نلمسه ودون أن نحدد مصدر التماسك والترابط التصميمى الصلب لدى إنجى أفلاطون بل هى ضربات، الفرشاة السريعة المتلاحقة تشغل مساحة اللوحة بالكامل مما يذكرنا بالفسيفساء المكونة من قطع صغيرة ملونة تكون تشكيلاً مصريا مميزا. وتستخدم الأصفر والبنى فى الرمال وساحة المعركة أما اللون البرتقالى المضىء البهيج فينقل بقع الضوء من مقدمة اللوحة وحتى الخلفية فى نشاط مع حركة الجنود المنتصرين . وتتلاشى التفاصيل هنا كلما اتجهنا إلى العمق وتبهت الألوان فالأشكال المرسومة فى مقدمة اللوحة أوضح وتغيم الرؤية كلما غصنا فى عمق اللوحة البعيد وهو الأسلوب الذى يميز لوحات الفنانة انجى أفلاطون وهو مانراه هنا بوضوح حيث الاحتفاء بالمجموع ومنظومة العمل الجماعى والهدف المنشود .
- أما فى لوحة ` الجنازة ` التى أنجزتها الفنانة فى عام 1981 نراها تشكل بنيتها من وحداتها اللونية الدقيقة والتى تتضح فى شبكة ضوئية تتجلى شيئاً فشيئاً مع صغر اللمسات التى تأخذها من باليتة اللون ، مع سرعة جريان الخطوط فى منحنيات ، تتدفق معها وهى تمتطى صهوة المعانى وتأخذ بعقالها فتسبقها الفرشاة صانعة تلك التيارات التى لاتنتهى والخطوط اللينة النابضة حين تشكل موجات متسارعة وثابة من فيوضات اللون والنقش الرقيق ، فهى تغزل نسيج ساحة الجنازة فى مرتفعات ومنخفضات وتلال على ضفاف النيل ، وتنثر اللون البرتقالى المتقافز مع حركة النادبات المتشحات بالسواد ، واستخدمت الفنانة اللون الرمادى للأرضية ، الذى يشيع روح الحزن والبرودة .. هى لقطة من مشهد الموت، تذكرنا مشهد الجنازة الملكية فى فيلم المومياء لشادى عبد السلام ، حدث هنا تناص بين النص السينمائى والنص التشكيلى وخلقت الفنانة مشهد الجنازة التى أقامها أهل الجبل للفراعين وهم يرحلون وهم يمضون مومياوات بعد آلاف السنين، وحركت إنجى أفلاطون جسد اللوحة مع هدير التلال تقف عليها النادبات، فى لقطة صورت من أعلى : كأن طائرا التقطها بسرعة قبل أن يذهب بعيدا، التقطتها الفنانة وهى تبتعد وتسمو، وتكرس الجلال الصامت . حيث الحجم المسيطر والكتلة الطاغية للأرض والتلال وذلك الجبل الرابض الذى تتضاءل أمامه البشر، هو حجم الحقيقة التى تواجه كل منا فى النهاية ، شاخصة بلا مفر ، منظور اللوحة يجعلها كأنها لقطة فوتوغرافية من بعيد لقطة عامة تتجاهل التفاصيل والأشخاص والنقل الدقيق بل تركز على منظومة جماعية وإيقاع صاخب ناشىء عن حركة الأيدى مودعة صاحب المشهد المهيب. أما الضوء واللون لدى إنجى أفلاطون فليس هناك نقاط مضيئة على حساب أخرى معتمة، بل درجات الضوء موزعة بالتساوى لإبراز العمومية والتوحد والتساوى والموضوعية فليس لدى انجى أفلاطون أبطال بارزون أو أشخاص بعينهم ، بل المجموع هو البطل ، خضم الزحام يخلق قوة التأثير.
بقلم : د. هبة الهوارى
نهضة مصر 12-4-2012
إنجى أفلاطون أرستقراطية عاشت للحرية
- تمردت على حياة الرفاهية .. لتعيش بين البسطاء والكادحين .. نادت بالعدالة الاجتماعية .. وهى الارستقراطية ابنة الباشوات التى لاتتكلم سوى الفرنسية فلم تكن تعرف العربية .. رفضت السفر إلى فرنسا لتكملة دراستها الفنية .. وآثرت البقاء كى تناضل من أجل الحياة الكريمة لفقراء مصر .
- تلك هى انجى أفلاطون أفلاطون، الفنانة المصرية اليسارية التى تركت الارستقراطية لتنضم إلى المكافحين من الشعب، جدها الأكبر كان وزير الجهادية والبحرية فى عهد الخديو إسماعيل ووالدها درس فى سويسرا وأصبح عميد كلية العلوم بجامعة القاهرة .. ولدت انجى عام 1924 وتعلمت بمدرسة القلب المقدس ثم مدرسة الليسية، وبدأت فى تعلم اللغة العربية فى سن السابعة عشرة ، تعرفت بالفنان التشكيلى كامل التلمسانى الذى شجعها وأشركها فى معارض جماعة الفن والحرية وفتح أمامها الطريق نحو المعرفة بفلسفة الجمال والاتجاهات الحديثة فى الفن ، فى عام 1945 بدأت العمل السياسى وانضمت إلى جماعة سرية وأصبحت مطاردة من البوليس السياسى، تزوجت قاضى تقدمى يدعى حمدى فى عام 1948 وعاشت معه اسعد أيام حياتها .. ولكنها لم تدم طويلا فقد توفى عام 1957 على اثر ضرب ضباط المباحث له ضربا وحشياً ، وفقدت انجى الحبيب ورفيق الدرب ، وفى عام 1959 أعتقلها البوليس السياسى ، تقول انجى فى مذكراتها ` هكذا الإنسان يستطيع أن يتأقلم ويتكيف مع أى ظروف صعبة تحيط به طالما هو قوى وطالما هو إنسان ، أننا هنا وفى السجن عالم القيود والسدود ، فى عالم لا قيمة فيه للحقوق ولا قيمة فيه لحياة الإنسان`، وفى داخل سجن القناطر بدأت مرحلة جديدة من حياتها الفنية مارست انجى الرسم داخل السجن ، فرسمت السجينات ضحايا القهر والظلم الاجتماعى ، فقد كانت تبحث فى لوحاتها عن معنى الحرية .. وفى عام 1963 خرجت انجى من السجن لتعود من جديد للدفاع عن المقهورين وتنادى بحق الشعب فى الحياة الكريمة فتتعرض للمطاردة والاعتقال وتستبعد من قوائم التكريم ولكنها تجد التقدير من الحكومة الفرنسية التى منحتها أعلى الأوسمة وهو وسام الفارس كما إنها دعيت فى عديد من عواصم العالم لعرض لوحاتها ، من أشهر لوحاتها ` من نافذة السجن ، الباكيات، وراء القضبان ، يعملن كالرجال ، لن ننسى ، النول ، جمع البرتقال ، أمومة ، ساحة المعركة` .
- وفى عام 1989 أصيبت انجى بجلطة وتوفيت بعد أيام قليلة تاركة أكثر من ألف لوحة حصيلة مشوارها الفنى مابين لوحات زيتية وفحم وأحبار، لتقوم بعدها والدتها وأختها الوحيدة بإهداء هذا التراث الفنى الذى لا يقدر بثمن إلى وزارة الثقافة على أن تقوم الوزارة ببناء متحف توضع به الأعمال يليق بأسم الفنانة الراحلة .. وفى سبتمبر 2011 افتتح بقصر الأمير طاز المتحف الدائم لأنجى أفلاطون الذى يضم بعضاً من أعمالها بالإضافة إلى العديد من مقتنياتها الشخصية .. أما باقى الأعمال والتى ظلت فى مخازن وزارة الثقافة فقد استردتها أسرتها على اثر دعوى قضائية لأن الوزارة لم تلتزم بالاتفاق الذى عقد مع الأسرة وقد عرض بعض من هذه الأعمال فى يناير الماضى بقاعة سفرخان بالزمالك.
بقلم : حنان النادى
الأهرام 3-3-2013
فى ` سفرخان ` إنجى أفلاطون ..وذكريات ` كفر شكر `
- يقام حاليا معرض للفنانة الراحلة ` إنجى أفلاطون ` بقاعة ` سفرخان ` بالزمالك ، تحت عنوان ` كفر شكر` ويرمز العنوان إلى المكان الذى اختارته الفنانة للتعبير عن الريف المصرى ونسائه ورجاله الكادحين، حيث سجلت بفرشاتها تفاصيل الحياة اليومية والتى لاتخلو من المعاناة والكفاح من أجل الرزق كما رسمت أفراحهم فى أثناء الموالد التى تقام سنويا فى الكفر.
- وهى فنانة قلما يجود الدهر بمثلها ... تركت الحياة الأرستقراطية وعاشت بين الفقراء والمقهورين، لتناضل من أجل الدفاع عن حقوقهم، فتعتقل وتسجن، ويقام معرضها حاليا بقاعة ` سفرخان` بالزمالك ويستمر حتى 14 فبراير الجارى .
- إحدى علامات الفن المصرى الحديث التى شكلت لوحاتها مكانة كبيرة فى الحركة التشكيلية المصرية فى النصف الثانى من القرن العشرين .
- هى فنانة وهبت حياتها للفن ، ومناضلة نسائية دافعت عن حقوق المرأة فى ضراوة متناهية ... وهى مفكرة شيوعية أخلصت لفكرها ورسمت لوحات احتوت على محاور فكرية متعددة .
- وقد نشأت فى أسرة أرستقراطية، ونالت تعليمها فى مدرسة ليسيه باب اللوق ... ودرست الرسم على يد الفنان ` حامد عبد الله `، زوج الفنانة ` تحية حليم ` وأيضا الفنان ` كامل التلمسانى`.
- تقول ` شيرويت شافعى` المسئولة عن القاعة : استطعنا فى عام 2015 من خلال جاليرى سفر خان عرض 30 لوحة من أعمال الراحلة ` إنجى أفلاطون ` فى بينالى فينيسيا ، حيث تعتبر هى الفنانة الوحيدة من العالم العربى التى تحصل على تكريم فى بينالى فينيسيا ، وقد وصفها رئيس البينالى بأنها الفنانة المناضلة، ونتيجة لذلك يقوم حالياً متحف الفن الحديث بنيويورك ، بالاحتفال بالفنانة من خلال ترجمة كتابها ` مذكرات إنجى أفلاطون ` من الطفولة إلى السجن ، والتى قامت القاعة بإعادة طبعه هذا العام ، كما استطعنا الحصول على فيلم تسجيلى عن الفنانة الراحلة ، وقد أنتجته مؤسسة السينما المصرية فى بداية ثمانينات القرن الماضى ، وقام بتصويره الفنان ` طارق التلمسانى`، وأخرجه ` محمد شعبان ` ، ويعرض الفيلم فى القاعة تزامنا مع المعرض .
- قالت `إنجى ` فى مذكراتها : أقمت معرضا فى عام 1953 وآخر فى 1954
والثالث كان فى 1956 وكانت تلك المعارض تدور كلها حول الريف وحياة الناس هناك ، وقد هربت من المدينة إلى الريف حيث وجدت الأصالة والمصداقية ، فمن خلال الريف كنت أزداد معرفة بنفسى وبوطنى، ولم يكن هذا بالأمر السهل على امرأة فى سن الشباب نظراً للعادات والتقاليد السائدة .
- كفر شكر
- صورت الفنانة ` إنجى أفلاطون ` فى لوحات هذا المعرض التى استخدمت فيها الألوان المائية، مشاهد من القرى ، الحقل ، النخيل ، جامعات البرتقال ، وجامعات البلح ، كما تناولت مشاهد السفن الشراعية والنيل فى لوحاتها التى تتمتع بمذاق خاص، حيث أسلوبها الفريد الذى يعتمد على الخطوط اللونية التى تختلف اتجاهاتها بحسب الشكل الذى تريده ، حيث تتمازج تلك الخطوط فى جميع أجزاء اللوحة بألوانها المبهجة والزاهية ، التى تشبه نسيج السجاد والزجاج ، لتجد نفسك أمام عالم افتراضى شكلته تلك الخطوط التى تهتز وتتمايل وتختلف ألوانها لتميز عناصر العمل .
- تتباعد الخطوط فى لوحاتها وتزيد من شفافيتها لتعطى تأثيرا لونيا مختلفا للعمل، بتكنيك أكثر بساطة فى استخدام تلك الخطوط اللونية المتزاحمة ، لتتباعد وتهدأ وتظهر فى صورة معبرة عن المنظر الطبيعى بأسلوب أكثر بساطة.
قال عنها النقاد إنها تضفى قدرا هائلا من الحيوية على تفسيرها للطبيعة، وأنها تدرك قيمة العمل كجزء لايتجزأ من المنظر الطبيعى. كما قالوا عنها فى روما أنها خرجت من قلب الحركة التشكيلية المصرية المعاصرة التى ترتبط بالواقع ، حيث تصور العظمة القاسية للطبيعة المصرية فى لحظات من الحياة اليومية ، تكمن قوتها فى قدرتها على القبض على شعور ما .
-إنجى والمرأة
- وعبرت أيضاً عن شقاء المرأة فى عدة لوحات ، فنجد امرأة تغسل الملابس بيدها فى وعاء كبير وملامح الشقاء ترتسم وجهها . وأخرى تجلس بجانب فرن بيتها فى الريف وتضع يدها على رأسها دلالة على شقائها . كما رسمت بورتريهات للمرأة فى عدة لوحات، وموديل عار للمرأة .
- ورسمت سفاجة ، ومشاهد متعددة للقرى والبناء ، والنخيل بأسلوبها الفريد الذى لايضاهيه أحد من فنانى جيلها .
- انغمست ` إنجى ` فى الحياة السياسية والاجتماعية وقد أثرت فى أعمالها الفنية، أيضا عبرت عن النماذج الكادحة فى المجتمع المصرى .
- وصاحب نشاطها الفنى نشاط آخر وبدأت تؤلف كتبا سياسية كان أولها ` ثمانون مليون امرأة معنا` وكتب المقدمة لها ` د. طه حسين` ، والثانى ` نحن النساء المصريات ` وكتب مقدمته ` عبد الرحمن الرافعى` ، والثالث ` السلام والجلاء ` وكتب مقدمته `د. عزيز فهمى`.
- حاولت عائلتها إقناعها بالسفر إلى فرنسا لاستكمال تعليمها فى عالم الفن ولكنها رفضت بقوة وكتبت تقول : ` لم يكن مقبولا ولا معقولا أن أترك مصر وأذهب لعدة سنوات إلى بلاد الخواجات وأنا أفكر بكل وجدانى فى عملية تمصير طويلة وقاسية للنفس لى شخصيا أنا التى أتكلم الفرنسية. ضاعت من عمرى ثمانى عشرة سنة فى المجتمع المغلف بالسوليفان حتى لغتى القومية لا أملكها . أى بؤس يحسه الإنسان المعقود اللسان حتى السابعة عشرة كانت لغتى الفرنسية وحين بدأت احتك بالناس لم أستطع أحل العقدة من لسانى، مقطوعة أنا من شجرة إذا ؟! `.
- ومنذ ذلك الوقت بدأت تحتك بطبقة كبار المثقفين اليساريين وتنفصل عن الروابط بالمجتمع التى كانت تعيش به وانغمست بكل طاقاتها فى المجتمع المصرى الأصلى. وبدأت حياتها تدون حول محورين الفن والآخر، وهنا يقصد بكلمة الآخر المحتاج الفقير المظلوم وكل من كان يشكو من ظلم النظام، وبدأت تدرك أنها حتما سيتم القبض عليها.
- وفى ذلك الوقت تعرفت ` إنجى ` بمحام شاب من اليسار وتزوجته بعد إقناع عائلتها إذ كان من طبقة متواضعة. وكانت فترة زواجها أسعد فترات حياتها ولكنها لم تدم كثيراً إذ توفى زوجها بعد ثلاث سنوات من الزواج . وسرعان ماتم القبض عليها فى سنة 1959 وأمضت أربع سنوات فى السجن دون محاكمة متنقلة بين عدة سجون . ويرى النقاد أن فترة ` إنجى ` فى السجن كانت أزهى فترات حياتها الفنية.
- وتوالت أعمالها بعد خروجها من السجن واتسمت هذه الفترة بنشاط مكثف وبدأت تقيم معارض مهمة جداً فى كل من روما وبرلين، واختيرت قومسيرة لمعرض الفن المصرى المعاصر فى باريس ، ثم قومسيرة لمعرض الفن المصرى المعاصر فى بلجراد ، ثم أقامت معرضا كبيرا فى كل من موسكو وباريس ودرسون وألمانيا الشرقية وفارسوفى وصوفيا وبراج والكويت .
- وفى عام 1976 اختيرت قومسيرة بجناح الفن المصرى المعاصر بالجراند باليه بباريس ، وفى عام 1979 أقامت معرضا فى نيودلهى. وفى عام 1984 تلقت وسام ` فارس فى مجال الفن والأدب ` من وزارة الثقافة الفرنسية وكان آخر معرض اشتركت فيه معرض جماعى للفنانين المصريين فى أمريكا عام 1988 .
- اتسم أسلوبها فى معرضها الأول بالتعبيرية التى تتجاوز النسب الطبيعة، اعتمادا على تحوير العناصر، من أجل تأكيد الرمز، وإن ظلت ألوانها قاتمة، بينما كان الإنسان هو العنصر الرئيسى فى هذه اللوحات . لم تتوقف عن الرسم ، حيث توالت معارضها ، بعد ذلك حتى بلغ عددها 26 معرضا، وراحت ترسم غروب الشمس وشراع المراكب الصغيرة ، من بعيد ، وهو يتحرك فى النيل ، فتحول فى تصورها إلى رمز للحرية ، ومنذ ذلك الحين بدأت الطبيعة تؤكد وجودها فى إبداعات ` إنجى أفلاطون ` فى معرضها الذى أقيم فى ألمانيا الشرقية عام 1970 وعندما قالوا عنه ( إنه معرض خاص بالمرأة قالت عنه إنجى أفلاطون بل إنه تعبير عن الواقع ، والمرأة جزء من هذا الواقع وقد تمكنت بصفتى امرأة من أن أدخل بيوت الفلاحين ، وأجلس مع الفلاحات ، وأرى على الطبيعة، كيف تعيش المرأة فى الريف ، كامرأة عاملة، تعمل فى كل مكان ، الحقل ، السوق ، المنزل ، إذن المرأة تتحدى الفقر، وترعى الأسرة . أما نساء الحضر ، فقد عبرت عنهن بصورة واقعية).
- مثلت` إنجى أفلاطون` نموذجا فريدا وبارزا لأكثر من معنى ، فهى الفنانة السياسية على حين ندر استمرار السياسيين بين الفنانين التشكيليين من طبقتها فى الفن . كذلك فهى نموذج بارز للاقتناع الفكرى الذى دفع الأرستقراطية فيها إلى التخلى عن كما يربطها بالأرستقراطية والارتباط بكفاح جماهير الشعب ، فلم نعرف من هى أرفع طبقة منها بين كل اليساريات والشيوعيات فى الحركة الوطنية المصرية .
- تكنيك متفرد
- تركت ` إنجى ` العنان لحسها الفنى فى الانطلاق والمضى فى تجسيد الواقع عبر تكنيك جديد ومتفرد ، اختزلت فيه العناصر الطبيعة والإنسانية وأعادت صياغتها عبر رؤية انطباعية . فقد استفادت من تحليل اللون وقيمته الجمالية من خلال تكتيكها الجديد المتميز للتعبير عن تصوراتها الذاتية` البصرية عن هذا الواقع والبعيدة عن محاكمة الطبيعة وذلك لأن منطلق الفنانة فى لوحات هذه المرحلة هو التعبير عن انطباعات واقعية لكن الفنانة منذ بداية تاريخها الفنى، تؤكد بضرورة وجود الفكر والقيمة الإنسانية فى العمل الفنى .. ولذا نجد الفنانة قد حاولت أن تدخل هذا المحتوى بأسلوب غير مباشر، فابتعدت عن أسلوب الحكى أو تجسيد الحالات الإنسانية بأسلوب واقعى .
- تؤكد الفنانة انحيازها للإنسان بشكل عام وللمرأة بشكل خاص ، لكن المرأة فى هذه الأعمال قيمة إنسانية عامة تتبع من خلال وجودها الإنسانى فى الطبيعة فقدرتها تكمن فى قدرتها على الإمساك بشعور ما ، بالحياة الحية للأشياء حية كانت هذه الأشياء أم جامدة .
- أعمالها تشكيل من ضربات الفرشاة ، ولمسات اللون ، وحركة الخط وثراء اللون ، لتتبلور فى النهاية إلى توازن تشكيلى بين عناصر المرأة وعناصر الطبيعة .
- وعلى حد تعبير د. نعيم عطية :` ولكن فى هذا العالم يبدو الإنسان حركة لا تهدأ وعملا متواصلا ، وارتباطا بالطبيعة التى هو منها وهو لها `.
- صاغت الفنانة المرأة بمعالجات تشكيلية وتكنيك فنى متميز ، يتفق مع الأسلوب الفنى والعام لصياغة جميع عناصر اللوحة فقد استطالت النقطة وتحولت بصورة أكثر تميز إلى لمسات طولية متقطعة ومتحركة، تملأ الصورة مع ترك شرائط بيضاء أكثر من السابق كفراغات ضوئية أو مساحات لدخول الضوء، تتردد هذه اللمسات الطولية فى تناغم لونى على سطح اللوحة فتبدو كما الوحدة فى شكل زخرفى وقد عرف الناقد ` مختار العطار` أسلوبها هذا ` بالواقعية الحديثة التى استخدمت فيها إمكانيات التعبير بضربات لونية مؤثرة حولت لوحاتها إلى مايشبه السجاجيد العربية الفاتنة `.
- عرضت أعمال ` إنجى أفلاطون ` فى كل من باريس ودرسدن ودوراسو وبولندا ونيودلهى والكويت ، كما شاركت فى بينالى ساو باولو وبينالى فينيسيا 1968 .
- وفى عام 1989 توفيت الفنانة المناضلة صاحبة البصمة المتميزة فى تاريخ الفن المصرى الحديث.
بقلم : د. إيناس حسنى
القاهرة 9-2-2016
معرض استعادى لـ ` الفنانة المناضلة ` إنجى أفلاطون
- تستضيف قاعة سفرخان فى القاهرة حتى نهاية الشهر الجارى معرضاً لأعمال الفنانة المصرية الراحلة ` إنجى أفلاطون` يقام المعرض تحت عنوان ` كفر شكر ` وهو اسم القرية التى أنجزت فيها أفلاطون جانباً كبيراً من أعمالها المتعلقة بحياة الفلاحين .
- حرص القائمون على القاعة على التعريف بسيرة الفنانة، إلى جانب عرض أعمالها على نحو توثيقى، إذ ضمنت المعروضات بعض متعلقاتها وصورها الشخصية. أما الجانب الأهم فهو عرض فيلم تسجيلى قصير عن حياتها .الفيلم أنتج فى نهاية سبعينات القرن العشرين، وأخرجه ووضع له السيناريو واحد من أهم مخرجى السينما التسجيلية فى تاريخ السينما المصرية وهو محمد شعبان. أما التصوير فتولاه المصور طارق التلمسانى الذى استطاع بمهارة تقديم صورة قريبة وحالمة للقرية المصرية فى نهاية سبعينات القرن العشرين ، عبر مشاهد بالغة التعبير معتمدة فى الغالب على الإضاءة الطبيعية .
- الفيلم هو أحد الأفلام التسجيلية القليلة التى تتناول حياة فنانين مصريين وهم أحياء ، وهو يستعرض تجربة الفنانة إنجى أفلاطون عبر تتابع المشاهد بين بيتها فى حى الزمالك وقريتها فى دلتا مصر، وفيه تروى الفنانة بصوتها أبرز المحطات فى مسيرتها الفنية والشخصية من نشأتها فى بيت إحدى العائلات الارستقراطية، ثم بداية ارتباطها بالفن وإيمانها بفكرة العدالة الاجتماعية.
- ولدت أفلاطون العام 1924 ودرست الفن على يد الفنان كامل التلمسانى، وهو من مؤسسى حركة ` الفن والحرية ` مع زملائه جورج حنين ورمسيس يونان وفؤاد كامل ، وهم من رواد ورموز الفن المصرى الحديث . كما تتلمذت على يد الفنان راغب عياد فى القسم الحر بكلية الفنون الجميلة . وفى العام 1952 أقامت معرضها الخاص الأول .
- وصاحب نشاط إنجى أفلاطون الفنى نشاط آخر ذو منحنى سياسى واجتماعى، انخرطت فيه منذ وقت مبكر من حياتها ، إذ ألفت عدداً من الكتب ذات الطابع السياسى ، كان أولها كتاب بعنوان ` ثمانون مليون امرأة معنا ` وكتب المقدمة له عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين . وكان الثانى بعنوان ` نحن النساء المصريات ` وكتب مقدمته عبد الرحمن الرافعى. أما الثالث فهو ` السلام والجلاء ` وكتب مقدمته عزيز فهمى .
- ورغم محاولات العائلة إبعاد ابنتهم عن الانخراط فى مجال النشاط السياسى عبر محاولة إقناعها بالسفر إلى فرنسا لدراسة الفن هناك ، إلا أن إنجى أفلاطون رفضت ذلك بقوة ، وكتبت فى مذكراتها تقول :` لم يكن مقبولاً ولا معقولاً أن أترك مصر وأذهب لسنوات إلى بلاد الخواجات، وأنا أفكر بكل وجدانى فى عملية تمصير طويلة وقاسية للنفس . ضاعت من عمرى ثمانى عشرة سنة فى المجتمع المغلف بالسوليفان ، حتى لغتى القومية لا أملكها . فأى بؤس يحسه الإنسان المعقود اللسان . حتى السابعة عشرة كانت لغتى هى الفرنسية ، وحين بدأت أحتك بالناس لم أستطع حل العقدة من لسانى ... أمقطوعة أنا من شجرة إذاً ؟...
- تواصلت إنجى أفلاطون مع كبار المثقفين اليساريين فى أربعينات وخمسينات القرن العشرين ، وانفصلت روابطها بالمجتمع الذى كانت تعيش وكرست أعمالها للتعبير عن المرأة والفلاحة المصرية وحياة البسطاء . واعتُقلت ضمن من اعتقلوا فى الخمسينات بتهمة الانضمام إلى أحد التنظيمات اليسارية حيث قضت أربع سنوات كاملة فى الحبس ، لم تر أسرتها خلالها سوى مرة واحدة .
- وكانت تجربة السجن هذه من أكثر فتراتها ازدهاراً وإنتاجاً وتميزاً . راحت إنجى أفلاطون ترسم بنهم كل ماتقع عليه عينها ، على رغم كل المعوقات والتعقيدات والأجواء الصعبة داخل السجن . رسمت وجوه السجينات ، كما عبرت عن معاناتهن وتوقهن للحرية. ورغم عدم تنوع المثيرات البصرية أمامها داخل أسوار السجن ، إلا أنها حولت من هذه الأشياء البسيطة التى وجدتها حولها إلى عناصر ومفردات غاية فى العمق . فامتلأت لوحاتها التى أنجزتها فى تلك الفترة بعلاقات ومفردات دالة وذات مغزى إنسانى، من القضبان الحديدية ، إلى أفرع الأشجار المحيطة إلى أطراف أشرعة المراكب البعيدة البادية من وراء الأسوار .
- هذا الدور النضالى البارز الذى لعبته إنجى أفلاطون فى تاريخ الحركة النسوية المصرية كان سبباً لاختيارها أخيراً من قبل أحد أهم متاحف الفن الحديث فى الولايات المتحدة الأميركية ، والمعروف اختصاراً باسم ` موما ` للاحتفاء بها وبأعمالها هذا العام ، كواحدة من أبرز الفنانات المناضلات فى تاريخ الحركة الفنية المصرية.
- يذكر أنه وقع الاختيار على أعمال إنجى أفلاطون للعرض ضمن برنامج العروض المتغيرة المصاحبة لبينالى فينيسيا فى دورته الأخيرة التى أقيمت العام الماضى.
بقلم : ياسر سلطان
الحياة 19-2-2016
- إن الفن الحقيقى لايوجد إلا فى ضمير البشر وذاكرتهم ، ولايكون عذبا إلا عندما يتردد رنينه فى تاريخ الذكريات، وفى عقول صحيحة، تربط بين الحاضر والماضى فى لحن واحد متكامل ..
- وها نحن قد شحذنا ارادتنا على احياء ذاكرة التاريخ ، والقاء الضوء على تطور الحركة الفنية فى مصر المعاصرة ، خلال تاريخها الحديث ..
- حيث بدأنا بالفعل فى تطوير وتحديث متاحفنا الفنية .. ومن بينها على سبيل المثال متحف الفنان الراحل ` محمد ناجى` الذى سوف يفتتح فى خلال يناير 1991 .. كما أن المركز القومى للفنون التشكيلية كان حريصا ومازال على تنظيم عروض فنية لأعمال بعض فنانينا الراحلين المتميزين .. فى إطار برامجه السنوية ..
- ولعل هذا المعرض الذى يضم تجارب رحلة الفنانة` إنجى أفلاطون` الفنية ،عبر مايزيد عن أربعين عاما من السعى الدءوب نحو صياغة شخصية متميزة فى الحركة التشكيلية المصرية ، هو واحد من أهم تلك المعارض التى تنشط ذاكرة التاريخ ، وتلقى الضوء على فترة من تاريخ مصر الفنى والسياسى فى آن واحد .. كما يؤكد فى ذات الوقت حقيقة مؤداها : أن للفن على أصحابه ضريبة قاسية يفرضها عليهم ، ويلزمهم بها ، وأن تلك الضريبة لاتتمثل فقط فى الجهد والالتزام ، وإنما تتجاوز ذلك إلى تعرض الفنان للكشف عن نفسه وابراز شروط وعيه ، ومدى إلمامه ومشاركته فى حاضره التاريخى .. حيث نستدل من تاريخ حياة الفنانة الراحلة ` إنجى أفلاطون ` أن الفنان بداخلها قد حررها منذ البداية من الاستسلام للمناخ البرجوازى الذى نشأت فيه وحررها من تسلط كل التناقضات المفروضة والمرتبطة بالطبقة المتعالية فى المجتمع ، وأخذ بها إلى أجواء من التحرر والبحث عن دور حقيقى فى الحياة ..
- وإننا ليحدونا الأمل فى المستقبل ، فى انشاء متحف يضم أعمال الفنانة الراحلة ` إنجى أفلاطون `.
والله من وراء القصد ..
أ.د / أحمد نوار
ديسمبر 1990
من أين واتاها ذلك النور ؟!
- قليلون فى مصر هم الفنانون الذين وهبتهم الأقدار لرسالة الفن والتعبير فى آن واحد ، فلا يقنعون بالابداع، متوافقين مع السائد والمألوف فى ساحة الفن أو المجتمع، بل يشعرون وكأنهم جاءوا ليختلفوا - بل ليتصادموا - مع هذا السائد ويغيروه ، لا فرق فى ذلك بين تغيير الفن .. وتغيير المجتمع!
- كانت إنجى أفلاطون - طوال حياتها - واحدة من هذه القلة ، منذ بداياتها المبكرة قبل سن العشرين ، حين اختارت الأسلوب الدرامى` الحوشى ` المتلفع بوشاح سريالى، للتعبير عن مكنوناتها الرومانسية المضطرمة، وعن عالم خارجى يصدم روحها الشاعرة بأهوال الحرب ... وهكذا وجدت نفسها منذ يفاعتها وسط كوكبة الفنانين الثوريين الكبار من جماعة ` الفن والحرية`، وواحدة من رواد حركة السريالية فى مصر، المتمردين على المسار الأكاديمى والبرجوازى الجامد للفن آنذاك .
- ولم يكن لتمرد إنجى حدود، ليس التمرد على الفن السائد فحسب ، بل على ثقافة طبقتها وواقعها الاجتماعى ... ولأنها قد اختصرت - منذ البداية - المسافة بين الموقف والفعل الثورى، فقد انفصلت باختيارها - وهى دون العشرين - عن محيطها الطبقى، وانغمست فى واقع المجتمع المصرى ، بدءا من القاع .. فى حوارى الأحياء الفقيرة ، وعبرت عن هذا الواقع تعبيرا جماليا مشحونا بالتعاطف الانسانى، يضىء وعينا بأسبابه، ويحرضنا للتمرد عليه فى نفس الوقت، سعيا إلى تغييره نحو حياة أفضل ...
- وكانت بذلك تتمرد حتى على نفسها .. بشجاعة فائقة، وتجازف بالتضحية بما أحرزته من مكانة مرموقة وسط السرياليين ، وبإعجاب النقاد والمثقفين بمرحلتها السابقة ، لكنها فضلت أن تتبع الصدق ، والوعى الفكرى ، بما وهبت له نفسها من قضايا التحرر والعدل، يستوى فى ذلك موقفها فى ميدان العمل الاجتماعى والسياسى، أو فى ميدان العمل الفنى والابداعى.
- ولقد دفعت الثمن غالياً مقابل هذا الاختيار : سنوات من زهرة شبابها - ومن حريتها - وراء القضبان ( من 1959 - 1963 ) .. لكنها - بفضل موهبتها وقوة إرادتها معا- انتصرت على السجن بالابداع الفنى الذى لم يتوقف ، بل كان السجن اكتشافا باهرا للفنانة ، وكنزا من التجربة الانسانية الثرية ، تعرفت من خلاله على أعماق الشخصية المقهورة وسط عالم السجينات غير السياسيات .. حيث تمتزج فى وجه المرأة ملامح الجانى والضحية ... فكان انتاجها فى تلك المرحلة من أروع أعمال التصوير التعبيرية فى الفن المصرى الحديث.
- وإلى جانب قوة التعبير الدرامى فى مرحلة أعمال السجن ، وضعت إنجى يدها على اكتشافها الأسلوبى الذى تميزت به حتى آخر مراحلها الفنية .. وهو أسلوب أقرب إلى` التبقيع اللونى` فى شكل لمسات فرشاة متجاورة ممتدة ، تترك فيما بينها فجوات بيضاء من سطح القماش الأبيض، فتحدث وميضا ضوئيا متذبذبا بلا توقف ، جاعلاً من كل سنتيمتر من اللوحة طاقة حياة تنم عن الكل وتتفاعل معه ، مكونا نسيجا شرقيا أصيلا يستوعب بداخله مختلف الروافد الجمالية ، من فنون الشرق الزخرفية المسطحة ، إلى مدارس الغرب الانطباعية والتعبيرية الحديثة .
- من أين واتاها ذلك الفيض النورانى وهى حبيسة القضبان ؟ !
