عمر على عمر الفيومى
فنان يستوحى لوحاته من الفنون القبطية القديمة
- استقبلت قاعة كريم فرنسيس الفنية روائع من الفنون القبطية مستوحاة من `بورتريهات وجوه الفيوم` للفنان عمر الفيومى وتناول الفنان بعض الوجوه القبطية مع استحضار متناقضات هذا النوع من الفن وتقديمه فى صورة فنية حيث اعاد جو الرومانسية لهذا النوع من الفن الذى كانت تتجلى فيه هذه الصور الشخصية فى العصور القبطية القديمة.
- ويقدم لنا الفنان هذه اللوحات حيث تمثل استكمالا لمشواره الفنى الذى بدأه بموضوعات عديدة بداية من المقهى الا يقونة ومن الجائز ان نعتبر هذا المعرض استكمالا لاختياره للموضوعات الاسطورية والمفردات التى طالما عبرت عنده بالجمال ويقدم بنفس الاسلوب اشكال من الورد `الزهور` فالوانها تتماذج بصورة حالمة وبشكل مختلف عما نراه عند بعض الفنانين، ولكنه هنا تناول اسلوب لرسم وجوه الفيوم المستوحاه من الفنون القبطية، وقد سمح لى الفنان عمر برؤية بعض الاعمال فى مرحلة ولادتها داخل مرسمة ومن خلال الحوار الفنى الذى دار بيننا اكتشفت انه متحمس لهذا النوع من الفن فقد هضم جيدا فنون الرسوم القبطية ذات التكنيك العالى واستوحى منها هذه اللوحات الرائعة ومن الصعب ان يخلط الجمهور ما بين هذه الاعمال الفنية وبين الايقونات القبطية حيث ان تلك الايقونات لها طريقة فى التحضير، بالنسبة لسطح اللوحات، وايضا الطقوس الذى مارسها الفنان القبطى القديم اثناء رسمه تلك الايقونات، ايضا الالوان الخاصة بالرسوم القبطية والايقونات حيث انها الوان خاصة جدا ولها دلالة دينية فمعرض الفنان ليس له علاقة بالايقونات القبطية من بعيد أو قريب، بل هى فقط ايحاءات مستوحاه من وجوه الفيوم القبطية أو هى حالة من استرجاع الفن والثقافة القبطية القديمة .
- أما فنون الايقونات فلا يعرفها الكثير ولا يعرف تاريخها الا المترددون على الكنائس القبطية أو الذين تعودوا على حضور اداء الطقوس الدينية يالفون الشعائر الخاصة بتسجيل الايقونات ولن تثار دهشتهم حين يرون المؤمنين وهو يصلون امام تلك الايقونات ويقومون بلمسها وايقاد شموع أو حرق البخور امامها . هذا التبجيل موجه الى القديسين المرسومين ويعتبرنها وسيط بين المؤمن والقديس الذى يستطيع أن يساعد المؤمن لحل مشاكله أو الوساطة بينه وبين المسيح، وفن الايقونات هو عبارة عن رسوم جدارية `الافرسك` واصل الكلمة (ظملة بـ) فى اليونانية يعنى صورة مستخدمة فى الاشارة الى صور المسيحية ومعظم الايقونات القديمة يرجع تاريخها الى القرن السابع وما قبله ـ وكانت ترسم على الخشب الا ان معظم الايقونات التى يرجع تاريخها الى قرون احدث فقد كان الخشب أو الكتان يكسى بطبقة من الجص قبل الرسم عليها، وهكذا.
- وفى العصور الاولى للمسحيين، فكان يوحنا الانجيلى لم يوافق على استخدام الايقونات اذ أنه اعتبرها شعائر وثنية، وجاء حجة تحرم استخدام الايقونات وذلك فيما حواه العهد القديم من تحريم الصور .
- وقد شهدت مصر فى القرن الثامن عشر رسم عدد ضخم من الايقونات وقد رسمت باسلوب فنى مختلف عن اسلوب تلك الايقونات التى يرجع تاريخها الى النصف الثانى من نفس القرن .
بقلم : همت صلاح الدين
غواية الورود
- تدفع الطبيعة الفنان إلى الإبداع ، تقدم له مفردات جميلة ، ينظمها ويعيد ترتيبها لوحات من الورود والوجوه فالقطرة الزرقاء عندما تمتزج بالسائل الأصفر تكون لوناً أخضراً .. واحد + واحد = ثلاثة ( منطق الرؤية فى الفن ) الذى يتحقق باستحضار لحظات إستمتاع سابقة فى مواجهة الجمال ، ومفاهيم ذاتية للرؤية .
- قد تعطى لوحات ما إنطباع بأنها مصورة فى الطبيعة ، أو أن الفنان قد استعان فيها بالموديل، غير انها فى الحقيقة استحضار لحالة إبداعية، وتمارين فنية تتم داخل المرسم ( مقصود منها أو من احدى نتائجها ) لوحات جديدة فى موضوع الإبداع .
- لا توجد أشكال معروفة مجردة من المعنى ، والفنان المعاصر لا تغريه الرغبة فى محاكاة الطبيعة فهو لا يرسم الورود كشكل من أشكال الأداء الفنى المعروف ، بل أنها قد تكون محاولة ساخرة لتخليد صور ذهنية، او المزج بين شكل وإنطباع مختلف عنه، فتتحول الأشكال إلى رموز .
