فى كتاب جديد للفنانة والباحثة إيناس الهندى
** أول غلاف رسمة حسين بيكار كان غلاف ( الأيام ) لطه حسين ..
- أصدرت الفنانة التشكيلية ايناس الهندي كتابا جديدا بعنوان `معزوفة الكلمة والفرشاة` حول سيرة وفن الفنان الراحل حسين بيكار .
- وقد صدر الكتاب فى سلسلة الكتاب الأول التى يصدرها المجلس الأعلى للثقافة في القاهرة. تقول الفنانة ايناس الهندي دفعني تعلقي بفن بيكار إلي محاولة شرح هذه الأعمال وتحليلها، وحين بدأت في الكتابة لم يكن الغرض منها نقد هذا الفنان الأب، فبدأت في تحليل أعماله، وشرح تكويناته، وكيف أحكمها؟ وكيف يأخذ العين فى رحلة داخل لوحاته يكون فيها هو القائد. والسندباد.
- فناننا هو `حسين أمين إبراهيم بيكار` المعروف بـ `بيكار` ولد في الإسكندرية بحي الأنفوشي وهو فنان متعدد الأنشطة بدءا من الرسم، والكتابة، والرسم الصحفي، والنقد الفني، والعزف، ورسوم الأطفال .
- لقد اهتم بيكار في لوحاته الفنية بالجانب الإنسانى، وأضاف الي هذا الجانب كثيرا من الجماليات والمثل العليا، فإن لوحاته تنبض بإحساس يرفع البشر من مصاف الإنسانية إلي مصاف الملائكية، فهو يخلع عنهم أي نقائص، بل إنه إذا رسم لك بورتريه فإنك تتعجب بعد أن ينتهي وتسأل نفسك وتسأله هل أبدو هكذا ؟ وتطالع وجهك في لوحته كأمير من أحد الأساطير، أو ملك في أبهي صوره، أو حتي ملاك. وتري ايناس الهندي أن الفنان أحمد صبري ترك بصمة واضحة علي بيكار، وقد كانت العلاقة بينهما قوية رغم قسوة أحمد صبري وشدته علي بيكار، فان علاقته بأستاذه كانت فريدة فهو يعرف ان هذه القسوة تنطوي علي رحمه لأن احمد صبري مر بظروف شديدة جعلت منه حادا صارما بادي القسوة الا انها قسوة الاب، لقد كان بالنسبة لبيكار الاستاذ، والاب، والصديق، كما تأثر بيكار بأسلوبه في الفن، الا ان بيكار اضفي عليها مسحة من الرقة والرومانسية في محاولة للوصول الي المثالية، وعندما عمل بالتدريس بعد عودته من المغرب، لم يكن كأستاذه، وانما كان رقيقا حليما مع الطلبه.
- لقد عمل بيكار مدرسا بقنا لمدة ثلاث سنوات بعد تخرجه، لم يكن راضيا عنها، واعتبر انه منفي، وقد كانت من اكثر السنوات تأثيرا فيه كفنان، فالمكان هناك شديد الحرارة يصهرك إلي أن تذوب فيه، فصعيد مصر هو أساسها الذي لم يستطع أحد أن يحتله وينصهر معه في أنساب مختلطة، وإنما بقي كما هو.
- لقد كان لفترة قنا أثر فى تأملات بيكار وعودته إلي أصول الفن المصري القديم، وفهم فلسفته، ومثاليته، وصوفيته، وقد أفاد بيكار من ذلك كله وخرجت خطوطه انسيابية رشيقة مفعمة بالحيوية، ومتأثرة بالخط في التصوير المصري القديم.
- وتشير الفنانة والباحثة ايناس الهندي الى إن اللون عند بيكار عندما يبدأ في التحدث عن النوبة يتلون بألوان التربة الطينية، والأبيض في الأزياء، والأسود في الوجوه والماء والرماديات المشبعة بألوان فاتحة كانت أو غامقة في الجبال والأرض، ولا شئ غير ذلك، لا توجد الوان في هذه الفترة.
- بعد هذه السنوات الثلاث انتقل بيكار الي المغرب، وهكذا انتقل من مجتمع منغلق علي نفسه ممعنا في الجوانية إلي مجتمع منفتح علي العالم ممعنا في الانفتاح فكان الانتقال من النقيض إلي النقيض، مما يحدث صدمة، وكانت مما لا شك فيه لصالح بيكار حيث بدأت الألوان تدخل إلي لوحاته مرة ثانية.