لعلى لا أغالى إذا قلت .. إنه وليد الحنين الجارف إلى النور والحرية ..
- إن بوسع البللورة الأصلية أن تستقطب النور الخافت من شعاع ضوء بعيد ، وأن تولد منه - خلال سطوحها المتداخلة - أضواء جديدة ساطعة بألوان قوس قزح ، وهذا مافعلته إنجى فى ظلام السجن ، أو لنقل : إن النور الشحيح القادم عبر قضبان نافذتها الصغيرة أشعل الشوق بداخلها إلى نور الشمس الذى حرمت منه، فعكسته على سطوح لوحاتها التى كانت ترسمها وتهربها خلسة .. لأنها فى عداد الممنوعات !
- وليس من السهل على من جرب الحرمان من النور والحرية والطبيعة المشرقة ، أن يضحى بها مرة أخرى مهما كان الإغراء .. لهذا تمسكت إنجى - بعد رحلة السجن - بأسلوبها الانطباعى التعبيرى، فى غنائيات صداحة للنور العفى ، واللون المشتعل ، والطبيعة الخصبة بالثمار، وفى ` كوراليات أوركسترالية ` لمشاهد العمل الملحمية، حيث الانسان سيد الطبيعة والوجود ..
- وتتفتح آفاق النور والاشراق عاماً بعد عام فى لوحات إنجى ، حتى تصل إلى عالم من الصفاء الروحانى، تخف فيه وطأة الموضوع والعناصر المشخصة ، وكأنها تسعى إلى التواصل مع كنه الوجود ، فى خفة الفراشات الطليقة ..
- وفى مسعى الفراشات أيضا نحو النور، راحت إنجى تنتقل من سماء إلى سماء .. مبهورة وباهرة ... من سماء الوادى الخصيب بالحدائق والحقول، إلى سماء الواحات النافية فى الصحراء إلى سماء سيناء المشبعة بالقداسة ...
- وها نحن اليوم فى رحاب سماواتها الوضيئة ، نتنسم عبير النور الملون، ونستشف طيفها من وراء المجهول ... وإنها لحاضرة بيننا - كعادتها - ضاحكة ومشاركة ومؤثرة .
بقلم : عز الدين نجيب
أكتوبر 1990
أفلاطون .. والضوء الأبيض
- لم يعرف الضوء طريقة إلى فن التصوير إلا بعد أن قطع فى العصور القديمة شوطاً كبيراً فى استخدام ` البعدين ` الرأسى والأفقى دون العمق.. ثم بدأ يتسلل كضوء الفجر إلى لوحات فنانى عصر النهضة لإكساب الأجسام بعض الكثافة حتى بلغ ذروته على يد ` رمبرانت ` المصور الكبير الذى استطاع أن يكثفه ويروضه ويمنحه القدرة على الزحف فوق السطوح ومختلف المستويات وتسلق النتوءات ليحيلها إلى تكتلات ذات بروز وثقل ووزن .. مؤكداً مادية المادة ، ومادية الضوء!!
- كان الضوء يسقط فوق الأجسام من مصدر خارجى . من نافذة أو مصباح .. وكان يتجه إليها من بؤرة ذات زاوية خاصة تفرض أشكال الظلال وأنصاف الظلال ودرجات ميلها .. وكان أحيانا يغمر الأجسام فتذوب الظلال ولا يبقى منها إلا الطفيف الذى يوحى باستدارة الكائنات وعمق الفراغ .. ثم جاء فناننا ` محمود سعيد ` بكفاءته الفذة وجعل الضوء وكأنه ينبع من داخل الأجسام ذاتها كأنها ثريات مشبعة أو أجسام معدنية تمتص الضوء وتهضمه ثم تفرزه فوق السطح بريقاً له وهج ودفء..
- وتطالعنا الفنانة إنجى أفلاطون اليوم بمعالجة جديدة للضوء فى معرضها الذى تقيمه حالياً تحت اسم ` الضوء الأبيض` فهى تعتبر سطح اللوحة الخام قبل أن تطمسه الفرشاة بحراً من الضوء الأبيض الشفيف .. ويعتبر لمساتها الفسيفسائية كأنها راقصات البالية المائى تسبح فوقه، فتبدو الخلفية البيضاء وكأنها نوافذ ينفذ منها الضوء ليتخلل اللمسات الراقصة المبهجة بزخرفيتها السعيدة برشاقتها المزهوة بأناقتها.
- إن لمسات ` إنجى ` تتسع أكثر وأكثر . وتفسح مكانا للفراغات البينية لتطل منها .. وتسمح للخلفية بأن تقوم بدور إيجابى ، فتبدو كالرئة التى تمد اللوحة بالهواء والأكسجين .. وتبث فيها جانب البعد النفسى الذى توحى به تراكيبها الشاعرية التى ترتعش كأمواج البحيرة عندما تلامسها نسائم الشمال.
- والضوء عنصر مرادف للمناخ الصحى ، والصحو، واليقظة ، والأمل ، والحرية ..ولذلك تكتسب لمساتها فى رحابه نبضاً إيقاعياً راقصا مبهجا وباعثاً للتفاؤل ، حتى يمكننا أن نطلق على ` إنجى أفلاطون ` فنانة الأمل .
- إنها تصور حقول القطن ومزارع اللوف ، وبساتين البرتقال ، وتصور الفلاحات بملابسهن الزاهية الألوان كالفراشات السابحات وسط هذا الإطار الذى يطفح بالسعادة ، حتى عندما تعود بذاكرتها إلى عنابر المعتقلات فإنها لا تخنقها بالظلال المقبض، بل تسمح للضوء بأن يغمرها ويفيض على نزلائها بالأمل فى الحرية والغد!!
- إنها تذكرنا ` بماتيس ` الذى أراد أن يوظف فنه لإسعاد الناس وإراحتهم ، فكان يقول : ` أريد أن أجعل من فنى شيئاً أشبه بالكرسى الهزاز يسترخى فوقه المكدود بعد يوم شاق ، فيحصل على الراحة والسكينة .`
- وأبسط ما يمكن أن يقال عن لوحات ` إنجى ` إنها لوحات مريحة .. مريحة فى بساطتها ونظافتها .مريحة فى رقتها ..مريحة فى الترحيب بالمشاهد.. فهى تستقبلك كالوشى الذى يزين فساتين العذارى ، وتحييك بشفافيتها التى تنفذ إلى قلبك وتسكب فيه جرعة تفاؤل وحب.. إن الطبيعة مازلت تعطى الفنانة من عناصرها السخية ما يجعلها لا تفتعل التجريد.. إنها تجرد عناصرها من الإلحاح الثقيل وتخضعها لنسق زخرفى متأنق الخطوط ، منسق اللماسات ، وتسقطها فوق سطح اللوحة كقطع الفسيفساء فوق سطح رخامى أبيض أو كالفصوص الكريمة فوق طبق من العاج .
- الأمر الذى جعلها ترفع أثمانها فتجعل أرخص لوحة من عجالاتها السريعة بستين جنيها ، وأغلاها بسبعمائة جنيه..
بقلم : حسين بيكار
جريدة الأخبار 18-3-1977
المعرض الثالث للفن المستقل
-` مفاجأة المعرض هى تنوع أشكال الخضرة البالغ حد الهذيان فى لوحات إنجى أفلاطون - هذه الفنانة الشابة - صغرى فنانى مصر` المستقلين` - تستثمر الامكانيات الفنية المحدودة نسبيا المتاحة لهذا بذكاء نادر- فإنها تقطع كثافة وتداخل غصون أشجارها بمساحات معبرة شفافة، لا راحة نظر المشاهد، وهى تحدد بمهارة بؤرة لوحاتها متمثلة تارة فى منطقة إضاءة تنبعث من تحت الأرض، وتارة أخرى فى طائر أحلام يتحدى سكون الفضاء .. وحول هذه البؤرة ترتب بإتقان كل عناصر عالمها الخيالى.
- ربما كان الخيال الفنى لانجى أفلاطون - وهو أكثر خيال حر وتطور قدم كمثال فى هذا المعرض .. ربما هذه الصفة الخارجة عن المألوف حقيقة هى التى يتعين المحافظة عليها فى هذه الموهبة الشابة ضد مايمكن أن تسفر عنه ردود أفعال النقاد والجمهور..`.
بقلم : جورج حنين
جريدة لاسمين اجيبسين 1942
إنجى أفلاطون.. المواويل الملونة
- .. التقدير العالى الذى أحاط إنجى شرقا وغربا، عبر مشوارها الطويل فى طريق فن الرسم التصويرى، يدعونا إلى إطالة التأمل فى لوحاتها، لنستجلى تلك السمات التى لفتت انظار كبار النقاد والفنانين.
-.. قالوا عنها فى نيودلهى `1981`: `إنها تضفى قدرا هائلا من الحيوية` على تفسيرها للطبيعة وتدرك قيمة العمل كجزء لا يتجزأ من المنظر الطبيعى`. وفى روما قالوا: `إنها خرجت من قلب الحركة التشكيلية المصرية المعاصرة.. التى ترتبط بالواقع تصور العظمة القاسية للطبيعة المصرية.. فى لحظات من الحياة اليومية. وتكمن قوتها فى قدرتها على القبض على شعور ما`..
- فى رأينا: لو أن فلاحة لها موهبة أنجى أفلاطون وثقافتها الواسعة.. وتمكنها من أصول الصنعة لما عبرت بأجمل وأصدق مما عبرت به إنجى عن ريف مصر.. شكلا ومضمونا. قد ندهش لهذا وقد ولدت فى بيئة ناعمة.. منعزلة فى قصر صغير فى القاهرة واختلفت طفلة إلى `مدرسة القلب المقدس` الفرنسية الداخلية. ذات النظام الصارم والتقاليد المحافظة الا أن دهشتنا تزول، حين نعرف أن عزلتها فى الطفولة لم تصمد فى يفاعتها، أمام حرارة الثقافة والمبادرة الاجتماعية.. والشعور الصادق.. والاحساس الشريف فحياتها كما نعرفها، قصة حب مثيرة، لكل من الوطن والفن. كم ناضلت من أجلهما قولا.. وعملا.. وابداعا.
- لوحاتها مواويل بالألوان تنضح بالهدوء والصبر اللذين تنبض بهما الحياة فى الحقول ومن يسعون على ظهرها من الاف السنين. مواويل.. تعيد إلى ذاكرة المدينة اللاهية.. عالما منسيا يتألم فى صمت كم شدت إليه الرحال فى رفقة ألوانها وأدواتها، فارتمت على صدر القرى البعيدة.. بين الغبار والناموس.. والذباب والماشية والفلاحين المتناثرين هنا وهناك.. يستكملون خلال المشاهد يستكملون جلال المشاهد التى نراها فى لوحاتها. مهما صادفت من مشقة، الفن بالنسبة لها كالحب، لا تذكر له سوى كل متعة وسعادة.
- هكذا حياة فنانتنا الكبيرة: انشودة متصلة النغمات.. تمتد الى أكثر من اربعين عاما خلت. منذ أن فتحت عينيها على دنيا الفن، وهى بعد تلميذة فى `مدرسة ليسيه الحرية` الفرنسية فى باب اللوق.. تتلقف القصص الخرافية التى تؤلفها شقيقتها فتزينها برسومها المعبرة، لينشرها خالها فى مجلته التى كان يصدرها باللغة الفرنسية فى ذلك الحين.
- .. أطراف الحديث عن حياة الفنانة، تساعدنا على استكشاف كنه الجمال الغريب الكامن فى ابداعها.. وتلقى ضوءا ساطعا على مداخله، بوصفه انعكاسا لمسيرتها نحو مجتمعها، الذى ولدت معزولة عنه.. محرومة من لغته، فمضت تستكشف أعماقه حتى أحست به، أكثر مما يحس به الكثيرون من الذين صعدوا من تلك الأعماق لكن القيمة العالية التى تكمن فى أعمالها.. لا تستمد من الموضوع بل من الاثارة الشكلية.. والتوافق اللونى.. والايقاع الخطى.. وتوازن المساحات المرسومة مع الفراغات البيضاء بلون نسيج اللوحة.. والموقف الجمالى للفنانة، تلك الابعاد التى تلفنا بطائف من الحلم والهيام، يجذبنا إلى داخل اللوحة، لنستكشف بدورنا عالم الفنانة الذى تقدمه الينا، ليستنهض فينا أرق المشاعر وأعذبها، ويدعونا بلطف إلى التأمل والتفكير..
- ... شأن كل الفنانين الكبار تخاطبنا انجى بلغة صامتة.. هى لغة الأشكال أما عناصر اللوحة، كالأشجار والأشخاص والحيوانات فهى وسيط يحمل إلينا رسالة الأشكال. عناصر كأنها كلمات الموال.. تساعد على احكام اللحن وصدق تعبيره.. فيسعد أرواحنا ويسكنها عالم الجمال لبعض الوقت.. ويزيح عن كواهلنا هموم الحياة الدنيا.
- توافرت لانجى ظروف خاصة أعتقتها من قيود العزلة التى شبت فيها. حبتها بوالد واسع الأفق. درس فى لندن وكان معيدا لكلية العلوم. ووالدة تحلت بشخصية قوية وعقل ذكى.. واستعدادات فطرية جعلت منها أول مصممة أزياء فى شرقنا العربى، فى زمن كان فيه عمل المرأة نقيصة تؤخذ عليها. وكانت انجى طفلة يصفونها بالتمرد.
- ضبطوها فى مدرسة القلب المقدس تقرأ حكاية الكلب الذى فضل متاعب الحرية فى الغابة، على رخاء العيش فى ظل الاستئناس. اضطر والدها الى نقلها إلى `ليسيه الحرية` فكانت بذلك كالطير الحبيس، الذى انفتح باب قفصه فى غفلة من الزمان، مضت تتعرف على العالم الفسيح.. ومازالت تمضى حتى الآن، بقلب مفتوح وعيون نهمة.. وطاقة لا تهمد، كأنها مازالت تحت العشرين. وهذا شأن كبار الفنانين.. مهما بلغوا من ثقافة ودراية بالحياة.. وشهرة ومكانة تبقى قلوبهم شابة.. وعيونهم طفلة.. بينما تملك عقولهم حكمة الأيام..
- .. الشموخ الذى تتسم به شخصية انجى، تخلعه على شخصيات رسومها. سواء كانوا خلف قضبان المعتقل.. أو فوق السقالات يشيدون العمائر.. أو فى الحقول يزرعون ويقلعوه لكن معظم لوحاتها الريفية تختفى فيها فردية الاشخاص، ليصبحوا جزءا من المنظر الطبيعى، كما قال عنها النقاد فى الهند، مما يؤدى إلى بروز شخصية المنظر بما فيه من اشجار وحيوانات وأدوات وفراغات كثيرة بيضاء كأنها الأمل العريض.. يخفف من قسوة الحاضر المضنى.
- فى احدى لوحاتها، تنفسح السماء بيضاء بلون نسيج اللوحة، كما تنفسح الأرض من تحتها.
- بلا الوان، حتى إننا لندهش ايها السماء وايهما الارض، بينما يتوسط السماء والأرض صف من بيوت الفلاحين كأنها مبنية بالفسيفساء إنها بيوت الأحلام. نكاد نحلم مع ساكنيها بأن غدا.. تتحقق الآمال.
- بدأت انجى طريق الابداع الفنى تلقائيا، قبل أن تدرس فن الرسم دراسة أكاديمية. حين لمس والدها نزوعها الفنى، استقدم لها معلما يدربها على رسم الحشرات. إلا أنها بتمردها الفطرى رفضت الأسلوب الاملائى فى التعليم، رغم الاثارة التى شاقتها بادىء الأمر وهى تتأمل الحشرات تحت المجهر. عاد فألحقها باستوديو `جاروس امبير` الذى كان فى شارع قصر النيل بمثابة أكاديمية خاصة `1941` لكنها هجرته بعد شهر واحد بحثا عن الحرية.. حرية التعبير. ثم ساقت لها الصدف شابا فنانا عرف فيما بعد بدوره المرموق فى الحركة الفنية الحديثة فى مصر. علمها: كامل التلمسانى عن طريق الشرح والتوجيه وليس الاملاء والتصحيح. حدثها عن تاريخ الفنون وفلسفة الجمال.. وقدم لها فنون التراث واتجاهات الفن الحديث من خلال المراجع والصور، فانفتحت أمامها نافذة أطلت منها على عالم الفنون الحافل بالجمال والاثارة `1942-1945`.
- كان أستاذها يتحدث الفرنسية بركاكة، فاكتشفت أنها هى التى تتحدث لغة قومها بركاكة، وأنها غريبة على لغة المجتمع الذى تنتمى إليه فشرعت تستخدمها بلا حرج، فى احاديثها واختلاطها بالاتحاد النسائى، الذى أسهمت فيه بنشاط واسع حتى نجحت فى تمصير نفسها: لغويا واجتماعيا.
- استطاع التلمسانى أن يطلق طاقتها الفنية المتدفقة، ويشق أمامها طريقا مثيرا، فمضت تلتهم الكتب التهاما، حتى ألمت بعلوم التاريخ والاجتماع.. والفلسفة والاقتصاد، فضلا على الأدب والشعر والموسيقى. وتعلمت اللغة العربية فعمقت جذورها فى أرض بلادها، وتألق نجمها فى الحركة النسائية.. مما أودى بها إلى المعتقل فيما بعد..
- فى هذا الإبان.. اتخذت انجى من الرسم `السريالى` أو `ما وراء الطبيعة` منهجا للتعبير عن ذاتها. صورت كل ما خطر على بالها من أحلام وكواليس بطريقة روائية. `الوحش الطائر` - 1941 - فتاة تموت رغبة وهى تجرى.. تلاحقها أمواج وصخور وكائن متوحش رهيب الهيئة. و`الحديقة السوداء` - 1942 - جبال وأشجار على هيئة آدمية.. تتفزز تود لو تخلع جذورها التى تربطها بالأرض. و`انتقام شجرة` 1943 - شجرة كأنها كائن بشرى.. تسيل دماؤها لتغرق حاطبها عقابا وانتقاما.
- بدأت مشوارها الفنى مع جماعة `الفن والحرية` التى ضمت بين أعضائها محمود سعيد.. وفؤاد كامل.. ورمسيس يونان.. وكامل التلمسانى.. وراتب صديق، تساندهم ثلة من النقاد من بينهم: البير قصيرى.. وجورج حنين.. ولطف الله سليمان.. والكونت فيليب دارسكوت. كانت الحركة النقدية المصرية فى المهد مازالت، وكان ميدانها الصحف الفرنسية المحلية، لأن الصحف العربية كانت خلوا من النقد الفنى كعهدها الآن. سوى القليل النادر.
- فى تلك الأيام.. اختلط فن انجى بنشاطها الاجتماعى وبدأت أسفارها العديدة إلى الخارج.. فشاهدت متاحف العالم وروائع الفن عبر التاريخ القديم والحديث، وأدركت أنها لا تستطيع أن تقول المزيد من خلال المنهج السريالى ذى اللهجة الذاتية.. فتوقفت عن الرسم وانصرفت إلى العمل الاجتماعى على مدى عامين كاملين `1946-1948` لكن.. من قال أن الفنان الحق يستطيع أن يتوقف عن الابداع؟ تحت الحاح الرغبة التى لا تقهر، كان على انجى أن تعود الى الابداع من جديد، وكان عليها أن تدلف من مداخله الطبيعية بأن تتعلم أصول الرسم من بداية البداية.. حتى تتمكن من أسرار الصنعة التى تجسد بها مشاعرها وخيالاتها وأفكارها، مدركة أن الفن اذا كان رسالة حياة، ينبغى أن يكتمل بالتدريب اليومى وتحصيل المعرفة على أيدى الأساتذة الكبار ست سنوات.. ترددت إنجى أفلاطون خلالها على مراسم الفنانين ومراكز تعلم أصول الرسم 1948-1954`.
- غنى عن الملاحظة، ان عودتها إلى الرسم بعد انغماسها فى النشاط الاجتماعى ودراستها للأصول الاكاديمية، خلع على أسلوبها طابعا واقعيا اجتماعيا انعكس على معرضها الخاص الأول `1951` حيث ظهرت لوحات `روحى وأنت طالق` و`زوج الاربعة` تعبيرا عن هيمنة الرجل على مقدرات المرأة. كما صورت لوحات عن الكفاح المسلح ضد قوات الاحتلال البريطانى، منها واحدة بعنوان `لن ننسى` عن شهداء الفدائيين فى معارك قناة السويس.
- كان `ستوديو مارجو فيون` بالمعادى `1948` أول مداخلها أول مداخلها الاكاديمية إلى ميدان الرسم. كانت مارجو ترفض الرسم من الذاكرة على طريقة السيرياليين والتجريديين حتى لا يفقد تلاميذها علاقتهم الجمالية بالطبيعة. اعتمدت فى تعليمهم على التخطيط السريع `الاسكتشات` فى الريف المتاخم تخطيطات للناس فى حركة والحيوانات.. والمناظر فضلا على الرسم فى الاستوديو: الفواكه والخضراوات وعناصر الطبيعة الصامتة من أوان وأزهار وقماش. تعلمت انجى حينئذ كيف تتأمل الطبيعة، فاتسمت لوحاتها بالـ `حيوية` التى لفتت أنظار النقاد فى أوروبا وآسيا. واكتسب ابداعها التنوع.. والاثارة.. والبعد عن الاشكال المحفوظة الميتة، التى تفقد الصدق والاصالة. الاشكال التى تتحول لدى الكثيرين من رسامينا إلى نوع من المشق الرخيص الممل، كالعيون اللوزية والوجوه البيضية.. بدعوى استلهام التراث حتى بعض التجريديين منهم، أصبحت تشكيلاتهم زخرفية باردة.. خالية من أى أعماق.
- تعلمت انجى كيف تتجول للتأمل والرسم. معظم لوحاتها لها أصول فى القرى والدساكر فى طول البلاد وعرضها. ومعظم جولاتها منفردة رغم صعوبة الرحلة بالنسبة لسيدة فى مجتمع متخلف. لكن حياتها الزاخرة بالتجارب، علمتها أن العقبات لم توجد إلا لكى نتخطاها. تلجأ إلى الفنادق أحيانا وللأديرة أحيانا أخرى، تصحب أدواتها وألوانها ولوازمها الخاصة وتنطلق.. مع خيالها ورؤاها.. ورغبتها الملحة فى الرسم والتلوين.. وتجسيد هذه الرؤى وتلك الخواطر، ثم تعود الينا بحصادها الإبداعى، نشاهد معارضها المثيرة، ونجد فيه غذاء لأرواحنا.. وملعبا لخيالنا... ورسائل لعقولنا، ندركها لو تأملناها مخلصين.. كما اخلصت هى فى تأمل موضوعاتها. فأنجي فى الريف.. تشعر بأنها جزء من طبيعتها الطيبة.. الصبور. ينعكس شعورها هذا على ابداعها فنلمس فيه النضارة.. والتجدد... والحيوية.
- بالرغم من انها تحب موسيقى هايدن وبيتهوفن الا ان موسيقاها المفضلة هى:
- نداءات الفلاحين فى الحقول.. وشقشقة العصافير.. وهديل الحمام.. وزغاريد الحدان.. ونباح الكلاب.. وثغاء الماعز.. وخوار الثيران، بالإضافة إلى أنين السواقى وخرير الماء.. وحفيف الرياح وهى توشوش سنابل القمح وكيزان الذرة. تلك هى الانغام التى تشنف بها انجى أذنيها. وتلك هى المشاهد التى تغسل بها عينيها. وهذا كله نكاد نراه ونسمعه ونحن نتأمل لوحاتها النضرة دائما.. المتجددة دائما.. المثيرة دائما.. المتميزة دائما عن كل ما عداها.. شكلا وموضوعا ومضمونا.. نحس فيها بوشائج حميمة بالألوان المصرية التى طالما أبهجتنا فى المعابد القديمة ألوان صريحة.. هادئة.. تغلب عليها درجات الاصفر. لا نخطىء فيها عبق الشرق وجوهر الريف الخالد. نكاد نستدفىء بشمسه الحارة وهى تمحو عنه كل أثر للظلال.
- .. تلك السمات المحلية هى التى تضفى على لوحات انجى افلاطون الصفة العالمية، وتستنهض أقلام النقاد والفنانين.
- لا تتبع انجى منهجا واحدا فى تعبيراتها الفنية ولا تتبع مدرسة فنية بعينها. ولا تصوغ عناصرها وتكويناتها بقصد شكلى خالص وحسابات جمالية مرصودة. انها هى تجسد رؤياها لطبيعة بلادنا.. وناسنا.. ومشاعرنا وأحاسيسنا. تجسد هذه الرؤية فى مكان ما.. فى زمن ما...
- ... وحين يمضى الزمان فى رفقة الاحداث.. ستبقى لوحات انجى نابضة بالحيوية.. مسعدة للقلوب.. فى بساطة خلو من أية سفسطة. تبرز جمال أشياء كنا نراها تافهة قبل أن تقدمها لنا. توقف فينا التفكير والتأمل فنرى نوعا من العظمة فى صورة فلاح يتعاون مع زوجته فى حمل كتلة من الخشب. حين تصور انجى تلك الاشياء الصغيرة، يخيل إلينا أن عينيها تختلفان عن عيوننا. هذا الشىء الجديد الذى تضيفه الى رسومها، هو ما نسميه `المدرك الجمالى` أو `الموقف الاستطيقى` إذ يكاد الموضوع أن يختفى تماما بعد قليل من التأمل ولا يبقى سوى العلاقات والالوان، لتزرع فى قلوبنا نوعا خاصا من الحب ورقة الاحساس.. انها تشحذ مشاعرنا... فنستجيب للمؤثرات الخافتة.. مهما كانت هامسة، لذلك ستبقى لوحاتها.. مع قلة نادرة مما ستسفر عنه حركتنا الفنية الراهنة.
- فنانة مثل انجى أفلاطون، تفكر بأسلوب يسبق زمانها، كان لابد لها من تذوق مرارة الاعتقال. وفى أنحاء العالم وعبر التاريخ.. عاش فنانون مطاردون بسبب أفكارهم. ليوناردو دافنشى، عبقرى عصر النهضة الايطالية `1452-1519` نادراً ما أكمل لوحاته بسبب أفكاره الخاصة، ومطاردة حكام فينيسيا وفلورنسا له من حين حين لآخر. والهولندى: فان جوخ `1853-1890` اعتقلوه فى المصحات العقلية واتهموه بالجنون.. حتى أنهى حياته بالانتحار والالمانى: ماكس بيكمان `1884-1950` اضطر الى الهجرة إلى أمريكا حتى لا يقع فى قبضة النازى. والإسبانى بابلو بيكاسو `1881-1973` انتظره فرنكو طوال حياته ليقضى عليه مع أولى خطواته داخل حدود الوطن. وكم من شعراء وأدباء... قاسوا مرارة المطاردة والنفى والاعتقال لأسباب فكرية وفلسفية، مثل: عبد الله النديم.. ومحمود سامى البارودى.. وأحمد شوقى.. وبيرم التونسى.. وطه حسين..
- قضت انجى أربع سنوات ونصف فى معتقل سجن النساء بالقناطر الخيرية `1959-1963` أبدعت خلالها سلسلة من اللوحات صودر بعضها، ووجد الباقى طريقه إلى جدران معارضها. لو تأملنا تلك الاعمال.. لتبينا كيف فرضت المأساة على الفنانة أسلوبا خاصا بتأثير المناخ النفسى داخل السجن. تحولت إلى المبالغة فى النسب ورمزية الالوان.. وديناميكية الحركات ودراماتيكية التكوين. أسلوب تعبيرى تماما، مخالف لكل ما نراه فى لوحاتها الآن.. من غنائية وبهجة.
- لوحات المعتقل نوع من الفن الدعائى لمجرد اننا نستطيع تبين هيئة السجينات مكدسات خلف الاسوار الحديدية.. تبرز من بينها أطرافهن فى تشكيلات قاسية.. وألوان كابية.. وملامح مبهمة.. نعود فنذكر بالموقف الجمالى `الاستطيقى` الذى ينبغى لنا أن نتخذه فى حضرة الفن التشكيلى والا لكانت لوحة `الاعدام` للفنان الإسبانى جويا `1746-1828` فنا دعائيا. و`الحرية تقود الشعب` للفرنسى دولاكروا `1798-1863` ورائعة القرن العشرين `جيرنيكا` لبيكاسو.. وغيرها الكثير.
- .. جميع أعمال انجى لا تخلو من الجانب الروائى الواقعى. لكننا لا نكاد نخلص لها ويستغرقنا التأمل، حتى تزول هذه المؤثرات الروائية العارضة، ونشعر بعظمة عزف الفنانة على أوتار أحاسيسنا ومشاعرنا.. ونبقى متعبدين فى محراب `القيمة` الجمالية... فلا ندرى كم من الوقت قضينا فى صحبة ابداعها المثير. تشعرنا تلك اللوحات كأننا فى حدائق غامضة.. تغص بكائنات غريبة... تنجز عملاً هاما لا ندرى كنهه... فى زحام يدفع إلى صدورنا بمشاعر متناقضة.. يختلط فيها الرثاء بالشفقة بالأعجاب.. بالرغبة فى اطلاق سراح تلك الكائنات المحبوسة.
- فى مطلع مشوارها الفنى كانت انجى تسقط خيالها عفوا على قماش لوحاتها. وكانت `السريالية` تحقق لها ذلك دونما حاجة إلى قدر عالى من الصنعة والحرفية. لكنها حين عادت إلى الرسم بعد انقطاعها، أحست بالحاجة إلى التعبير عن مشاعرها الدقيقة الرقيقة نحو الحياة فبدأت مع `مارجوفيون` بالمعادى.. ثم القسم الحر بمدرسة الفنون الجميلة، حيث تتلمذت على بيكار وراغب عياد ونخبة من أساتذة الفن ثم اختلفت إلى `ستوديو حامد عبد الله` الرائد المهاجر إلى فرنسا الآن، حيث تعلمت المزيد من بديع الصياغة الفنية وبلاغة الملامس وتنغيم الخطوط.
- تعرفت على أصول الفن من مصادر مختلفة وتجارب متعددة وأشبعت عينيها ووجدانها بتأمل الروائع المحلية والعالمية.. فضلا على مشاهد الطبيعة. لذلك.. حين نتأمل لوحاتها وهى فى مرحلة النضج الكامل، لا تخفى علينا أستاذيتها فى كل ضربة لون.. أو مسار خط فقد اكتسبت أسرار الصنعة حتى أحسنت اعداد الوعاء الذى تفرغ فيه موهبتها الفذة.. واحساسها الدافق، ونجحت فى رسم الريف بهذه الطريقة المعقدة، التى تبدو بسيطة للنظرة العابرة لانها تدخل فى باب السهل الممتنع. نتبين `فنيتها` من العملية الخلاقة المثيرة التى تجذبنا إليها. فالطبيعة فى لوحاتها مختلفة عنها فى الواقع. انها طبيعة خاصة من ابداع الفنانة `الواقع الثانى` للريف المصرى الأحلام مرسومة بعناصر الواقع. معزوفات لونية.. انغامها أشكال يدركها المشاهد فى لحظة.. لكنها تستقطب ذهنه ووجدانه وتدفعه بلطف إلى مزيد من التأمل.. حتى يغوص فى تفاصيلها متنقلا فى نشوة غامرة. انه عالم انجى. نكاد نحس بها.. خلف شجرة هنا... أو نخلة هناك... أو ربما تنظر من كوة بيت قديم.. بعيد، بين رجال وأطفال ونساء يعملون بنشاط واعتزاز.. وصبر واستمرار اصرار.. فى هدوء وسلام.. انه الريف العميق الصامت.. القانع الذى لا يدرى به أحد انها تنقل حقيقته إلى قلب القاهرة.. وعواصم أوروبا وآسيا وأمريكا.
- وبالرغم من أن أحدا لا ينكر لوحات انجى، جمالها وجاذبيتها واثارتها، إلا أننا فى نفس الوقت، لا نستطيع أن نتخلص من النغمة الأسيانة، التى تغلف تكويناتها وألوانها وعناصرها. نشعر مع فلاحيها كأنهم يتغنون بالتعاسة. ونحس بالبهجة ملموسة بالشفقة والرثاء.. لهؤلاء الذين يؤدون رسالة الحياة، كما يؤديها النحل فى عشوشه.
- .. لا تعرف انجى متى عشق الرسم. ولد معها كما يولد الاريج مع الزهور.. كلما صلب عودها ازداد قوة وانتشر مداه من حولها. لا ينتسب أسلوبها إلى أى من الأساليب المعروفة.. وتلك هى طبيعة الفنان الأصيل.. يظن البعض انها تأثيرية. لكن أبدا. انها طراز فريد بين فنانينا الكبار.. وفنانى العالم أيضا. هكذا قالوا وهكذا نقول.
- وهذا هو سر نجاحها فى الداخل والخارج. واذا كانت لم تحصل على جائزة من الدولة حتى الآن.. فالخطأ ليس من جانبها...
بقلم : د./ مختار العطار
( من كتاب رواد الفن وطليعة التنوير فى مصر- الجزء الأول )
` ويمكن أن نصف لوحات هذه الفنانة بأنها ` غنائيات لونية`، كما فى تلك البرتقالات اللمعة المتوهجة بين أغصان شجرها وأوراقها الخضراء مثل شموس لألآه ، فقط وخطوط متناثرة هنا وهناك وفى النهاية عالم تشكيلى فريد `.
` ولكن فى هذا العالم يبدو الانسان أيضا حركة لا تهمد، وعملا متواصلا وارتباطا بالطبيعة التى هو منها وهو لها ..`
بقلم د. نعيم عطيه
من كتاب ` نزهة العيون`
- عندما مررت باللوحات واحدة بعد واحدة فى معرض الفنانة الممتازة السيدة/ إنجى أفلاطون متأملا متزوقا فيما آراه ، أحسست بقوة لم أحسها من قبل عند فنانة أو فنان، إذ أحسست بأنى انما أشهد حياة نابضة مشاعر - فيها كل ما فى مشاعر فيها كل ما فى مشاعر الانسان المرهف الحس - من فرحة وصرخة، وسكينة نفس وخطرا بها، اشراقة أمل وقتامة يأس.
- إنها حياة خصبة برقائق لمحاتها ورؤاها فلوحات الحياة فى السجن فيها ذلك المزيج الرائع بين الثورة الغاضبة والأسف والأسى على حرية مفقودة ، لكن ذلك كله يشف وراءه عن روح الأمل فى غد قريب، وفى اللوحات الريفية ترى بساطة الحياة المصرية وبراءتها ونزاهتها وعمقها فى آن معا، وفى لوحات سيناء تحس لمسة التصوف العابد فى لحظة شهوده ، فالضوء فيها يوحى بالطهر والقداسة ويقين الحق وفى انتقال المشاهد من مكان فى المعرض إلى مكان مجاور لا يخطىء بصره رؤية انتقالات الفنانة / مع مراحل حياتها وذلك فيما يتغير معها من أسلوب أحيانا، ومن أسلوب ورؤية جديدة أحيانا أخرى .