- بورتريهات مستوحاة من وجوه الفيوم ، فى مواجهة المشاهد مع ورود شائعة تملأ الحدائق، المزج بينهما فى لوحات قد يوحى بالإسترخاء من فعل استحضار المتناقضات، وقد يوحى برغبة إعادة التماسك بين عالم الإنسان وعالم الطبيعة، حالة من الجهر بالمشاعر الرومانتيكية .
- أعمال عمر الفيومى ميزتها دائما قيمة الموضوع ( موضوع المقهى، الأيقونة ، إزالة الحاجز بين البيت والمدينة وإحتوائهم على كائنات إسطورية ورموز) والآن يقدم مزجاً بين مفردات جديدة فى عالمه التشكيلى (وجوه وورود ) عبرت دائما عن الجمال ، يقدمها بنفس إسلوبه السابق فى التشكيل، ويؤكد بها لنفسه على إتجاه جمالى يناصره أو رؤية أخرى سائدة يكافحها .
بقلم : مصطفى خليل
أشخاص من أجواء المقهى والفن المصرى القديم معرض الفنان عمر الفيومى قدم إيقاع الحياة اليومية فى مصر
- ستون لوحة متنوعة فى التصوير الزيتى تجسد علاقة الانسان بالمكان عرضها الفنان عمر الفيومى فى معرضه الذى أقيم حديثاً بمجمع الفنون بالقاهرة .
- فى اللوحات يبرز اهتمام الفنان بالحوار اللونى كمصدر للطاقة والحركة وتمثل تجليات المكان فى الوقت نفسه ويكاد المقهى الشعبى يكون تلخيصاً جذرياً لروح المكان كما يتعامل معه الفنان، ففيه يدرس ويتأمل ملامح البشر وطرائق تعاملهم مع الحياة ويدمج ذلك بألوان الباليه قبل شروعه فى عمل جديد وتتنوع مفردات المكان مع إيقاع الحياة اليومية المصرية، وخصوصاً فى القاهرة المدينة التى يحبها ويعشقها، ويبرز ذلك من خلال حضور فنى لافت ومؤثر بإستحداثه درجات لونية مختلفة وتمكنه من استخدام الخطوط داعماً به كل رؤاه، دافعا لمساحاته الملونة لكى تحلق معها فى فضاء فلسفى. ان الخطوط التلقائية للفنان المليئة بالخلط والفوضى تعد أكثر تمييزاً للشخصية من الاشكال المتعمدة المقصودة. وامام اللون النقى والتكوين الصرحى الهادىء تشعر بالرهبة والصفاء لتصل مع اللوحة لدرجة من التوحد مع المضمون فهناك سلسلة من الانتقالات البصرية تجعلك بين الحين والآخر تحاول التمهل حتى تلتقط أنفاسك من كم الجرعة الصافية بداخلك والتدرج بين ما هو مرئى وواقعى كما تشع به اللوحات، فالفنان الذى لا يرغب فى تمثيل الانسان كما هو ولكن كما يجب ان يكون، يحملك مسؤولية العمل كما تحملها هو ويعتبرك مشاركاً فى الفعل .
- وعمر الفيومى صاحب رؤية لمجتمع المقهى والشارع وهو قادر على استلهام مفردات كل منها لكى يؤسس مشروعه الفنى. ولكنه أيضاً صاحب نظام خاص فى ترتيب هذه المفردات فى مقدمة اللوحة وقد تنتقل فى خلفية اللوحة محيطة بالموضوع الرئيسى ممثلة ألحاناً مصاحبة للحن الأساسى وتؤكد عليه وتحقق وجوده . أما عن الألوان فهو يتعامل معها بحرية، ولكن ضمن اطار التقنية التى اتخذها لنفسه منذ كان طالباً فى كلية الفنون الجميلة (تخرج فيها عام 1981) حيث يستخدم الفرشاة بقوة وفى ضربات سريعة واثقة فالعمل عنده دفعه شعورية مجردة وكل ما عليه هو أن يحاول تحقيقها ونقلها من اللاشعور إلى الواقع المرئى ورغم قدرة الفنان على الفعل بالتلوين والخطوط إلا أننا نلمح فيه طفلا بريئا يرى ويندهش وكأنه يرفض التعامل مع محترفى النقد والأكاديميين، فما يشغله هو الانسان العادى والدليل على ذلك ما ذكره الفنان من أن رواد معرضه أو بعضهم أصحاب مهن بسيطة .
- وهذا لا يعنى هروبه من القواعد والقيم التشكيلية (سمسار عقارات - تاجر عاديات - أصدقاء المقهى ) التى درسها وتعلمها على يد أساتذته ومنهم الراحل الكبير حامد ندا، ولكنه رفض أن يمتثل لكل هذا فى معظم أعماله معتزا بأسلوبه الخاص.
- ونستخلص مما سبق أن عمر الفيومى ذلك المقتحم الجسور ما زال يعشق رشاقة الخطوط فى الفن المصرى القديم ولم يستطع التخلى عنها ويعتبرها البناء الهيكلى للعمل وإن داعبها دراميا ببعض البقع اللونية الزاهية . لقد استطاع أن يكثف لنا عالماً نعيشه بشكل مخالف تتبدى فيه البساطة والعمق وعشق الفن فى الوقت نفسه .
