رؤية تشكيلية لتجربة ممدوح سليمان
- المصادفة هى التى أتاحت هذا اللقاء مع ذلك الشاب الصعيدى ابن قرية بنى زيد بوق إحدى قرى محافظة أسيوط والذى يسير محتضناً بعشق مجموعة من لوحاته هى نتاج جهد جاد ومتصل ، رغم كل الظروف الصعبة التى تحيط به ، والعجز عن فهم أعماله أو التجاوب معها فى مجتمع القرية المحدود الذى يعيش فيه . وقد يكون هذا هو ما ملأ ممدوح سليمان بالإحساس بضرورة النزول إلى القاهرة كى يعرض أعماله ويستمع إلى رأى الناس فيها ويرى الجديد من المعارض الفنية ويجلس فى مجتمعات الفن التشكيلى ويقابل ويعرف ويتعرف على الأتجاهات المطروحة آملاً أن يكون فى هذا تطوير لرؤيته التشكيلية وحافز لجولة جديدة من العمل ، وقد يجد فى هذه الجولة حلولاً أو تيسيراً لبعض ما يعانيه من غربة ومن ظروف غير مواتية .
- والمتأمل لأعمال ممدوح سليمان يستطيع أن يلمح ذلك التطور المتدرج المتتابع من معالجته التشكيلية ، فالبداية عنده نلمحها فى محاولته الإفادة مما يمكن أن يقدمه الخط من ثراء تشكيلى ويسعى جاهداً لتحقيقه ، فهو يحاول عن طريق الخط البسيط بلون واحد أن يجعل الحياة تدب فى هذا الخط ويتحرك على سطح اللوحة فى نغمة أساسية تعلن بوجودها عن متغير حدث يفرض بوجوده علاقات جديدة ، لقد أصبح هناك لون يضاد لون الأرضية والخط فى حركته يشق لنفسه مساراً يفرض شكلاً جديداً على مساحة الفراغ حوله .. وقد تنطلق من هذا الخط الأساسى خطوط أخرى فرعية فى اتجاهات مغايرة لا تجاهه الأساسى وبتأثيرات مغايرة تزيد من ثراء الدلالة التشكيلية وتضيف علاقات جديدة تصدح بغنائية وشاعرية محلقة إلى آفاق لا متناهية تستكمل بقية دلالتها فى أعماق المتلقى من خلال ما تبثه فيه من إحساس . ووسيلتها إلى هذا الاختلافات فى سمكها والفروق بين كثافة اللون فيها ، وكذلك الاختلافات فى درجة توترها وسرعة حركتها والفروق بين أشكال مساحات الفراغ حولها .
- وأحياناً يلجأ إلى أن يعطى للخط قيمة مؤكدة بشكل أكثر وضوحاً وكثافة ويأتى ذلك فى نغمة غليظة ثقيلة تفقد الخط شاعريته السابقة لكنها تعطى إحساساً بديلاً بالثبات والاستقرار والتأكيد لما يتحرك إليه من اتجاهات وما يشكل من مساحات وعلاقات . وفى عدد أخر من الأعمال يحاول أن يعيطها قدراً أكبر من الاهتمام والثراء بما قد يضيفه من تأثيرات ظلية خفيفة على المساحات المحصورة بين الخطوط تساعد على إبراز قيمتها وتأكيد فروق التنغيم والملمس بينها ، وفي مرحلة تالية يدخل اللون على استحياء لتأكيد قيمة الخطوط المرسومة نغمتها وقد يتسلل من درجات خفيفة جداً إلى المساحات التى يجاورها .
- وهو فى ذلك يستخدم اللون الأسود للخطوط ويكون التكوين فى الغالب باللون البنى والأخضر .. ومحاولة الحصول على دلالات وتأثيرات باستخدام الخط يذكرنا بتلك المعالجات فى الفن اليبانى التقليدى .
- ولكن اللون بعد ذلك يبدأ فى أن يأخذ تدريجياً أهميته بدلاً من أن يكون إضافياً فى التشكيل مساعداً لمقولة الخط.
- وتبدو بعض أعمال ممدوح سليمان مساحات لونية تتحرك بنفس الاندفاعة والسلاسة التى رأيناها من قبل مع الخط لتعطى الأتجاه وتحصر مساحات الفراغ . وهنا يبدأ صراع جديد بين اللون والضوء وتكون الغلبة فيه بشكل واضح للضوء الذى يحصر اللون ويفرض عليه أن يقاوم جاهداً فى سبيل الحفاظ على أشكال المساحات .
- ولكن الملحوظة العامة على هذه المجموعة أن معالجة اللون فى ذاته كقيمة لها ثراؤها وتنوعها لا تظفر بكثير من الإهتمام . وقد يلجأ الفنان أحياناً إلى بعض الخطوط الخفيفة لتأكيد الأتجاه أو الحركة أو إضافة تأثيرات على تنغيمة سطح اللون .
