الخروج من الصومعة
- كان يوم الخميس من كل أسبوع يوم الفزع الأكبر .. فهو اليوم الذى كان يتم فيه تحكيم مشروعاتنا التى نعكف على إنجازها طوال الأسبوع ، ونتسابق على تجويدها تسابقا هستيريا محموما .. وكنا نعرف أن المشروع الذى لاينال درجة النجاح يعنى فصل صاحبه نهائيا من المعهد .. ولا تستطيع أى قوة أن تشفع له بعد ثبوت افتقاره إلى أساس القبول ومبرر الاستمرار فى هذا المعهد الفنى ، وهو الموهبة ، وليست المجاميع ولا قرارات لجان التنسيق .
- وكانت المشروعات تذهب فى نهاية كل أسبوع إلى لجنة التحكيم حاملة معها مخاوفنا ، لكى تفرز كما يفرز البيض الفاسد من البيض السليم ..
- وكنا ننتظر فى لهفة ووجل عودة سكرتير المعهد ليعلن علينا النتيجة ، وليعرف كل منا من هو السعيد الذى سيستمر فى الدراسة ، ومن هو الشقى الذى سيلقى خارج الأسوار .
وكان من بين المحظوظين عدد من الطلبة كنا ننظر إليهم نظرة الأقزام إلى العمالقة ، نظرة كلها إعجاب مقرونة بشئ من الحسد .. وهم قلة من أصحاب الخطوة لدى أساتذتنا الأجانب الذين لا يجاملون ولا يتشيعون ..
- كان زميلنا ` بشارة فرج سعد ` أحد هؤلاء المحظوظين أو العمالقة .. ولقد كان جديرا حقا بهذا التقدير .. فقد كان يحمل بين جنبيه قلبا نقيا نقاء أشعة الشمس ، ونفسا شفيفة شفافية ماء النبع .. وموهبة فذة تعكس هذا الصفاء وهذه الشفافية فى بساطة ورقة فطرية لا يشوبها أى افتعال أو ادعاء أو تعقيد .!!
- وكنا نلتف حول زميلنا فى مراسمنا ونحن نتأمل مبهورين فرشاته وهى تنزلق برفق هامس فوق لوحته ، وينساب منها اللون صافيا شجيا كشدو الكروان فوق كثبان الرمل والمروج الخضراء ...
- وكان السؤال الذى يحيرنا جميعا هو : من أين يأتى ` بشارة ` بهذه الألوان ؟؟ ومن أى معين يغترف هذه ` اللونيات ` ؟ إنها ` لونيات ` رملية السمرة . أثيرية الشفافية ، وهادئة كالصحراء ، عميقة عمق الأفق البعيد .. صامتة صمت الأبدية ، حكيمة حكمة الرهبان، غامضة غموض الأديرة .. وهى رغم كل هذا فيها براءة وسذاجة وبكورة . وفيها نقاء نفس لم تتلوث ، وحيوية بذرة تحمل صفات وراثية تمتد لالاف السنين.. وفيها ` صميمية ` أصيلة تنبت من أعمق أعماق تربتنا السمراء التى خصتها الطبيعة بخصوبة قادرة على إنبات الحضارات بنفس القدرة التى تنبت بها الحبوب والثمار ..
- وفرقتنا الوظائف .. وتشتتنا فى مختلف الاتجاهات .. وذهب كل منا إلى مقبرة نائية ليدفن فيها مواهبه ، وقليل منا من استطاع أن يصمد ويقاوم أعاصير الحياة حتى لا تنطفئ الجذوة الوليدة فى أعماقه ، ومنا من استشهد فى ميدان المقاومة والصمود والحرمان . ومنا من ذاب فى الخضم الكبير الذى كانوا يطلقون عليه مجازا ` وزارة المعارف العمومية ` .
- وكانا زميلنا ` بشارة ` واحدا من الذين كتب عليهم إفناء عمره فى تعليم الصغار .. منح فرشاته إجازة طويلة .. طويلة .. امتدت حتى علاها الصدأ .. وكنا دائما نتساءل .. أين ذهب ` بشارة ` الزميل الموهوب ؟؟ وكنا نلتقى نادرا ببعض أعماله .. كان إنسانا آخر تطحنه الوظيفة ، وتكتم أنفاسه مسئوليات الحياة ..
وأخيرا خرج الفنان من معتقله الوظيفى .. وفى سن التقاعد راح ينفض عن كاهله غبار الأعوام التى قضاها فى بيات شتوى طويل .. وبدأت أوراق الموهبة تتثاءب وتتمطى وتفرد أطرافها تحت دفء شمس الخريف ..
- وطالعنا ` بشارة ` بمعرضه الذى يقيمه فى المركز الثقافى للدبلوماسيين الأجانب .. وفيه تطل على استحياء بعض ملامح من الماضى البعيد من خلال لمسات تحاول أن تزيل الصدأ ليعود إلى الفرشاة نبضها وطلاقتها وبلاغتها .
- ولعل أجمل ما يحتويه معرض الفنان ` بشارة ` لوحات الطبيعة الصامتة التى هى المجال الطبيعى الذى تتجلى فيه قدراته على العطاء .. ففى هذا المجال الهادئ الساكن، يتاح للفنان أن يطيل الحوار مع الأشياء البكماء التى يشكل منها تكويناته بما تحتويه من عناقيد العنب ، والسلال ، والمقاطف ، والزهور ، وقدور الفخار وثمار القرع العسلى ، وطيات الأقمشة .. ويلمس أوتار حقيقتها ، وينقل مكوناتها بهذه اللمسات الواثقة المتأنية الهادئة .. كأنها مفردات ` أرغولية ` عميقة الوقع ، بطيئة الإيقاع ، شديدة الشاعرية رغم واقعيتها المفرطة .
- وعلى الرغم من محاولة الفنان ارتياد الأديرة وإبراز حياة الرهبان فى خلواتهم ، وفى صلواتهم ، وعلى الرغم مما فى هذا المناخ من تقارب شديد بينه وبين طبيعته ، الا أن رهبانيته ليست رهبانية ` دينية ` ولكنها رهبانية تشكيلية تتمثل فى الزهد اللونى الذى يضفيه على عناصره - حتى أكثرهما توهجا واشراقا - اذ ينعكس هذا الزهد على زهور الاقحوان فتتشرب حمرتها الصارخة بشئ من الذبول الخجل ، وتكتسى بغلالة صوفية تبعدها عن واقعها المتوهج ، وتخفف من ماديتها المثيرة ، وتحيلها إلى زهور ` نفسية ` لا زهور ` حسية ` أو مادية ..
- ولايجد المشاهد بداً من عمل مقارنة موضوعية بين لوحات الطبيعة الصامتة وبين اللوحات الاخرى التى تمثل جوانب من الحياة . فيجد الأشياء الصامتة أبلغ حديثا ، وأكثر ديناميكية من المشخصات التى تتعثر فلا تنطق ولا تبين .. ولذلك نقولها مخلصين .. ليت الفنان يقتصد من طاقته التى يهدرها فى مختلف المجالات ويركزها فى إبراز محاسن الطبيعة الصامتة التى تمثل قطاعا لصيقا لحياتنا وبيئتنا .. وقد برع فيها أجدادنا المصريون من قبل .. كما برع فيها فنانو الأراضى الواطنة . وبرز منهم متخصصون كانوا خير من أنطق الزهرة والثمرة والإناء وطيور الصيد .
بقلم : حسين بيكار
من كتاب أفاق الفن التشكيلى