بقلم : محمد الشربينى
الشرق الأوسط
البورتريه ... بطل معرض عمر الفيومى
- بقاعة كريم فرنسيس بالزمالك أقيم معرض الفنان عمر الفيومى الذى يضم 30 لوحة من أعماله الفنية وذكرياته عن الفيوم مستخدما فيها ألوان الزيت على ورق الكرتون والقماش تأثر فى أعماله بشوارع القاهرة الناطقة الحية والبيوت المصرية القديمة كما يصور المعرض وجوه الفيوم حيث كان البورتريه هو البطل بهذا المعرض وقد مر الفنان عمر الفيومى بمراحل متعددة فى فن البورتريه منذ تخرجه سنة 1981وهو عاشق لفن التصوير `الرسم`ومولع بالألوان ويتأثر بالجمال ولا ينتمى فى أعماله الى مدرسة فنية معينة ولكنه يميل إلى المدرسة التعبيرية `الواقعية` كما لا يفضل لونا على اخر فهى بالنسبة له كالآلات الموسيقية يستطيع أن يعزف عليها جميعاً وقد استطاع الفنان عمر الفيومى أن يقدم الوجه بأكثر من تعبير بألوان بسيطة تميز أعماله عن غيره من الفنانين الذين يصورون البورتريه بشكل تقليدى فهو فنان يبرز فى أسلوبه التعبير والاحساس وليس الجمال فقط كما انه يعيش دائما لحظة الفرح لانه بطبعه متفائل ويهتم جدا بتسجيل حركة الانسان فى ملامحه ولذلك يركز فى أعماله على متابعة الملامح فى كل لفتة ولمحة ويرى الفنان عمر الفيومى انه لا يوجد تكرار فى البورتريه فكل لوحة تعبر عن شخصية مختلفة وكل أعماله يؤكد فيها دقة الحس والذوق التعبيرى المتميز .
بقلم : رجاء ليله
صور الحياة اليومية فى معرض الفيومى
- يعترف الفنان التشكيلى عمر الفيومى بأن للمتلقى العادى البسيط حقوقا عليه أبرزها عدم تقديم أعمال منفصلة عن واقعه وقضاياه واهتماماته .
- ويرى أن دعاة الفن النخبوى أدوا إلى اتساع الفجوة بين الفن التشكيلى والجماهير العريضة، وهو ما يؤكد على رفضه فى كل معارضه وآخرها معرضه المقام حاليا بقاعة كريم فرنسيس بالزمالك فى القاهرة الذى يضم 33 لوحة من أحدث إبداعاته .
- يقول الفيومى لـ `الأهرام العربى ` إن حرصه على توصيل رسالته إلى الناس العاديين لا يعنى خيانته للحداثة الفنية ومعطياتها، لكن الظروف التى تمر بها مصر والامة العربية الآن لا تحتمل أية تغريب فنى . ويشير إلى أن لوحات المعرض تتضمن رصد الطقوس اليومية للمواطنين فى الأحياء الشعبية والمناطق المهمشة ، والتقاط التفاصيل اليومية الدقيقة التى يراها البعض غير جديرة بالاهتمام من فرط عاديتها ، لكنه حريص على كشف جمالها وخصوصيتها الفنية .
- ويؤكد أنه يطرح فى هذا المعرض فكرة فنية جريئة استلهمها من الفترة التى قضاها للدراسة فى روسيا ولا يمارسها الفنانون العرب او المصريون إلا نادرا، وهى عمل سيناريوهات متعددة للموضوع الفنى الواحد، حيث يقدم البيت المصرى بسلوكياته ومفارقاته، وتباين العلاقة بين الأزواج فيه بتنويعات متعددة وأحجام فنية مختلفة، بحيث يرى المتلقى الحدث الواحد فى كل مرة مختلفا من حيث اللون والشكل والحجم وزاوية الرؤية ، وبهذا تكون الرؤية أكثر شمولا ومن زوايا متعددة .
- ويرفض الفيومى تسمية لوحاته باعتبار أن التسمية تخدش بساطتها وحميمية تواصلها مع المتلقى . ويعتبر المعرض نقلة فنية مهمة من مرحلة وجوه الفيوم والمساحات الطباشيرية على مستوى الألوان ، حيث خرج من خلاله بعيدا عن طريقة تلوين الوجوه نفسها إلى حالة من الحرية اللونية .
- ويرجع هذه النقلة إلى تأثره بإقامته خلال الفترة الماضية فى تونس، حيث البيئة المحيطة مختلفة، والأماكن والوجوه جديدة وإن استمر حريصا على طرح موتيفاته المصرية خصوصا وجوه المقهى الشعبى بطقوسها وتنويعاتها الخاصة ويدعو عمر الفيومى إلى التوسع فى عرض الأعمال التشكيلية فى القاعات المفتوحة على الشوارع لجذب المواطن العادى إلى الفن التشكيلى، حيث اكتشف من خلال تجاربه أن المواطن العربى عامه والمصرى خصوصا لديه هواجس مقلقه من القاعات المغلقة والفخمة مما أدى إلى اغتراب الحركة التشكيلية فى الوطن العربى .
بقلم : السيد رشاد
عمر الفيومى وروح المكان
- ذلك العاشق البشوش المولع بالألوان والبهجة .. يصادق الناس ويعشق مصريتهم ويألفهم ويراهم ببصيرة بهية، يتغنى بهم كما هم دون تزييف ... دون أقنعة يتوحد بجهدهم النبيل يمتزج بفرحتهم النقية .. يرسمهم على المقاهي في المدينة الحزينة .. في شرفات البيوت، يتطلع بشوق لذلك الفنجان في أيدي الجدات .. يرهف لنبضات القلوب الشجية وهي تحكي عن المجهول القادم وتبشر بفرح قريب وربما سكة سفر، يستحضر روح المكان ويستجمع خلاصة الروح المصرية العبقرية ويكشف سر التآلف البديع و الرحمة والمروءة والصدق الدافئ، تتكشف له روح المكان في المقهى حيث يتحلق الناس حول شجونهم .. آلامهم .. مستقبلهم.. يتلقى تلك البركة السارية في العروق ، يرسم المقاهى منذ عام 1984 يسكن هذا العالم الذي تتجمع فيه وتتكثف رؤى وعلامات وعلاقات وتنويرات ثرية، حين سألته كم مرة رسمت المقهى في حياتك ؟ قال من كثرتها لا أذكر، وها هو يرسم لنا مقهى الحرية في معرضه الذي أقيم أخيراً بقاعة مشربية والذي شارك فيه مع الفنانين رضا عبد الرحمن وحسان على احمد ومعتز الأمام .