- ولكن بعد هذه التجارب يتجه بحث الفنان إلى أعمال تتميز بالقدرة فى استعمال الخط والتنغيم فى المساحات والثراء فى الحركة والملامس من خلال أعمال تعتمد على البناء والتركيب المعمارى يلحظ فيها الإفادة من التجريب فى الفترة السابقة ومع أن اللون هنا مازال محدوداً فى تنويعاته فإنه يقف محاولاً إثبات قيمته الخاصة بجانب الخط . وتعتمد هذه الأعمال على ما يخلقه التقاطع والتعارض بين الخط الرأسى والأفقى والخطوط ذات - الإتجاهات المختلفة والإيحاءات المتنوعة ، فمنها المنطلق بسرعة وعنف ومنها المحلق فى شاعرية ورقة وقد نجد بعض الخطوط المنحنية تلطف من حدة تلك التقاطعات الجافة . واللون فى هذه الأعمال يحاول أن يعلن عن قدراته من خلال تدريجات خفيفة تنساب بقدر ما يسمح به الضوء الذى يسيطر ويغزو ، وتشف عنه هذه المساحات اللونية ويعجل بنهاية هذه التدريجات اللونية .
- ولكن هناك بعض الأعمال المميزة فى هذه المجموعة حيث تكون هناك بقعة أو مساحة لونية قوية تفرض نفسها فى المقام الأول بقوة ، وقد تتردد أصداؤها بشكل أصغر محسوب ومتزن فى مكان أو مكانين آخرين فى العمل تكون أول ما يلقى المشاهد ، وتأخذ الدرجة الأولى فى الأهتمام البصرى للمتلقى ، وتحول بقية الخطوط والألوان والحلول إلى تنغيمات مساعدة تخلق المجال لهذه البقع والمساحات لكى تعيش فيها . وهذه الأعمال تذكر بشكل أو بآخر ببعض أعمال ( موند رياينى ) وإن كان حلول المساحات فيها أكثر صخباً وكثافة عند ممدوح سليمان . وقد تتطرق بعض أعمال هذه المجموعة إلى معالجة الشكل الإنسانى بطريقة تذكرنا بالأعمال البنائية والتكعيبية لبراك وبيكاسو . فى مرحلة من مراحلهما .
- أما المجموعة الأخيرة من أعمال ممدوح سليمان فيبدأ فيها التجريب باستخدام خطوط وأشكال منحنية وتحليل لأشكال عضوية تذكرنا بما قد نراه من أشكال فى الخلايا تحت الميكروسكوب وبعد عدة من الأعمال التجريبية ينقل حصيلة هذه المحاولة إلى دائرةالبحث الأشمل فيجعلها تتعايش أحياناً وتتصارع وتتداخل فى أحيان آخرى مع تلك الأشكال البنائية المعمارية التى رأيناها فى التجربة السابقة .
- والملاحظة العامة على الأعمال التى يقدمها ممدوح سليمان أنها منفذة فى أحجام متقاربة صغيرة المساحة باستخدام الألوان المائية والصبغات وبتتابع منهج البحث تتابعاً من خلال نقطة يحاول أن يتملكها ويسيطر عليها ثم ينقل خبرتها إلى مجال تجربته الواسعة وتدخل فى دائرة الصراع التشكيليى الذى يمارسه .
- والأعمال عموماً وإن كانت تمتعنا بما قدمته من تنويعات باستخدام إمكانية الخط تدور من حيث إمكانية التلوين فى دائرة محدودة مكررة ، ويظل اللون محصوراً فى تدريجات بسيطة تبدأ وتنتهى منعزلة عن بقية المجموعة اللونية المجاورة مما يضعف من قيمة ترابط النسيج اللونى فى تلك الأعمال .
- وإذا كان من الطبيعى أن نقدر الجهد والإخلاص فى هذه الأعمال فإن من الواجب أن نعيد ترديد السؤال الذى ما زال يبحث عن إجابة وهو مدى إنعكاس المؤثرات البيئية ( فى الشكل واللون والعناصر التى يلقاها ويعايشها فى بيئته اليومية ) فى هذه الأعمال التى تأخذ بقيمة التشكيل الحديث .
- وهنا يجب أن نتذكر أولئك الفنانين الذين أثروا حياتنا بأعمال فى مجالات فنية مختلفة رغم أخذهم الكثير من واقع حياتنا وبيئتنا ولم ينفصلوا بالرغم من ذلك عن الأتجاهات الحديثة والمتطورة .
بقلم : سعيد المسيرى
مجلة : إبداع العدد (3) مارس 1989.