- وأهنئها أصبحت الفنانة العظيمة، وأهميتها بابداعها وأفخر بأن تكون هذه هى مصر .
بقلم : د. نجيب محمود
- إن أعظم الفنانين وأفضل المفكرين اللذين تدفعهم الرغبة المكثفة فى الفهم والتعبير، سرعان مايشبعون حقلا ما من الواقع ، ثم ينتقلون دون تبذير للوقت إلى حقل جديد من أجل فهم رموزه واستيعابه. وتتكون مراحل فن إنجى من هذه الحقول التى اكتشفت جميع أسرارها عبر التعاقب المستمر لأعمالها العظيمة. وعندما كانت وسيلة ما للتعبير قد أعطت لها كل إمكانياتها فى العطاء كانت تنتقل فى اللحظة ذاتها إلى مرحلة جديدة، مختلفة تماما ، وتشمل مع ذلك، نهائيا، ثراء المعرفة المكتسبة فى اللحظات السابقة. وتوا كانت إنجى تسيطر على التعبير الجديد ، فى وضوح جليل.
- وقد اكتسبت المراحل الأخيرة لفن إنجى قمما، ربما عرفت أنها كانت قد أشبعت كل إمكانيات عطائها الكريم للانسانية. وكما تصنع الموسيقى من لحظات الصمت بقدر ماتصنع من الأصوات ، فالمساحات البيضاء للوحاتها تصاحب بالضرورة كيفية ألوانها . معا، تقنعنا توا. فى هذه التركيبة، يعبر الظاهر والباطن عن واقع العالم الحقيقى ، مضيئين للأساسى من الداخل .
بقلم : د. سمير أمين
` أدب ونقد ` أغسطس 89
- تتميز أعمال الفنانة أنجى أفلاطون بالتحرر من قيود طراز فنى معين ، إلا أنها تعتمد أساساً على التعبير عن ذاتها. ويتسم أسلوبها الفنى فى مجموعه بالأداء التعبيرى الناتج عن الانفعال الفنى، الذى يهدف إلى إضفاء المعانى الرمزية للعناصر المرئية .
- وتتخذ الفنانة لذلك نهجاً فنياً يختلف أساساً عن الواقع المرئى المباشر، حيث تلجأ إلى تحريف العناصر من أجل إبراز الجوانب التعبيرية ، مؤكدة على القيمة الحركية للخط والمساحة واللون ، بلمسات ذات طابع انفعالى . وهذا المعرض يعكس الصدق والأصالة لرحلة الفنانة ` أنجى أفلاطون` الممتدة عبر مايزيد على أربعين عاما مع الفن .. حيث بدأت رحلتها الفنية منذ عام 1942 ، وكانت متوجهة منذ البداية إلى الجذور المصرية المتمثلة فى الطبيعة والمجتمع .
- صارت الطبيعة المصرية منذ البداية هى الملهم الأول للفنانة، وكانت قضايا المجتمع المصرى ومشاكله هى شاغلها الأساسى .. فلم تنفصل أبداً عن أرض الواقع ، فجاءت أعمالها الفنية تعبيراً صادقاً عن موضوعات الواقع بصيغ تصويرية جديدة .
- وقد اهتمت الفنانة ` أنجى أفلاطون ` فى مراحل إنتاجها الجديدة بعنصر
` الضوء` فى اللوحة، حيث صار جزءاً أساسياً فى سلبية اللوحة يلعب دوراً هاماً مع بقية الأجزاء ، كما تميزت تلك الأعمال الأخيرة بالبساطة، وتلخيص العناصر فى قوة ورهافة حس بالغين .. وبخلق حوار مرهف وعميق ، باستخدام التقابل بين الألوان الساخنة والباردة ، وبين ليونة اللمسات المتقطعة الملتوية والمتحركة وبين هندسية الأشكال الأخرى فى نسيج اللوحة التى تشترك جميعها فى خلق سيمفونية متكاملة.
بقلم : د. مصطفى عبد المعطى ( مدير المركز القومى للفنون التشكيلية)
معرض الثائرة
- عرضت إنجى أفلاطون طوال الأسبوعين الماضيين فى صالة آدم خمسين لوحة .. ملخصها جميعا : أنا ثائرة !
- ولو أن إنجى انزلقت كالآخرين إلى عرض لوحات تقول فيها:` أنا فنانة `.. لفشل معرضها كما تفشل عادة معارض الآخرين ..
- وهذا - بالذات - هو كل مايحتاج إليه المجتمع المصرى فى مرحلته الحالية.
- نحن فى حاجة إلى سيدة تهاجم أمامنا ` الطلاق ` .. وتشرح بشاعته بوجه امرأة مذهولة ، ضائعة ، يتنفس فى عينيها حقد أسود على الحياة التى سلبتها منها جملة الزوج الطاغى : روحى وانت طالقة!
- فى حاجة إلى مصرية تقول لنا إننا لصوص .. وتثبت هذا الاتهام بصورة فلاحتين تستلقيان ككومتين من القمامة وراء جدار فى الريف .. كلتاهما متعبة كأنها تموت .. ملقاة على الأرض بلا حياة ... وكلتاهما مع ذلك تصنعان لنا كل الحياة ..
- فى حاجة إلى ثائرة تقول لنا إن معركة الحياة ليست معركة الرجل وحده .. ثم تؤكد هذا القول بصورة النساء وهن ` يعملن كالرجال ` .. وبصورتهن فى جنازة الشهداء وهن يسرن فيها مع هؤلاء الرجال ، ويرفعن أيديهن إلى السماء كأنها تصيح : لن ننسى!
- هذا هو مانحن فى حاجة إليه ..
- ومهمة الذين يعرفون كيف يرسمون فى مصر .. ينبغى أن تكون دائما هى التعبير عن الحياة التى يعيشونها .
بقلم : صلاح حافظ
روز اليوسف 17-3-1952
- كانت المدرسة الواقعية الحديثة فى الرسم غير محددة المعالم .. إلى أن دخلت ياإنجى الميدان..
- معرضك يثبت أن الفنان الواقعى له خصائص تماما ككل فنان من مذهب آخر .
- اللون عندك يلعب دور مهم جدا.
- والهارمونى بين الموضوع والشكل قد وصلا على ريشتك للقمة..
- والهم المصرى .. ليس ككل الهموم الانسانية.
- إنه هم ممتزج بكثير من المسرات التى لا يعرف أحد مصدرها. هذا هو الهم المصرى الذى استطعت أن تبثيه بصدق فى كل الموضوعات .
-` روحى وانت طالقه` معجزة كبيرة ياإنجى .. الحياة فيها تعبر عن موت أبشع من الموت.
بقلم : زكريا الحجاوى
7-3-1952
- تحية لعبقرية الفنانة إنجى أفلاطون التى استطاعت بروعة الخطوط والألوان وبعمق إحساسها أن تعبر فى نسيم أخاذ عن سكينة الحياة فى ريفنا المصرى العزيز وعن كل ماتنبض به الحياة هناك من أشواق ..
مع إعجاب لاحد له، وأطيب التمنيات بالتوفيق الدائم .
بقلم : عبد الرحمن الشرقاوى
31-3-1973
فرح الطبيعة الخادع
- عايشت الفلاحين وهم يعملون فى الحقول .. وراحت تصور فى عشرات اللوحات مختلف مراحل العمل . خاصة وسط محاصيل الباذنجان واللوف وأشجار البرتقال .. إنها لوحات لاتكاد تتعرف فيها على حدود واضحة تفصل بين الفلاحين والفلاحات وبين الأشجار والمحاصيل ، لقد امتزجوا وتداخلوا فى بقع لونية وضربات متلاحقة من فرشاة مشبعة بعجينة لونية دسمة على أرضية بيضاء ناصعة حرصت الفنانة على أن تترك شطفات وثغرات متناثرة منها فتحدث نوعا من الزغللة البصرية أو مايطلق عليه خداع البصر، ومن شأن هذا الأسلوب أن يعطى انطباعا بالحيوية والبهجة وعدم الاستقرار والحركة الغامضة والزحام الشديد، زحام لاتميز فيه شخصية محورية أو بطلا رئيسيا ، وإن وضحت فيه هنا وهناك بقع متوهجة تمثل الثمار التى يقطفها العمال، أو الوجوه السمراء للصبايا اللائى يقطفنها.
- ولست أدرى من أين استقت إنجى - وهى خارجة لتوها من سنوات العقم - كل هذا القدر من الخصوبة التى وضعتها فى الطبيعة ! ... هل هو مجرد رد فعل عكس أم هى رؤية متفائلة لمستقبل العمال المنتجين؟ .. أم هو اتساق مع طبيعتها الخاصة كأنثى رسالتها الحقيقية فى الحياة هى الخصوبة والنماء ؟
- ولست أدرى من أين أتت بكل هذا الاحتفال الذى يشبه طقوسا وثنية حول أشجار البرتقال، أو عرسا بدائيا وسط غابات أفريقية على دقات الطبول والرقصات المحمومة !..
- أغلب الظن أنه ليس احتفالا طقسيا بقدر ماهو نوع من التوالد الذاتى والتكاثر العشوائى لضربات الفرشاة التى أطلقت من عقالها الطويل ، فصارت كل ضربة تولد من داخلها دوامة من الضربات المتتابعة حولها فى مجال فلكى خاص كعناقيد النجوم فى سماء بلا قمر. وهى دندنة تشكيلية بحتة تعبر عن قمة الاستمتاع بالحرية التى لا يشعر بها إلا فنان حرم من الحرية . لكنها دندنة خاضعة - رغم مافيها من عشوائية - لنظام محكم لاتفصح عنه الفنانة ، لكن البناء العام للوحة يؤكده فى النهاية .
- ولقد اكتشفت - بعد أن عايشت لوحات هذه المرحلة طويلا - أن حالة الفرح التى تخلقها فينا حالة خادعة، ففى أعماقها حزن مبهم غائر ، يمكن أن تتبينه لو أمعنت عن قرب فى وجوه الناس فيها ، إن كل وجه تغلفه مسحة غامضة من الأسى كسحابة من الدموع .. لقد أدهشنى ألا أجد فى كل لوحات إنجى - رغم كل الفرح الذى يغمرها - وجها واحدا سعيدا !
بقلم : عز الدين نجيب
مجلة الوادى سبتمبر 1979
إنجى أفلاطون والبحث عن الجذور
- تشكل رحلة الفنانة ( إنجى أفلاطون ) الفنية حتى الآن ، سعيا دؤوباً نحو الجذور المصرية العربية .
- أمسكت سلاح الفنان ، وسلاح السياسى الوطنى ، وقررت بهذين السلاحين أن تمزق عزلة الجو المخملى المفروض عليها بحكم المولد ، وأن تنتمى بكل كيانها إلى القضايا الوطنية فى مصر والعالم العربى .
- مزقت الشرنقة التى تحول بينها وبين ` البديهيات ` كالتحدث باللغة العربية ، مثلا ! ، فقد ظلت حتى الثامنة عشرة من عمرها لا تعرف شيئا عن لغتها الأولى ، كانت اللغة الفرنسية التى تتحدثها البرجوازية الكبيرة المصرية المسلمة ، هى لغة حديثها اليومى ، وأحيطت فى البيت ، وفى المدرسة الليسيه فرنسية ، وبين أقربائها وقريباتها ، بجو أوروبى ، وكان من الطبيعى أن تستسلم لهذا المناخ ، إلا أن شيطان الفن الذى تقمصها منذا الصغر قد أحدث فيها تحولات لم يتوقعها أحد ، التقت بنوعية من المثقفين الوطنيين أسهموا فى تشكيل وعيها بالتناقض الحاد بين الكسل المخملى ، الشره ، الشرس ، وما شئت من كل التناقضات الشريرة لأقلية متعالية فى المجتمع المصرى ، والقهر لغالبية عظمى من أبناء الشعب ، بالإضافة إلى قلقها الفطرى ضد كل ما هو جامد ، ومتسلط .
- كل هذا قد أسهم فى صوغ شخصية قوية ، وفنانة متميزة فى الحركة التشكيلية المصرية .
- كانت طبيعتها القلقة ضد أى دراسة ذات طابع مدرسى جامد ، وحرصها المبكر على التعبير عن ذاتها أهم من التعرف على الأدوات الفنية التى تعينها على تجسيد هذا التعبير ، كان والدها عميدا لكلية العلوم يستشف فيها الميل للفن ، فكان يقدم لها بعض المستنسخات العلمية لتنقلها ، فكانت تستجيب مرة ، وتنفر مرات ، ليس لأنها لم تكتسب بعد مهارة الرسامين العلميين ، ولكن لأن طبيعتها لم تسمح لها بالصبر على إلغاء الذات ، وأن تتحول إلى عين خالية من الانفعال كعين الكاميرا .. وكانت تفضل أن تمضى الساعات فى رسم قصص للأطفال كانت من تأليف شقيقتها الشاعرة ، ونشرت بعض هذه القصص والرسوم فى نشرات محدودة ، ورأت والدتها أن تلحقها بمرسم لفنان أكاديمى إلا أنها لم تستمر، ولم تتمكن من الإمساك ببداية الخيط إلا عندما ساقتها الصدفة إلى فنان كبير هو الفنان( كامل التلمسانى) وكان أحد أعمدة جماعة ( الفن والحرية) ، وهى التى كانت نقطة التحول في الحركة التشكيلية المصرية ، فى الأربعينيات ، فقد حررت الحركة الفنية من الجمود الأكاديمى ، وفتحت الطريق لتيارات الفن الحديث ، ولم يكن هدفها السماح بغزو الفكر الأوروبى لمصر ، ولكن محاولاتها كانت أقرب الى تمصير تلك التيارات .
- كان الأستاذ فقيرا فقرا غير إنسانى ، وقد استخف بالدعوة للتدريس لفتاة من علية القوم ، تسعى لدفع السأم عن نفسها ، وطلب منها فى البداية رسم لوحة ليراها فى اللقاء القادم ، ويحدد على أساسها أن كانت تستحق الاهتمام ، أو تظل المسألة فى منطقة ( أكل العيش ) ، غير أنه فوجئ باللوحة التى رسمتها ، فقد كانت النقيض لكل ما يراه فى حياتها ، كانت لوحة رمزية تصور فتاة تقاوم لتخرج من جوف شجرة بدورها ، تحاصرها النيران ، وتركت الفنانة الصغيرة لنفسها العنان ، فتحركت فرشاتها بحيوية وجرأة لا يشوبها تردد .
- إنبهر الأستاذ لتلك الشحنة التعبيرية ، واكتشف خطأ تعجله فى الحكم عليها ، وأيقن من أن فى داخل شكلها الرقيق بركانا مضادا لقهر الإنسان وحصاره ، ورأى أن من واجبه العناية بها ، فدرس لها تاريخ الفن ، وحدثها عن الاتجاهات الفكرية والسياسية ، ولم يكتف بذلك بل كان أول من قدمها إلى الحركة التشكيلية المصرية ، وأشركها في المعرض الثالث للفنانين المستقلين ، واشتركت في عدد آخر من معارض ` المستقلين ` ابتداء من عام 1942 حتى عام 1945 ، ولوحات تلك المرحلة أقرب إلى المذكرات الرمزية لفتاة قلقة ، تعلقت بالأشجار ، وخلعت عليها همومها ، وأحلامها ، فطالعتنا أشجار تقاوم قيودها ، وكان يبدو على الاشجار هيئة الإنسان الحقيقى ، وهو يدخل معركة شرسة من أجل البقاء ، أما ألوانها فكانت قاتمة .
- وأعلن النقاد عن مولد فنانة جديدة ، واتسم أسلوبها الفنى بما اتسم به اسلوب جماعة ` الفن والحرية ` ، وهو الأسلوب السيريالى ، وأن جنحت لوحاتها إلى الرمزية أكثر .
- وظلت متعلقة بمفردة ` الشجرة ` وهى إحدى مفردات ` أبجدية ` الفنانة التى ظلت تصاحبها حتى اليوم ، وتباين فى المستوى ، واختلاف فى وجهة التعبير الفنى .
- كانت الشجرة فى البداية تحمل هيئة ، وصفات الإنسان ، وكانت أحيانا ترضى بأن تكون سندا له ، كأن تكون مخبأ له يقيه من شر مؤكد ، في شكل طائر وحشى يتقدم صوب فتاة ، ويمكن تصور ان تلك المخاوف الخاصة قد التقت بمخاوف الحرب العالمية الثانية ، ولوحات تلك المرحلة تعبر عن ذلك الخاص العام : الخوف ، الصراع من أجل التحرر.
- قد تمر بالفنان ، سواء كان فنانا كبيرا ، أو ناشئا ، لحظات ينتابه فيها الشك في جدوى الفن ، وقد يفترسه الشك ويصل به عند حالة النفور ، والانصراف الكامل عن ممارسة الفن ، فاللوحة ، بطبيعتها ، لا تقتحم المتلقى ، ولا تغير شيئا بداخله قبل استئذانه ، وعليه أن يقبل عليها أولا ، ويفتح إليها طريقا لقلبه وعقله ، وأن يحاورها محاورة الحر للحر ! فإذا قبلها ، فهذا يعنى أنه ترك طريقا لإضافة الشيء الكثير أو القليل لذوقه ، وهو لن يتغير بين يوم وليلة ، ولكن قد تطول المسألة لسنوات ، وسنوات !
- وحدث للفنانة ( إنجى ) أن توقفت عن ممارسة الفن عندما مارست العمل السياسى الوطنى ، وذلك فى أعقاب الحرب العالمية الثانية ، ورأت أن لغة الرغيف أكثر بلاغة للبطون الجائعة ، وسافرت فى المؤتمرات الدولية للدفاع عن حقوق المرأة ، وقد كانت من أوائل السيدات المصريات اللاتى سافرن فى مؤتمرات نسائية عالمية بعد الحرب العالمية الثانية ، ورأت أن الكلمة المكتوبة أكثر فعالية من اللوحة ، سريعة الانتشار والتأثير ، فألفت كتبا ثلاثة : الكتاب الأول عام 1947 بعنوان : ` ثمانون مليون امرأة معنا ` كتب مقدمته د. طه حسين ، والكتاب الثانى عام 1949 بعنوان: ` نحن النساء المصريات ` كتب مقدمته عبد الرحمن الرافعى ، والكتاب الثالث عام 1951 بعنوان : ` السلام والجلاء ` ، والكتب الثلاثة تمثل صرخة احتجاج ضد الكرامة المهدرة للمرأة المصرية وتحفزها للمقاومة .
- ولعل تداخل ` الخاص ` و ` العام ` فى شخصية الفنانة ` إنجى أفلاطون ` يكاد يكون نموذجيا بين فناناتنا وفنانينا المصريين ، والعرب ، كانت تدافع عن كرامتها الشخصية فى نفس الوقت الذى تدافع فيه عن كرامة المرأة المصرية ، كانت حريصة ، خلال مرحلة الشباب ، على تمزيق الشرنقة القوية المحكمة حولها من قبل الأسرة ، وأيضا ، الطبقة التى إنتمت إليها بحكم المولد ، فكانت تسعى للتحرر من هيمنة الأسرة عليها ، فمارست أعمالاً لا علاقة لها بالفن ، مثل العمل فى معمل طبى للتحليل ، كما قامت بتدريس اللغة الفرنسية فى مدرسة الليسيه فرنسية ، وذلك من أجل الاستقلال الاقتصادى ، واستعادت ثقتها التى اهتزت بدور الفن ، وعادت للرسم ` أكثر حرارة ، وحماسا ، وتركت العمل بعد زواجها من أحد رجال القانون المستنيرين ، والمتفهمين لطبيعة الفنان ، هو الأستاذ محمد محمود أبو العلا ، وتمكنت من التفرغ للفن ، كما التحقت ببعض المراسم ، فالتحقت بالقسم الحر بكلية الفنون الجميلة بالقاهرة ، كما التحقت بمرسم
` مارجو فيون ` ، ومرسم الفنان ` حامد عبد الله ` المقيم حالياً بإحدى ضواحى باريس ، كما صاحبت الفنانة ` بورشار سميكة ` فى جولاتها فى الريف المصرى ، ورغم تعدد أساتذتها إلا أن أستاذها الدائم كان وما يزال :` الطبيعة المصرية ` .
- أقامت معرضها الأول الخاص فى شهر مارس عام 1952 بقاعة ` آدم ` بشارع سليمان ، وكان ذلك فى أعقاب حريق القاهرة ، وفى نفس العام الذى حدثت فيه ثورة يوليو ، ولقد حاولت إيجاد صيغة فنية متوازنة للعمل الفنى ذى الصيغة الاجتماعية ، والسياسية ، غير أن أعمال المعرض اتسمت بنبرة عالية من المباشرة ، دارت موضوعات المعرض حول ` المرأة ` المصرية ، الفقيرة المقهورة من كل جانب : الاقتصاد ، والسياسة ، والرجل ! والمعرض صرخة احتجاج ، نلمسها من عناوين الوحات : ( الزوجة الرابعة ) ، ( روحى أنتى طالقة !) ، كما قدمت لوحات عن شهداء 14 نوفمبر ( شهداء قناة السويس ) .
- لقد التقطت نماذجها من قاع الواقع المصرى ، أما أسلوبها الفنى فقد اتسم بالأداء التعبيرى : تحريف الشخوص ، والعناصر من أجل إبراز ، وتأكيد الجوانب التعبيرية : اللمسات ذات طابع انفعالى ، لا بنائى ، الألوان داكنة ، مقبضة أحيانا ، البعد الثالث غير مؤكد ، وخاصية البعد الثالث المخفف ، أو غير المؤكد ، ظلت تصاحبها فى كل مراحلها الفنية ، وأن عولجت بطريقة أكثر نضجا ، كما سوف نرى فى مرحلة من مراحلها ، أطلقت عليها عنوان ( الضوء الأبيض )
- كان الانسان فى هذا المعرض ، بهيئة الواقعية المحرفة ، هو المحرر الأساسى أما العناصر الأخرى فمجرد هوامش ، أو عناصر مساعدة ، وأن تغير موقع ` الإنسان ` ` الفرد ` فيما بعد ، مندمجا فى أعمال جماعية .
- يقول عنها الفنان العالمى ( جوزيه الفاروسيكيروس ) : ` .. ولطريقة عرضها خواص جمالية ، طيبة ، سواء فى الشكل ، أو اللون ، أو الملمس ، وهى لا ينقصها شئ مما يقود إلى الواقعية الحديثة ، الواقعية الجديدة الاكثر نطقا ، والأغنى من الواقعية القديمة أنها تسير بكل ما لديها من عاطفة قوية ، فردية نحو فن قومى ذى أصداء عالمية .. `.
- ولقد استقبل المعرض فى مصر استقبالا جماهيريا ، كما احتفى به النقاد بالصورة التى دفعت بأسرتها إلى أغرائها بالسفر إلى باريس لدراسة الفن ، وأيضا لابعادها عن التورط فى العمل السياسى ، إلا أنها رفضت هذا الاغراء ، خوفا من أن تصبح ( خوجاية ) ، فلقد كان الطريق إلى أن تكون ( مصرية ) أعسر من اندماجها فى المجتمع الأوروبى بحكم النشأة ، ولهذا حسمت القضية بالبقاء والاندماج فى العمل السياسى الوطنى .
- كان الفنان المصرى الكبير ، الفقير ` كامل التلمسانى ` هو أستاذها الأول ، وكان الفقير العالمى الفنان ` فان جوخ ` هو أستاذها الثانى ، جذبها إليه أولا ، على المستوى الإنسانى : القدرة على أن يهب حياته للفن ، في مناخ لم يتح لعبقريته أن توضع فى موقعها الصحيح ، فدفع الثمن غاليا ، وعاش حياته المأساوية المعروفة ، إلا أنه وهب البشرية فنا ، أسهم به أسهاما فاعلا فى تشكيل حركة الفن الحديث الأوروبى وجذبها إليه ، ثانيا ، على مستوى الفن : ذلك الأعصار الذى تتشكل به اللوحات ، اللمسات المندفعة التى لا تقف أمامها سدود ، حركة عجينة اللون الكثيفة .. العنيفة غير المترددة ، ثم تلك الألوان الصداحة التى لا تعترف بالسكون ، كل شئ متحرك سواء كان جامدا بطبيعته أو متحركا ، يخلع على الجوامد ملامح الانسان .
- إن ` فان جوخ ` يختلف ، كما هو معروف ، عن بقية الفنانين التأثيريين الذين لا يعينهم سوى الضوء ، بلا رموز ، وبلا احتفال بالجانب التعبيرى ، وقد اتخذت من توجهاته إلى الريف المشمس مصداقا لعشقها للريف المصرى ، فكان الريف هو ساحة معركتها الجمالية ، والتعبيرية لاكتشاف الضوء ، والتعبير عن الإنسان : العمال والفلاحين والفلاحات ، ولا تكاد لوحة من لوحاته تخلو من عنصر الإنسان ، لقد أنقذها توجهه إلى الطبيعة ، والبيئة المصرية من مأزق الاختناق فى الفنون المعلبة الأوروبية ، كما حدث للعديد من الفنانين المصريين ، فلم تقف عند حدود مفردة واحدة ، أو عدد من مفردات تشكيل أبجديات فقيرة ، تظل تجترها ، ولكنها اعتبرت الحياة نفسها هى الأبجدية التى تنسج منها عالمها التشكيلى ، قد تختلف النسبة بين الإنسان والطبيعة ، وتتباين مواقع كلا العنصرين من الآخر ، فالمعرض الذى أقامته عام 1959 - على سبيل المثال - كان تأكيدا لمعرضها الأول من حيث الأحتفال بالإنسان الفرد ، فكان يتمركز فى بؤرة اللوحة ، وامتلاء معرضها بعمال المصانع ، ووجوه لفلاحات ، وعاملات مصريات .
- الاعتقال 1959 والتحول للأعمق
- اعتقلت فى أول قرار جمهورى يصدر لاعتقال ` المرأة ` لنشاطها السياسى وقضت فى سجن النساء فى القناطر الخيرية أربع سنوات ونصف ، والطريف أنه فى الوقت الذى كانت تسعى فيه أجهزة الأمن لإلقاء القبض عليها ، كانت وزارة الثقافة والإعلام تبحث عنها لتقدم لها الجائزة الأولى التى حصلت عليها فى مسابقة للمنظر الطبيعى !..
- وعادت لحصار من نوع جديد : أسوار حجرية وحديدية حقيقية ، وليست أسوار وهمية ، أو نفسية وكفنانة رأس مالها الحقيقى : العين ، والأصابع ، أزعجها أن تحرم من الضوء الطبيعى الذى ألفته ، ومناظر القرية المصرية ، وأزعجها أكثر أن تتوقف عن الرسم ، إلا أنها تمكنت من استصدار إذن لها بالرسم ، وفى تلك الأثناء اكتشفت ` شجرة ` خلف الأسوار ، تعلقت بها للدرجة التى أطلقت عليها لقب ` شجرتى ` كانت الشجرة بالخارج تتلقى تحولات الفصول ، والفنانة بالداخل ترسم ما تحدثه التحولات ، ترسمها متألقة بالألوان فى الربيع ، باردة ، وحزينة ، ووحيدة فى الشتاء .
- وكما دفعت عتمة المراسم الفنانين التأثيريين إلى الضوء الطبيعى ، فقد دفع المعتقل المقبض الفنانة ` إنجى أفلاطون ` إلى بند الدرجات القاتمة نهائيا ، والتعلق بالألوان الصريحة ، الحية . لقد كان اللون الأخضر خارج أسوار السجن ، وأشرعة المراكب البيضاء التى كانت تلمحها على بعد ، ولون السماء الشفاف ، ولون الشفق ، كل هذه الألوان كانت النقيض لكل ما هو كئيب ، وعبثى ، داخل تلك الأسوار . فى المعتقل كانت أمام عالمين متناقضين : عالم خارج الأسوار : للمنظر الطبيعى ، أو بمعنى أدق ما تسمح به الظروف المعمارية للمعتقل من مقاطع منه ، وعالم داخل الأسوار : عالم زميلاتها من المعتقلات السياسيات وغيرهن ، فرسمت زميلاتها فى ممارساتهن اليومية ، كما رسمت بعض ( البورتريهات ) - لسجينات عاديات ، تأثرت بسيرتهن الذاتية ، ولا شك أن مرحلة الاعتقال كانت مرحلة للنضج : على المستوى الإنسانى ، والفنى ، وقد ظهرت ملامحها الفنية المستقلة ، وظهر نسيج لوحاتها بذلك الطابع المتميز ، الذى يشعرنا أننا أمام نسجيات شرقية مرسمة ، فلمساتها متقطعة وملتوية ، أقرب إلى الحروف العربية أو الشرقية ، تشترك جميعا فى كورال لونى متجانس ، لا يكاد يترك مساحة مهما صغرت خالية .
- ومن أبرز لوحات المعتقل أربع لوحات :
- لوحة بعنوان (العنبر) ، عن زميلاتها ، وهى لقطة تمثل العلاقة التشكيلية بين الأسرة ذات الارتفاعات المختلفة ، ذات القوائم الحديدية المتعامدة ، وهى تقيم حوارا بصريا بين الأشكال الهندسية للأعمدة ، ومسطحات الأسرة ، وبين ليونة الأجساد البشرية وحركة الأذرع ، والسيقان ، لم تتخلص اللوحة بعد من عنصر الحكى ، فبين صعود الأذرع ، وهبوط السيقان ، نلمح بعض السيدات يجلسن ، وتحتضن كل واحدة فى حيزها المرئى حكاية من الحكايات ، ثمة طفل يظهر إلى جوار أمه ، تصله دعابة من يد سيدة فى الطابق العلوى ، ولا بد أن يكون هذا الطفل قد صاحب أمه المناضلة ، كما نلمح سيدات يجلسن فى حزن ، بلا حوار يدور بينهن ، إنها صورة الحياة اليومية لجماعة من البشر محاصرة فى زنزانة تحاول أن تخلق جوا إنسانيا فى مواجهة القهر ، وإن استسلمت أحيانا لأحزانها الخاصة .
- وتدين الفنانة تلك القوى المسيطرة ، بتأكيد المهانة البشرية داخل المعتقل ، بتصوير مجموعة من السجينات فى شكل أقرب إلى القطيع الحيوانى يجلسن القرفصاء فى طابور ملتصقين عن طريق خطوط تقوم بتحزيم كتل السيدات ، خطوط أشبه بالسلاسل تقيدهن ، وتحجم من امكانات الحركة وفوق رؤوسهن تظهر مربعات النوافذ ، ذات الوقع الجامد ، الثقيل ، حيث تنتهى بفتحة الباب ، المنتظرة ضحاياها ، ولقد بالغت الفنانة فى نسبة طول اللوحة إلى عرضها 81 × 35 سم ، وحسنا فعلت فقد قامت حدود اللوحة العليا ، والسفلى بدور إيجابى فى الضغط على العنصر البشرى ، وتأكيد المعاناة والحصار الذى يحياه ، ورسمت الفنانة عديدا من الوجوه البشرية اتسمت بالتلخيص البليغ ، والتركيز على الجانب التعبيرى فى الوجوه ، ومن أهمها لوحة بعنوان (الجالسة) تمثل سيدة تجلس القرفصاء أمام نافذة السجن ، حيث استندت إليها بيد ، تتأمل عالما لا نراه خارج النافذة المعتمة ، وتصل الفنانة فى هذه اللوحة ، ولوحات تلك المرحلة إلى درجة جيدة فى اتقان التصميم ، والسيطرة على أدواتها ، ففى اللوحة المشار إليها احترمت المساحة الأساسية لمسطح اللوحة التى تقترب من شكل المربع 50 × 45 سم ، ونجحت فى خلق حوار مرهف بين ليونة جسد المرأة وصلابة الأشكال الهندسية ، وضفرت العنصرين ببساطة ويسر ، وبلا أى افتعال بادخال إحدى ذراعيها خلف القضبان ، وحملتنا معها للتطلع خارج النافذة المقبضة ، أن الحيز الداخلى والخارجى للمكان لا نراه لكن يظل الايحاء به قائما عن طريق المنطقة الوسطى المرئية أى مساحة اللوحة ذاتها .
- أما ` شجرة الأمل ` نقطة التحول من جهامة الألوان المقبضة إلى إشراقات الألوان الفرحة ، الصريحة - فقد كانت لحنها الأساسى .
- ومن بين اللوحات التى رسمتها للشجرة لوحة بعنوان ` شجرتى ` رسمتها بألوان صريحة ، متقابلة بين الألوان الساخنة والباردة ، وتبدو اللوحة فى مجملها أشبه بقطعة من الزجاج المعشق مطرزة بثرثرة لونية من الساخن والبارد ، تنتصب الشجرة فى رفق ، وتتخلل الأفرع اللينة نقاط الزهور المشتعلة بالفرح الآتى ، على أرضية زرقاء ! يشيع فى اللوحة جو الفرح والسلام ، والصلح بين العناصر المختلفة : أفرع الشجرة التى تمثل العمود الفقرى للتصميم ، والزهور الساخنة والسماء الباردة !.. ثم ظهور أفرع ثانوية للمشاركة فى ذلك الجو الكورالى .
- الخروج الى الضوء.
- خرجت من الطبيعة تنهل من الضوء الطبيعى ، بلا حواجز ولا أسوار تعوق حركتها ، وعادت إلى طبيعتها النشطة ، فالفنانة (إنجى) تكاد تكون أكثر فنانات وفنانى مصر حبا للحركة ، دائمة الترحال من مكان لآخر ، ومن موقع لآخر ، تحب أن يكون مرسم الفنان هو الكرة الأرضية نفسها ، وكان من الطبيعى أن تكون وراء الرحلة الشهيرة لفنانى مصر لزيارة السد العالى على نفقة وزارة الثقافة التى استضافت حشدا من أشهر الفنانين التشكيليين ، وظهرت لوحاتها وقد اختفى منها البطل الفرد أو النجم ليذوب فى الكيان الكلى لبقية العناصر : من آلات إلى أشكال طبيعية ، ويصير الكل إلى واحد ، والواحد هنا هو العمل المحموم .