- نرى في أعمال عمر الفيومي ذلك الولع بالمكان الذي تحول بين يديه إلى أيقونة محملة بالعديد من العلامات والرموز والدلالات، فهو يحشد شخصياته ويتشرب روحها ثم يطرحها من جديد حيث عالمه البديع الملون الصاخب الساكن في غموض، ففي لوحته المسماة :`في مقهى الحرية ` نراه وقد بنى مشهداً لجلسة رجلين من أهل المدينة ونراه وقد مزج بين روح البيت المصري وروح مقهى الحرية فهو يصنع هذا المزيج منذ زمن .. تلك الألفة وذلك الأمان : يلوذ المرء حيث الحضن والاحتواء .. يشتبك و يعزف كيانه في ماعون النحن المنصهرة المتوحدة في مزيج جديد، ذلك السعي نحو الآخر، ذلك التواصل الحميم الذي ينشد رأب صدع الخوف القديم، يلملم عمر الفيومي أنماطاً مصرية متنوعة يسودها التفوق الذكوري ويهيمن على مكوناتها، ككل مكونات الحياة من حولنا، وكأنه يصبغ بألوانه وأطيافه البهيجة تلك المرآة المكرسة المكثفة التي تحوي مصر ... مصر المدينة ... مصر القرية في الصعيد .. حيث السد وحيث تقبع الجنادل وتغوص في قلب النيل .. مصر الحقل في ربوع الدلتا ، مصر المصب والبحيرات والصيادين في الشمال ، مصر العجمي والقباري وسيدي أبو العباس المرسي.
- وتتراءى لنا أطياف من العقيدة المصرية فنشهد ملائكةً أولي أجنحة يحلقون حول المكان أو يجلسون على مقاعد المقهى يشاركوننا وصالنا ويبدو مارجرجس ممسكاً حربته عازماً على النصر في وجه الشر الغشوم ` مقهى الحرية ` حيث المفارقة، الصراع، الحوار ، تتجلى في لوحات عمر الفيومي التي نفذها بالألوان الزيتية على القماش ، تلك المفارقة حيث التعبير التشكيلي الوامض، يرتكز أساساً على تحقيق العلاقة الذهنية بين العناصر التشكيلية التي يركبها الفيومي وينسج بها عالمه والتي تصدر أساساً عن ذهن متوقد، ووعي حاد بالذات وما حولها . إن المفارقة التي يصنعها بحذق عمر الفيومي في أيقونته المكانية تفجر تداعيات كثيفة .. تعد خليطاً من فن الهجاء وفن السخرية وفن الجروتسك ` الغريب المهوش المضحك `وفن العبث والفن الضاحك . والنقد الاجتماعي والسياسي . يظهر الفيومي ذلك الشجن الساكن في ذرات الهواء تتنفسه جدران المقهى ، يخلق مستويين للمعنى ، يشحذ إدراكنا للحقائق يكرس التناقض بينها، هو تارة يرسم التظاهر والقناع والزيف ، وتارة يرسم كياناته المصرية منعكسة على زجاج المقهى ، تدهشنا رؤيته للعالم من قلب ينبوع ملون بالأزرق البحري المبهج والأحمر الدموي الحي ، وهو في هذه اللوحة يقف على عتبات ذلك العالم المفارق .. ذلك الما بين .. ذلك الحيز الحميم الزاهد في أي وعود بالبقاء ، يرسم الحركة واللون والظلال مغموسة في أزرق داكن وتلوح في أفق زجاجي عاكس براق ، تغيم فيه الرؤى وتتداخل وقد تمتزج في عقله وتتفرق حين يوشي بها سطح التوال ، ذلك العالم المرآوي الذي يتجلى بازدواجيته المريبة المضللة، ذلك الحزن النبيل الذي يذكرنا بشكسبير وهو يصف المرآة في هاملت حيث كل شيء ليس هو .. حيث كل الكائنات تكذب .. حيث تتراقص المعاني متلاعبة باليقين .
- تلك الوجوه المتسائلة المتأملة الغائمة في أحيان كثيرة ، تلك المسحة الفيومية - نسبة إلى وجوه الفيوم - كما أطلق الفنان عليها ، يلتقط اللحظات وهي تنفلت وتسري صوب العدم ، يصنع وحدة بنائية تشكيلية رصينة مستخدماً معمار المقهى الداخلي والتلاعب بنغمات المنظور ونقاط الزوال الباهرة التي يتوصل إليها ، ويصنع إيقاعاً نشطاً حين تتجدد لديه مراكز الثقل والكتلة وتتعدد النقاط المحورية حيث يسعى تارة لتأكيد التضاد أو تأكيد الانفصال المكاني والشعوري في حيز المقهى وتارة لتأكيد الاتجاه صوب مواضع الوميض والنبض الهادر .
