النحت الميدانى ذاكر الأمة
يواجه فن النحت المصرى الحديث موجه من الكراهية والإزدراء أطلقها البعض .
لقد ظلت مصر أكثر من أربعين عاما منذ منتصف القرن العشرين وهى لا تضيف تماثيل جديدة فى ميادين المدن الكبرى باعتبارها ذاكرة الأمة التى تعرفنا بتاريخ عظمائنا من المعروف ان الفن هو عبقرية مصر الكبرى ، وقد ظل فن النحت هو قلعة فنونها فهذا الفن قد تميز على مر التاريخ بشخصية متفردة لا يماثلها نحت بلد آخر .. ومن هذا يحتل فن النحت مكانة خاصة بين بقية الفنون الجميلة لأنه يرتكز على قاعدة ثابتة من التراث العريق ، رغم توقفه خلال العصور الإسلامية .
وفى مرحلة التنوير والتحديث التى شهدتها مصر فى بداية القرن العشرين ، اتجه النحت الى الاطلاع بدور مماثل للدور الكبير الذى لعبه هذا الفن فى حياة الشعب المصرى خلال الحضارات المتعاقبة .. وانصرف اغلب النحاتين الى التعبير عن القضايا والأفكار والموضوعات المحلية بأسلوب يجمع بين واقعية الشكل والطابع الخاص بكل فنان طبقا لمواهبه وقدراته .
من ناحية أخرى ظل النحاتون ــ حتى الجيل الثالث ــ يحرصون على ` التمثال الميدانى ` والنحت المرتبط بالعمارة ( الفن المونيمنتال ) أى الصرحى ، ولم ينصرف النحاتون إلى التمثال التجميلى الصغير إلا منذ نهاية الستينيات ، فكان كل نحات يحرص أن يتضمن عمله الطابع الصرحى للعرض على الهواء الطلق .. ولا يخضع للضغوط التجميلية التى تجعل التماثيل صالحة للعرض فى الأماكن المغلقة المسقوفة.
لكن من جانب أخر نلاحظ أن فن النحت كان أقل تأثرا باتجاهات الحداثة فى الفن الغربى التى تتناسب فى القرن العشرين ، وحاول ـــ أكثر من فن الرسم ــ ان يكون مستقلا ، وبمعنى آخر كان أبطأ من فنون الرسم فى التأثر باتجاهات النحت الأوروبى التى تنشد الحداثة والمعاصرة .. حتى انطلقت هذه الاتجاهات الحديثة منذ السبعينيات ، فعلى مدى أربعة أجيال لم يتجه إلى الحداثة والإغراب إلا عدد قليل والباقون انصرفوا إلى التعبير عن القضايا والأفكار والموضوعات المحلية بأسلوب يجمع بين واقعية الشكل المتأثر بالنحت الفرعونى وطابعهم الخاص وفق مواهب كل فنان وقدراته .
يقل عدد المثالين إذا قورن بعدد المصورين فى حركتنا الفنية ، فمن بين 460 فنانا تم رصدهم فى دليل الفنانين المصريين هناك 93 نحاتا فقط . لقد ضاعت أعمال عدد منهم وتخصص بعضهم فى التماثيل الشخصية التى تثبت فى الأماكن العامة والخاصة مثل أعمال انطون حجار ( 1893 ــ 1961) وهو من نجوم الجيل الأول اللامعين .
كما لم نعثر على أى نماذج من اعمال عثمان مرتضى دسوقى ( 1896- 1925) فقد اندثرت كل تماثيله المنفذة بالحبس ، لوفاته فى سن مبكرة قبل انشاء متحف الفن الحديث .
وأن صعوبة الاحتفاظ بالاثار النحتية ، وتعذر تخزينها عندما تكون من خامة هشة ، خاصة بعد انفصالها عن العمارة ، مع النظر بعين الاعتبار إلى الظروف الصعبة التى مر بها متحف الفن الحديث عند هدم مبناه الذى كان يقع قرب ميدان التحرير وتخزين معظم محتوياته فى موقع مؤقت صغير لمدة ربع قرن تقريبا ، وما يمكن أن تتعرض له المنحوتات الهشة الخامات فى هذه الظروف ، جعل الاقتناء المتحفى من هذا الفن محدودا نسبيا .
لكن رغم كل هذه الظروف فإن مجموعة النحت بمتحف الفن المصرى الحديث تعطى صورة جيدة عن مستوى الابداع الخلاق فى هذا الميدان ، فهى تؤكد مدى الارتباط بين هذا الفن وجذوره الممتدة عبر آلاف السنين مما جعله وقفا اصيلا راسخا أقل ميلا مع رياح الحداثة المتغيرة الاتجاه حتى وقت قريب..
د. صبحى الشارونى
المساء : 11-1-2011