- أنها تعود إلى أرض الواقع دائما : الطبيعة المصرية بكل معطياتها الجمالية ، والمجتمع بكل تشابكاته ، بأحلامه فى الخلاص ، وتقيم من هذين التوجهين نسيجا واحدا فهى تتغنى بفرح مع الأشجار المثمرة ، وتقدم شخوصا خالية من التشنج الميلودرامى قد تخفى ملامح الوجوه للتركيز على حركة الأجساد الحية ، المشاركة دائما فى أغنية جماعية ، أو عمل جماعى ، فإذا رسمت الفدائيين الفلسطينيين ، أو المقاومة النسائية الشعبية ، أو رسمت موضوعا خفيفا كلوحة
` المراجيح ` ، فيظل المنهج واحد ، البطولة للعمل الجماعى : نقطة التلاقى بين البشر ، والطبيعة ، واللوحة هى فى النهاية قطعة من النسيج الإسلامى الجميل ، ولا يظهر الحزن فى لوحات الفنانة إلا عندما ترسم لوحات (للوجوه) .
- الضوء الأبيض .
حمل غلاف كتالوج معرضها العشرين عنوان ( الضوء الأبيض ) وأعلنت بهذا العنوان عن مولد مرحلة جديدة .. تظهر فيها حكمة التجربة ، وأن لم تخرج عن موضوعاتها الملهمة : الأشجار بأشكالها المختلفة ، الحصاد ، النساء ، إلا أنها انشغلت بعنصر جمالى ، ليس جديدا عليها ، وأن تناولته بأسلوب مختلف ، فقد أعطت لمسطح ( التوال ) بعدا ايجابيا ، بأن أصبح هو الضوء الذى يتخلل النسيج التصويرى ، ولا ينفصل عنه ، وربما تكون الفنانة هنا قد ، تأثرت بتصوير الشرق الأقصى إلا أنها قد اتجهت ، إلى تخفيض ما عرفت به من زحام العناصر ، وأكثرت من المساحات البيضاء ، وحددت المساحات المطرزة ، ومن هنا تأكد دور اللمسة الواحدة فاللمسة لا عودة فيها ، وأسلوبها لا يسمح بالخطأ ، والمراجعة ! .. بل التأمل والتدقيق قبل وضع اللمسة على مسطح اللوحة .
- انخفضت حدة الثرثرة اللونية الجميلة ، كما ظهرت بعض البطولة الفردية لبعض الأشجار! كشجرة ` جذور الروم ` التى أنجزتها عام 1980 ، ففى هذه اللوحة تستعيد الفنانة مرحلة شبابها المبكر ، وتعود إلى شجرتها القديمة ، لكن بعد أن تكون قد خلصتها من خشونتها ، وعنفها ، وننقلها إلى خطوط نحيلة ، رقيقة تسبح بالسكون الكونى ، وتتمايل بأغصانها ، وتختفى الأبعاد إلا من بعدين : الطول والعرض ، إلا أنها تصبر على هذا التأمل الهادئ ، فتعود من جديد إلى نمنمتها الاسلامية المحببة ، مع وجود الضوء بهيئته الجديدة ، فتطرز جامعى البرتقال فى أوراق الأشجار حيث يبدون كما لو أنهم الثمار ، ينطلقون فى كل اتجاه ، كما لو كانوا يقدمون رقصة ، بهمة ونشاط ، وسعادة ، كل العناصر مضفرة ببراعة ، وتضع نقاط البرتقال المنتشرة فى ذلك النسيج بحساب .
- كم أتمنى أن يستمر هذا الفرح المثبت فى لوحات الفنانة ، وينتشر فى حياتنا ليصبح ` العمل ` انجازا مبهجا للناس .
بقلم : محمود بقشيش
مجلة : إبداع ( العدد 11) نوفمبر 1983
الأرض والرسالة
- تعد إنجى أفلاطون واحدة من أولئك الطلائع الرائدة التى وضعت بصمات، وعلامات هامة فى حركة الفن المصرى منذ الخمسينات المبكرة . ومنذ الأربعينات فإن خمائر الابداع عند هذه الفنانة القديرة كانت قد أخذت تعلن عن ذاتها فى عدد من التجارب التى تعبر رأسيا عن مجمل الأفكار الحميمة التى صارت فيما بعد جزءا محوريا من رسالتها، وجانبا رئيسيا من انحيازها للناس ولذلك المجتمع العوامى الذى يتوق إلى حياة أفضل.
- وحين اجتازت الفنانة محنة ` الحبس` فى الخمسينات ، فإنها كانت قد خرجت بانتصارها الذاتى على` الأنوى` وبتلك القدرة الخبيرة التى وجدت نفسها فى اجتياح الظلم، وفى التعبير عنه باعتباره ` ارادة ` وليس ` نفيا `، وباعتباره انتصارا وليس حزنا، وباعتباره فنا للناس قبل أن يكون تجسيدا للجميل .
- فى ذلك الوقت كانت خطوطها مشحونة بالرمز، مفعمة بالتعبير ، وكانت ألوانها مكرسة للقسوة ممسوحة بطبقات مترتبة من اللون الرمادى والأسود، وبتلك الخطوط التى تصنع حدودا فاصلة لعناصر الشكل معجونة بتلك البنيات المحترقة للأحمر وللأصفر المظلل ، والبنى الساخن.
- وخلال النصف الثانى من الستينات حتى نهاية السبعينات تقريبا، كانت إنجى أفلاطون قد انخرطت فى عالمها المتفرد، ذلك العالم النموذج الذى تتشكل عناصره فى تلك الحياة اليومية للفلاحين، متصفحة بريشتها المميزة وجوه أولئك الناس الذين يمضون فى حياة الوطن دون أن يلتفت إليهم أحد . كانت إنجى أفلاطون محتدمة بهذا العشق للأرض ، وللنخيل وللأشجار، ولرمال الصحراء ، ولمصاطب بيوت القرية، وللسواقى، وللتلال ، وجداول القنوات، ولصناع الحرف الشعبية فى ضواحى المدن ، وأيضا لتلك الحيوانات المعطاءة التى هى جزء من حياة الفلاح المصرى منذ القديم .
- كانت قماشة الرسم هى تجسيد لحالة مصرية كاملة ، الجميل فيها هو الواقعى، والرصين فيها تلك اللغة البنائية لتساوق اللون مع عناصره معتمدة - فى جل تصاويرها - على تجزىء السطح ، وتنقيطه ، وتشريط الخط حتى يتفتت إلى ضوئياته الذرية ويتحد مع العمارة الكلية للعمل.
- وفى الثمانينات أخذ الضوء يتدفق على مساحات التصوير عند إنجى أفلاطون، وبدأ الحال ، كما لو كانت قد أزاحت الستائر من فوق النوافذ فانخرط الضوء على عالمها، ومسح العناصر كلها مسحا. كان التأمل عند إنجى أفلاطون هو جزء من ذلك الفيض الملون الذى قارب روح فلاح قائم بين حقول الحنطة .
- وفى عام 1966 كان لقائى الأول مع الفنانة القديرة أنجى أفلاطون . جمعنا هدف التغيير ورفض ما كان قائما فى مجال الفن وإداراته ، كان معنا حامد ندا ، وصالح رضا ، وطه حسين ، وسيد عبد الرسول.
- كانت متوقدة تتعثر على لسانها الكلمات من فرط الغضب ، غير أنها كانت قادرة على التعبير عن خوالجها ، وترتيب مراميها ، ومعاودة الجدال ، ومحاورة الممكن .
- وفى عام 1987 كان لقائى الأخير معها حين قمت بتنظيم معرض لأعمالها فى مجمع الفنون وحين مررت بين الأعمال بعد ترتيبها بدت لى أنجى أفلاطون أثيرية ، ويتوجع الشعر فى ملامحها .
- آنذاك لم أكن أعرف أن تلك هى آخر تصاويرها ، وأن بصمتها القوية قد سحبها التاريخ وثبتها .
بقلم : أحمد فؤاد سليم
مارس 1994
معرض فنى متميز
- يقدم المجلس الهندى للعلاقات الثقافية معرضا فنيا نادر الجودة من أعمال السيدة انجى أفلاطون من جمهورية مصر العربية.
- وللسيدة أفلاطون` تكنيك` ممتاز بالغ الخصوصية يجعل من الصعب وضعها فى اطار مدرسة معينة اذ يتميز استخدامها للفرشاة بالانسياب المتماوج المعبر عن موهبتها الحقيقية من ناحية وعن اتقانها لعملها من ناحية أخرى مما يضفى هذا القدر الهائل من الحيوية على تفسيرها للطبيعة.
- والحق أن لوحة الألوان (Paletta) التى تستعملها الفنانة تتميز بالألوان المرحة والمتألقة فهى تستعمل دائما نسيج اللوحة ( CANEVAS) استعمالا بالغ الذكاء .. اما اذا اردنا ان نركز على اسلوبها فى استعمال الفرشاة فاننا نجد ان الفنانة افلاطون تستعملها بطرق متعددة لكى تحقق احتياجات كل لوحة على حدة فلوحاتها ` شجرة الاكاسيا` و` غروب الشمس على النخيل ` و ` قرية الواحة ` و` الفتاة وشجرة الخوخ` كلها اعمال ممتازة بارزة تعكس فيما بينها نعماتها التقنية بشكل رائع كذلك تعالج الفنانة فى الكثير من اعمالها من اعمالها شخصيات من رجال ونساء يقومون باعمالهم المختلفة بشكل يعبر عن تفهم لقيمة العمل كجزء لا يتجزأ من المنظر الطبيعى.
جريدة ` ستشمان ` بنيودلهى 23 أبريل 1979
` انه ضوء الشمس العظيم الذى لايخلف ظلاً `
-` ... ان انجى افلاطون فنانة على وعى كامل بما يجرى خارج مصر ولكنها على مايبدو لى فانها لاتتخذ موقفا سلبيا من الاشياء ، وهى تعتز بأنها فنانة خرجت من قلب الحركة التشكيلية المصرية المعاصرة التى ترتبط بالواقع، ولهذا فان نتائج هذه السنوات من الخلق الفنى تبدو فى غاية الأهمية ان فنانة مثلى انجى افلاطون تحس وتعبر باستخدام حيوية الألوان ، لابد وأن تعترضها مشكلة - وهى مشكلة تفرض نفسها ايضا بالنسبة لكافة الفنانين الذين يعيشون على الشاطىء العربى للبحر الأبيض المتوسط - انها مشكلة ضوء الشمس العظيم فى مصر .. بين البحر والصحراء .. ذلك الضوء الساطع الذى يجعل الوان الاشياء تحترق ويعتريها الشحون .. انه مشكلة المشاكل فى مجال التصوير .
- وهكذا عثرت انجى افلاطون على الحل: يصبح الفراغ فى اللوحة والقماش الابيض حقلا من الضوء بالانهاية، ومن خلال خطوطها المتوازية المتموجة التى ينساب منها الضوء تنهمر الالوان الشاحبة بفعل الضوء ، لتصور بها لحظات من الحياة اليومية وتلك العظمة القاسية للطبيعة المصرية، ان الاشكال التى يغلفها الضوء الساطع لاتترك مجالا للظلال وفى هارمونية وتناسق يستثار الخيال بتلك العلاقة الحميمة بين الشكل والفراغ `.
بقلم : داريوميكاكى
جريدة ` لونيتا ` 20مايو 1981
` حيوية الفنانة تنطلق من اللوحات `
- .. وقد كان الرسم الوسيلة للتعبير عن الحيوية التى لاتهدأ عند هذه السيدة .. وما من شىء تلمسه أو ترسم فى لوحة حتى يبدأ بدوره يتحرك مليئا بالحيوية - وهى تستخدم زيوتها فى خفة فى خبطات طويلة تتوقف لتبدأ من جديد .. والحركة الدائرية فى شجرة النخيل، وصور الفلاح ، المعتد الذى يقاوم الحزن تبرزان اللقطة السريعة هبة طبيعية من هبات الفنانة الحية وقوة ` انجى ` تكمن فى قدرتها على الامساك بشعور ما ، بالحياة الحية للأشياء حية كانت هذه الأشياء اما جامدة `.
بقلم : جون نيكليس
جريدة ` انترناشيونال ديلى نيوز` - روما 5 مايو 1981
` السهل الممتنع `
- ` ان تكوينات انجى افلاطون تتميز بالاحساس المرهف لتتفادى الازدحام فى المساحة المصورة - فالانبساط الفسيح لارض وطنها يظهر باستمرار فى غالبية لوحاتها - والواقع ان هناك انسياب مستمر لهذه المساحات المفتوحة من حول الاشكال التى تصورها - فقد جعلت الاشكال الصلبة متحركة باستعمالها خطوط متكسرة تضفى حركة مستمرة حتى لاكثر اشكالها ثبوتا كالاشجار مثلا ويبدو ذلك بوضوح فى لوحاتها ` الباذنجان البنفسجى ` و` الفلاحة وشجرة البرتقال ` ` وجمع البرتقال ` حيث لاتتناقض ابدا الاشكال المصورة على ` الكانفا ` ( نسيج اللوحة ) المسطحة بل تتوغل فيها كى تخلق توترات سطحية تفجر الحركة والحياة بالخطوط المتقطعة .
- أما لوحة ` الفدائيين ` فهى مختلفة تماما من حيث ترتيبها للمساحة المصورة ، فنجد الرجال المسلحين الملتفين بعباءاتهم يغطون اللوحة بأكملها الامر الذى يوحى بتضامن متحرك ومسلح ينساب من اعلى اللوحة الى اسفلها . ولن يعجز المشاهد عن ملاحظة المساحات غير المصورة التى تتخلل الاشكال البشرية وقد احدثت نمطا من الرباط الخفى بين الاشكال البشرية والاسلحة فى كل واحد يمتاز بالنبل والشهامة `.
بقلم : جون نيكليس
جريدة ` انديان اكسبرس` 21 ابريل 1979
` مصر التى تبدو كما لو رسمها فان جوخ `
` .. واذا كانت الفنانة قد ابرزت فى لوحاتها بشكل رائع ضوء الشمس الساطع فى هذا البلد وهو احد اهتمامات الفنانة - فان الامر الهام الذى يتعين ملاحظته هو استخدامها لسمات تشكيلية تقترب الى حد بعيد من تلك السمات التقليدية للغة المكان بحيث يقوم تشابه محقق بتلك السمات والعلامات المتموجة للغة الهيروغليفية . ولعل من أهم الجوانب التى يتعين أن توضع فى الاعتبار أيضا أن لوحات انجى افلاطون تقترب كثيرا من حيث تكنيك استخدام الألوان الذى كان يميز اعمال فان جوخ الاولى - مع مراعاة الاختلاف الواضح بينهما - فضلا عن التقارب فى الموضوعات الاجتماعية - وهى هنا عند الفنانة افلاطون موضوعات فرضها التزامها السياسى والانسانى `.
جريدة ` باميزا سيرا` 4 مايو 1981
تاريخ إنجى افلاطون فى معرض واحد
- 79 لوحة فنية تعبر عن عالم الفنانة الرائدة الراحلة إنجى أفلاطون ، تستضيفها قاعة أفق (1) للعروض المتحفىة المتغيرة بمتحف محمد محمود خليل وحرمه، يستمر المعرض حتى 3 اكتوبر القادم .
- ويعتبر هذا المعرض حدثاً فنياً كبيراً ، إذ يتيح للحركة التشكيلية ومتذوقى الفن الوقوف فى المحطات الفنية لهذه الفنانة الرائدة التى يقول عنها الفنان الدكتور احمد نوار رئيس قطاع الفنون التشكيلية: على الرغم من أن الفنانة أنجى أفلاطون 1924-1989 تأتى فى طليعة الجيل الثالث من عمر الحركة التشكيلية المصرية ، التى يؤرخ لها ببداية النهضة الفنية مع رياح القرن العشرين العاتية، إلا أن إنجى واحدة من قلائل تجاوزت اسهاماتهن حدود جيلها، لتحتل مكانة بارزة تجعلها من فنائى الصفوف الأمامية، أصحاب الدور الفعال والمؤثر على مدار تاريخ الحياة الفنية عموما، ويضيف: ترجع أهمية دور إنجى ليس لكونها الارستقراطية التى تمردت على طبقتها بخروجها من محيط أسرتها إلى العمل والمجتمع الكبير فى زمن كانت سبل الترقى الاجتماعى مفتوحة أمام أفراد طبقتها، وليس لأنها صاحبة أسهام قوى فى مجال الكشف عن الضوء كقيمة جمالية فى الحياة والفن، لكن لأنها صنعت مزيجا نادر جمع بين الحب الوطن والفن فى أن واحد، عنبر ارتباطها المبكر بالشعور والتيار القومى المتدفق المتوهج فى اربعينيات القرن الماضى، عندما انخرطت ضمن نسيج جماعة الفن والحرية وهى الجماعة التى أثرت أفكارها على توجهات الفنانة الثورية ودفعتها الى العمل النسائى العام، لذا ياتى معرض الفنانة إنجى أفلاطون اعترافاً بقيمة هذه الفنانة التى طرحت نموذجاً فريداً لعطاء المرأة فى وقت كانت مصر تقيم دعائم نهضتها الحديثة، وهو العطاء الذى يضعها فى قائمة رموز التنوير سواء بوعيها بدور الفن فى المجتمع أو باسهامها الرائد فى مجال العمل الوطنى .
- ويؤكد الفنان محسن شعلان رئيس الإدارة المركزية للخدمات الفنية للمتاحف والمعارض: أن إنجى تعتبر واحدة من أهم العلامات المتفردة فى ملامح الشخصية الابداعية لمصر، بما حققته من انصهار صادق برصد ارهاصات الطبقات المصرية البسيطة ويعبر عنها فى الحقول والمصانع وأماكن التجمعات المختلفة.. فتقترب منهم احياناً لتلقى الضوء على وجوهم البسيطة المعبرة بعمق فى العيون والنظرات.. أو تتراجع قليلا إلى الوراء فتراهم على مساحات شاسعة يجمعون القطن أو ينشرون الحبوب فى الأرض وكأننا نسمع أغنيات بسيطة يرددونها ليستعينوا بها على مشقة العمل وعنائه، وبلغت إنجى من درجات السمو فى الاحساس بهؤلاء البسطاء أن لخصت اللون والتقنيات ليتحول الى لمسات سريعة متقاربة بضربات الفرشاة الرقيقة التى تعزف على سطح اللوحة بتناغم لونى سواء كان ذلك فى الاشخاص أو فى الارض أو السماء أو الفراغ المحيط وكأنها تؤكد دائما للمشاهد أن الانسان والارض أصبحا شيئا واحدا امتزجا فى ذوبان لا نهائى فى المعنى والشكل والمضمون وأضاف:
- إن التراجيديا العالمية التى حققتها إنجى أفلاطون على مسرح ابداعاتها من خلال العديد من الوقفات العامة التى ترصد منهجها وايمانها برسالتها، تؤكد على أنها علامة جديرة بالبحث والتأمل والغوص فى عالمها المتميز بين جيلها من الرواد.
- وقد قدمت الفنانة إنجى أفلاطون عبر مسيرتها الفنية ما يقرب من 25 معرضا خاصا، وداخل مصر وخارجها فى برلين الشرقية، موسكو، نيودلهى، دوسلدورف، كما شاركت فى العديد من المعارض الدولية مثل بينالى فينيسيا1952 و1968 ، ومعرض الفن المعاصر ببلجراد 1974، معرض الاباما فى الولايات المتحدة 1988 ، ولها العديد من المقتنيات فى متحف الفن الحديث بالقاهرة والإسكندرية ومتحف بوشكين بموسكو، ومجلس النواب الإيطالى .
بقلم : طارق الطاهر
جريدة أخبار الأدب 7-9-2002
إنجى الثورية المهذبة
- قد يبدو العنوان مثيرا للدهشة فلإنجى أفلاطون سمات وصفات كثيرة ، أنها فنانة عظيمة ومناضلة في سبيل الوطن وقضية المرأة لنحو نصف قرن من الزمان.
- إنجى أفلاطون هى الفتاة الاستقراطية التي بدأت تمردها وثوريتها منذ الطفولة، وشاركت فى النضال الثورة والنسائى منذ ثلاثينيات القرن الماضى حتى الستينيات بعد ثورة يوليو.
- طبعت مذكرات هذه المرأة العظيمة في عام 1996 ولكن أعيد طباعتها من دار الثقافة الجديدة مرة أخرى هذا العام ، ويلخص عنوان المذكرات (من الطفولة للسجن) قصة حياة هذه المرأة العظيمة والجيل العظيم من المناضلين والثوريين فى مصر.
- بعد ثورة 25 يناير تصور بعض الشباب الثورى أن مصر كانت بلا تاريخ ثورى قبل 25 يناير وأن ميدان التحرير والشوارع المحيطة به لم تمتلئ من قبل بشباب وفتيات مصر ولم يضرب هؤلاء الثوريون من البوليس ولم يتم تشويههم من بعض وسائل الاعلام ، ولكن حين تقرأ مذكرات إنجى أفلاطون ستصاب بكثير من التواضع فلسنا أول أقدام احتلت ميدان التحرير ولا أول جبل ملأ السجون .
- كان ميدان الإسماعيلية ( التحرير الأن) يشهد مظاهرات التجمعات العمالية والطلاب وحركات النساء التقدميات والشيوعيين، فقد كانت الشيوعية هى التهمة الأخطر التى يبحث عنها الشرطة ورجال القصر.
- إنجى تنتمى لأسرة قريبة من القصر، أسرة باشوات وإقطاعيين اختاروا الانتماء للحضارة الأوروبية وعرفوا قيمة التعليم ، ولكن إنجى لم تكن تجيد أو حتى تتحدث لغة بلدها حتى سن العشرين، كانت اللغتان الفرنسية والإنجليزية هما لغتا الاسرة ، وتحكى فى مذكراتها أن أول طريق التحرر كانت تعلم لغة بلدها، ولها فى ذلك قصص لطيفة، فقد تبرع الشاعر الكبير الراحل فؤاد حداد بإعطائها دروسا في العربية، وذات مرة سألها عن معنى كلمة (الهوى) فتصورت إنجى أن المقصود هو الهواء، فقال لها فؤاد حداد بدهشة (هو انت ماحبتنيش أبدا بالعربى).
- وقد نجحت دروس حداد وغيره حتى إن إنجى كانت تكتب مقالات شبه منتظمة فى الصحف المصرية ، بل إنها ألفت كتبا بالعربية ، وقد كتب عميد الادب الدكتور طه حسين مقدمه أحد كتبها.
- ولكن أفضل ما فى المذكرات للمرأة التى ساهمت فى تحرير المرأة والوطن معا هو ذلك التهذيب والوعى الوطنى اللذين نفتقدهما الان فى بعض نماذج الشباب والشبات الثوريات، فيما كان الشيوعيين يسجنون ويعذبون على يد نظام عبد الناصر وفيما كان زوج إنجى أفلاطون من بين المسجونين وكذلك زوج اختها الدكتور إسماعيل صبرى عبدالله ، بين هذا وذاك أعلن عبد الناصر تأميم القناة فنسيت إنجى وجيلها كل التعذيب والسجن طارت فرحا للتأميم وشاركت فى تنظيم حملات ضد العدوان الثلاثى على مصر، ورفضت إنجى دعاوى التدخل الأجنبى في شئون مصر، فخلافها مع النظام الحاكم هو فى النهاية خلاف داخلى يتراجع لحظة الخطر الأكبر الخارجى على الوطن،
- إن إنجى أفلاطون التى تعرضت للسجن لمدة ابع سنوات في سجن القناطر، تحملت فيها كل صنوف العذاب والحرمان من كل الحقوق الإنسانية إلا قليلا ، ولكنها تتميز بتهذيب فنانة وانسانة يعبر عن اخلاق كادت ان تندثر فى زماننا، عبر الذكريات لا تجد إهانة أو شتائم توجهها إنجى لجلاديها،
- ويمتزج الفن والتواضع والتهذيب لديها بالموضوعية والأخلاق السياسية ربما يندر ان تجد مثل هذه الأخلاق الآن.
- تتذكر إنجى أن زوجها رحل عن الدنيا فجاة بعد أن خرج من السجن، وكان وحدة فى الإسكندرية عندما واجهة الموت ، ولذلك من البديهى ان يتبادر الشك إلى عقلها، الشك في أن زوجها تعرض للقتل، أو مات بسبب السجن والمطاردة، وتنغمس إنجى فى البحث عن سبب وفاته، وعندما تدرك أنه مات بداء الكلى لا تجد حرجا أن تعلن براءة النظام من وفاة زوجها.
إنها امرأة من زمن الثورة الجميلة النقية المحترمة.
الفجر 5-3-2015
فى معرض إنجى بقاعة أفق بالجيزة : من الضوء الشفاف ونوافير الآلوان( فلاحات).
- إنجى أفلاطون فنانة.. وجدت فى الرسم حريتها من البداية وعبرت من خلاله عن تمردها على طبقتها الارستقراطية والتى جعلتها تجيد الفرنسية تتحدث بها بطلاقة وترتبك بالعربىة ومن هنا كانت أولى لوحاتها مليئة بالرموز صورت فيها نفسها وهى تحاول الخروج من فتحة فى شجرة تحاصرها النيران وألسنة اللهب.. وتوالت أعمالها تصور الأحلام العنيفة والكوابيس المقبضة.. وعندما لم تعد اللوحة قادرة على التعبير عن ثورتها وتمردها انسحبت الفرشاة من يدها ليحتل القلم مكانها كأداة أبرع وأكثر وضوحا فى التعبير عن أفكارها.. ثم عادت إلى الفن مرة أخرى فصورت العمل فى الريف وهموم الفلاحة والعاملة.. لكن عندما دخلت السجن خرجت إلى ضوء مصر الساطع .. خرجت من الظلمة إلى النور فجاءت لوحاتها أغنيات من الضوء الشفاف ونوافير الأحلام والألوان تصور لحظات فرح الفلاحات وقت الحصاد فى مواسم الخوخ والبرتقال والموز والقطن واللوف والباذنجان .. لوحات من النور والبهاء مسكونة بالتفاؤل والاشراق والصفاء النفسى .
- فى معرضها الشامل والذى أقيم بقاعة أفق بالجيزة وضم أكثر من 70 لوحة تنوعت بتطورها ومراحلها الفنية.. كانت لنا جولة.. ورحلة فى حياتها .
- أسرة استقراطية
فى قصر صغير وأنيق بالقاهرة ولدت إنجى أفلاطون عام 1924 .. كان الأب حسن بك أفلاطون استاذا وعالما فى علم الحشرات بكلية العلوم بالجامعة المصربة كما تقلد منصب عميد الكلية أما والدتها السيدة صالحة فكانت اول عربية مصرية تشتغل بتصميم الأزياء وقد افتتحت عام 1936 بالاشتراك مع بنك مصر.. ` محل صالحة للأزياء الراقية ` وكان أول مشغل للأزياء يقام برأسمال عربى .
- ومن هنا نشأت ارستقراطية مرفهة .. من حياة ميسرة اقتصاديا وجو اجتماعى يضم الصفوة.. ومع كل هذه الظروف المواتية نمت بداخلها بذرة تمرد غريبة على الاطار الذى تعيش فيه وكان أول تمرد لها على السجن الصغير الذى وضعتها فيه الأسرة مدرسة الساكركير ( القلب المقدس) والتى كانت ملتقى فتيات الارستقراطية المصرية فقد أصرت على تركها تحت ضغط التقاليد الصارمة التى تلتزمها تلك المدرسة لتستمتع بالحرية الحقيقية فى مدرسة ( اللسية) .
- ومن البداية اكتشف والدها حبها للرسم فكان يطلب منها نقل صور الحشرات الملونة كما كانت ترسم البطاقات البريدية ..
- بالإضافة الى هذا كانت ترسم اشعار أختها الكبرى ` بولى` والتى تكتبها بالفرنسية.
- وتحدث نقطة التحول الأول فى حياتها حين تختار الأسرة الفنان كامل التلمسانى ليوجهها فى الرسم.. وقد أعطاها فرصة للتعبير عن ذاتها بعيدا عن التقيد بالقواعد الاكاديمية الصارمة.. فجاءت لوحاتها الأولى مليئة بالرموز تصور طيورا جارحة تنقض من السماء وأشجارا فى التواءات وتلافيف أشبه بالثعابين وقد صورت نفسها فى إحداها تحاول الخروج من فتحة فى شجرة تحاصرها النيران وألسنة اللهب .
- أما روح التمرد على الأوضاع الاجتماعية لبيئتها فقد دفعها لخوض تجارب عديدة فإذا بها تقرر أن تعتمد على نفسها لكسب قوتها فعملت فترة فى معمل للتحاليل الطبية وعاملة على الآلة الكاتبة ثم مدرسة للرسم واللغة الفرنسية فى مدرسة اللسية التى تعلمت بها .
- التمرد بالقلم
وعندما لم تعد اللوحة قادرة على التعبير عن ثورتها وتمردها احتل القلم مكانها كأداة أسرع وأكثر تأثيرا ووضوحا فى التعبير عن أفكارها.. فيصدر لها كتاب `80 مليون امرأة معنا ` عام 1947 مع مقدمة من عميد الأدب العربى د. طه حسين عن الحركة النسائية وبعده يصدر كتاب عن قضايا المرأة الاقتصادية والاجتماعية فى مصر ومطالبا فى الخمسينات بعنوان` نحن النساء المصريات` و يكتب مقدمته المفكر المصرى عبد الرحمن الرافعى وفى عام 1951 يصدر كتابها ` السلام والجلاء` عن ارتباط السلام بقضية التحرير من الاستعمار.
- وقبل كل ذلك تسافر إنجى عام 1945 لتشارك كعضو مؤسس فى المؤتمر الأول للاتحاد النسائى الدولى الديمقراطى والذى يعتبر من أحد العلامات فى تاريخ الحركة النسائية العالمية حيث اختارت هيئة الأمم المتحدة عام 1975 كعام عالمى للمرأة بمناسبة مرور ثلاثين عاما على انعقاد هذا المؤتمر وبعد توقفها عن ممارسة الرسم لمدة أربعة أعوام تعود إليه من جديد بعد تشجيع من زوجها محمد أبو العلا وكان يعمل فى وظيفة وكيل النائب العام وقد تزوجته عام 1948 ( لكن لم يمهله القدر فعاجلته المنية بعد ثمانى سنوات من زواجهما) تعود إلى الفن بعد أن نضج وعيها الاجتماعى.
- الرسم بالنور
- فى معرض انجى بقاعة أفق بالجيزة
فى قاعة أفق الأنيقة الرحبة .. تألقت لوحات انجى افلاطون بدءا من أوائل الأربعينات والتى تمثل بداياتها الفنية ..مع عشرات اللوحات التى تنتمى لبداية الخمسينات والستينات وحتى رحيلها عام 1989 .
- فى لوحات الخمسينات تتجه الفنانة بكل كيانها إلى الريف المصرى الذى بقى حتى وفاتها موضوعها المفضل.
- تصور الفلاحة المصرية بملامح صارمة حزينة وخطوط حادة وألوان داكنة تذكرنا بالأعمال الحوشيين من تلك الخطوط القوية والملامس الخشنة.
- .. لوحات تنتمى للواقعية التعبيرية تستطيل فيها الشخوص وتضج الوجوه بالتعبير والانفعال تعبير يعكس لواقع الظروف الاجتماعية فى ذلك الوقت .. لوحات للأمومة مثل أم ترضع طفلها وأخرى تحتضنه بنظرات ملؤها الخوف من المجهول ولوحات للفلاحة وملاءات الجرار والعامل والفلاح وصور العمل فى الحقل والمصنع .
- فى عام 1959 حصلت إنجى على الجائزة الأولى فى مسابقة ` العمل فى الحقل` وكانت فى هذا الوقت قد دخلت سجن القناطر حيث صدر قرار الأول مرة بمصر باعتقال السيدات بعد أن كان مقصورا على الرجال.. وكانت ضمن قائمة بأسماء أول عشرين سيدة اعتقلن لخطورة دورهن السياسى فى المجتمع..
- جاءت تجربة السجن بالنسبة لها تكرارا لسجون من أخرى كثيرة مرت بها هى سجن الطبقة وسجن المدرسة خاصة وقد استمرت خمسة أعوام أسيرة للظلمة بعد قفل الأبواب عند الغروب ومن هنا صورت السجينات فى عنابر النوم وطوابير الطعام وحصص الوعظ ومشاغل التأهيل المهنى.. وبقدر ما نضجت اتسعت نظراتها للعالم الخارجى فأصبح الخلاء حرية خاصة شمس مصر الساطعة بنورها الذى يسقط فوق الأشياء من كل الزوايا والجوانب فلا يجعل لها ظلا من فرط قوته.. ومن هنا بدأت ترسم لوحاتها على سطوح بيضاء أشبه بالضوء الشفاف وتفجرت ينابيع ألوانها مستخدمة تلك الحركات الدائرية لتقطيع الخطوط التى تشكل عالمها المسكون بالبشر والنخل والأشجار وانسياب مياه النيل والأشرعة.. ألوان شفافة من الأصفر والبرتقالى والفوشيا والأخضر والأحمر النارى تشع بالضوء وتمتزج بخيالها..
- ومع خروجها من السجن خرجت إلى رحابة الحياة وتنقلت بأرجاء مصر خارج القاهرة من المنيا وبنى حسن وأبو قرقاص وجراجوس على بعد ساعة من الأقصر وأسوان والنوبة.. وسيناء والعريش والواحات وسيوه وكان موضوعها الذى يشغلها تمجيد العمل وجهاد الفلاحين.. والفلاحات.. تقتنص لحظات الفرح بالحصاد فى مواسم الخوخ والبرتقال والموز والقطن واللون والباذنجان تصور الفلاحات فى أغنية طويلة أشبه بسجادة شرفية تحتشد يجنه من الألوان التى تتخللها لمسات الضوء البهيج من السطوح البيضاء وربما تذكرنا بمهرجان الألوان الذى ينساب من نوافذ الزجاج المعشق.
- فى أعمال انجى افلاطون والتى تنتمى لمرحلتها الأخيرة بعد خروجها من السجن وحيث تستخدم التقابل اللونى مع ليونة اللمسات المتقطعة الملتوية والمعبرة عن الحركة يتخللها النور تشع بالفرح والسلام والطمأنينة وتموج بالاشراق والصفاء النفسى وكأنها تبحث عن مدينة فاضلة ترى فيها الطبيعة والبشر وحركة الحياة..
- فى صورة بين الحلم واليقظة.. صورة من النقاء والمثالية ومن هنا جاءت أعمالها الوطنية من الفدائى الفلسطينى والمقاومة مسكونة بالنبل والنقاء وشرف التضحية كما فى لوحتها تحية إلى سناء المحيدلى.