-فينجح الفيومي في خلق اتزان رشيق يرف على تخوم اللوحة ويلفها كلها ممسكاً مقود الكتل البشرية والكتل الخشبية لأثاث المقهى والأعمدة الداخلية ذات المرايا والتي تشتهر بها مقهى الحرية ، يهبط ويسمو ويحلق ويستقر ويعلو وينساب صانعاً إيقاعاً بصرياً ينشأ من التوزيع الكتلي والتنوع بين الليونة والحدة وبين النعومة والخشونة في ملامس السطوح والخامات وبين ترديد القيم اللونية بإتقان مدهش ، تلك الحركة الدائبة الجموح التي تتولد من حركة العيون صعوداً مع التكوين الداخلي لبنية المقهى وإضاءة الألوان وصخب الدخان والهمهمات والضحكات والآهات وهبوطاً نحو الأجساد البشرية الراسخة في ثبات وسكون . واختيار الفنان عمر الفيومي لبنية المكان ينشئ تماسكاً قوياً في لوحاته حيث السهولة والمرونة التي تتم بها عملية تنظيم وتشكيل مسطح اللوحة لتكوين البيئة الخاصة المميزة لأعماله . فالقدرة على تنظيم ما يراه المرء إلى وحدات قليلة متماسكة قابلة للتحديد هي أمر مدهش هنا ويمنح الفنان صدارة المشهد للعنصر البشري مهتماً بتفصيلات عديدة توطد صدق الرؤية وتشحذ التلقي لدى المشاهد لعناصره تتحرك وتتنامى فى ضوء المشهد الكلي الكثيف . وحين يعمد الفيومي إلى تركيب مفرداته وعناصره : البشر .. ملابسهم .. تلفتاتهم .. حركات أيديهم .. قنينات الشراب .. المرايا .. وحدات الإضاءة .. شجون الليل .. واحتقان الصمت في كبد النهار ، ذلك الميل إلى التعقيد وإضفاء طبقاته المعرفية وأعماق متتالية على بدن لوحته فهو ينخرط في ترحالٍ خاشع نحو حقيقته نحو رسالته ...نحو معناه و يبدأ أحد المكونات الأساسية فى عمليات الانشغال أو الاندماج التي حدثنا عنها علماء النفس ، حيث تولد مع الانتقاء وتتحقق به وتتجسد مع البوح البهي يصدح ألواناً وتصاوير.
- فلوحات عمر الفيومي تتلقاك بقابليتها اليسيرة المحببة للقراءة ، وتأخذك إلى حيث بلاغة التشكيل وامتلاك ناصية التكثيف والتعبير ، وتحرضك على شحذ وعيك في مجابهة محتواها المراوغ البديع ، لا يبث الفيومي خفاءً أو غموضاً بل ينبض مفردات عالمه القاهري الدوار ، يبسط لنا كل المكونات سارية في طوق قدرها اليومي وينطلق خلف ستار الوضوح الساطع ألف ألف معنى من العمق .. تتأمل ، تسبر غور ذلك المقهى الخلاب ..ياااااااا الله ماذا يقصد الفيومي !!
بقلم : هبة عزت الهوارى
جريدة نهضة مصر - 31- 5 - 2012
العودة إلى ` مقهى ` عمر الفيومى
- مقهى الحرية وساعة العصارى وغيرهما من أعمال وإبداعات الفنان التشكيلى عمر الفيومى يواصل فيها تصوير المقاهى المصرية التى تجمع فئات من المواطنين وكأنها صالون ثقافى وليس فقط لقضاء وقت الفراغ او ممارسة الالعاب المسلية او تناول المشروبات الساخنة والباردة وتدخين الشيشة، فهى تمثل إيقاع الحياة اليومية فى مصر وملامح البشر وعاداتهم .
- ويقدم الفنان اعمالا لم يسبق عرضها منها ثلاثة بورتريهات رسمها عام 1988، وتمثل مرحلة مهمة من رحلته الإبداعية خلال إقامتة فى روسيا ودراستة بأكاديمية الفنون بسان بطرسبورج وفى هذا المعرض يعود الفنان عمر الفيومى إلى بدايته الفنية مع تصوير المقهى الذى كان يعتبربمثابة أيقونة لاعماله التى اختار لها موضوعات أسطورية تبعها فيما بعد برسم وجوه الفيوم المستوحاة من الفنون القبطية التى تحمس لها بعد أن ` هضم جيدا فنون الرسوم القبطية ذات التكنيك العالى ` وفى وجوه البشر التى يرسمها الفيومى نجده يعبر عن ملامحهم التى يتأملها وطرق تعاملهم مع الحياة فى إطار فلسفى . وعمر الفيومى صاحب رؤية لمجتمع المقهى والشارع وهو قادر على استلهام مفردات كل منها لكى يؤسس مشروعه الفنى . لكنه أيضا صاحب نظام خاص فى ترتيب هذه المفردات فى مقدمة اللوحة وقد تنتقل فى خلفية اللوحة محيطة بالموضوع الرئيسى ممثلة ألحانا مصاحبة للحن الأساسى وتؤكد علية وتحقق وجودة والفنان يتعامل مع الألوان بحرية ، لكن ضمن إطار التقنية التى اتخذها لنفسة منذ كان طالبا فى كلية الفنون الجميلة ( تخرج فيها عام 1981 ) حيث يستخدم الفرشاة بقوة وفى ضربات سريعة واثقة فالعمل عنده دفعة شعورية مجردة وكل ماعلية هو أن يحاول تحقيقها ونقلها من اللاشعور إلى الواقع المرئى ورغم قدرة الفنان على الفعل بالتلوين والخطوط الإ أننا نلمح فية طفلا بريئا يرى ويندهش وكأنه يرفض التعامل مع محترفى النقد والأكاديميين ، فما يشغله هو الانسان العادى والدليل على ذلك ما ذكره الفنان من رواد معرضة أو بعضهم أصحاب مهن بسيطة .