- إنه انتقال مباشر كفيل بإحداث صدمة، قد يقف الفنان أمامها مكتوف الأيدي، لا يستطيع أن ينتج لفترة، إلا أن بيكار سرعان ما تأقلم مع الجو الجديد.. لقد أثرت المغرب بشكل قوي في زلزلة كيان بيكار، ودفعته للخروج من بوتقته وتغيير باليتته، وتغيير نسق حياته كذلك.
- كما نجد في كل حوارات بيكار عن المغرب، وفترة إقامته في تطوان أنه كثيرا ما يقارن بينها وبين قنا، وليس ما بينها وبين القاهرة أو الإسكندرية، فلقد كان لقنا أشد التأثير فيه ومكانتها في قلبه مكانة مصر كلها بقدمها وأصالتها وحضارتها، ولأن الانتقال من الاسكندرية الي القاهرة لم يكن بقوة النقل من القاهرة الي قنا، ومن قنا الي المغرب، فقد وجد نفسه أمام حضارة أندلسية براقة المعالم والمظاهر، حضارة دنيوية ملونة،عكس حضارة المصري القديم الدينية المتصوفة المليئة بالمثاليات والثوابت التي تبقي عبر السنين.
- إن تجربة المغرب كان لابد منها بالنسبة لبيكار رغم أنها جاءت من تصاريف القدر وبدون تخطيط، فانها أحدثت تغيرا في وجدان بيكار وأهلته دون أن يدري لمرحلة أخري لم يكن يحسب لها حسابا، أو يخطط لها من الأساس، لكنه لم يفد من المغرب الاستفادة القصوي، إن ما أخذه منها مجرد فترة تعددت فهيا الألوان وأشرقت فيها الباليتة، ثم ما لبثت أن عادت الباليتة الطينية تحتل مكانها، علي العكس مما حدث `لماتيس` في زيارته الي المغرب فقد عرف كيف يستفيد من هذه الزيارة في تدعيم اتجاهه وبصمته الفنية، وأخذ من الشرق الأدني سخونة الشرق وسحره وجاذبيته، وأفاد من الفن الإسلامي ألوانه وبساطته وتسطيحه، وأثري مدرسة حديثة بحضارة أصيلة.
- بعد ان عاد من المغرب عمل مدرسا بكلية الفنون الجميلة، ولقد ظل بيكار يعلم أجيالا من الطلبة، ولكنه اتخذ منحني آخر وهو الاتجاه الي الصحافة وذلك منذ عام 1945 حين بدأ يرسم أول غلاف له وهو غلاف `الأيام` لطه حسين، وذلك كان بداية لتعارفه مع مصطفي أمين حيث ترك التدريس للتفرغ للصحافة، إلا أننا نستطيع أن نقول انه انتقل من تدريس الفن لطلبة الفنون إلي تدريس تذوق الفن للشعب المصري أجمع من خلال نافذة أسبوعية.
- كل فترة من الفترات التي كان يمر بها بيكار كانت تؤهله لا إراديا إلي الفترة التي تليها، ففترة المغرب كان لها أثرها الكبير في وجدان بيكار لسبب بسيط وهو عدم توافر النموذج الإنساني `الموديل` الذي كان الغرام الأول لبيكار، مما دفعه إلي التخلي عن الواقعية، ومحاولة إخراج ما في نفسه من خواطر إبداعية علي هيئة `فانتازيات`، هذه الفانتازيات أهلته لأن يرسم ما يفكر به وليس ما يراه، مما ساعده فيما بعد في مجال الصحافة أن يؤدي الرسوم التي يطلب منه تخليها.
- لقد كان أول عهد لبيكار برسوم الأغلفة غلاف كتاب `الأيام` توالت بعده الأغلفة لروايات كبار الكتاب، فبعد أن كان غلاف الكتاب عبارة عن اسم الرواية واسم كاتبها فقط، أصبحت تحتوي علي رسوم بسيطة تعبر عن مضمون الرواية أو ما بداخل الكتاب، وفي بعض الأحيان كان الغلاف يقتصر علي تصميم بالألوان أو بلونين حسب متطلبات دار النشر، وتكلفة ذلك، ولكن التغيير في شكل الكتاب كان علي أيدي بيكار، فالتصميم البسيط، والرسومات الراقية التي علي أغلفة الكتب كانت تحول هذه الكتب إلي عمل فني في الداخل من إبداع المؤلف، وعمل فني في الخارج من إبداع بيكار.