- وقد وصف الناقد الفرنسى جورج بيسون أعمالها الأخيرة بقوله :
أنها تعيد سطح اللوحة الخام قبل أن تطمسة الفرشاه بحرا من الضوء الأبيض الشفيف وتمتد لمساتها كأنها رقصات البالية المائى تسبح وتبدو الخلفية البيضاء وكأنها نوافذ يتسلل منها الضوء ليتخلل اللمسات الراقصة المبهجة.. بزخرفتها السعيدة.. والضوء عندها عنصر جارف للمناخ الصحى والصحوة واليقظة والأمل والحرية ولذلك تكتسب لمساتها فى رحابه فنها ايقاعا راقصا بهيجا وباعثا على التفاؤل حيث يمكن أن نطلق عليها فنانة الآمل.`
سلام عليها وعلى أعمالها بعمق ما تموج من أضواء شفافة وألوان بهيجة .
بقلم : صلاح بيصار
مجلة حواء 21-9-2002
إنجى أفلاطون مناضلة .. لم ترفع الراية البيضاء !
- تمردها الأول كان على المدرسة والمدرسات وعمرها 12 عاما فقط .
- أخبار اليوم كتبت عنها تقول ` الشيوعية التي تمتلك أكثر من 40 فستانا `
- عندما اشتغلت بالصحافة كانت أول من كتب عبارة : المرأة نصف المجتمع
- هى بنت الذوات التي أمنت بالأفكار الاشتراكية، فكرهت حياة البذخ وخرجت تبحث عن هموم الفقراء.
- وهى الفتاة التي قضت سبعة عشر عاما من عمرها تتحدث الفرنسية إلى أن شعرت أنها مقطوعة من شجرة فبدأت رحلة البحث عن جذورها الحقيقية.
وهى ابنة الأستاذ الجامعى ومصممة الأزياء الشهيرة ، ولكنها رغم ذلك كانت تبحث فى دولابها الملئ بالملابس باهظة الثمن فتنتقى أبسطها وأرخصها لتخرج بها.
- وهى الرسامة التى شغلتها الحياة السياسية سنوات طويلة قبل أن يعيدها الزواج إلى الرسم فاختارت أن ترسم الفلاح والصياد والحقل .
- إنها الفنانة إنجى أفلاطون المناضلة التى قال عنها سعيد خيال- محرر مذكراتها أنها رائدة وزعيم الحركة النسائية الحديثة.
- كان محمد على باشا الكبير يراجع كشفا بأسماء طلبة المدرسة العسكرية فاستوقفه اسم حسن الكاشف لما لاحظ أن كلمة أفلاطون مضافة لاسمه ومكتوبة بين قوسين. استغرب الباشا فقالوا له هو اسم الشهرة يا أفندينا أطلقه الطلبة على حسن الكاشف لكثرة أسئلته ومناقشاته فابتسم الباشا، وقال : لا بأس أن يكون عندنا أفلاطون، وهكذا صار لقبا رسميا لعائلة إنجى أفلاطون.. وقد توفى جدها الأكبر عن تركة كبيرة من الأطيان الزراعية وخلف عائلة كبيرة من الإقطاعيين لكنهم ينتسبون للفئة المستنيرة المتفتحة على الحضارة الأوروبية.
- أما والدها فهو الدكتور حسن محمد أفلاطون الذى درس العلوم فى جامعات سويسرا وإنجلترا وعاد لمصر ليؤسس قسم الحشرات فى كلية العلوم عام 1930 ثم يشغل منصب العمادة بالكلية .. تزوج ابنة عمه والدة إنجى وكان عمرها 14 سنة فقط .
- ` كان مولودى فى يوم 16/4/1924 وسنة مولدى هى سنة اشتداد الخلاف بين أمى وأبى فكانت هى سنة الطلاق. حاولت أمى فى ذلك الوقت التخلص من حملها بالقيام برياضة صعبة وحركات عنيفة ورغم هذا لم يحدث سقوط الحمل .
- لم يكن الطلاق سهلا .. كان أبى يرفضه ولكن أمى أصرت عليه وغادرت بيت الزوجية وهى فى التاسعة عشرة من عمرها وتحمل طفلتين أنا إحداهما ولم يتجاوز عمرى بضعة شهور.. كان عليها مواجهة الحياة فى ظروف مادية صعبة نسبيا فهى لم تكن قد ورثت بعد وأبى الذى كان غاضبا من الطلاق يدفع نفقة محدودة لا تتناسب مع مكانته الاجتماعية وإمكانياته المادية.. ولهذا فضلت أمى أن تسكن فى بيت جدتها الفخم الذى يقع فى حى الزمالك وله حديقة جميلة خاصة به. سارت أمى فى الطريق الذى اختارته بإرادتها ورفضت الزواج حرصا على حضانتها لنا، ولكنها لم تستطيع أن تستقر استقرارا كاملا ليكون لنا بيت مستقل إلا حينما نزلت ميدان العمل واستقلت ماديا.. كان هذا فى عام 1936 وبتشجيع طلعت حرب ومساعدة بنك مصر افتتحت محل الأزياء الرفيعة والتفصيل الراقى يحمل أسم ` صالحة ` فكانت أول مصرية تعمل فى هذا المجال الذى يحتكره الأجانب واليهود. وبهذا النشاط أصبحت أمى تسافر كثيرا إلى الخارج وبخاصة فرنسا تتابع تطور الموضة وتختار موديلات المحل وطبعا تأخذنا معها أنا وأختى الكبرى بولى، وقد نجح المشروع نجاحا كبيرا `.
- المدرسة .. أول تمرد
كانت مدرسة القلب المقدس الكائنة بحى مصر الجديدة إحدى مدارس ` بنات الذوات` التى تديرها الإرسليات الأجنبية. وكانت مشهورة بالتزمت الشديد.. فهى المدرسة التى تخرج أفضل الفتيات المثاليات فى الطاعة للأسرة والزوج وفى الرضا بكل ما يأتى به القدر للمرأة، باختصار كانت المدرسة مشهورة بقدرتها على التهذيب وتكون الفتاة لتصبح فى الصورة التى يرغبها مجتمع الرجال التقليدى.. ولهذا أصر أبى على إدخالنا هذه المدرسة لأنه ` -كما أعلن - يخاف أن ننشأ مثل أمنا ونسير على دربها فى الاستقلال والعناد.
- ولكن إنجى التى لم تكن قد تجاوزت الثانية عشره عاما كرهت تلك المدرسة، شعرت أنها أقرب إلى السجن بهذه القيود والعيون التى ترصد كل حركة وتدين أى فعل حيث ممنوع النظر فى المرآة وممنوع الصداقة بين الفتيات وممنوع القراءة على انفراد.. وأدركت فى هذه السن الصغيرة أن التمرد ضرورى للتصدى لهذا الظلم فبدأت رحلة التمرد التى لازمتها طوال حياتها فى ما بعد.
- انتصرت إنجى فى أول معارك حياتها وانتقلت إلى مدرسة الليسية الفرنسية وبدأت تتشبع بأفكار الفلاسفة الفرنسيين من رجال القرن الثامن عشر وكتاب ما قبل الثورة الفرنسية فولتير وروسو وديدرو وسان سيمون، هزتها قراءاتها هزة عنيفة وعميقة وأثرت بقوة على تفكيرها، فى هذا الوقت انتقلت مع أمها وشقيقتها من الزمالك إلى شقة فى شارع شامبليون فى قلب القاهرة ، والتى لا تبعد كثيرا عن مدرسة الليسيه وتوثقت علاقاتها مع زميلات الدراسة اللائى ينتمين إلى وسط غير أرستقراطى فبدأت تساؤلاتها عن الفروق بين دنيا الأثرياء ودنيا الفقراء ، بين البذخ المبتذل الذى يعيش فيه الفريق الأول والفقر الذى يغرق فيه الفريق الثانى، رفضت السطحية والاستهتار وعدم المبالاة التى تميز شباب الأثرياء اعتمادا على مال وسلطة آبائهم، خافت أن يكون مصيرها أن تعيش بين هؤلاء الضائعين وحلمت بالإنسانية العادلة كسعادة كل البشر.
- التحول
هوت إنجى الرسم منذ الطفولة.. كانت سعادتى الحقيقية تتحقق حين أرسم القصص الخيالية التى تؤلفها أختى ` بولى` وكانت عائلتى على دراية بموهبتى وتحاول أن توفر لى دروسا فى هذا الميدان، لكن القدر كان يرتب لى لقاء مفاجئا من نوع غريب مع فنان اختلف تماما عن نوعية المدرسين الخصوصيين هو الفنان كامل التلمسانى الذى اتفقت معه إحدى صديقات أمى لإعطائى دروسا فى الرسم ، كانت دروسه لى ليست دروسا فى الرسم فقط بل نافذة ساحرة على الحياة وعلى مصر الحقيقية ، واندفعت أرسم بحماس وانطلاق أول لوحة زيتية فى حياتى لفتاة تحاول الهرب من لهيب النار والثعابين التى تحاول التهامها.. تحمس التلمسانى لى وجعلنى أشارك فى المعارض الطليعية الجماعية لجماعة الفن والحرية رغم صغر سنى، وهكذا انتقلت بالرسم إلى الدخول فى دائرة المثقفين المصريين، فى ذلك الوقت كان للتحالف بين الاتحاد السوفيتى وبين الدول الاستعمارية فى مواجهة دول المحور اثره فى تغيير مجرى الحرب العالمية الثانية ، مما ساعد على وصول بعض المطبوعات والكتب الماركسية إلى القاهرة والإسكندرية لأول مرة ، كنت أندهش من التحليل العلمى المتكامل الذى تقدمه هذه الكتب ووجدت فيها حلولا حاسمة للقضاء على مشاكل الفقر والاستغلال الطبقى والاستغلال المزدوج للمرأة فى المجتمعات الرأسمالية وقضايا الاستعمار والتحرر الوطنى.. ووجدت نفسى أقتنع وبعمق وبصدق بالاشتراكية العلمية فاكتسبت حياتى بعدا جديدا هو الكفاح السياسى ، وانتقلت باختيارى الواعى من معسكر الاغنياء إلى معسكر الفقراء.
- حاولت أمى إقناعى بالسفر إلى فرنسا لاستكمال دراساتى الفنية لكنى رفضت بإصرار وعزم لأنى استعد لحياة جديدة يقتسمها النشاط السياسى الاجتماعى ، لم يكن مقبولا ولا معقولا أن أترك مصر وأذهب لعدة سنوات إلى بلاد الخواجات وأنا أفكر بكل وجدانى فى عملية تمصير طويلة وقاسية للنفس لى شخصيا، أنا التى أتكلم الفرنسية وضاعت من عمرى ثمانى عشرة سنة فى هذا المجتمع المغلف بالسيلوفان وحين بدأت احتك بالناس لم أستطع أن أحلل عقدة من لسانى، مقطوعة أنا من شجرة إذن !!
- تواصل إنجى افلاطون سرد رحلة التحول الكبير فى حياتها ` كنت أنا أبحث تائهة عن أى انتماء يتفق مع اقتناعى بالاشتراكية العلمية فأخذت قرارى بالعمل السرى.. وهكذا انضممت إلى منظمة إسكرا 1944 كانت تعانى فى هذا الوقت من عدة مشكلات أولها لغتها العربية الضعيفة -التى عملت على تعلمها- ثم مشكلة رفض المجتمع للاختلاط بين الجنسين وتغلبت عليها- مع زميلاتها- بإنشاء قسم نسائى داخل التنظيم، أما المشكلة التى أقلقتها بحق فكانت هذا الفارق الطبقى الواضح بينها وبين غالبية الرفاق فى التنظيم من الجنسين مما دفعها لبذل جهدا جبارا لكى تتكيف مع هذا العالم الجديد وتجعله يتقبلها ويثق بها.. ` كم كان خجلى من الملابس الغالية التى تملأ دولاب والدتى، كنت أترك جميع الفساتين الجميلة وأرتدى أبسط وأقدم ما أجده.. ولم أتخلص من هذه العقدة إلا بعد زواجى عندما استطاع زوجى أن يقنعنى بأن انضمامى أو غيرى من أفراد طبقة الاغنياء إلى جبهة الشعب هو مكسب كبير يجب أن أفخر به ولا أخجل منه..
- بدأت قضية المرأة تحتل مكانا أساسيا فى تفكير إنجى أفلاطون، أثارها الوضع المتخلف والمهين الذى تعيشه المرأة المصرية فى هذا الوقت وأخذت تبحث عن كيفية تغيير هذه الاوضاع الظالمة وطرق دفع المرأة للمشاركة فى المعارك الكبرى لتحرير الوطن والمجتمع، كانت مهمتها فى ذلك الوقت هى الاتصال بالفتاة المصرية والتعرف على الطالبات والمثقفات ومحاولة استقطابهن فى صفوت الحركة التقدمية.
- بدأت أنا وبعض الزميلات الماركسيات محاولات جادة للعمل من خلال الجمعيات النسائية الموجودة ، الحزب النسائى واتحاد بنت النيل.. ووجدنا أنه لا مفر من تكوين جمعية نسائية مستقلة ذات طابع ديمقراطى جديد وأسميناها رابطة فتيات الجامعة والمعاهد المصرية ، وكان أول نشاط مهم تقوم به الرابطة هو قرارها بإرسال مندوبات عنها إلى أول مؤتمر نسائى عالمى بعد الحرب وهو المؤتمر الذى افتتح فى باريس يوم 26-11-1945 .
- عادت إنجى من المؤتمر أكثر نشاطا وحماسا فقامت بتنظيم أول مؤتمر جماهيرى للرابطة فى فبراير 1946 ، وشاركت فى أعمال أول مؤتمر عالمى للطلبه فى براغ، وفى تأسيس الجمعية النسائية الوطنية المؤقتة، وواصلت نشاطاتها فى مصر والخارج تنادى بالحرية والاستقلال وتشارك فى المظاهرات والمؤتمرات.. باختصار كانت شعلة من النشاط والحماس.
- فى هذا الوقت تقابلت إنجى مع حمدى ، كانت عائدة من مظاهرة نسائية وكانت أمها قد سافرت للخارج فقررت حضور حفل زفاف كانت قد دعيت إليه . ولكن القدر شاء أن تتميز تلك الليلة عن باقى ليالى العمر عندما عرفها أحد الزملاء بشاب طويل وسيم قمحى اللون وأخضر العينين ` فوجئت بالشاب يحدثنى فى اهتمام بالغ وينظر إلى بإعجاب واضح والحق إنى شعرت نحوه بالإعجاب من أول نظرة ` ولكن سرعان ما تبدد الأمل وطارت الأحلام لأن هذا الشاب وكيل نيابة.. أى أن من صميم عمله حبس أمثالى ولكنى اكتشفت أنه من العناصر الوطنية الممتازة بل إنه أيضا من الماركسيين الملتزمين ولكن الضرورة تقتضى إخفاء ذلك، وبدأت المقابلات بحجة أن يعطينى دروسا فى اللغة العربية، أعتقد أننى أحببت حمدى منذ أول لحظة وبعد تعرفى عليه تعمقت العلاقة بيننا إنسانيا وفكريا وسياسيا.. ولكن لم يكن ممكنا أن نتزوج بسهولة.
- فى هذا الوقت قبض على انجى بتهمة الاشتراك بالعضوية فى منظمة دولية دون إذن من الحكومة. اعترفت هى بالتهمة وأضاقت أنها فخورة بهذه العضوية ، ولكن أفرج عنها وبعد ذلك صدر قرار بنقل حمدى- بناء على رغبته إلى إدارة قضايا الحكومة.. ثم كان زواجهما يوم27 مايو 1948 فى حفل صغير ضد رغبة أمها التى كانت تود أن ترى زفاف ابنتها فى حفل مهيب ونشرت أخبار اليوم الخبر بعنوان إنجى أفلاطون ترفع الراية البيضاء.
- ` أكسبنى الزواج من حمدى أشياء كثيرة فلأول مرة أشعر بالاستقرار والطمأنينة وزال شعورى بعدم الرضا عن نفسى، كان حمدى إنسانا تقدميا ولم تكن لديه أيه رغبة فى السيطرة وساعدنى كثيرا فى التخلص من العقد التى سببها لى التناقض الذى نشأت فيه بين البيئة والعقيدة أقنعنى زوجى أن حرصى على مظهرى اللائق مسألة طبيعية وأن التكلف فى العمل والمظهر الثورى ليس من علامات النجاح، وساعدنى كثيرا فى تمصير وتعريب حياتى، وكان يردد على الدوام يجب أن نعيش بالعربى .
- مسالة أخرى هامة جدا ساعدنى فيها زوجى هى العودة للفن والرسم فبدأت رحلة الدراسة الجادة، نظمت وقتي تنظيما موفقا فكنت أكرس الصباح للفن أما المساء فللعمل السياسى.
- الصحافة
بدأت إنجى الكتابة رغم ضعف لغتها العربية ولكنها شعرت بضرورة مخاطبة الناس لتوصيل آرائها إليهم لأن الكتابة وسيلة مباشرة للإ قناع فكان أول كتاب لها بعنوان ` 80 مليون امرأة معنا` نجحت فى إقناع الدكتور طه حسين أن يكتب مقدمة له وكان صدور الكتاب إيذانا بحملة شعواء ضدها بل إن الكتاب لم يتم توزيعه إلا بعد أن رفعت قضية ضد وزارة الداخلية التى قامت بجمعة من السوق.. ثم جاء كتابها الثانى بعنوان ` نحن النساء المصريات` الذى تضمن بحثا مفصلا عن أوضاع المرأة المصرية.. وكتب المقدمة له المؤرخ عبد الرحمن الرافعى، وكان نشر الكتاب الثانى بداية لعملها بالصحافة.. فى سنة 1950 عرض على الأستاذ محمود أبو الفتح أن أكتب فى جريدة ` المصرى` أوسع الصحف انتشارا.. وأول عمل قدمته للجريدة كان تحقيقا صحفيا عن مصر والسلام العالمى وقدم لى محمود أبو الفتح شيكا وطلب منى الاستمرار فى الكتابة للجريدة كانت قيمته خمسين جنيها! ثم خصصت لى الجريدة عمودا دائما تحت عنوان ثابت اخترته أنا وهو ` المرأه نصف المجتمع`، وتطور الأمر فصرت أحرر صفحة كاملة.. وبعد شهرين او ثلاثة من عملى فى المصرى طلبت مكافأتى ففوجئت أن مرتبى هو اثنا عشر جنيها فقط فعرفت أن محمود أبو الفتح أراد استقطابى بدعوتى للكتابة فى الجريدة وحينما فشل فى إبعادى عن اليسار تغيرت المعاملة من الناحية الأجر، فى ذلك الوقت أصدرت كتابى الثالث الصغير بعنوان ` السلام والجلاء` حاولت فيه أن أشرح مدى ارتباط قضايا السلام مع قضايا التحرر الوطنى.
- جاء هذا الكتاب بعد أن أصبحت إنجى عضوا مؤسسا فى لجنة أنصار السلام فى مصر التى تكونت عام 1951 والتى بدأت معها رحلة جديدة من العمل السياسى تعرفت خلالها على سيزا نبراوى وكونت معها لجنة الشابات فى الاتحاد النسائى المصرى ثم اللجنة النسائية الشعبية التى كانت تعمل لتعبئة الجماهير النسائية وتنظيمها لتقديم مساندة مادية ومعنوية للفدائيين فى منطقة القناة.
- المعرض الاول.. والثورة
بعد حريق القاهرة تحطمت المقاومة فى منطقة القناة، انكسرت أجنحة الحركة الوطنية والشعبية، وفى هذا الجو العصيب أقمت معرضى الأول فى شهر مارس 1952 كان أبطال لوحاتى من أفراد الشعب البسطاء من النساء بصفة خاصة وتحمل عناوين قوية مثل` روحى أنت طالق` .` الزوجة الرابعة`، ` يعملن كالرجال` بعد ذلك أقمت معرضا سنة 1953 وآخر فى 1954 وثالثا فى 1956 وكانت موضوعات لوحاتى كلها تدور حول الريف وحياه الناس هناك.
- ` سمعنا- زوجى وأنا- نبأ قيام ثورة يوليو ونحن فى سويسرا وعلمنا أن الثورة بادرت بالإفراج عن كل الزملاء المعتقلين منذ حريق القاهرة.. وبالرغم من حماسنا فى البداية للثورة ولخلع الملك والقضاء على الفساد والاستبدال إلا أن شكوكنا كانت كبيرة وانتظرنا فى الخارج نترقب المواقف الذى ستتخذه الحركة الشيوعية فى مصر وبخاصة منظمة حدتو- الحركة التى كنا أعضاء فيها.
- كارت يحمل رسما لجميلة بوحريد وتوقيعا لإنجى أفلاطون تم توزيعه فى يوم المرأة العالمى لكل دول العالم.
- أحبت وكيل النيابة الوسيم وتزوجته بعد أن ترك النيابة فكتبوا أنها رفعت الراية البيضاء !
- أضربت عن الطعام لمدة 17 يوما مع زميلاتها فى سجن النساء للمطالبة بالإفراج وتحسين أوضاع السجن .
- ثم ظهر أن موقف الحركة الشيوعية عموما هو التأييد وأكثرهم تأييدا كانت حدتو.. بعد عودتنا لمصر فوجئنا بالأحداث تتوالى وخاصة إعدام العاملين خميس والبقرى اللذين تزعما إضراب عمال مصانع كفر الدوار فقدمنا استقالتنا من حدتو وأصبحنا من الأعضاء النشيطين فى منظمة الحزب الشيوعى المصرى .
- فى نوفمبر 1954 ألقى القبض على ` حمدى` بتهمة الانتماء لمنظمة الحزب الشيوعى وأودع سجن القناطر تحت التحقيق لمدة سنتين ثم تم القبض أيضا على الدكتور إسماعيل صبرى عبدالله زوج بولى شقيقة إنجى وكان وقتها منتدبا للعمل مديرا للإدارة الاقتصادية والمالية لرئيس الوزراء بتهمة أنه سكرتير منظمة الحزب الشيوعى المصرى، وكان هذا وقتا صعبا للغاية على الاسرة كلها خاصة بعد وفاة زوج الأم متأثرا بمرضه وعندما حكمت المحكمة ببراءتهما اجتمع شمل الأسرة من جديد وغمرها فرحة كبرى افتقدنها لزمن طويل، ولكن هذا لم يمنع إنجى وحمدى من مواصلة العمل السياسى، حيث شاركا فى مؤتمر إقامة المجلس العالمى لأنصار السلام فى فيينا من خلال وفد مصرى سافر للتنبيه والتحذير من بوادر عدوان استعمارى على سياده مصر بعد قرار تأميم القناة.. كان دور إنجى فى المؤتمر هو الرد على أسئلة الصحفيين` أستطيع القول أننى نجحت فى هذا المؤتمر وأجبت على جميع الأسئلة حتى المحرجة منها مثل كيف تفسر قيام الحكومة حسب قولك بسياسة تحريرية فى الوقت الذى تقضى فيه على الشيوعيين وهم من أخلص وأنشط العناصر الوطنية؟ كان ردى أن التناقض الذى يشير إليه آلية السؤال هو تناقض بين السياسة الخارجية والسياسة الداخلية ويمثل نقطة ضعف خطيرة تهدد إنجازات عبد الناصر وتضعف الجبهة الداخلية، ولما عدت إلى مصر أرسلت إلى جمال عبد الناصر نسخة من المحضر لما جرى فى المؤتمر الصحفى، وقد تلقيت من عبد الناصر الرد وكان بالشكر والتقدير.
- فلما وقع العدوان الثلاثى تطوع حمدى فورا فى جيش التحرير الوطنى وأصبح قائدا لمعسكر المقاومة الشعبية فى حى الجمالية، أما عن نفسى فقد أسرعت للتشاور مع سيزا نبراوى فتم إعادة تكوين اللجنة النسائية للمقاومة الشعبية على أساس أنها التنظيم القادر على تعبئة النساء وتوحيدهن وتوعيتهن للوقوف ضد الأخطار التى تهدد الثورة وتهدد الوطن، وضمت اللجنة 18 لجنة فرعية فى مختلف الأحياء الشعبية.
- رأست إنجى لجنة حى الجمالية فكان التعاون بينها وبين زوجها حمدى كبيرا فكانت من أنشط اللجان فى القاهرة.
- انتخابات لأول مرة
بعد العدوان الثلاثى دخلت إنجى حربا جديدة، فقد كونت مع سيزا نبراوى أيضا اللجنة النسائية المؤقتة لنشر الوعى الانتخابى بهدف توعية النساء لقيد أسمائهن فى جداول الانتخاب ثم كان قرار أن تخوض النساء هذه الانتخابات وتم ترشيح سيزا نبراوى فى حى مصر القديمة ، فكانت معركة ضارية انتهت بهزيمتها فى عملية قالت عنها إنجى أنها عملية تزوير واسعة.
- خرجنا من معركة الانتخابات متعبين جدا فاقترح حمدى أن نسافر إلى الإسكندرية أياما لنستريح ونزلنا فى فندق البحر الابيض الذى قضينا فيه شهر العسل، ولكنى تركته هناك وعدت إلى القاهرة لحضور أول إجتماع وحدوى بين اللجنة المركزية للحزب الشيوعى المصرى وبين اللجنة المركزية للحزب الشيوعى الموحد، أصر حمدى على عدم سفرى ولكن بعد مناقشة عنيفة لم تحصل مثلها من قبل بيننا وافق على سفرى فى الصباح على أن أعود فى آخر النهار، وبعد عدة أيام كان على أن أعود مره أخرى للقاهرة لقضاء عدة أشياء ضرورية على أن أرجع للإسكندرية بسرعة ومعى النقود اللازمة بعد أن أصبحنا عاجزين عن سداد مستحقات الفندق. فجأة وأنا فى القاهرة دق جرس التليفون وجاء الخبر المفجع حمدى أصيب بانفجار فى الشريان ونزيف فى المخ ويرقد فى مستشفى المواساة.. على الفور أخبرت ماما وأختى بولى وزوجها إسماعيل وسافرنا ليلا إلى هناك وبعد بضع ساعات من وصولنا رحل حمدى إلى الأبد ، كان هذا الحدث فى شهر يوليو 1957 ، أربعة وثلاثون سنة عاشها حمدى حقا حياته كانت قصيرة لكنها كانت مليئة بالحب والعطاء والتضحية.. حاولت أن أتخطى صدمة موت حمدى بمزيد من الانغماس فى العمل.
- عادت إنجى للرسم ورسمت لوحة بعنوان بورسعيد فازت عنها بجائزة فى صالون القاهرة الذى خصص لموضوع العدوان الثلاثى، وكذلك لوحة الندابات التى فازت بجائزة ثانية، وقامت بتصميم رسم لجميلة بوحريد تم طبعة على كروت المعايدة بمناسبة يوم المرأة العالمى 8 مارس 1959 وتوزيعه على جميع المنظمات النسائية المنضمة لعضوية الاتحاد النسائى الدولى فى شتى أنحاء العالم ، فطاف الكارت العالم كله حاملا توقيع إنجى أفلاطون .
- أربع سنوات فى السجن
فى يونيو 1959 ألقى القبض على إنجى التى كانت تعرف أنها مطلوبة فتخفت فترة طويلة وعندما قبض عليها كانت تحمل تقريرا عن إضرابات عمال الترام خبأته فى الكورسية الذى ترتدية واستطاعت أثناء وجودها فى المباحث العامة بوزارة الداخلية أن تتخلص منه بعد تمزيقه.
- إلى سجن النساء بالقناطر الخيرية نقلت إنجى وكانت زميلاتها ينظرن لها بتوجس منبعه إنها أرستقراطية ولا أحد يعلم إن كانت ستستطيع تحمل الظروف هناك أم لا ولكنها- كما تقول - خاضت التجربة بنجاح .
- فى ديسمبر 1962 بدأ أول إضراب سياسي فى تاريخ السجون النسائية المصرية.. نظمت إنجى مع زميلاتها إضرابا عن الطعام دام سبعة عشر يوما مطالبات بالإفراج عنهن.. وانتهى الإضراب بتراجع السجن عن كثير من الممنوعات ومنها حق الزيارة، وفى يوم 26 يوليو 1963 تم الإفراج عن إنجى وزميلاتها لتنتهى مذكراتها بمجموعة من الخطابات أرسلتها لأختها بولى من داخل السجن تحكى لها عن شكل الحياة هناك.
فى يوم 17-4 -1989 توفيت إنجى أفلاطون، أما وصيتها فكانت نشر هذه المذكرات.
بقلم : ناهد الشافعى
صباح الخير 18-1-2005
إنجى أفلاطون .. سيدة الفرشاة المتموجة
- بدأت إنجى أفلاطون حياتها منذ بداية عقد الأربعينيات فى القرن الماضى، ولم تكن حسب مذكراتها، تعرف اللغة العربية جيدا، ولكنها تعلمت العربية على يد الفنان كامل التلمسانى، وبالتالى انخرطت فى الحركة التشكيلية بكل طاقاتها.
- وبعد زمن طويل احتفى الفنانون التشكيليون بإنجى، وقدمتها الصحافة والوسط الثقافى في فترة الثمانينات على أنها فنانة تشكيلية فقط ، دون إبراز الجانب السياسى والنضالى في حياتها، هذا الجانب الذى عرجت عليه بقوة في فترة من حياتها.
- كانت إنجى واحدة من أبرز الطلائع النسوية التى التحمت بالحركة الوطنية وانضمت للتنظيمات السرية ودفعت سنوات من عمرها فى السجن ثمنا لنضالها.
- وشهادة عبد العظيم أنيس تشى بذلك: ` لقد قضت إنجى أفلاطون سنوات السجن خلال المرحلة الناصرية كما قضينا، وعانت مثل ما عانينا/ لكنها ظلت على تفاؤلها وحيويتها طوال تلك السنوات السبع ولجأت إلى فنها من جديد وهى في السجن تستعيد لوحاتها لحظات حية من أعماق الناس فى السجون وظلال الطبيعة من نافذة الزنزانة.
- إنجى الكاتبة
تحكى إنجى عن علاقتها بالكتابة: ` أليس من الغريب أنى اتجهت إلى الكتابة فى الوقت الذى لم أكن أستطيع الكتابة بسهولة باللغة العربية، لكن كان شعورى قويا بضرورة مخاطبة الناس بالكتابة لتوصيل آرائى إليهم فى كل الأوقات، فالكتابة تأثيرها أسرع من الرسم وهى وسيلة مباشرة للأقناع ` .
- لم تكن الكتيبات ونشرها الوسيلة الوحيدة لنشر آراء إنجى وتوصيلها للناس فقد أتيحت لها فرصة الكتابة فى الصحافة عام 1950 ، فخصصت لها جريدة ` المصرى ` التى كانت من أوسع الصحف انتشارا آنذاك عموداً تحت عنوان ثابت اختارته إنجى بنفسها وهو ` المرأة نصف المجتمع، وتطورت الأمور فصارت تحرر صفحة كاملة بدلا من العمود الواحد، ولكن تم إنهاء عملها فى الجريدة عندما أثارت غضب وزير الداخلية فؤاد باشا سراج، وانتقلت إنجى لتكتب في مجلة ` الكاتب ` وهى مجلة أسبوعية أصدرتها لجنة السلام لتكون لسان حال رسالة السلام ودعوته وظلت تكتب فيها حتى تم إغلاقها بأمر السلطة بعد حريق القاهرة.
- كما أن إنجى كانت تكتب فى جريدة ` مصر المناضلة والتى كان يصدرها مكتب الشئون الخارجية بالحزب الشيوعى المصرى وهى جريدة تحرر وترسل وتوزعه لكل من يهمه التعرف على مواقف ووجهات نظر الحزب السياسية.
- بين عامى 1948 و1950 قدمت إنجى إنتاجها الفكرى ورؤيتها النسوية والسياسية للرأى العام فى ثلاثة كتب هى:
- 80 مليون امرأة معنا (1945) الجمعية النسائية الوطنية، وكتب مقدمته ` الدكتور طه حسين بك القاهرة ، مطبوعات دار الفجر، 1948 .
- ` السلام والجلاء ` كتب مقدمته` الأستاذ الدكتور عزيز فهمى `، القاهرة، 1950 وقد رصدت إنجى فى الكتاب الثانى واقع المرأة المصرية عند منتصف القرن الماضى فتقول فى المقدمة :
` اليوم يدور في مصر جدل عنيف حول حقوق المرأة بين فريقين رئيسيين: الفريق الذى يؤيد المساواة بين الرجل والمرأة فى المجتمع ، والفريق الذى يعارض هذه المساواة، وتحيط بكل من هذين الفريقين شيع تختلف بينها على مدى التأييد أو مدى المعارضة` . والكتاب يتكون من ثلاثة أبواب الباب الأول يتناول دراسة عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للمرأة المصرية فى المجتمع المصرى، والباب الثانى يتناول تحرير المرأة من زاوية المرأة والإسلام ثم الأسباب الحقيقية لوضع المرأة في المجتمع المصرى فى الأربعينيات والخمسينيات، وأخيرا المبادىء الرئيسية لتحرير المرأة المصرية، الباب الثالث ويتناول تاريخ الحركة النسائية فى مصر، وطرحت في الباب الثانى من الكتاب( الفصل الثالث) المبادىء الرئيسية لتحرير المرأة المصرية وتصدرتها عشرة مبادى منها تحريم تعدد الزوجات تحريما تاما تقييد حق الرجل المطلق فى الطلاق والمساواة بين الزوجين فى حق الطلاق على ألا يستخدم هذا الحق إلا على يد القاضى، وتحريم الزنا تحريما تاما على الزوجين والمساواة فى العقوبات بينهما وتحريم ضرب الزوجة وإلغاء نظام الطاعة ..إ لخ `.
- وتعتبر هذه المبادىء الذى وضعتها إنجى بمثابة برنامج كامل عن حقوق المرأة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، مازال الكثير منها لم يطبق إلى الآن.
- فى عام 1950 أصدرت كتابها الثالث بعنوان ` السلام.. الجلاء` فى محاولة للكشف عن عدم وجود تناقض بين الدعوة إلى السلم العالمى من ناحية، والدعوة إلى الكفاح بكل الوسائل ضد المحتل البريطانى بما فى ذلك الكفاح المسلح من ناحية أخرى.
- وتضمن الكتاب خمسة فصول منها، فظائع الحرب وفظائع القنبلة الذرية والنضال من أجل السلام.
- تلك المرحلة على تأليف الكتب فقط بل إنها شاركت فى الصحافة السياسية ، وفى مقال لها بعنوان مثير (الست الزعيمة تؤيد الاستعمار) فوجئ الرأى العام بتصريحات غير مفهومة من الدكتورة درية شفيق فيها تضرع وبكاء وتسليم الأمر لله وأرادت الزعيمة، أن تفسر تصرفاتها المتناقضة، فإذا بها تؤكد أن دورها فى الحركة النسائية لم يعد حركة مسرحية فحسب، بل انتقل إلى خدمة أصدقائها الإنجليز والأمريكيين `.