- وهذا لايعنى هروبه من القواعد والقيم التشكيلية ( سمسار عقارات ـ تاجر عاديات ـ أصدقاء المقهى ) التى درسها وتعلمها على يد أساتذة ومنهم الراحل الكبير حامد ندا ولكنه رفض أن يمتثل لكل هذا فى معظم أعماله معتزاً باسلوبة الخاص .ونستخلص مما سبق أن عمر الفيومى ذلك المقتحم الجسور ما زال يعشق رشاقة الخطوط فى الفن المصرى القديم ولم يستطع التخلى عنها ويعتبرها البناء الهيكل للعمل .وان داعبها دراميا ببعض البقع اللونية الزاهية ، لقد استطاع ان يكثف لنا عالما نعيشة بشكل مخالف تتبدى فية البساطة والعمق وعشق الفن فى الوقت نفسة .
- وقد مر الفنان عمر الفيومى بمراحل متعددة فى فن البورترية منذ تخرجة سنة 1981 وهو عاشق لفن التصوير ` الرسم ` ومولع بالالوان ويتأثر بالجمال ولا ينتمى فى أعماله إلى مدرسة فنية معينة ولكنه يميل الى المدرسة التعبيرية الواقعية كما لايفضل لونا على اخر فهى بالنسبة له كالآلات الموسيقية يستطيع أن يعزف عليها جميعا وقد استطاع الفنان عمر الفيومى أن يقدم الوجه بأكثر من تعبير بألوان بسيطة تميز أعماله عن غيره من الفنانين الذين يصورون البورترية بشكل تقليدى فهو فنان يبرز فى اسلوبه التعبير والاحساس وليس الجمال فقط كما انه يعيش دائما لحظة الفرح لأنه بطبعه متفائل ويهتم جدا بتسجيل حركة الانسان فى ملامحة ولذلك يركز فى أعماله على متابعة الملامح فى كل لفتة ولمحة ويرى الفنان عمر الفيومى انه لايوجد تكرار فى البورترية فكل لوحة تعبر عن شخصية مختلفة وكل أعماله يؤكد فيها دقة الحس والذوق التعبيرى المتميز .
ونرى فى أعمال عمر الفيومى ذلك الولع بالمكان الذى تحول بين يديه الى آيقونة محملة بالعديد من العلامات والرموز والدلالات فهو يحشد شخصياته ويتشرب روحها ثم يطرحها من جديد حيث عالمه البديع الملون الصاخب الساكن فى غموض .
بقلم : نجوى العشرى
القاهرة - 2014
عمر الفيومى المفتون بالإنسان المصرى وحكاياته
- لكل من اسمه نصيب، ولعل أحد أكثر الأمور التى ارتبطت بالفنان عمر الفيومى هو رسمه للبورتريهات بأسلوبه الخاص الذى يجمع بين روح وجوه الفيوم وبين ألوانه وتقنياته المتميزة، وقد ارتبط كثير من أعماله بوجوه الفيوم التى فتنته منذ فترة بعيدة، حيث كان يذهب أثناء دراسته بكلية الفنون الجميلة إلى المتحف ليتأملها وقد ظل افتتانه بها يحتله سنوات طويلة قبل أن يقدم مجموعة كبيرة منها بأسلوبه الخاص فى معرض أقيم عام 1997، إلا أن ذلك لم يكن كافيا فقد ظل تأثيرها واضحا فى كثير من أعماله حتى فى معرض` وجوه الفيومى` الذى استضافه جاليرى مصر مؤخرا ، والذى قدم الفنان من خلاله مجموعة جديدة من البورتريهات لأصدقائه الشخصيين باستخدام خامة الزيت على التوال .
- ورغم دراسته للتصوير الجدارى، حيث تخرج الفيومى من كلية الفنون الجميلة قسم التصوير الجدارى عام 1981، إلا أن الإنسان كان دائما هو موضوعه الأثير .. حيث يقول الفنان : يثيرنى الإنسان بصفة عامة وليس البورتريه وحده ، فقلما تجد عملا لى دون وجود عنصر بشرى.
- امتدت تلك الحالة الإنسانية فى تجربة عمر الفيومى الفنية وكان لها تجليات مختلفة أهمها تجربة المقهى بحالاته المتعددة التى قدمها الفيومى عدة مرات، حيث يرى الفنان المقهى جزءا من الحياة المصرية، بل هو مجتمع قائم بذاته تنشأ من خلاله علاقات متعددة، وقد كان المقهى أيضا ملهما لفكرة أخرى من الأفكار التى قدمها الفيومى فى رحلته الفنية عن القديس مار جرجس، والتى كان السبب فيها جملة قالها صديقه الفنان وليم اسحق على المقهى فى حوار عابر، فبينما يحاول وليم الهروب من حوار لايريد الرد عليه، علل صمته بأنه رأى مارجرجس مارا بهم ورمى عليهم السلام. يقول الفيومى: كانت تلك الجملة سببا فى أن أبدأ البحث عن مارجرجس الذى يمثل فكرة المخلص الذى يساعد المظلومين وهى فكرة لها انعكاسات مختلفة فى الأديان، وقد أعجبتنى الفكرة وقدمت معرضا كاملاً عن مار جرجس .. ثم بعد ذلك قدم الفيومى فكرة أخرى مبتكرة عن الملائكة والمقهى.