- وإذا انتقلنا من رسوم الأغلفة إلي رسوم الأطفال، نجد أن بيكار بدأ يرسم حكايات ألف ليلة وليلة، وحين أصدرت دار المعارف مجلة `سندباد` تولي بيكار الإخراج الفني لها، ولكن هذه المجلة لم تستمر طويلا.
- ولرسوم الأطفال قوانين مثل قوانين اللوحة الفنية من ألوان ودلالاتها بالنسبة للطفل، وحجم العناصر، وحجم الشخصية، ويضع الرسام في اعتباره أيضا المطبعة وفصل الألوان، والناشر وكم لون يريد، والخامات التي بين يديه، وكيف يستفيد من تأثيرها، وهل يستخدم الأحبار أم الألوان، وما إلي ذلك من اعتبارات خاصة بالطباعة والتنفيذ، وكانت كل هذه العناصر متشربة من فن بيكار وقدرته علي تنفيذ عمل فني من أبسط الخامات.. ونحن لسنا بصدد التحدث عن المحسنات البديعية المعروفة للغة التشكيل، فبيكار أستاذ ومعلم ومجرد مشاهدة أعماله عبارة عن درس خصوصي في الفن، وإنما نحن نحاول قراءة لوحاته.
-إن لكل رسام اتجاهه الذي يميزه سواء بالألوان، أو المعالجة، أو الخطوط ..الخ، وكما للكاتب والشاعر من أسلوب كذلك للناقد، وقد كان نقد بيكار يصنف كعمل أدبي، حيث لا تخلوا مقالة نقدية له من المحسنات البديعية التي تزخر بها لغة الضاد، إننا نراه يستغلها في جذب القارئ إليه إنها المقبلات بالنسبة للطعام، وقد كان يقبل عليها القارئ العادي فيستخلص معلومة عن الفن علي طبق شهي من أساليب الحوار حتي وإن كان ذاك القارئ لا يعرف عن الفن شئ، لقد قرب المسافة بين الجمهور وبين الفن، وثقافة تاريخ الفن أصبحت متاحة علي صفحات الجرائد في مقاله الأسبوعي.
- ولتوفر المحسنات البديعية ولاحتفاظ بيكار بأسلوب متفرد في المقال النقدي، فمن الممكن تدريسه في المدارس جنبا إلي جنب مع فن المقالات، لكن بيكار يتجنب النطق بما يسوء أو حتي العيوب التي تكون في الأعمال، انه يكتفي بإظهار الحسن كما في لوحاته- وهذا نوع من أنواع النقد، أن تُوجه إلي نقاط القوة، لكي يركز الفنان عليها وتفتح أمامه المجال لكي يبحث، وذلك في كلمة عن أسلوب فلان، أو المدرسة الفلانية.
- وتقول الفنانة والباحثة ايناس الهندي إنها وجدت هناك تضاربا واختلافا حول كون بيكار ناقدا فنيا ، فالبعض مقتنع به كناقد، والبعض يري أنه لا يستطيع أن يذكر العيوب وذكر العيوب يكون مفيدا في بعض الأحيان لمعرفة نقاط الضعف وتجنبها، وقلة يعتقدون أنه يجامل، لأنه يذكر نقاط القوة فقط وينسج حولها المقال خصوصا عندما يكتب مقالا يهاجم فيه اتجاها أو مدرسة يليه مقال لفنان يتبع هذه المدرسة، فيكون الفنان من نصيبه المدح عكس المدرسة.. وتري ايناس الهندي أن مقالاته تندرج تحت إطار فني أدبي مليئة بالمحسنات البديعية من تشابه، وكناية، واستعارة، وهي مقالات من الممكن تدريسها لأنها تفيد كل من يحاول أن يكتب كلمة.
- ورغم هذا الاختلاف حول بيكار فان الجميع اتفق علي محبة هذا الأب، ولم ينكر له أحد فضله عليه في الفن وتوجيهه، وقد كان بيكار نعم القدوة للجميع في الفن، والتواضع، والأخلاق فألقيت الضوء علي هذه الجوانب في قليل أو كثير، حتي أرسم بورتريهاً لهذا الفنان.
- أن لوحات بيكار علي تعددها واختلافها تشبه طبيعة البحر في تجدده دائما، حتي وان كان لم يعالجه بشكل واضح في أعماله إلا انه ظل يحمل طبيعته داخله، وذلك الأزرق المحبب إلى النفس رابض في خلفية الذاكرة دوما، وأجواء الانفوشي كانت تسكنه، وحلم إنقاذ عروس البحر كان حلمه الأوحد.
أحمد الشهاوى
نصف الدنيا - 8/ 11/ 2009