- وفى مقال آخر فى مجلة الكاتب للسلام والحرية ، تكتب انجى مقالا بعنوان ` أبراش وسل وتفتيش أجساد النساء ` يتحدث المقال عن الجرائم الرهيبة الدامية التى رواها المسجونون السياسيون في ساحة القضاء، وكذلك معاملة البوليس للمسجونات ووصفه ذلك بأنه وصمه عار فى جبين الإنسانية ومخالفة صارخة لقوانين السجن ولوائحه.
- وتعود إنجى مرة أخرى لتصوب سهامها تجاه المنظمات النسائية وتتساءل ` ولكن اشتراك المرأة المصرية فى هذه الحركة الوطنية كان مستقلا عن المنظمات النسائية القائمة التى بقيت فى معزل عن النضال الوطنى الشعبى ` .
- وفى كتابتها تؤكد إنجى دائما أن تأخر المرأة المصرية وتعاستها هما حلقة من السياسية الاستعمارية المحرمة التى بدأت فى 1 يونيو 1882 على أيدى قطاع الطرق البريطانيين.
` لذلك يجب أن يدرك الجميع أن رفع مستوى الأسرة المصرية رهن بالقضاء على الاستغلال الاستعمارى . وأن استقلال المرأة الاقتصادى رهن بازدياد والحاجة إلى الأيدى العاملة بتطوير الإنتاج وتخليصه من الاستعمار وأن تحرير المرأة سياسيا واجتماعيا رهن بتحقيق الديمقراطية الحقيقية والمساواة الكاملة فى الحقوق والواجبات.. وهذا رهن بالقضاء على مصدر المأساة.. الاستعمار الذى دنس وطننا بأقدامه الملوثة بالجريمة والضعة والعار فى 11 يوليو1882 ` .
- طريق إنجى إلى الفن والحرية
تعلمت إنجى من التلمسانى أكثر من دروس فى الرسم، تعلمت أن الرسم نافذة ساحرة على الحياة وعلى مصر الحقيقية، نافذة على المعنى الحقيقى للفن.. الرسم ليس إلا التعبير الصادق عن المجتمع والذات.
- ` لقد رفع التلمسانى عنى حجراً ثقيلا، أزاح من أمامى سداً قويا كان يخنق تفكيرى ويئد شعورى وكانت مفاجأة للتلمسانى.. ما هذه الشحنة القوية من التمرد والرغبة العارمة الصادقة فى التعبير بالرسم التى تتمكن من فتاة تنتمى إلى البرجوازية ؟ .
- وهكذا وضع التلمسانى إنجى أفلاطون على طريق أهم جماعة فنية (الفن والحرية) التى ظهرت في الأربعينات والتى كانت لا تهتم بالفن وحسب بل تثير قضايا كبرى فى السياسة والفكر عموما إلى جانب قضايا الفن التشكيلى وكانت تضم نخبة من الفنانين والأدباء الطليعيين على رأسهم رمسيس يونان وفؤاد كامل ومارسيل بياجينى ومحمود سعيد وألبير قصرى وجورج حنين، وانتقلت إنجى بالرسم إلى الدخول فى دائرة المثقفين المصريين وإلى قراءة الكتب الماركسية بالاطلاع على المفاهيم الاشتراكية التى فتحت أمامها أبواب عالما كاملا لقضايا كبرى، قضايا الاستعمار والتحرير الوطنى وقضايا الفقر والاستغلال الطبقى والاستغلال المزدوج للمرأة فى المجتمعات الرأسمالية. وقد زاد حماسها واقتناعها بالاشتراكية العلمية تركيزها على ارتباط التحرير الوطنى بالتحرير الاجتماعى.
- شغلت قضية المرأة مكانا أساسيا في تفكير إنجى، فاتجهت إنجى للنوادى الرياضية والثقافية وجمعية الشبان المسيحية ودار الأبحاث العلمية وتعرفت منها على شهدى عطية الشافعى وعبد المعبود الجيلى وكانا مسؤولين عن الدار وكانت إنجى من رواد الندوة الأسبوعية، التى تلقى فى هذه الدار، وكانت تتردد على أماكن كثيرة للمثقفين وفى دار البحاث العلمية تكونت أول لجنة نسائية انضم إليها عدد من الشابات المثقفات منهن سعاد بدير وثريا أدهم، ولطيفة الزيات، وفى منتصف عام 1945 أخذت إنجى زمام المبادرة وكانت معها لطيفة الزيات وفاطمة زكى وآسيا النمر وعنايات النيرلى، وكونت إنجى مع بعض زميلاتها الماركسيات جمعية شبابية ذات طابع ديموقراطى وأطلقوا عليها رابطة فتيات الجامعة والمعاهد المصرية.
- ووضعوا برنامجا وحددوا لها أهدافا ووجهوا نداء للفتيات والنساء فى مصر للانضمام إلى الرابطة.
- كما وضعوا قسماً للرابطة ` نحن نساء مصر` تقسم قسماً مقدساً على الكفاح المستمر بمختلف أشكاله حتى نقضى على الرجعية والاستعمار قضاء تاماً، وحتى تعم بلادنا ديموقراطية حقيقية `.
- وهكذا هجرت إنجى مجتمعها المخملى الأرستقراطى وألقت بنفسها فى القضاء السياسى والثقافى وانحازت للفقراء وقضايا التحرر الوطنى.
- كان أول نشاط هام تقوم به الرابطة هو قرارها بإرسال مندوبات عنها إلى أول مؤتمر نسائى عالمى يقام بعد الحرب وهو المؤتمر الذى افتتح فى باريس يوم 26 نوفمبر عام 1945 .
تجربة إنجى مع السجن
- كانت تجربة السجن فى حياة إنجى قاسما مشتركا بين فن الرسم والكتابة ، وفى مذكراتها تروى بعضا من تجربتها فى السجن قائلة : هربت حيث أحسست أنهم ينوون القبض علينا، وتنكرت لمدة ثلاثة أشهر ونصف فى ملابس فلاحة وكان زوجى قد توفى فكنت وحيدة حتى تم القبض على واعتقالى فى سجن القناطر....فترة السجن كانت فترة نضوج فنى وإنسانى وفكرى..... بعد ثلاثة أو أربعة أشهر بدأت أحس أنى أريد الرسم وكان ذلك ممنوعا ولكنى استطعت التفاهم مع مأمور السجن حينذاك وكنت قد فزت بالجائزة الأولى من وزارة الثقافة عن لوحة المسابقة قبل الهروب والسجن فعزز ذلك موقفى، ثم أخذت حق الرسم وكنت الوحيدة التى يسمح لها بالخروج إلى الحوش للرسم ` .
- فى السجن أحسست بقاع المجتمع ...أجلس مع المسجونات أتحدث وأسمع منهن قصصاً ومآسى فظيعة، أحسست أن السجن فرصة كاملة لأعرف بلدى أكثر وادخل فى أعماق الناس كنت أريد أن أعبر عن كل ما شاهدته فى السجن لكن اللوحات كانت تمر على المأمور وعلى مصلحة السجون والمباحث وذات مرة صودرت لوحة وكانت هذه هى المشكلة التى إضطرتنى إلى تهريب اللوحات من السجن ` .
- ماذا رسمت إنجى فى السجن
` رسمت بورتريهات ورسمت القلوع التى كانت تبدو وراء القضبان من بعيد فكنت أرى الشراع كأنه يسير داخل السجن وسبب لى هذا جنونا لان الشراع كان يتحرك ونحن ساكنون فى أماكننا.
- كنت أصعد إلى سطح السجن لأرى الشراع وأرسم إلى حد أن المسجونات كن يتحمسن لى كثيراً وينادوننى حين يرين شراعاً فى الأفق ` .
- ومن أبراز أعمال إنجى فى السجن ` طابور الحمام استلام الجراية، الطفل والبرتقالة، عنبر السياسات، زهور خلف القضبان، بنت القنصل، وعندما عرضت هذه اللوحات فى المعرض الشامل لإنجى ( 1942 -1985 ) كتب لويس عوض` طفت ساعة بين جحيم داننى والمطهر حتى وقعت على مشارف الفردوس التى أرجو أن أدخله قريبا بفن إنجى أفلاطون. فبعد مرحلة السريالية التقليدية في أوائل الأربعينات كانت هناك تلك المجموعة الخطيرة المستوحاة من سجن النساء فى القناطر وهى فى نظرى من أروع ما سجلة الفنان فى مصر` .
- أما الفنان عز الدين نجيب فيخبرنا عن إنجى ` تعلمت بالسجن أكثر مما تعلمته خارجة، ومارست حريتها وهى بداخلة بطريقة فذة... راحت ترسم الحيوان السفلية الزاخرة بالمعاناة والخطيئة والخوف والمجهول والتمرد والقهر والشهوات المدفونة والصبوات المحرمة التى تستشيط استعاراً لدى أقل لمسة جنسية،... رسمت السجينات فى حالاتهن وتحليلاتهن المختلفة - فرادى وجماعات - كذلك رسمت خلال نوافذ العنبر المطل على النيل، المراكب التى تحمل بلاليص الفخار وأشرعته المعبأة بنسائم الحرية، ورسمت الصيادين والمراكبية والحمالين الذين تحملهم تلك المراكب.. مع رقعة صغيرة من السماء الناصعة.. وتلك جميعا كانت أجنحتها الخضراء الغضة للتحليق بعيدا... نحو عالم الحرية المفقودة والحياة الرحيبة ` .
بقلم د.عزة كامل
بجريدة أخبار الأدب 3-7-2016
- إنجى أفلاطون... لوحاتها وهج الإشراق يتفجر من أعماق البيئات الشعبية المصرية
- معرض استعادى فى ذكرى رحيلها الخامسة
- كان الزلزال فى القاهرة سببا فى تأجيل إقامة معرض شامل لإعمال الفنانة إنجى أفلاطون فى ذكرى رحيلها الرابعة فى شهر نيسان (ابريل) من العام الماضى، حيث ضرب قاعة النيل الكبرى التى كانت مخصصة لعرض أعمالها، وكانت أسرة الفنانة وافقت على إهداء تراثها الفنى (يقدر بأكثر من ألف لوحة زيتية ومائية وخطية) إلى وزارة الثقافة، ومعه مبلغ من المال لبناء متحف باسمها فى منطقة الفسطاط فى حى مصر القديمة، ونظرا لعدم كفاية المبلغ لإنجاز هذا المشروع وضيق موارد الدولة تم الاتفاق على فتح باب البيع لبعض الأعمال غير الفريدة للفنانة من أجل تمويل المشروع ، وكان ذلك ضمن أهداف المعرض المؤجل.
- أخيرا افتتح المعرض مع حلول الذكرى الخامسة لرحيل إنجى أفلاطون فى قاعتى أخناتون فى الزمالك بعد أن أقصى من مهمة الاشراف عليه الفنانون الذين تطوعوا منذ وفاة الفنانة فى 17 نيسان (أبريل) 1989 للحفاظ على تراثها ورصده وترميمه واكتشاف جانب مهم من أعمالها المجهولة وتوثيقها.. بما يتضمنه الاشراف من إعداد وترتيب وتقديم للكتالوج وتنظيم للحملة الاعلامية له والدعوة إليه وجاء ذلك الإقصاء إرضاء للتحكم الوظيفى ووصاية القائمين على القاعة الحكومية في ظل صمت غير مفهوم من رؤسائهم وكانت النتيجة مرور المعرض من الكرام بشكل روتينى، من غير صدى أو تأثير يذكر، خصوصا بالنسبة إلى الهدف من إقامته وهو بيع جانب من الأعمال لتحويل بناء المتحف الذى تخلو موازنة العام المقبل فى الوزارة من أية اعتمادات مالية لإقامته، وهكذا انشطرت وتصدعت الفكرة الكبيرة من المعرض على صخرة الحسابات الشخصية الصغيرة! وزاد الطين بلة أن الجهود التطوعية التى أدت إلى إنقاذ تراث الفنانة قد نسبت فى الصحافة إلى غير أصحابها!.
- والواقع أن الحركة الفنية فى مصر تفتقد وجود إنجى أفلاطون أكثر من أى وقت مضى، ليس فقط كفنانة ذات مكانه عالية فى الداخل والخارج ، بل كذلك لأنها حققت صيغة ذهبية - أصبحت غائبة اليوم بين فنانينا- للتوافق بين الرؤى الفنية الرفيعة وبين الناس على اختلاف مستوياتهم الطبقية والذوقية، فهى كانت تملك أسلوبا عذبا تعبر به عن مواضيع وقضايا من صميم الحياة اليومية والاجتماعية والسياسية، من دون أى تنازل عن القيم الجمالية الرفيعة، وعلى العكس من ذلك: كانت ترتفع بمستوى هذه المواضيع والهموم والقضايا إلى الفن الخالص والرؤى الابداعية فحققت بذلك السهل الممتنع، ووصلت الحلقة المفقودة بين الفنان والقاعدة، فوق أرضية من موقف فكرى من الواقع والعصر.
- وسيرة إنجى أفلاطون فى حد ذاتها نموذج فريد للفنان الذى جاء الى العالم ليغيره ويدفعه الى الأمام، لا ليتوافق معه ويكرس واقعة المختل.
-ولدت فى القاهرة عام 1924 لأسرة أرستقراطية: أم تركية وأب من أصل تركى يعمل أستاذا وعميدا لكلية العلوم، ويملك ضيعة فى الريف، ما يضعه فى أعلى السلم الطبقى وقت أن كان المجتمع المصرى لا يعرف إلا طبقتى الأثرياء والمطحونين. وكعادة هذه الطبقة كانت الهوايات الفنية لأبنائها جزءا من الوجاهة الاجتماعية، فاستدعى والدها إلى المنزل فى طفولتها وصباها مدرسين لتعليمها الموسيقى والرسم فى الاجازات، فيما كانت ملتحقة بمدرسة داخلية أجنبية، إلا أنها منذ يفاعتها ضاقت بكل هذا: بالقيود فى المدرسة الداخلية، وبنمط الحياة البورجوازية وعاداتها المظهرية الجوفاء، بل حتى بمدرسيها للرسم والموسيقى الذين كانوا يزودونها بالقواعد التى تساعدها بالكاد لتعزف مقطوعات خفيفة محفوظة، ولترسم صورا صالونيه محنطة، وبدأت سلسلة من التمرد والصدام والهروب لتبنى حياتها ومستقبلها حسبما تهوى، فى وقت كانت مصر تغلى بالمتغيرات الاجتماعية والسياسية وتمتلئ بالمنظمات الداعية الى تحرير الانسان والمرأة والطبقات المطحونة... وكانت إنجى محظوظة إذا وجدت نفسها بين أيد أمينة حريصة على القيم الأخلاقية والأسرية على رغم تحررها الفكرى والسياسى والفنى، كانت هذه الأيدى هى جماعة` الفن والحرية ` التى أسسها عام 1939 الشاعر جورج حنين والرسامون، رمسيس يونان وكامل التلمسانى وفؤاد كامل، وكانت قضيتهم هى تحرير الفن والمجتمع على السواء، ومن ثم فقد أزالوا الحدود بين الفن والسياسة، وكانوا يعملون فيهما معا بالروح نفسها.
- هكذا بدأت إنجى تعرض لوحاتها المبكرة عام 1941 وعمرها سبعة عشر عاما، وسط معارض هؤلاء الرواد الذين أصبحوا مؤسسين لاتجاهات فنية جديدة فى الحركة التشكيلية فى مصر والعالم العربى، لا تزال معبدة تسير عليها أجيال الفنانين : حتى اليوم وكانت إنجى بينهم مثل زهرة برية، متفتحة، بأسلوبها المتوحش العابق بأريج الغابات والكائنات الخرافية، والمتفجر بالأحلام الرومانسية المشتعلة بوهج الأحجار الكريمة أو اللآلئ فى أعماق البحار. وشدت إليها الانظار من أول لوحة لها بعنوان ` الفتاة والوحش` وكانت تعليقات النقاد الأجانب والمصريين كفيلة بأن تملأها بالغرور أو تجعلها تتجمد فى القالب الذى بهرت من خلاله المعجبين لكن ثوريتها الكامنة جعلتها لاتقف عند إطار واحد أو أن تقنع بمساحة صغيرة وسط اتجاه فنى دخلته قبل أن يكتمل نضجها الفنى والفكرى ، لذا قررت أن تواصل دراستها الفنية على أسس أكاديمية صحيحة وهكذا تتلمذت على فنانين كبار لهم بصماتهم الفنية على تاريخ الفن الجديد فى مصر، مثل كامل التلمسانى، وحامد عبدلله، وأخيرا التحقت بالقسم الحر فى كلية الفنون الجميلة، إلى جانب كفاحها الفردى للدراسة وتعلم اللغة العربية التى لم تكن تجيدها (حيث كانت الفرنسية هى لغة درستها في المدرسة والتخاطب فى المنزل) ولم يستطع أهلها المحافظون احتمال هذا التمرد، فانتهت العلاقة بالقطيعة حتى تثوب إلى رشدها وتعود إلى تقاليدها، لكن الوقت كان قد فات للتراجع فقررت أن تعتمد على نفسها فى كسب عيشها والإقامة بمفردها، حيث عملت ناسخة على الآلة الكاتبة، وأثبتت قدرتها الحقة على الاستقلال ما جعل أسرتها تتراجع وتقبلها على علاتها.
- غير أن وعيها الجديد قادها إلى التعبير عن قاع المجتمع، خصوصاً المرأة المطحونة المسلبه الإرادة والحرية، وكانت- مثل جماعة ` الفن والحرية `- جمعت بين العمل الفنى والعمل السياسى، وعرفت الطريق إلى أعماق الأحياء الشعبية الفقيرة التى تحيا في الحرمان لكنها غنية بجمال النفس وبالقيم الأصيلة. وتعلمت إنجى هناك أضعاف ما تعلمته فى المدرسة ووسط منتديات المثقفين : التقشف والصبر والإيثار وحب الجماعة وتقديس العمل والتضحية من أجل ما تؤمن به، كما تعلمت أن تلتقط القيم الجمالية الرفيعة من وسط القبح، بل ترى فى القبح نوعا من الجمال ، هكذا نرى فى لوحاتها فى الخمسينات تعبيرا حيا عن ذلك، فى لغة سهلة مفعمة بالعاطفة والصدق، قبل أن تهب على العالم نظرية ` الواقعية الاشتراكية` ، في الفن والحق أن الشحنة التعبيرية العالية في أعمال تلك المرحلة، فوق ما تتميز به من قدرة على هدم المنظور البصرى التسجيلى للواقع وإعادة بنائه برؤية فنية جديدة، يبعد بها عن أعمال تلك النظرية، فإن تلك الأعمال استمرار لنهجها التعبيرى الذى سيتطور لاحقاً إلى رؤية موسيقية غنائية بواسطة اللون والخط تأخذ من المدرسة الانطباعية بقدر ما تأخذ من الفنون الشرقية عامة.
- ودفعت إنجى ثمن تمردها والتزامها السياسى فى شكل مطاردات بوليسية مستمرة وصراع بين هذا الالتزام و بين نداء القلب حين هفا إلى الحب وارتبط برفيق كفاح يعمل فى سلك النيابة، لكن استكمال هذه الرابطة بالزواج كان يحتم أن يضع قيودا على حركتهما، وانتصر الحب وتم الزواج غير أن يد القدر سرعان ما قضت على السعادة الوليدة بوفاة الزوج، ولم يبق أمامها إلا مواصلة الابداع الفنى والكفاح السياسى، حتى دخلت السجن عام 1959 مع عدد كبير من زملائها وزميلاتها، لتقضى خلف القضبان اربعة اعوام قاسية، لكنها استطاعت خلالها أن تتجاوز القضبان بابداعها الفنى الذى لم يتوقف، ونجحت فى تهريب لوحاتها الصغيرة الى الخارج حيث كان ممنوعا فى البداية مزاولة الرسم داخل السجن، ومن خلال نافذة زنزانتها الضيقة الوحيدة فى سجن القناطر الخيرية على شاطئ النيل، اكتشفت إنجى قيما ًجمالية جديدة فى الطبيعة، فرسمت الأشجار والنوتية فى المراكب الشراعية التى كانت تجوب النهر بلا توقف، كان مربع الضوء الصغير الذى يطل عليها من النافذة وتطل هى من خلاله على العالم هو أغلى ما تملكه ، لذا استطاعت أن تستخرج منه أغلى كنوزها الفنية، فقد كرست طاقتها لتحليل الضوء إلى ألوان قزحية، وصياغة لوحاتها فى نسيج نورانى يجمع بين الشفافية والكثافة، وجعلت بين المساحات اللونية المزدحمة والخطوط المتشابكة متنفسا ضوئيا مشبعا بالنسيم، ولم يعد الموضوع هو شغلها الشاغل كما كان من قبل، بل أصبح البناء الفنى والاحساس الداخلى والعمق الروحى مرتكزاتها الجديدة.
- مع ذلك فإن لوحاتها التالية- بعد أن أصبح فى مقدورها الاختلاط بالسجينات العاديات (غير السياسيات)- تعد وثائق تاريخية نادرة عن عالم السجن والجريمة، ذلك العالم السفلى الملىء بالرعب والكبت والغرائز والإهدار لآدمية الانسان لوحاتها فى تلك المرحلة تذكرنا- بقوة - بلوحات فان غوغ عن المساجين وعمال المناجم والحقول وأكلى البطاطا ونقابات المجتمع الرأسمالى فى القرن التاسع عشر. وعلى المستوى الفنى لا تقل لوحاتها تلك عن لوحات فان غوغ تمكناً وأصالة وصدقاً، ولا نكاد نعرف فى التاريخ الحديث كله فنانة- بل فنانا- استطاع أن يحيل السجن ( وهو أعلى مراتب القهر الإنسانى) إلى ذروة الابداع التشكيلى والدرامى مثل إنجى أفلاطون، ليس ذلك فحسب، بل أنها تستخرج من خلال ذلك التعبير أسلوبا فنيا أصبح - حين خرجت إلى عالم الحرية - وسيطها الجمالى للتعبير عن عالم جديد مشرق يتغنى بجمال الطبيعة وعطاء الانسان ، عالم مشع بالنور والألوان، مسكون بحب الحياة والامل فى الغد، لم تستطيع سنوات القهر والاستبداد إلا أن تفجر منه وهج الإشراق وعرس النور.
- ومثال عازفة جوالة عاشقة على رباب، ظلت إنجى، فى سنواتها الست والعشرين التالية لتحررها، تجوب أنحاء مصر من النوبة إلى سيناء، ومن الواحات إلى الغردقة، تستوحى فى لوحاتها مشاهد الجمال البكر الذى أبدعته الطبيعة ويد الانسان، كما تستوحى قدرة هذا الانسان على مقاومه الخطوب بالعمل والصبر والإرادة، والبسمة التى لا تظهر على الشفاه لكنها تشف من خلف لمسات الفرشاة.
بقلم : عز الدين نجيب
الحياة 25-4-1994
رحلت إنجى .. وتوقفت الموسيقى
- ما رأيت إنجى أفلاطون مرة واحدة الا سمعت الموسيقى، كان وجهها ينبض بالذكاء وعيناها تلمعان بالحضور الآخاذ. وكنت أحس كلما طالعت وجهها أنها موسيقية هجرت العزف لترسم وهى التى أوحت الى أن اكتب عنها أن العين تسمع كما ترى. فما رأيت لوحاتها الا سمعت صوت الكمان العزب والمعذب يصعد من ارجائها.
- فقد كانت إنجى افلاطون رسامة تلحن الألوان والاضواء. وهى التى أوحت لى أن اعقد المقارنة بين اعضاء المثلث الذهبى للرسامات النابعات فى مصر: أنجى أفلاطون وتحية حليم وجاذبية سرى.وهى التى أوحت لى أن العذب بينهن هو نوع الموسيقى.
- فقد كانت جاذبية سرى أقرب للموسيقى النحاسية، الوانها رنانة، أغلبها فصيح صريخ صارخ.. بينما بالمقابل، تحية حليم أقرب الى الناى الحنون الشجى، وبينهما أنجى أفلاطون أقرب إلى الموسيقى الوترية.. أوعائلة الكمان والفيولا والفيول نسيل.
- وكانت الحان الكمان العذب والمعذب تعلو عن لوحات أنجى أفلاطون دائما وكانت انجى، كما عرفتها من رفاق، اصغر من عرضت فى معرض الفن والحرية عام 1942 وكتب يومها عنها الشاعر جورج حنين انها مفاجأة المعرض، ولكن أنجى بعد عامين انقطعت عن الرسم وانخرطت فى السياسة، واكتشفت نفسها وعيوبها، واخطرها وهى سليلة الارستقراطية انها تجيد الفرنسية وترتبك بالعربية، فعلمت نفسها واكتشفت ما هو أخطر - انها دائما حبيسة السجن . فقد ولدت سجينة طبقتها وكان ابوها استاذا بارزا فى كلية العلوم . واكتشفت بعدها انها سجينة المدرسة الداخلية التى دخلتها بسبب طلاق امها وابيها. ثم قادها التمرد على سجن المدرسة الى التمرد على سجن الطبقة ، فقادها ذلك الى السجن فقط .
- وأى تفسير للعلاقة بين الرسامة أنجى أفلاطون والطبيعة لا بد ان يدخل فى اعتباره تكرار ` السجن` فى حياتها. بالمعنى الطبقى والهادى والروحى، فالفن عندها هو اتفاق مستمر.
- وان خمسة اعوام فى الضيق تلد الشوق الى الرحابة واقفال الابواب فى السجن مع الغروب والصحو مع الفجر يربط حياة السجينة بالضوء والطبيعة. ولوحات انجى افلاطون ليست سوى لوحات نفسية لانها اصبحت ترتب الاشجار والاغصان وحركة الفلاحية ترتيبا تفرضه رؤيتها الداخلية. ومن هنا كان التبسيط والتحوير وحبها للألوان المضيئة بالألوان عند أنجى أفلاطون مشعة. وظلالها مضيئة. لوحاتها نفسية وكأنها ترسم على بقعة من الضوء. وتقترب من الحوشية والوحشية فترسم لوحات مشمسة. تسطع منها الشمس. ولوحاتها لهذا مشرقية تسطع فيها الشمس . ولا تسطع الشمس من الشرق الجغرافى بل من اللون واللوحة ومصر فيها الشمس تشعل اللون كما ان الليل يطفئها وفيها الشمس ساطعة. والنور من كل الزوايا وكل الجوانب وهو يسقط فوق الاشياء وينبع ويتخلل كل شىء.
- ولهذا ابتكرت انجى افلاطون تقطيع الخطوط واصبحت خطوطها متقطعة متواصلة وغير متصلة تشبه حبات السبحة متباعدة متجاذبة أو ثقوب المشربية ، وتتابع الخطوط، والخبطات اللونية، وضربات الفرشاة يموج بالحركة كأنها حركة الموج الهادىء فوق سطح الماء.
- وأغلب لوحات إنجى لوحات نفسية وأكثرها من الطبيعة. اعتمدت على موسيقية التناغم والتناسق والتوافق وانشاء العلاقات الحميمة بين غصون الشجر، واذرع البشر، والحركة المتوافقة بين النبات والمخلوقات.. وما بين الأرض والأفق.
- وكنت اعرف ان ما يشبع عينيها الذكيتين اللامعتين هو الخصوبة فى مصر. فالسماء فى مصر مليئة بالطيور. والأرض مزدانه بخضرة غير منمقة. والجو خصب يئز بالحركة والهمهمة فى الزرع والحرث والرى والغرس والنقل والتقاط الثمر. وقد شففت الرسامة بالتقاط اسرار هذه الحركة وموسيقاها السرية، لأنها تملؤها بالحرية.
- ولهذا شغفت بالحركة بين ربوع مصر. خارج القاهرة بين المنيا وبنى حسن وابو قرقاص والأقصر وأسوان والنوبة وجنوب سيناء وبقية أنحاء مصر. وكانت دائما لا تستقر فى القاهرة وكأنها تحمل فى قلبها خريطة أخرى لمصر. ليست جغرافية بل خريطة ضوئية وكانت تحس بالفرح كلما اختفت عنا فى القاهرة !
- ومنذ شهور كنا فى اغادير بالمغرب فى مؤتمر الابداع العربى. واذهلتنى انها ذهبت مبكرا، وقبل اسبوعين لأنها قررت أن تجوب جنوب المغرب ومعها ريشتها والوانها. فقد كانت تبحث عن حريتها فى الطبيعة ففيها الحركة والحرية وموسيقى الكون ! تنقلها الى لوحاتها بالوانها المبتكرة وخطوطها الهشة المتقطعة !
- واخر مرة شهدتها فيها كانت غريبة ! قبل الوفاة بشهور، وكانت ممتلئة بالحيوية كما تعودت.
كانت يداها كيدى الفتاة الصغيرة. وكانت تحافظ على قوامها وكان كل شىء فيها شابا عدا وجهها. وفى لمحة خاطفة مرت بى فكرة غريبة. ان الجزء الوحيد الذى يبدو فيه السن هو وجهها وكأن خطوطها المتقطعة التى ترسم بها وجوه لوحاتها اصبحت على وجهها وكأنها ترسم وجهها بيدها.
- وتذكرت ما قال جان كوكتو:
- فلما نظرت للمرأة ادركت أن الموت منهمك فى عمله ولم اتذكر كلام كوكتو ولا مشهد وجهها الا بعد أن ماتت وقد ذكرت ان مياه الحياة انحسرت وهبطت، فى داخلها ! واخيرا ماتت إنجى أفلاطون فجأة بمرض مفاجىء وشلل مفاجىء اقعد نصفها تماما، وخلال شهر تدهورت وهى لا تستطيع ان تعود الى العزف بنصفها فقط فماتت وتوقفت الموسيقى. ولم يبق منها غير لوحات رائعة مليئة بالضوء واللون، يصعد من ارجائها لحن الكمان العذب.. والمعذب .
بقلم : كامل الزهيرى
ورحلت واحدة من رائدت الفن التشكيلى فى مصر
- منذ أيام رحلت عنا فنانة كبيرة من أكبر فنانات مصر. رائدة رواد الفن التشكيلى المعاصرات هى الفنانة إنجى أفلاطون.. من اكثر الفنانات عطاء ومثابرة وغزارة فى الانتاج مع الحرص على المضمون.. رغم طفولتها الناعمة ورغم ثراء اسرتها وظروف معيشتها الارستقراطية فلم تسجل حياة الصالونات أو القصور ولكنها تركت ذلك كله وانتقلت الى ما شد انتباهها وهم البسطاء فى كل مكان فى مصر.. من خلف القصر الذى يتوسط الخضرة خرجت لتسجل ما حوله من بيوت من الطمى وحياة البسطاء من الفلاحين وعاداتهم.. تركت حياة القصور الى حياة المبانى البسيطة المتلاصقة التى يشارك فيها الحيوان الانسان.. عاشت مواسم الحصاد لأكثر من محصول متنقلة بين ريف صعيد مصر والدلتا.. كانت تقضى اياما فى ظروف معيشة اكثر من بسيطة لتكون قريبة من الناس ولتستطيع تسجيل كل عاداتهم فى صدق.. رسمت العمل الذى كانت تقدمه فى الحقل وفى المصنع.. ورغم اسفارها الكثيرة وثقافتها الاجنبية فقد تميزت اعمالها بالشخصية المصرية الصميمة وتمتد الجولة حتى تغطى صحراء مصر وواحاتها التى وجدت فيها مادة خصبة وتظل تتحرك لتكتشف الجمال فى اماكن كثيرة خارج المدينة لم يسجلها الفنان قبل ذلك وتنفرد مجموعة لوحاتها عن الواحات.. تجد القرية البسيطة ذات المعمار الجميل الرشيق لمسة جمال وسط صحراء جافة وكثبان رملية زاحفة من قبل هذه الطبيعة القاسية الجافة تظهر الخضرة والنخيل وشجر الدوم والمزارع والناس وتنبض الحياة من جديد.. تكوينات تتميز بالاحساس المرهف وباقة امل لابد أن تظهر من خلال المساحات البيضاء كانت تضيف شفافية الى أعمالها.
- وتاريخها مع الفن التشكيلى طويل بدأ بالهوية ثم دراسات حرة فى الفن اشتركت منذ سنة 1942 فى معرض جماعة الفن والحرية وهى أول جماعة مصرية تكونت لتخليص الفن المعاصر من السيطة الاجنبية واقامة أول معرض خاص لها سنة 1952 وخلال محياتها الفنية اقامت 30 معرضا خاصا فى مصر بجانب المعارض الخارجية.. عرضت اعمالها فى المانيا والهند وموسكو وساو باول وفينسيا والكويت وفرنسا واختيرت قوميسيرة لعدة معارض خارج مصر فكانت واجهة مشرفة للفن والفنانين .. وقد قدمت لها وزارة الثقافة الفرنسية وساما من طبقة فارس للفنون والآداب.
- فنانة اعطت هذا العطاء لمصر تستحق ان تكرم.. فقد تركت الفنانة الراحلة مئات من اللوحات ذات الاسلوب المتميز كلها عن حياة البسطاء فى مصر .. تستحق ان تقتنى وزارة الثقافة بعرض هذه الاعمال واقامة متحف يحمل اسمها أو تخصص قاعة بأحد المتاحف لعرض اعمال الفنانة القديرة.
بقلم : ليلى القبانى
إنجى أفلاطون و ` الرجل الغريب `
- عندما حمل الى الناعى خبر وفاة الفنانة ` إنجى أفلاطون` قفزت أمامى من اعماق الذاكرة، صورتها وهى فى ربيع العمر جالسة فى بيتها أمام لوحة تضرب عليها بفرشاتها تستكمل رسم ملامح رجل عنيد مثخن بجراح الزمن والبؤس. يستجمع كل جهده لينهض من قاع العالم . ومع ذلك بدا ، فى حركته والوانه، كما لو كان طفلا وليدا يخرج للحياة أول مرة. ومن ركن ما ، كانت تتواثب نغمات موسيقى الجاز من حول صوت قوى يتفجر بأنات متماوجة من الألم والأمل فى بحر من الشجن العذب.
- كانت هذه أول مرة أتعرف فيها إلى صوت فنان الجاز الأمريكى الزنجى الشهير ` بول روبسون` والى ` إنجى أفلاطون` وذلك عندما قدمنى اليها مع نهاية الاربعينيات رفيق حياتها الراحل، الصديق الزميل حمدى ابو العلا، رجل القانون الذى كان يكافح فى نفس الوقت لتغييره. من اداة ردع للاستغلال الى اداة تحرير للمستغلين.