-المتأمل فى أعمال الفنان عمر الفيومى التى قدمها فى معرضه الأخير ربما يلمس عددا من العناصر البارزة وأهمها استخدامه للزهور، حيث للورد شخصية بارزة فى لوحاته تتضح حتى فى زخارف الجدران، يقول الفيومى : من منا لايحب الورد، إلا أن سر عشقه للورد يعود لتفاصيل طفولته، فالجد` عمر الفيومى` الذى سمى باسمه الحفيد كان يمتلك ثلاثة محال كبرى لبيع الورد اسمها ` فلورا دورا `، وكان أيضا مسئولا عن تنسيق حدائق قصر عابدين .. ولذا نشأ الفنان فى طفولته محاطا بالورد عاشقا له.
- وربما كان لطفولة الفيومى تأثير كبير عليه حيث نشأ فى منطقة بيت السرايات وكان أيضا لبيت جده أثر كبير فى وجدانه الفنى يتضح فى عشقه للبيوت القديمة وربما أيضا لاستخدامه لمزهريات الورد والكراسى المذهبة فى أعماله، والكرسى بالنسبة للفيومى أيضا حالة ملهمة اختبرها بمختلف الأشكال ومنها كراسى المقهى سواء الشاغرة أو الممتلئة والكراسى المذهبة التى رسم عليها بأكثر من طريقة فى معرضه الأخير .
- كذلك كان للفيومى تجربة أخرى انطبعت فى وجدانه منذ الطفولة وقدمها فى عدد كبير من لوحاته وهى تجربة ستات البيوت التى قدمها فى معرضه` كلام حريم `، حيث تلك اللمة النسائية على أسطح المنازل القديمة وتبادل أكواب الشاى وقت العصارى وغيرها من الحكايات التى كادت أن تختفى اليوم .
- قدم الفيومى فى معرضه الأخير لوحتين تعكسان حالة` ستات البيوت ` بالأبيض والأسود بخامة الزيت على الورق ، وقد تنوعت الأعمال التى قدمها الفيومى فبينما خرج معظمها بورتريهات بخامة الزيت على التوال قدم أربعة أعمال على خامة الورق، إضافة إلى عملين لوجوه الفيوم بخامة عجينة الورق على تبن . إلى جانب عملين بمساحات كبيرة تم تعليقها بطريقة تشبه المعلقات أوالجداريات.
- لكل بورتريه من البورتريهات التى قدمها الفيومى فى هذا المعرض حكاية، إلا أن العامل الأساسى الذى اعتمد فيه الفيومى على اختياراته هى الوجوه المعبرة ، وربما كانت واحدة من الحكايات التى ترتبط ارتباطا وثيقا بالناس هى حكاية شيماء فتاة البرلس التى ساعدت الفيومى، خلال اشتراكه فى تجربة الرسم على الحوائط والمراكب بالبرلس وهى المبادرة التى قام بها الفنان عبد الوهاب عبد المحسن لتغيير حياة البرلس بالفن .. وهناك التقى الفيومى بشيماء التى ساعدته فى دهان المركب قبل أن يقوم بالرسم عليها ، والتقط لها صورة وأخبرها أنه سيقوم برسمها وقد سعدت للغاية حين أرسل لها صورة العمل على الفيس بوك .
- إن ارتباط الفيومى بالإنسان واضح فى أعماله وكذلك فى نوعية الفن الذى يقدمه، حيث يقول أحب أن يكون الفن قريب للناس ، فن يمكن للإنسان البسيط أن يتذوقه ويحبه .
- رغم دراسته للفن بروسيا وإقامته بها سبع سنوات إلا أن ذلك لم يؤثر على مصرية أعماله التى تبدو وكأنها قادمة من عمق الروح المصرية ، وحين سألته عن مدى تأثره فنيا بتجربة روسيا أخبرنى : عندما سافرت لروسيا أصبحت أكثر ميلا للواقعية .. استفدت من أشياء كثيرة متعلقة باتساع الرؤية والمدارك والتعرف على الكثير من الأفكار .
- الفنان عمر الفيومى مواليد عام 1957، وعقب تخرجه من كلية الفنون الجميلة سافر إلى روسيا حيث درس وتخرج فى أكاديمية الفنون بسانت بطرسبرج عام 1991، واشترك فى عدة معارض جماعية وفردية داخل مصر وخارجها .. وله مقتنيات بمتحف الفن الحديث بالقاهرة وبوزارة الثقافة، ومقتنيات لدى أفراد داخل مصر وخارجه .
بقلم : منى عبد الكريم
أخبار الأدب 29-1-2017
ريشة مغموسة فى نور مصر وروح الفن القبطى
- عمر الفيومى فنان له عالم شديد الخصوصية .. ينتمى لمصر : الروح والصورة والحضارة والتاريخ وأيضا مصر اللحظة التى نعيشها .. ففضاءاته التصويرية تنساب بكل هذا مع لمسة الحداثة .. وهو محب للبشر فى كل مكان وذلك لرحابة شخصيته الإنسانية التى تتسع فتحتوى كل ما حوله دونما تصنيف .
- كان لقاء الخيال بالفنان عمر الفيومى بمرسمه بشارع محمد على من ناحية القلعة ، ذلك الشارع الذى سمى على اسم مؤسس مصر الحديثة وامتلا به الفيومى .. امتلا بالروح الشعبية هناك.. وهو شارع قام بتخطيطه المهندس الفرنسى ` هوسمان ` الذى خطط شارع ريفولى فى باريس وعلى نفس الطراز .. ومن معالمه الرئيسه مسجد قيسون وحمام بشتك وسوق السلاح.