- لبول روبسون، الذى وظف فنه- اذا صح هذا التعبير- فى خدمة قضايا الحرية والسلام منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، اغنية مشحونة بذلك الحزن الخالد فى تمرده، الذى يرفرف بين جناحيك، تحسه. وقد تراه. ولكنك ، ابدا لا تستطيع له وصفا. تتحدث الأغنية عن ذلك الرجل الغريب الذى يهبط فجأة الى المدينة. يجوب شوارعها بعباءته الليلية. يطرق الأبواب،
واحيانا الباب الواحد اكثر من مرة ولا يمضى الا وقد اصطحب معه ` الأرواح الجميلة`. بعد ان يفك اسرها من تلك الأجساد التى اضناها الوهن، وشارفت حافة السقوط، نعرف فى نهاية الأغنية ، ان الرجل الغريب، هو هذا الموت المعلوم الذى لا تخلو قسوته المرئية من حنان غير منظور.
- فى الخمسينيات طرق ` الرجل الغريب` باب إنجى إفلاطون وخرج يصطحب معه، فى عباءته الليلية ` الروح الجميلة` لزوجها المناضل الشاب حمدى ابو العلا، الذى كان جسده قد انهكته الأمراض المتوارثة فى مجتمع الفقر المصرى، حيث نشاً ووعى وتفتح للنضال الاجتماعى، والتقى بانجى افلاطون التى كانت قد غادرت باختيارها الحر العنيد مجتمع الثروة المصرى. تحابا وتزوجا وعاشا معا يعملان ويحلمان بثورة الانسان المصرى من اجل الحرية والسلام والاشتراكية.
- منذ ذلك الوقت باتت إنجى أفلاطون، المناضلة والفنانة، تعانى الوحدة فى حياتها الخاصة التى اصابها الجفاف وهى فى عمر الزهور. ولكنها وهبت نفسها تماما للحياة العامة والنضال الاجتماعى والسياسى بكل تضحياته ودروبة الوعرة. وهكذا استطاعت ان تهزم برودة الوحدة من خلال حرارة معايشة الناس فى الشارع والجامعة والاجتماعات والمؤتمرات والعمل السرى والعمل العلنى والطبيعة والسجن والكتابة ومعاشرة الفرشاة واللون والضوء. ومع ذلك ظلت الوحدة تنتظرها ليلا خلف باب بيتها عندما تعود اليه. على امتداد ما يقرب من ثلاثين عاما، عاشت إنجى بين حب الفرد الآخر الذى بات مستحيلا. وبين حب جماعى يستحيل بقوته الخلاقة المتجددة ، على الموت ، حتى ولو طال جسدها فى يوم من الأيام.
- فى ابرايل من عام 1989 ، جاء هذا اليوم. حين عاد ` الرجل الغريب` يطرق باب إنجى أفلاطون للمرة الثانية. وفى هذه المرة اصطحب معه ، تحت عباءته، روحها الجميلة، بعد ان كان الجسم قد وهن وشلت اطرافه تحت ضربة جلطة مفاجئة للدماغ.
- إنجى أفلاطون علامة انسانية باهرة لتاريخ مسيرة ذلك الجيل العظيم من المناضلين والكتاب والمفكرين والفنانين من المصريين والمصريات، الذى تكون وانصهر فى أتون الصراعات الاجتماعية والسياسية والفكرية والمدارس الفنية التى تفجرت بخصوبة فى الواقع المصرى خلال منتصف الاربعينيات مع نهاية الحرب العالمية الثانية. وامتد بآثاره الى الواقع العربى ولا ابالغ اذا قلت والعالمى ايضا. مع الصدام الشعبى ضد الاحتلال البريطانى والاستعمار الجديد والاحلاف العسكرية والصهيونية، تحول يوم الشهداء فى 21 فبراير عام 1946 فى ميدان الاسماعلية ( التحرير حاليا) يوما عالميا لمقاومة الاحتلال. واصبح الحكم الوطنى بزعامة النحاس باشا رائدا لبلدان المستعمرات، التى كانت لا تزال تحت الاحتلال أو تحررت حديثا، فى مقاومة الاستعمار القديم والجديد والاحلاف العسكرية ، عندما اعلن وزير الخارجية محمد صلاح الدين باشا رفض الدخول فى حلف الشرق الأوسط . وغدت القاهرة بيتا مفتوحا لكل حركات التحرير الوطنى ابتداء من بلدان المغرب العربى حتى اندونيسيا والهند، وموطنا لأول نظام عربى اقليمى عرف باسم جامعة الدول العربية. وأنضجت هزيمة 1948 امام اسرائيل الرحم المصرى لولادة ثورة التحرر الوطنى ذات البعد الاجتماعى فى 1952 كالثورة الأم لكل ما تفجر بعد ذلك من ثورات فى العالم الثالث. واحتدمت الصراعات السياسية بين الجماعات والاحزاب ابتداء من الماركسية حتى الاخوان المسلمين مرورا بألوان الطيف السياسى من الليبراليين. وتعددت المدارس الفكرية والأدبية والفنية والصحفية.
- وتألقت ابداعات هيكل والمازنى والعقاد وطه حسين والحكيم ويحيى حقى ونجيب محفوظ والشرقاوى العالم وانيس ولطيفة الزيات ونوال السعداوى ومحمود سعيد والتلمسانى وجورج حنين وتحية حليم وسلامة موسى ومحمود عزمى ( الذى شارك فى صياغة شريعة حقوق الانسان الدولية فى الأمم المتحدة) والسنهورى وبدوى وأحمد أمين وبنت الشاطىء وامين الخولى وحسن البنا وسيد قطب وسيزا نبراوى ومحمد مندور ولويس عوض ومصطفى وعلى أمين، واحسان عبد القدوس واحمد ابو الفتح ومحمد حسنين هيكل ، وفؤاد مرسى واسماعيل صبرى وكمال عبد الحليم وابو سيف ومحمد سيد احمد والبراوى وعبد الرازق حسن وبهاء وجاهين وغانم وريمون دويك وعبد المنعم الغزالى وميشيل كامل وحلمى- ثريا ياسين ونبيل- فاطمة الهلالى، و ` اشتراكية` احمد حسين الاسلامية ، و ` فالوجا ` عبد الناصر ، وناس نعمان عاشور الى تحت واللى فوق ، و` عزيمة ` كمال سليم، و` جندول ` عبد الوهاب الذى أبحر بحبيبة المجهول يستكشف ينابيع الحب والجمال والابداع فى الانسان البسيط.. وغيرهم وغيرهم، كثيرون كثيرون.
- فى قلب هذا الخضم العاصف، القت انجى افلاطون بنفسها ، امرأة ومناضلة وفنانة تشكيلية ، معبرة عن التيار التقدمى للفكر والفن والعمل.
- كانت قد هجرت مجتمعها المخملى الذى ولدت فيه ، بعد ان حملت معها كل ما ورثته من ثقافة انسانية عامة ورفيعة وقدرة حساسة عى تذوق الجمال ونصيبها من ثروة اسرتها. وانحازت بهذا كله الى حركة الشعب ونضاله السياسى والاجتماعى والثقافى من أجل صياغة مجتمع جديد متطور ومتقدم أسهمت فى تكوين الجماعات الثورية فى حقول السياسة والفكر والفن وتحرير المرأة، سواء على المستوى الوطنى أو المستوى العربى العالمى ( شاركت فى تأسيس الاتحاد العالمى للمرأة وحركة السلام العالمية).
- ومع الخمسينيات، غدت نموذحا ` مقلقا` للمراة المصرية الثورية الجديدة بعطائها السياسى والفنى ، وكان لا مفر من ان يصطدم هذا النموذج بالواقع الذى كانت تجرى محاولة صياغته على نحو اكثر تقدما وعدلا من خلال منطق التجريب المفتقد لنظرية ثورية متكاملة الأبعاد والآليات. وأدى هذا الصدام الى دخولها تجربة السجن، لمدة خمس سنوات لأول مرة . ليس فقط بالقياس الى شخصها. وانما بالقياس للمرأة المصرية على الاطلاق.
- صمدت إنجى أفلاطون للتجربة . فى السجن تحدث للانسان اقسى واصرح مواجهة شاملة مع نفسه . من خلال هذه المواجهة يجتاز الانسان الاختيار الحاسم فى حياته: الضعف الذى يقود الى التراجع أو القوة على مواصلة المشوار حتى النهاية.
- كسبت إنجى أفلاطون المعركة. وخرجت من السجن أقوى منها عند دخوله. عايشت، كما لم تعايش من قبل، البؤس الانسانى وقهر السلطة وشخصيات القاع المطحونه حتى العظم، والتوق الطبيعى العظيم الى رحاب الحرية والطبيعة. وراحت دون كلل تعبر عن ذلك بصدق وفرح ، فكرا ونضالا ولوحات تشع بلون ضوئى خاص، صار لغة متميزة لفنها، فى الحياة والابداع معا.
- تتابعت هذه الخواطر فى رأسى ، وأنا جالس إلى مقعدى فى ندوة الانتفاضة التى دعت إليها منظمة التحرير الفلسطينية بتونس تخليدا لذكرى الشهيد ابو جهاد، عندما نزل بى نبأ وفاة إنجى أفلاطون. أصبح الأسم النضالى الذى يعبر عن دور أبو جهاد فى الثورة ، بعد استشهاده: ` أول الرصاص وأول الحجر` .
- فكرت : اليست إنجى أفلاطون ، الأبنة البكر لجيل الأربعينيات العظيم بعطائه وتضحياته : هى ` أول السجن وأول الهجرة الى الشعب` ؟
- يا أيها ` الرجل الغريب ` ، ترحم بنا ولو قليلا. الباقون باتوا قلة محدودة العدد. والأبناء تثقلهم قيود هائلة. ومسيرة الأربعينيات لم تكتمل بعد.
بقلم: لطفى الخولى
وقالت إنجى
- اشتركت منذ عام 1942 فى معارض جماعة الفن والحرية الطليعية وهى أول جماعة عملت على تحرير الفن المصرى المعاصر من قيود الأكاديمية والشكلية حينئذ.
- أقامت فى مارس 1952 أول معرض خاص لها بالقاهرة، ومنذ ذلك التاريخ أقامت 38 معرضا خاص فى مصر وفى الخارج ،أهمها معرض خاص فى روما 1967 فى قاعة نووفابيزا وفى باريس فى جاليرى دى لونيفرسيتيه ومعرض خاص فى درسدن وبرلين الشرقية ووارسو وموسكو وبراغ . واقامت فى عام 1979 معرض خاص فى نيودلهى وفى 1981 معرض فى أكاديمية الفنون المصرية بروما وفى عام 1988 معرض بالكويت ، واشتركت فى معارض جماعية مثل بينالى ساو باولو 1953 وبينالى فينيسيا 1968 ومعرض الفن المصرى المعاصر فى باريس 1971 وكانت قوميسيرة المعرض. ومعرض عشر فنانات مصريات فى نصف قرن 1975 الذى ساهمت فى تنظيمه بمناسبة العام الدولى للمرأة - وفى عام 1976 كانت قوميسيرة جناح الفن المصرى فى الصالون الــ 87 للمستقلين بباريس فى جرائد بالية.
- مقتنيات بمتحف الفن الحديث بالقاهرة والاسكندرية ودرسدن والمتحف الوطنى بوارسو وصوفيا ومتحف الفنون الشرقية ومتحف بوشكين بموسكو ومجلس النواب الايطالى وغيرها من المجموعات الخاصة.
- فى سنة 1986 حصلت من وزارة الثقافة الفرنسية على وسام ` فارس الفنون والآداب `.
الفن عندى هو التعبير عن الذات وعن هموم المجتمع.
- لقد لجأت فى المرحلة الأولى- مرحلة الشباب إلى الاسلوب `السيريالى` الذى مكننى من إزاحة كل السدود التى تحول بينى وبين التعبير عن ذاتى وشحنة القلق والتمرد التى كانت عندى .
- وفى عام 1946 انتهت المرحلة ` السيريالية ` مع اندماجى الكلى فى العمل السياسى والاجتماعى لنسائى ، وأحسست بضرورة وقفه مع نفسى بعد هذه النقلة الفكرية والنفسية- وكان لابد لى من طريقة جديدة فى تعبير الفنى تناسب هذا التحول ، وبدأت مرحلة البحث عن شخصية الانسان المصرى وخصوصية الطبيعية التى تحيط به ، وتواكب هذا، فى نفس الوقت مع بحثى عن جذورى وهوبتى. واتجهت إلى الريف ` العميق` أعايش الفلاحين، اجول فى القرى والنجوع الممتدة بطول وعرض البلاد حتى الصحراء ، أحاول أن أعبر عن واقع وأحلام الإنسان البسيط المقهور الذى يعمل فى صمت وصبر، أحاول أن أمجد ` العمل` من خلال مجاميع الفلاحات وهن يقمن بجمع المحاصيل المختلفة، ألتقط الحركة السريعة لأجسام وأيادى العاملات وهن فى قمة توحدهن الانسانى فى لحظة العمل الجماعى وفرحة جنى الثمار.
- واستمر البحث عندى متصلا بعنصرين هامين فى تشكيل اللوحة وهما الحركة والضوء، وتوصلت بعد تجربتى الطويلة الى مرحلة أساسها ( الضوء الأبيض) فكنت فى البداية وبشكل تلقائى أترك بين شرائط الألوان فى ضربات الفرشاة المتلاحقة، فراغات بيضاء ضيقة تساعد على إشاعة النور، ثم بدأت تتسع هذه الفراغات بعض الشىء ثم اتسعت أكثر فأكثر حتى تجرأت أنا فى النهاية على ترك مساحات بيضاء كاملة من قماش اللوحة فارغة من اللون، فصارت هذه المساحات البيضاء تقوم بدور شديد الإيجابية فى إضاءة الأشكال المرسومة والمشغولة مما يبرز لمسة أو لون أو ضربة فرشاة محسوبة بغاية الدقة.
- كما أن ضربات الفرشاة المتموجة والمتقاطعة التى تلاحظ فى أعمالى تهدف الى التعبير عن الحركة الدائمة فى الطبيعة فى كل مظاهرها حتى لأكثر أشكالها ثبوتا.
بقلم : نازلى مدكور
من كتاب المرأة المصرية والإبداع الفنى
لوحات إنجى أفلاطون : وهج يضىء ولا يحرق!
- مساء الاثنين 17 ابريل (نيسان) رحلت الفنانه المصرية إنجى أفلاطون عن 64 عاما بعد رحلة خصبة مع الفن التشكيليى تناهز سبعه واربعين عاما ، منذ أول معرض شاركت فيه عام 1942 مع جماعة الفن والحرية تحت رعاية استاذها الفنان كامل التلمسانى وهى رحلة لم تقتصر على الابداع الفنى بل كانت تجسيدا حيا لمعنى أن يكون الفنانه موقفا وصاحب رسالة أنسانية ومشاركا فى تغيير الواقع نحو الأفضل ولو دفع فى سبيل ذلك من حريته وأمنه وأغلى سنوات عمرة.
- وإذ أصبحت إنجى الآن تاريخا فإن بوسعنا أن نقول إنها كانت عصرا من الفن والنضال معا على قدم المساواة فعلى صعيد الفن شاركت إنجى ضمن الرموز المبكره لجيل التمرد التشكيليى أوائل الأربعينات فى ترسيخ أسس فن التصوير المصرى الحديث مستهدية وسط حماس ذلك الجيل بالمنجزات الجديدة فى الفن الأوروبى الحديث خاصة السوريالية ومع ذلك فانها لم تتردد فى التمرد على هذد الأنجازات واختارت طريقها الخاص التابع من معايشتها العميقة للواقع المصرى ومن قناعاتها الفكرية والنضالية ولم ترهبها على مدار السنوات الطويلة صيحات الهجوم على الواقعية والألتزام ودعاوى الأثارة الشكلية الفارغة من أى مضمون اللاهئة خلف الاتجاهات الأوروبية باسم الحداثة وهى التى تربت منذ طفولتها على الثقافة الأوروبية ونمت فى كتف البرجوازية المتعالية عن واقع الشعب والتابعة للغرب .. ومع ذلك فإن تجربتها الأبداعية تعد إضافة حقيقية الى تطور فن التصوير المصرى الحديث ومحاولة جادة ضمن محاولات أخرى متفرقة للخروج بهذا الفن من مأزق التبعية للغرب نحو بلاغة جمالية مستقاه من جماليات الطبيعة والواقع دون التنكر للتراث الاوروبى وتطوره .
- وعلى صعيد النضال الوطنى والديمقراطى والثقافى فانها كانت بين قلة نادرة من المثقفين المصريين قرنوا الكلمة بالفعل ولو تصادم و بسبب ذلك مع طبقتهم المستغله ومصالحهم الاجتماعية المباشرة أو تعرضوا لبطش السلطات والسجن الطويل.
- والكلمة هى النظرية الثورية (الماركسية) والفعل هو الكفاح الوطنى والاجتماعى والديمقراطى من خلال الحزب الشيوعى بكل ما يتطلبه من عمل سرى محفوف بالمخاطر أو عمل علنى محاصر بالفض الاجتماعى ، خاصة بالنسبة لفتاه برجوازية تنحدر من أصول اقطاعية وحتى بعد المتغيرات السياسية والاجتماعية بمصر منذ عام 1961 وبعد خروجها من السجن عام 1964 وهى متغيرات عان يمكن أن تعفيها من ممارسة أى دور سياسى فيما لو كانت تبحث عن راحة الضمير واستناد الى ما قدمته من تضحيات فإنها لم تتردد فى استمرار المشاركة فى ارساء القيم الديمقراطية والثفافية والتقدمية عبر قنوات حزبية معارضة للنظام أو منظمات دولية للسلام والتحرر او لجنة الدفاع عن الثقافة القومية التى شاركت فى تأسيسها أو جماعة أتيلية القاهرة للفنانين والكتاب خلال عضويتها لمجلس ادارتها على مدى أكثر من عشر سنوات متصلة.
- فى عام 1942 علق الناقد مارسيل بياجينى بجريدة `لاباترى` على ثلاث لوحات رآها لانجى أفلاطون بمعرض جماعى بالقاهرة لجماعة الفن والحرية قائلا ` إنجى أفلاطون` ذات السبعة عشر ربيعا ، تلميذة التلمسانى منذ عامين رائعة هى هذه المناظر الليلية بخضرتها المتداخلة وكأنما هى أدغال من الأفاعى بمساحاتها التى يتخللها الأصفرار واخضرار الزمرد وكأنها ساحرة ركبت فرشاتها ، هلى تستدعى لوخاتها الى الذاكرة أحدا ما ؟ ربما بعض أعمال `ماسون الذى قد لا تعرفه قط ، والأمرعلى أية حال ليس بذى أهمية لأن الطابع الشخصى واضح فى أعمالها ولو قدر لهذا النجاح الا يدير رأس نجى أفلاطون فإنها سوف تكون رسامه من المستوى الذى نحبه .
- كان ذلك هو الجرس الأول الذى دق احتفالا بمولد فنانه جديدة مبشرة والنبؤة التى تحققت عبر عشرات السنين اللاحقة وأثبتت وجودها برسوخ فى المحافل المحلية والدولية بحيوية فتاه فى ربيع دائم !.
- كان مدخلها الى عالمى الفن والوعى الثورى واحدا وهو التصاقها بجماعة `الفن والحرية` التى أسسها عام 1939 الشاعر جورج حنين مع الفنانين رمسيس يونان وكامل التلمسانى وفؤاد كامل كانت الجماعة تؤمن بالثورة على المجتمع القائم ، وبالحاق بالعصر الذى كان ضميره يصرخ برفض الحرب والطغيان وعلى صعيد الفن ينادون بالثورة على الاتجاه الأكاديمى المحافظ الذى كان سائدا بمصر آنذاك بعد أن قال جيل الرواد كلمته وانتهى الى التكرار والجمود والمظهر البرجوازى وكان ردهم على ذلك الاتجاه يختلف من فنان الى آخر فينما كان رمسيس يونان ينتهج السوريالية (التى كانت حينذاك ثورية) كان التلمسانى ينتهج التعبيريى ، فيما كان فؤاد كامل يميل الى الرمزية قبل تحوله سريعا الى التجريد .
- وانعكست هذه التأثيرات خاصة تأثير التلمسانى على لوحاتها المبكرة فبرز فيها التعبير عن بشاعة الحرب وعن خشونه الواقع الذى تحول الى غابة وحشية وغلبت الألوان الداكنه والخطوط العنيفة السميكة وكشأن الفنانين الرومانسيين جميعا كان الوجه الآخر لهذا العنف الانفعالى والتأجج العاطفى هو وميض من الشاعرية وهذا ما بدا من تلألؤ مناظرها الليلة بزرقة القمر واخضرار الزمرد .
- ومع نضوج وعيها السياسى ومعايشتها الحميمة لواقع الطبقات الشعبية ، أخذت تتخلى تدريجيا عن تأثيرها بالمدارس الغربية الحديثة من سريالية وتعبيرية ورمززية وتقترب من التعبير التلقائى عن الواقع الخشن فى البيئات الفقيرة وهكذا امتلأ معرضها الخاص الأول 1952 ومعرضها التالى 1959 بلوحات تعج بالنسوة الكادحات فى البيوت الخانقة والحوارى الضيقة فى أعمال الغسيل والخبيزز والحياكة وقد اكتسين باللون الاسود وتحددت أجسامهن بالخطوط الخشنة خشونه حياتهن كما تمتلئ بصخب المظاهرات الوطنية المطالبة بالأستقلال وبالحزن والجلال اللائقين بجنازة الشهيد.
- ولعل هذا ما كان يعنيه الفنان المكسيكى العالمى ` سيكيروس` حين كتب عن معرضها عام 1959 ` اتخذت إنجى أفلاطون الطريق الى فن اجتماعى وواقعى فى نفس الوقت يبدأ من العزيمة القومية ويتحرك بتصميم فى المجالات التشكيلية مع الكائنات ومع الحياة الكاملة للناس فى وطنها وهى لا ينقصها شئ مما يقود الى الواقعية الحديثة ، الواقعية الأكثر نطقا والأعنى من الواقعية القديمة .
- لكن القيقة أن انجى كان ينقصها شى هام جدا لبلوغ تلك الواقية الحديثة التى يعنها سيكيروس كان ينقصها أن تنتصر فى تجربة عميقة تجعل تعبيها الفنى ينبع من خلاصة الاحساس بالألم الأنسانى، حين يذوب داخل عناصر اللغةالفنية المنفردة دون أن يعنها بالدرجة الأولى أن تلقى الاستحسان من عشاق الشعارات .. نعم كان ينقصها امتحان قاس لا يمانهات بقضيتها وبموهبتها معا بعيدا عن الاضواء والتشجيع بكل أشكاله وما اسرع أن جاءها الامتحان ..
ففى نفس العام الذى أقامت فيه معرضها الثانى 1959 وجدت نفسها معتقله بسجن القناطر الخيرية ضمن حملة اعتقالات سياسية واسعة قام بها النظام الناصرى ضد الشيوعين لتقضى بالسجن خمس سنوات كامله !
- إحتملت انجى المحنة بصلابة خاصة عند تسكينها قرب عنبر الساقطات والقاتلات وتاجرات المخدرات وعند حرمانها من أدوات الرسم ومن الكتب ومع ذلك رفضت كل مساعى أهلها (الواصلين) للأفراج عنها بعد أن يضمنوا خسن سلوكها .. وهو مايعنى ابعادها عن العمل السياسى وقبولها شروط الحياة مع الاسرة الارستقراطية وهكذا تبرأ منها الأب لكن الام لا تستطيع الا أن تكون أما ولو بطريقة طبقتها فقد كانت ترسل اليها مع النقود والمأكولات ملابس السجن الاجبارية وهى مكوية بعد أن تحكيها من أفخر الاقمشة وعلى أحدث الموديلات! .
- وتعلمت بالسجن أكثر مما تعلمته خارجه ومارست حريتها وهى بداخله بطريقة فذة من خلال الرسم كان خلاصها الحقيقى بعد نجاح المفاوضات مع إدارة السجن لحصولها على بعض الادوات الفنية هو الاستغراق فى رسم المسجونات بسجن القناطر او بمعنى اشمل راحت ترسم الحيوانات السفلية الزاخرة بالمعاناه والخطيئة والخوف والمجهول والتمرد والقهر ولاشهوات المدفونه والصبوات المحرمه التى تستشيط استعارا لدى اقل لمسة جنسية ترسم الأشواق العاطفية والأمومية الحبيبة والأيام المتشاقطة أو المتلاشية فى بطء كظلال النهار وساعات الانتظار اللانهائية التى تعيشها السجينات غير السياسيات أو خطوط الزمن على وجوههن التى توشك ان تفتقد آدميتها .
- وكما رسمت السجينات فى حالاتهن وتجلياتهن المختلفة فرادى وجماعات كذلك رسمت من خلال نوافذ العنبر المطل على النيل المراكب التى تحمل بلاليص الفخار وأشرعنها المعبأة بنسائم الحرية ورسمت الصيادين والمراكبية والجمالين الذين تحملهم تلك المراكب مع رققعت صغيرة من السماء الناصعة وتلك جميعا كانت أجنحتها الخضراء الغضة للتحليق بعيدا نحو عالم الحرية المفقودة والحياة الرحيبة.
- ولكل فنان حقيقى فترة يولد فيها من جديد أو يعيد اكتشاف نفسة والعالم مثلما كانت الراحلة الى الجزائر بالنسبة لديلاكروا وفترة العمل بمنجم الفحم بالنسبة لفان جوخ وفترة الحياة بجزر تاهيتى بالنسبة لجوجان ورحلة المغرب العربى بالنسبة لماتيس وفترة العمل بالحبشة بالنسبة لمحمد ناجى وهكذا كانت فترة سجن النساء بالقناطر الخيرية هى اعادة اكتشاف اجى افلاطون لموهبتها وللحياة معا وهى الخمائر الحقيقة لنضوج الشخصية المتفردة لها فى التصوير الزيتى التى تمثلت فى عناصر متعددة .
- أصبح للحركة فى اللوحة مفهوم مختلف عن مفهوم الحركة العضوية أو الخطية وقوام الحركة الجديدة هو الضوء القوى واللون الناصع واللمسات المتوهجة المتزاحمة.
- أصبحت سرعة الايقاع فى اللوحة بديل تعبيريا مناهضا للصمت المفروض والزمن الممطوط وذلك عن طريق ضربات الفرشاه القصيرة المتلاحقة فى مسطح صغير تتراص فوقه المشخصات متلاحمة توحى بالضجيج .
- وبعيد عن الاضواء والجماهير ومن خلال التأمل الهادئ فى ليالى الصمت أدركت ان المعانى السياسية الزاعقة لا تكفى لتعطى للعمل الفنى قيمته وأن هناك جواهر أعظم يكمن فى خلاصة الاحساس بهذا المعنى وابتكار `شكل` جديد يحمله .
- ومن خلال الحرمان الطويل من جمال الطبيعة الا ما يسمح به مربع نافذة العنبر المحجوب بالقضبان أدركت أن الطبيعة هى المعادل للحرية وأن جمالها سيظل الملهم الاكبر للفنان.
- واذا كان جمال الطبيعة محورا للفن ، وتعبيرا عن الحرية فإن هذا الحمال يبلغ جمال حفل العربى والزواج وحين يغمرها الانسان بالعمل ، والعمل رمز للانسان مثل ذلك المراكبى لذى كانت ترسمه على صارى مركبة عبر نافذة العنبر.
- تلك القيم الخمسة أصبحت أعمدة راسخة لأسلوبها الفنى الذى تميزت به منذ خروجها من السجن عام 1964 واتجهت الى القرية ترسم وترسم لا تهتم بالبيوت أو بالتفاصيل عامة بل بالأنسان. بالعمل. بالحركة. باللون. بالضوء. بالملمس. بالايقاع. بالاحساس الذائب فى فسيح لغتها التشكيلية المبتكرة التى لا تعرف هل تذكرك بالتأثيرين أم بفان جوخ أم بالسجاد الفارسى أم بالزخارف الصينية واليابانية القديمة فسيححها التصويرى يتألف من بقع لونية متجاوزة ومتوازنه وضربات حوشية لاهئة من فرشاة مشبعة بالألوان على ارضية بيضاء ناصعة حرصت انجى على ان تبقى منها ثغرات ضوئية متناثرة وسط الضجيج اللونى فتحدث وميضا بصريا `كدنانير تقر من البنان على حد وصف الساعر العربى القديم.
- أصبحت لوحاتها احتفالات طقوسية بالخصوبة والتجدد والعطاء فى الطبيعة أغنيات مرحة للجنى والحصاد ولزهو الانسان بسيطرته على الطبيعة التى صارت بين يديه امرأة فاتنه تسلم لم ثمارها وهى مزدانة بأبهى زينه أما دقات الدفوف وجلجلة الزغاريد فى هذا المهرجان فهى ضربات الفرشاه المحملة بالأحمر والأخضر والاصفر والأزرق والطوبة وكأنما اطلقت هى الاخرى من اعتقال طوبل فصارت كل ضربة فرشاه تولد من داخلها دوامة من الضربات المتتابعة حولها فى مجال فلكى خاص كنعاقيد النجوم فى سماء صافية وهى أيضا معزوفات تقترب أحيانا من ضجيج الألآت النحاسية وهى تحتفل بالحرية والمستعادة وأحيانا تقترب من دندنة العود لهذا فنحن لا نكاد نجد فى هذه اللوحات فراغا أومساحة لونية ساكنة وهى فى ذلك تتشابة مع الفنون الشرقية بوجه عام.
- على هذا الدرب سارت انجى معظم مراحلها الفنية التالية حتى وفاتها وان تضاءل الزخام فى لوحاتها شيئا فشيئا وحلت محله مسحة تأمليه صوفية أو حالمه فقد انفسح المجال للمساحات البيضاء بين عناصرها المجسمةىة أو اللمسات اللونية الصاخبة وتزايدت الومضات الضوئيبة التى تتخلل غصون الاشجار وسياقن النخيل وسعفة وأبراج الحمام ان هذا الفراغ المضىء بغير شمس فى مجموعات الواحات ` سيوه والواحات الجنوبية والعريش والأقصر` تلك المناطق التى ظلت انجى وفية لها تزورها كما يزور الدرويش المقيم أضرحة الأولياء حتى أواخر أيامها .. هذا الفراغ يعطى احساسا مخمليا دافئا واحساسا بالشفافية فى نفس الوقت ان اللآنهائية والصافاء والوهج الابيض الحنون الذى يضىء ولا يحرق لم يكن مستمدا من طبيعة خارجية بل من أعماق روحها وان المرء ليشعر بأن اللوحات قد امتلأت بالهواء النقى كأنفاس هادئة تتردد بانتظام من رئة فير مرئية وسوف تظل تتردد عبر لوحاتها الخالدة ختى لو توقف قلبها الغانى عن النبضات
بقلم : عز الدين نجيب
مجلة أدب ونقد ( العدد 47.. مايو / يونيو 1989 )
ستبقى فوق كل الكلمات ..
- ماذا يمكن أن يحدث عندما تتعثر الكلمات عن وصف المشاعر الحقيقية ، وماذا يمكن أن أفعل عندما تصبح الكلمات مثل : صداقة ، نضال ، تضحية ، وفاء ، محبة وكل ما يمكن أن يكون قيلا لها .. أعجز عن تفى بما أريد أن أقول وأقل قدره بكثير عن أن تعبر عن حقيقة مشاعرى ولست أملك الا أن أكتفى بأن كل الكلمات لا تفى ، وكل المعانى لا يمكنها أن تطاول أجى أفلاطون الفنانه والمناضلة السياسية ونصيرة السلام والعاملة من أجل حرية المرأة ومساواتها وتحررها .. ستبقى فوق كل الكلمات.
- ستبقى بما قدمت ، وبما فعلت وببصماتها التى لا تنسى حيث فعلت واقتربت فهل يمكن كتابة تاريخ الحركة التقدمية المصرية دون أن نذكر اسم إنجى المناضلة التى لعبت دورا رائدا منذ مطلع الأربعينات فى ارساء تقاليد وأسس العمل التقدمى المصرى.
وهل يمكن الحديث عن النضال من أجل معركة تحرير المرأة دون أن نذكر اسم صاحبة `نحن نساء المصريات` (80 مليون إمراة معنا) واحدى العاملات البارزات فى حق النهوض بالمرأة المصرية والدفاع عن حقوقها فى وجه دعاوى التخلف والجاهلية.
وهل يمكن الحديث عن النضال من أجل السلام ونزع السلاح دون أن يطل علينا اسم إنجى كواحدة من أول الدعاه المصريين للعمل من أجل عالم خال من الحرب والدمار.
- وهل يمكن أن تسطر تاريخ الحركة التشكيلية دون أن يرد اسم إنجى كواحدة من المجددات المبدعات.
فكيف للكلمات اذن إن تفى بذلك كله.-
- ولا أملك الا أن أكتفى بأن أسجل اننى ، أننا جميعا فى حزبنا وفى كل الصفوف التقدمية مدينون لانجى وسنظل مدينين لها .. وسوف يتضعاف الدين كلما حققنا نصرا أو إقتربنا خطوة من أهدافنا ، أو قدمنا شيئا لوطننا أو شعبنا.
- وسوف نشعر بثقل العبىء لغيابها كلما طالت المسيرة.
- وسوف نبقى دوما حافظين لذكراها .. ذاكرين لافضالها ونضالها.
- وسوف تبقى إنجى أفلاطون معنا .. بما فعلت وما قدمت..
بقلم : خالد محى الدين
إنجى أفلاطون رؤية الفن والحياة
- لم يقتصر دور المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب على إقامة معارض للفنانين الكويتيين فقط، بل امتـد دوره الـرائد في استيـعاب تطورات العصر ومواكبة تحولاته باستضافة نخبة من الفنانين العرب والأجانب ليساهموا بعرض إنتاجهم الإبداعي عن قرب، وكان معرض إنجى أفلاطون في فبراير 1988 إحدى ثمار هذا التوجه. إنجي حسن محمد أفلاطون (1924 - 1989) من عائلة أصولها تركية، ميسورة الحال منفتحة على العالم والثقافة، ابنة عميد كلية العلوم، التي تربت مع أختها في كنف والدتها، بعد انفصالها عن زوجها، وتضافرت ظروفها التعليمية الاجتماعية الراقية لكي تنشأ على حب المعرفة، وتنهل من الثقافة الفرنسية.
- كانت اللغة الأم لإنجى هى الفرنسية، ولم تكن لها دراية باللغة العربية ولا تتكلمها، أدخلها والدها مدرسة للراهبات (القلب المقدس) مقصد أولاد الذوات، لتتعلّــــم الطــــاعة والأصول التقليدية في الآداب والإتيكيت، لكنها ضاقت بهذا النوع من التعليم، ورفضت تلك الهيمنة والانصياع، فهي تحمل جينـــــات التمرد والحرية من والدتها التي انفصلت عن والــــدها مبكــــرًا، وحملت مسؤولية تربيتهــــا وشقيقتها بدخولها عالم تصميم الأزياء، حيـــث أصبحـــــت أول مصمــــمة أزياء في الشرق العربي، ومن أشهر مصممات الأزياء في العالم.
- ألحقت والـــدة إنجـــــي ابنتها بمدرسة الليسيه فرانسيز في باب اللوق، بعد أن طردتها مدرسة القلــــب المقـــــدس، لاستـــــمرارها فــــي `الشقاوة والشغب`، وأصبحت تتمتع بالحرية بعد أن عانت تكبيلها بمدرســــة القلــــب المقـــدس، وتحققت لها شخصيتها الحرّة بكل ثقة، مع اعتزازها بنفسها وقدراتها، وانخرطت بفطرتها في ممارسة الفن الذي أحبته بتلقائية دون أيّ توجيه أو تعليم، وكانت أمها فخورة بها وتشجعها علـــــى ممارســــة الرسم الذي اعتادته، خصــــوصًا بعــــد أن بـــارك موهبتها صديق العائلة الفنان الكبير محمود سعيد، وكان عمرها آنذاك 15 عامًا، حيـــــــث تنبأ لها بمستقبل واعد، وراحت إنجي تبحث كيف تتعلم المزيد لهذا الميدان وأصوله علـــــى أيـــدي أساتذة لهم مراسم للتعليم منتشرة وسط القاهرة، مثل استديو جاروس أمبير 1941 لتتنــــقل بينهـــــم، وكـــان استديو الفنانة السويسرية مارجفيون بالمعادي عام 1948 الأفضل لها، فقد تعلّمــت منهـــــا التخطيطـــــــــات الــسريعة (الاسكتشات) التــــــي اشتـــــــهــــرت بها، وتـــــدرّبت فيـــــه علــــى رســــوم المناظر الطبيعية مـــــن خلال تجوالها في قــــرى الــــريف ونجوعها، معبّرة عن حركة الفلاحين في ممارستهم اليومية لأعمالهم، وتميزت تلك الأعمال بالحيوية والطزاجة التي لاقـــــت استحســــان الزائرين، وأدخلــــت البهجـــــة فــــي نفوس المشـــــاهدين لمعــــرضها الشخصي الأول عام 1951.
- والغريب أن يكــــون هــــذا منــــوالها وخريطة الطــــريـــق الــــذي سارت فيه طول مسيرة حياتها التشكيلية `الطبيعة والبيئة المصرية الصميمة مصدر إبداعها الدائم`. التحقت بعد ذلك لفترة قصيرة بالقسم الحر للفنون الجميلة بالزمالك، وهناك تعرّفت إلى أساطين الفن المصري، راغب عياد وبيكار وغيرهما.
- ثم تعلّمت المزيد في استديو الفنان الطليعي الثائر ابن الريف حامد عبدالله (1917 - 1985) صاحـــــب الآراء والخيــــالات، المؤمن بأنه كفنان شرقــــي يرســـم الطبيعة، ويهتم بالبناء والصياغة التشكيلية وارتجالات خطية تجريدية، وترسخ ذلك في فكر وذهنية تلميذته النجيبة، فترك أثره عليها ضمن عدة أجيال من الفنانين وهواة الفن والمثقفين.
- الفتح الأكبر
كان الفتح الأكبر لفنانتنا بتعرّفها إلى الفنان كامل التلمساني (1915-1972)، الذي اختارته العائلة وعهدت إليه بمهمة صقل موهبة ابنتهم، وهو الملمّ بالثقافـــــة والفنون العالمية الحديثة وتاريخـــها وفلســــفــــة الفـــن والجمال، ويعد أحد أعمدة الحركـــــة السرياليــــة المصرية الثلاثة (جـــــورج حنـــــين - التلمساني - رمسيــــس يونــــان)، حيــــث كانت مرحلة مهمة (1940 - 1945) فـــــــي الحياة الفنية والفكرية المصرية في ذلك الوقــــت، وبمنـــزلة ثورة ثقافية على التقاليــــد ودعـــوة للحـــــرية وتغيير المجتمـــع، وتشكّل توجـــهًا جديدًا عرف بحركة الفن والحرية في مصر جزءًا من الحركة السريالية العالمية في نهاية عصرها الذهبي.
- ولمّا كان التلمســــاني فنانًا تأثريًا تمرّس على الرسم فــــي قريتـــه، يخرج للحقول والمزارع ليرسم المناظر الطبيعية، متــــأثرًا بأستاذة يوسف العفيفي (مدرس الرسم بالسعيدية الثانوية)، كما كان مناضلًا ومثقفًا عميقًا كتب مقالات مهمة في الفن والسياسة، فقد وجدت فيه إنجي ضالتها وهواها، فحجز لها مكانًا مع جماعة الفن الحرية على طريق السريالية وممارسة روح الحرية والتجديد في الفن، بعد أن زوّدها بالأفكار التقدمية والثقافات العالمية وتاريخ وفلسفة الفن، فشاركت فى المعارض العامة التي يؤمّها الأرستقراطيون والمقيمون الأجانب وطبقات الأغنياء، بجانب المثقفين ومحبي الفنون من أفراد المجتمع، الذين يشاركون في دعم الحيوية الثقافية واقتناء الأعمال الفنية، مما أدى إلى تطوّر الفن التشكيلي المصري الحديث والحركة السياسية والاجتماعية. ومــــن حُســــن الطالـــــع أن لــــوحات إنجى فى مشاركتها الأولــــــى بالمعرض الثالــــث للفن والحرية عام 1942، حظيت بالإعجاب، حتى أننا نجد الأديب والناقد جورج حنين (1914 - 1973) أحد أهم أدباء الفرنسية المعاصرة ومؤسس السريالية المصرية عام 1938 يقول بأنّ أعمالها هى مفاجأة المعرض، وربما كان خيالها الفني هو الأكثر تحريرًا وتطورًا، وظهر ذلك في لوحتيها `الفتاة والوحش` و`انتقام الشجرة`، وقد كانت ألوانهما داكنة ومعتمة، أشبه بنباتات متشابكة فى منظر ليلى.
- مطاردة واعتقال
- لـــــم تستمـــر الحــــركـــــة السـريالية طويلًا، وتوقّف التلمسانـــــي عن الرسم عندما استشعر أن الفن لا يؤدي رسالته في خدمة المجتمع إلى الجماهير العريضة، وتحوّل إلى السينما لعلها الأفضل لتحقيق وجهة نظره، وقد انعكس ذلك علـــــى إنجــــي والتشكيليين الشباب، فتوقفـــــت عــــــن ممارســـة الفن لتشــارك بالمؤتمرات التحريرية العالمية للمرأة، ونشطت بالاتحاد النسائى والمشاركة فى الحياة المصرية الاجتماعية على مدار عامين (1946 - 1948)، ومارست الكتابة بعد إتقانها اللغة العربية، وأصدرت كتبًا عدة عام 1949، حرّر مقدماتها كبار أدباء العرب، مثل طه حسين في الطبعة الأولى، وعبدالرحمن الرفاعي في الطبعة الثانية، وتناولت في بعض كتبها نضال النساء المصريات والسلام والجلاء، داعية إلى التحرر والمساوة للمرأة.
- ولما كان أستاذها التلمساني يساريًا بشكل عام، إضافة إلـــى طبيعتهـــا وشخصيتها الجامحة نحو الحرية والتمرد والنضال الإنساني، فقد انضمت إلى الحركة الاشتراكية مبكرًا، وأصبحت من رائدات حرية الفكر والمعتقد، حتى صنّفت إحدى أهم يساريات الطبقة الأرستقراطية، وربما تكون أشهر امرأة شيوعية في تاريخ مصر. تزوجت عام 1948 وكيل النيابة محمد محمود أبوالعلا، وأبقت خطتها سرًا حتى لا تثير غضب النائب العام، لأنّها كانت معروفة بنشاطها السياسي فى تلك الفترة، وكان زوجها نشطًا كذلك ومؤيدًا لها ومشجعًا، وقد توفى عام 1957.
- عانت إنجي المطاردة والاعتقال لأسباب فكرية واجتماعية تتسم بالتقدمية، وتمردت على كل أشكال الحكم، كالعهد الملكي وعهد عبدالناصر، الذي أصدر لأول مرة قرارًا باعتقال إنجي بسبب نشاطها السياسي كغيرها من الشباب المتمردين للتخلص من الشيوعيين، وأودعت في سجن القناطر الخيرية، وهو من السجون النموذجية في ذلك الوقت، مقارنة بالسجون والمعتقلات الأخرى بمصر، وسمح لها بالرسم خلال فترة اعتقالها داخل السجن خلف القضبان (من يونيو 1959 حتى يوليو 1963) فصوّرت خلالها تلك الفترة عنابر المساجين وأنشطتهم اليومية وطقوس الطبخ وغسل الملابس.
- جمالية اللوحة
- لكنّ الحقيقة التي شهد بها الجميع هي أن هذه الأعمال الفنية التي أبدعتها افلاطون داخل السجن تفيض قيمًا جمالية وثراءً لونيًا وتكوينات دراماتيكية في أسلوب تعبيري لافت، حتى قال عنها د. لويس عــــوض إن لوحاتهــــا المستـــــوحاة من سجن النساء بالقناطر من أروع ما سجّلته ريشة الفنان فى مصر.
عاشت إنجي دائمًا مصرية، بقلبها ومشاعرها، عواطفــــها مرتبطــــة بزمانهـــا ومكانها مناضلة تلتصق بقضايا الفن الاجتماعي الواقعي، وهي في الوقت ذاته عاشقة للطبيعة والإنسان قضت جلّ حياتها تتجول بين القرى والكفور والنجوع بين أحضان مصر بطولها وعرضها تقدّس العمل، فهو قيمة اجتماعية يفوح عطره من لوحاتها.
- وقد صوّرت طقوس العمل في الحقول بصياغة غنية بالحركة الدؤوبة التي لا تهدأ من وقوف وانحناء وتسلّق للأشجار يكدحون في عمل متواصل تلفح وجوههم الشمس الملتهبة، كما صوّرت عمالًا مصريين وعاملات في تشييد الأبنية وفي المصانع وفي حفر قنـــــاة الســــويس وبناء السد العالي، كما رسمت المقاومـــــة الشعبيـــة الفلسطينية والفدائيين بلباسهم المميــــــز. وعندمـــــا يغوص المشاهد في لوحات إنجـــــي أفلاطـــــون لاكتشاف مواطن الجمال فيها، تعتـــــريه الدهشــــة والانبهار لبساطة تعبيراتها ورؤيتها خارج صندوق التقليدية أو قواعد الأكاديمية الأوربية والحرفية التشكيلية، فهي صاحبة أسلوب متميز لا تسـير خلـــــف أحـــــد، أو تتبع أي مدرسة تشكيلية بذاتها أو أي من الأساليب المعروفة، ويذكر الناقد التشكيلي الفرنسي الأصل إيمي آذار، الذي عاش ومات بمصر، في كتابه الصادر بالفرنسية عام 1961 أن `لوحات إنجي أفلاطون لا يمكن إلّا أن تثير الاهتمام بأوضاعها التصويرية، وذلك أنها لا تملك وسائل محدودة، ومع ذلك تصل إلى أن تبث الحيوية في رؤيتها`.
- انطباع وطني
- فى لوحاتها تجسد إنجي حسّها العميق بأجواء ريفية وانطباع وطني عميق للبيئة المصرية المصدر الأساسي لإبداعها، بمشاعر مرهفة رقيقة، وتصوغ لوحتها بشكل غني بالحركة للبشر التي لا تهدأ في حالة عمل وجهد في حلمهـــــم وترحالهم، وأفراحهم وأتراحهم، حتى أن د. عائشة عبدالرحمن (بنت الشاطئ) ابنة الريــــف، تعــــترف - في كلمة أوردها الناقد التشكيلي د. نعيم عطية - بأن `قلمها الذي حاول طويلًا أن ينقل ويعبّر عن أهلها الكادحين في القرى، عجز عمّا استطاعت ريشة إنجي أن تبدعه في لوحاتهـــــا`. يمــــثّل الشجر أكثر عناصر لوحاتها حضـــورًا، منــــذ لوحتــــها السريالية الأولى `انتقام الشجرة` وطوال مسيرتها التشكيلية بعد ذلك، ففي مشاهد الحقول تعجّ لوحتها بأشجار القطن والموز والبرتقال بأغصانها وأوراقها، وبما تحمله من ثمار وخيرات متنوعة، وأشجار النخيل الباسقات بطرحها التي استهوت لبّها، حتى أنها وصلت في تجوالها إلى أن تصوّر لوحات نخيل الواحات وجبال سيناء فى تكوينات وتأليف زخرفى وإدراك لونى متميز.
- ومن خلال تصويرها الدائم لمشاهد النيل وحسّها القوي بالبيئة الريفية من حقول ومزارع خضراء ومساكن الفلاحين وسائر أنواع الماشية والأشجار، لم يغب عنها ذلك الفعل التشكيلي المؤثر في ترك تلك الفراغات بين ضربات فرشتها، مما يظهر بياض أرضية قماش (توال) الرسم لتحقيق تلك الدهشة، ولم تغفل أبدًا عن ذلك الإحساس البصري على مدى إنتاجها الفنى فى كل مراحلها، وأكدت ذلك مبكرًا فى معرضهــا العشـــــرين الـــــذى حمل عنوان `الضوء الأبيض`، الذى صورت فيه القرية من بعيد، ورقصات الفلاحين وبيوتهم، وعناصرها المفضلة الأخرى من شجر وزرع وزهور ونباتات وشخوص، في خطوط غير منتظمة وإيقاعات مثيرة لها سحرها الخاص.
- إضافة متميزة
- يعتبر معرضها بالكويت فبراير 1988 بصالة الفنون، الذى ضم 32 لوحة مختارة من مراحل سنيّة مختلفة، إضافة متميزة لفنانة عربية من رواد الفن التشكيلى المصرى عرفتها أوربا والحركة الفنية طوال حياتهـــــا الفنــــــية، ورائدة متميزة ممن لقّبوا بـ`المثلث الذهبـــي للفنانات المصريات`، تحية حليم وإنجى أفلاطون وجاذبية سرّي، وضم المعرض، على سبيل المثال لا الحصر، لوحات صيادين الأنفوشي (1954)، وصخور أسوان (1965)، والمعدية (1969)، وتحية إلى الفدائيين (1970)، وأوراق الموز (1971)، والواحة (1978)، وجمع الزهور (1985).
- وتوجز إنجى أفلاطون عن فنها بهذه السطور التى دوّنتهـــــا في كتــــاب `المرأة المصرية والإبداع الفنى` للفنانة نازلى مدكور: `الفن عندي هو التعبير عن الذات وعن هموم المجتمع، لقد لجأت في المرحلة الأولى - مرحلة الشبـــاب - إلى الأســــلوب السريالي الذى مكّنني من إزاحــــة كـــل السدود التي كانت تحول بيني وبين التعبير عن ذاتي وشحنة القلق والتمرد التي كانت عندى.
- وفى عام 1946 انتهت المرحلة السريالية مع اندماجى الكلــــى فـــــى العــــمل السياسي والاجتماعي النسائي، وأحسست بضرورة وقفة مع نفسي بعد هذه القناة الفكرية والنفسية. وكان لا بدّ لى من طريقة جديدة في تعبيرى الفنى تناسب هذا التحول، وبدأت مرحلة عن شخصية الإنســــان المصـــري وخصوصية الطبيعة التي تحيط به، وتواكب هذا، في الوقت نفسه، مع بحثـــي عــــن جذورى وهويتى، واتجهت إلى الريف العميق أعايش الفلاحين، وأتجول في القرى والنجوع الممتدة بطول البلاد وعرضها حتى الصحراء`.
- الحركة والضوء
- تضيف إنجى: `أحاول أن أعبّر عن واقع وأحلام الإنسان البسيط المقهور الذى يعمل فى صمت وصبر، كما أحـــــاول أن أمجّد العمـــل من خلال مجاميــــع الفـــلاحات وهن يقمن بجمع المحاصيل المختلفة، ألتقــــط الحـــركـــــة السـريعة لأجسام وأيادى العاملات وهن في قمة توحّدهن الإنسانــــى فـــــى لحظـــة العمل الجماعي وفرحة جني الثمار، واستمر البحث عندى متصلًا بعنصرين مهمين فى تشكيل اللوحة، هما الحركة والضوء، وتوصّلت بعد تجربتي الطويلة إلى مرحلـــــة أساسها الضوء الأبيض، فكنــــت فــــي الـــــبداية، وبشكــــل تلقائي، أترك بين شرائط الألــــوان في ضربات الفرشــــاة المتلاحقـــــة، فــــــراغات بيضاء ضيقة تساعـــــد علـــي إشاعة النور، ثم بدأت هذه الفراغات تتسع بعض الشىء، ثم اتسعت أكثر فأكثر حتى تجرأت أنا فى النهاية على ترك مساحات بيضاء كاملة من قماش اللوحة فارغة من اللون، فصارت هذه المساحات البيضاء تقوم بدور شديد الإيجابية في إضاءة الأشكـــــال المرسومة والمشغولة، مما يبرز لمسة أو لون أو ضربة فرشاة محسوبة غاية في الدقة. كما أن ضربات الفرشاة المتموجة والمتقاطعة التي تلاحظ في أعمالى تهدف إلى التعبير عن الحركة الدائمة فى الطبيعة بكل مظاهرها، حتى لأكثر أشكالها ثبوتًا`. أقامت إنجى أكثر من 30 معرضًا خاصًا فى مصــر وخـارجـــهــــا، مـــن أهمهــــا معـــــرض رومـــــــا 1967، وفــــي بــــاريـــــس وبـــــــرليـــــــن ووارســـــو ومــوسكـــو، وفى الهند عام 1979، وأكاديميـــــة الفنـــــــون فى رومــــا. وفي عام 1988 شاركــــت إنجــــى أفــــلاطون فى معرض استعــــادى بالكــــويت، وفــــى كثير من المعارض الجماعية والبيناليـــــات العالميــــة وكقـــــومْسير لمعـــــارض دولـــــيــــة خــــارج مصــر لمرات عدة. - -- وحصلت على وسام `فارس الفنون والآداب` عام 1986 من وزارة الثقافة الفرنسية، وأعمالها مقتناة فى متاحف الفن المصرية والعربية ومتحف بوشكين بموسكو، والمتحف الوطني في وارسو وبلغاريا، وفي مؤسسة بارجيل للفنون بدولة الإمارات. توجد لها كثير من المقتنيات الخاصة فــــي مصــــر والخارج، وفـــــي عـــــام 2002 افتتح لها جناح كامل بمركز الفنــــون المعاصــــرة (مجمع 15 مايو) ليكون متحفًا باسمها، يحتوي على 152 لوحة اقتنتها وزارة الثقافة المصرية. ثم انتقلت هذه الأعمال إلى قصر الأمير طــــــاز في حي الخليفـــــة بالقاهــــــرة، ليكـــون متحفًا يحمل اسمها ، ثم استقرت أخيراً بمتحف الفن المصرى الحديث .
بقلم : يحى سويلم
مجلة : العربى الكويتية ( العدد 746) يناير 2021
إنجى أفلاطون.. الإبداع صورة شخصية للوطن والمرأة
- فى الذكرى المئوية لمولدها
- بعد الرائدة عفت ناجى `1905-1994` شقيقة الفنان محمد ناجى.. العلامة الأولى فى فن المرأة فى الإبداع المصرى الحديث.. جاءت العلامة الثانية متمثلة فى ثلاث فنانات: إنجى أفلاطون ومعها تحية حليم وجاذبية سرى.. ولعل من أجمل ماكتب حول فن الثلاثة.. ما قاله الكاتب `كامل زهيرى` مشبها لوحاتهن بصوت الموسيقى: `رسمت إنجى مصر بعيون نسائية واكتمل بها مثلث ذهبى لثلاث رسامات `تحية حليم وجاذبية وهى`.. كانت جاذبية سرى أقرب فى لوحاتها إلى الموسيقى النحاسية بألوانها الرنانة والصريحة والصارخة.. وتحية حليم كانت قمة الحنان والشجن وعازفة الناى الشجى والحنون.. بينما كانت إنجى افلاطون أقرب إلى الموسيقى الوترية وعائلة الكمان والفيولا والتشيللو.. وظلت الحان الكمان العذب تعلو من لوحاتها الجميلة`.
- وإذا كان لكل منهن لغتها التعبيرية الخاصة.. فقد أضافت إنجى إلى شخصيتها الفنية دورها السياسى وإسهامها النضالى فى الحركة الوطنية المصرية.. لأكثر من خمسين عاما.
فى عامنا الحالى نحتفى بمئوية الفنانة إنجى أفلاطون مثلما احتفلنا بمئوية الفنان حامد ندا المولود معها فى عام 1924 تاكيدا على تواصل الاجيال.. خاصة من حفروا عميقا فى نهر الابداع المصرى.. احتفى بها أيضا مؤشر البحث العالمى `جوجيل`.. وكانت المناسبة من أجل إلقاء الضوء على إنجى الفنانة والثائرة.. متتبعين مسيرتها مع الإستعانة بمذكراتها.. التى اعدها رفيقها فى النضال الكاتب سعيد خيال.
- أسرة أرستقراطية
- ولدت إنجى أفلاطون لأسرة أرستقراطية.. والدها الدكتور حسن إفلاطون درس العلوم فى سويسرا وانجلترا.. وعاد مدرسا فى كلية الطب ثم إنتقل لكلية العلوم وأسس بها قسم الحشرات عام 1930.. كما تولى عمادة كلية العلوم.. وهناك قاعة بالكلية تحمل اسمه حتى الان.. وشارع باسمه فى مصر الجديدة.
أما والدتها.. فقد قررت أن تدخل ميدان العمل فى الأزياء عام 1936.. بتشجيع من طلعت حرب.. افتتحت محل `صالحة للازياء الرفيعة والتفصيل الراقى` فى شارع الشواربى.. فكانت اول مصرية تعمل فى هذا المجال الذى احتكره الاجانب.
- أصر والد إنجى على دخولها مدرسة القلب المقدس `الساكركير` بمصر الجديدة إحدى مدارس بنات الذوات.. كانت مشهورة بالتزمت الشديد.
- ذات مرة كانت إنجى تقرأ رواية `الذئب الأبيض` لجاك لندن.. تتحدث عن ذئب يشتاق إلى الحرية إرادت عائلة من المدينة استئناسه.. ضبطتها الراهبة وصادرت الكتاب.. وإنذرتها بالطرد لو فعلت مخالفة أخرى.
كان أول أشكال تمردها.. رفضها الأستمرار فى الدراسة بتلك المدرسة.
- مدرسة الليسيه
إنتقات إنجى من كابوس الراهبات إلى مدرسة `الليسيه` وكان الفارق كبيرا فى مستوى التعليم وجو الحرية والإنطلاق.. وفى الفصل الثانى تشبعت بأفكار وكتاب الثورة الفرنسية: فولتير وروسو وسان سيمون وديدرو.
- ومع دابها فى الرسم.. كانت تسعد كثيرا حين ترسم القصص الخيالية التى تؤلفها أختها بولى.. وكان الشاعر أحمد راسم زوج خالتهما يأخذ القصص والرسوم وينشرها فى مجلة مصرية تصدر بالفرنسية.
كان كامل التلمسانى فنانا تشكيليا طليعيا ومن ابرز فنانى جيل الاربعينيات رساما ومصورا معروفا قبل أن يعمل بالإخراج السينمائى.. اقترحت إسمه صديقة لوالدتها لتعليمها دروس فى الرسم.
وكانت المفاجاة أن وجدها تعبر فى رسومها.. عن عالمها الداخلى بشحنة نفسية هائلة وخطوط جريئة.
أندفعت إنجى بكل حماس وانطلاق ورسمت أولى لوحاتها: `فتاة تحاول الهرب من لهيب النار والثعابين تحاول إلتهامها.. ثم لوحتها الزيتية الثانية لفتاة تجرى مذعورة فوق الصخور.. محاطة بالأمواج العاصفة يطاردها طائر متوحش.. وتتابع إنتاجها الغزير.. ومع هذه الشحنة القوية والرغبة العارمة فى التعبير بالرسم.. إزداد إهتمام التلمسانى بها وجعلها تشارك فى المعارض الطليعية ` لجماعة الفن والحرية` وأولها المعرض الثالث 1942.. رغم صغر سنها وكانت لازالت طالبة فى الليسيه.
- تمثلت `الفن والحرية` دعوة السيرياليين.. استلهاماً لبيان الشاعر الفرنسى `اندريه بريتون` مؤسس السيريالية فى فرنسا.
- كتب الشاعر جورج حنين يقول فى نقده للمعرض فى جريدة الأسبوع المصرى بالفرنسية:` إن مفاجأة المعرض الثالث للفن المستقل.. تتمثل فى تنوع الخضرة البالغ حد الهذيان فى لوحات إنجى أفلاطون.. صغرى فنانى مصر المستقلين تستثمر الإمكانيات الفنية المحدودة نسبيا.. المتاحة لها بذكاء نادر`.
- التحول الكبير
- إنتقلت إنجى من الرسم إلى الدخول فى العمل الوطنى من أجل تحرير مصرمن وطاة المستعمر.. وزاد من حماسها إرتباط التحرر الوطنى بالتحرر الإجتماعى وقضية تحرير المرأة وإنتقلت من معسكر الأغنياء إلى معسكر الفقراء.. وبعد أن حصلت على شهادة البكالوريا قسم الفلسفة عام 1944.. عرض عليها مدير مدرسة الليسيه مسيو `جوسار` تدريس الرسم فى فصول الصغار الى جانب تدريس اللغة الفرنسية وكان هذا العمل مناسبا لها.. مع الداب فى العمل الجماهيرى.. وتعلمت اللغة العربية بتطوع من الشاعر فؤاد حداد.
- تسافر إنجى إلى أول مؤتمر نسائى عالمى يقام بعد الحرب العالمية الثانية.. أقيم فى باريس واختيرت رئيسة للوفد المصرى ووسط حشد هائل من `850 ` مندوبة.. `كان من بين الحاضرات إنديرا غاندى ونينا ماريوفا البطلة السوفيتية`.. فى كلمتها قالت: `إننا نستطيع الأن أن نتحدث بصراحة عن السياسة الأستعمارية الخبيثة.. التى تعوق كل تقدم وإرتقاء فى بلادنا`.
- تزوجت فنانتنا عام 1948 من محمد ابو العلا وكيل النائب العام.. فى ذلك الوقت لكن لم يمهله القدر.. فعاجلته المنية بعد ثمانى سنوات من زواجهما.. كان مشجعا لها على العودة للرسم.. بعد أن أصبحت أكثر نضجا ووعيا بالواقع الاجتماعى.
- التحقت بعدة مراسم للتعليم.. فى البداية بمرسم الفنانة السويسرية المقيمة بمصر `مارجو فيون` بالمعادى.. وبعدها التحقت بالقسم الحر بالفنون الجميلة وتلقت الدراسة على اساتذة عظام.. منهم راغب عياد وحسين بيكار.
- المنشة الصغرى
- تعترف إنجى بأن المدرسة الكبرى التى تعلمت منها وأحبتها لأنها مصدر إلهامها كانت بلدتها فى الريف `المنشة الصغيرى `من قرى كفر شكر قليوبية.. هناك بنى جدى بيتا ريفيا جميلاً على شاطىء النهر فى وسط أطياننا وفيه أشجار الكافور العملاقة ومزروعة حدائق للموالح والموز.... كنت أعايش الفلاحات وأرسم وهكذا عرفت المرأة الفلاحة وصورتها فى أعمالى.. فى مواسم الجنى والحصاد.. كان هذا أحسن طريق للبحث عن مصر الحقيقية والتعرف على كنوزها الخالدة`.
ثمانون مليون امراة معنا
- وجدت إنجى فى الرسم حريتها من البداية.. وعبرت خلاله عن تمردها على طبقتها الأرستقراطية.. وكانت أولى لوحاتها مليئة بالرموز وتوالت اعمالها تصور الأحلام العنيفة والكوابيس المقبضة.. وعندما لم تعد اللوحة قادرة على التعبير عن ثورتها وتمردها انسحبت الفرشاة من يدها.. ليحتل القلم مكانها للتعبير عن أفكارها.
- بعد عودتها من المؤتمر النسائى فى باريس عام 1947 وبحماس شديد كتبت `80 مليون إمرأة معنا`.. صدر عام 1948 وهو يتحدث عن الحركة النسائية فى العالم وضرورة إرتباط الحركة النسائية المصرية بها.. كتب مقدمته دكتور طه حسين `وكان مشجعا مستنيرا للمرأة.. ونصيراً لها فى كفاحها من أجل التقدم`.
- وأصدرت كتابها الثانى عام 1949 بعنوان `نحن النساء المصريات` بمقدمة المؤرخ المصرى عبد الرحمن الرافعى.. وفى عام 1951 نشرت كتابها الثالث بعنوان `السلام والجلاء` وعملت أيضا بالصحافة.. مسؤولة عن صفحة المرأة فى جريدة المصرى.
- وعادت إلى الفن مرة أخرى فصورت العمل فى الريف وهموم الفلاحة والعاملة.. لكن عندما دخلت السجن خرجت إلى ضوء مصر الساطع.. خرجت من الظلمة إلى النور فجاءت لوحاتها أغنيات من الضوء ونوافير الأحلام والألوان.. تصور لحظات فرح الفلاحات وقت الحصاد فى مواسم جمع الخوخ والقطن واللوف والباذنجان والبرتقال والموز.. مشرقة بالتفاؤل والصفاء النفسى.
- فى لوحات الخمسينيات تتجه الفنانة بكل كيانها إلى الريف المصرى.. الذى بقى حتى وفاتها موضوعها المفضل.
- تصور الفلاحة المصرية بملامح صارمة حزينة.. وخطوط حادة وألوان داكنة تذكرنا بأعمال الحوشيين.. من تلك الخطوط القوية والملامس الخشنة.. لوحات تنتمى للتعبيرية تستطيل فيها الشخوص وتضج الوجوه بالتعبير والانفعال.. تعبير يعكس لواقع الظروف الأجتماعية فى ذلك الوقت.. لوحات للأمومة مثل أم ترضع طفلها وأخرى تحتضنه بنظرات ملؤها الخوف من المجهول.. ولوحات للفلاحات مالئات الجرار.. والعامل والفلاح وصور العمل فى الحقل.
- تقول د. بنت الشاطىء حول معرضها عام 1952: `شعور بنشوة غامرة خلال تلك اللحظات التى أمضيتها فى معرض الصديقة العزيزة إنجى.. ذلك لأنى إنتقلت حقا إلى الريف الذى أحببته وإلى الأرض الطيبة التى عشت فيها وتعلقت بها.. أنها قطع من صميم حياتنا فى الريف وصور صادقة نابضة بالحياة والجمال أبدعتها ريشة الفنانة البارعة وبثت فيها من روحها.. ما جعلها تخفق حيوية وتتدفق تعبيرا`.
- فى عام 1959 حصلت إنجى على الجائزة الأولى فى مسابقة `العمل فى الحقل` وكانت فى هذا الوقت قد دخلت سجن القناطر.. ضمن قائمة بأسماء أول عشرين سيدة أعتقلن لخطورة دورهن السياسى فى المجتمع.
- جاءت تجربة السجن بالنسبة لها تكرارا لسجون اخرى.. مرت بها من قبل :سجن الطبقة وسجن المدرسة ..خاصة وقد استمرت خمسة أعوام أسيرة للظلمة.. وبقدر ما نضجت اتسعت نظراتها للعالم الخارجى فاصبح الخلاء حرية.. بشمس مصر الساطعة ونورها.. ومن هنا بدأت ترسم لوحاتها على سطوح بيضاء تتخلل المساحات والمسافات أشبه بالضوء الشفاف.. وتفجرت ينابيع ألوانها مستخدمة تلك الحركات الدائرية لتطويع الخطوط.. التى تشكل عالمها المسكون بالبشر والنخيل وانسياب مياه النيل والاشرعة.. الوان شفافة من الأصفر والبرتقالى والفوشيا والأخضر والأحمر النارى تشع بالضوء.. والدفء وتمتزج بخيالها الذى يهفو إلى النقاء والصفاء.
- ومع خروجها من السجن خرجت إلى الحياة ورحابتها.. وتنقلت بأرجاء مصر خارج القاهرة من المنيا وبنى حسن وأبو قرقاص وجراجوس والأقصر وأسوان والنوبة.. وإلى سيناء والعريش والواحات وسيوة وكان موضوعها الذى كان يشغلها تمجيد العمل وجهاد الفلاحين والفلاحات.. فى أغنية طويلة أشبه بسجادة شرقية تحتشد بجنة من الألوان.. تتخللها لمسات الضوء من السطوح البيضاء.. تذكرنا بهمس الألوان الذى ينساب من نوافذ الزجاج المعشق.
- فى أعمال إنجى أفلاطون والتى تنتمى لمرحلتها الأخيرة تستخدم التقابل اللونى مع ليونة اللمسات المتقطعة الملتوية والمعبرة.. عن الحركة يتخللها النور تشع بالفرح والسلام فى صورة بين الحلم واليقظة.. وجاءت أعمالها الوطنية من الفدائى الفلسطينى والمقاومة مفعمة بالنبل والصفاء وشرف التضحية.. كما فى لوحتها `تحية إلى سناء محيدلى 1968-1985` وهى أول فتاة فدائية قامت بعملية استشهادية.. ضد جيش الأحتلال الأسرائيلى فى جنوب لبنان.
- وصف الناقد الفرنسى `جورج بيسون` أعمالها الأخيرة بقوله: ` أنها تعيد سطح اللوحة الخام قبل أن تطمسه الفرشاة.. بحراً من الضوء الأبيض الشفيف وتمتد لمساتها كأنها رقصات الباليه المائى.. تسبح وتبدو الخلفية البيضاء وكأنها نوافذ يتسلل منها الضوء ليتخلل اللمسات المبهجة.. بزخرفتها السعيدة.. حيث يمكن أن نطلق عليها فنانة الأمل`.
- وفى أحد أيام 1989 بعد يوم مولدها بيوم واحد ترحل إنجى أفلاطون.
- سلام عليها وتحية لأعمالها بعمق ما تموج من أضواء شفافة وألوان بهيجة.. بمثابة صورة شخصية للوطن والمرأة.
بقلم : صلاح بيصار
جريدة : القاهرة 11-6-2024
|