- أسرة فنية
- يقول عمر الفيومى : بدأت الرسم قبل أن أعرف الكتابة .. كان الرسم فى الطفولة رغبة قوية سيطرت على كل كيانى .. وليس هذا غريباً .. فأنا أنتمى لأسرة فنية .. ابن عمتى الشهيد عمر البكرى .. شهيد حرب الاستنزاف عام ` 1969 ` كان خريج الفنون المسرحية قسم الديكور ، وكان موهوباً فى الرسم .. وكان أخوه يرسم .. وأبى يرسم .. وابن عمى يرسم .. ونحن أحفاد الفراعنة الذين كتبوا تاريخهم بالرسم على الجدران .. ولكن عندما فكرت فى الالتحاق بالفنون الجميلة وجدت من والدى عدم ارتياح .. كان يتساءل بينه وبين نفسه وماذا عن مستقبلى .. ومع إصرارى وتشجيع من حولى وافق فى النهاية.
- وفى الفنون الجميلة أحببت حامد ندا .. أحببت فيه إنساناً مثقفاً وفناناً .. وأثار دهشتى عالمه الذى ينتمى للسيريالية الشعبية وامتزاجه بالفن البدائى .. حامد ندا كان أكثر تأثيرا فى نفسى .. وقد درس لى أيضاً عبد العزيز درويش رغم أننى لم ألتق به سوى مرتين فقط ولفترة محدودة أو وقت قصير .. وعندما رأى أعمالى فرح بى بشكل كبير وأخذ يحدثنى عن المعنى الحقيقى للإبداع .. قال :` إنت بتدور وبتحاول .. وأنصحك بأن ترى الجريكو ` .. وبالفعل دابت على أعماله وتأملتها .
- وعندما سافرت إلى الأقصر عام 1983 بعد تخرجى بعامين فى قسم التصوير وقضيت هناك شهرا فى مرسم .. اكتشفت نفسى مثلما اكتشفت الإضاءة والشمس والحياة والناس وأسطورة الأجداد هناك فى العمارة والتصوير .. على بعد 670 كيلو متراً من القاهرة حيث تقع عاصمة مصر القديمة .. مدينة السحر والجمال وكنوز الآثار .. تلك المدينة التاريخية التى أثرت فى وجدان العديد من فنانينا.
- وما أشبهها بالنداهة .. تلك التى نادت من قبل الرائد محمد ناجى فشد الرحال إليها مسافراً زاده الخيال عام 1911.. وأقام هناك ببيت الشيخ عبد الرسول أشهر شيوخ الجبل وحامل أسرار آثار مصر بقرية القرنة بالبر الغربى.
- وكان للأقصر الفضل فى بداية تخلصى من الألوان الكئيبة المظلمة والخروج إلى الألوان المشعة المضيئة .. بمعنى آخر الخروج إلى نور الحياة المصرية .
- أكاديمية ريبين
- وعمر الفيومى سافر إلى روسيا للدراسة بأكاديمية إيليا ريبين وهى واحدة من أكبر الأكاديميات هناك.. قلنا له : ماذا عن صاحبها والذى سميت باسمه وماذا عن الدراسة هناك؟
- إيليا ريبين فنان روسى ` 1884- 1930 ` يوضع اسمه جنباً إلى جنب مع تولستوى ودستويفسكى وغوركى وتشايكوفيسكى وريمسكى كورساكوف الذين كانت أعمالهم انعكاساً لروح ومزاج الشعب الروسى وتعبيراً عن همومه .. أبرز فى لوحاته الجمال الروحانى من خلال اختياره لأبطاله من الشخصيات الشعبية بدلاً من النبلاء.
- ويعد أحد أعظم رسامى التيار الواقعى الروسى فى القرن التاسع عشر .. وعرف بقوة الملاحظة والقدرة على تجسيد ملامح الناس وعواطفهم بالإضافة إلى الرسم اتقن النحت والجرافيك والكتابة والتدريس .
- يضيف عمر الفيومى : أما عن أكاديمية ريبين ، فهى من الأكاديميات الشهيرة فى روسيا والعالم وهى منسوبة إليه تأكيداً على عظمته .. ولقد رأيت له لوحة هناك وبجوارها الدرجة التى حصل عليها وهى3 من خمسة .. مما يؤكد على صرامة الدراسة فى الأكاديمية.
- ولقد درست هناك لكن الأكثر أهمية من الدراسة : الفرجة والحياة والعادات المختلفة هناك وكان تعليق المشرف على الدراسة : `هذا الطالب مش جاى يتعلم عندنا فهو ينتمى لمدرسة قديمة حضارتها تتكلم عن نفسها `.
- ولقد زرت الكثير من المدن والقرى هناك .. وكنت أقيم بجوار متحف الأرميتاج وفى كل أسبوع وبلا انقطاع أقضى يوماً كاملاً وسط الأعمال الفنية .. هذا بالإضافة إلى متحف الفن الحديث بموسكو .. مع ترددى على القاعات الخاصة بالفن.
- وماذا عن جدارية عمر الفيومى؟
- أنا مؤمن عن التطور الحضارى لمصر ووحدة الحضارة بها .. ومثلما كانت مصر الأولى فى التاريخ فى فكرة التوحيد فهى أيضا صاحبة التاريخ الطويل فى التواصل الحضارى الذى لا ينقطع .. ومن هنا جاءت الجدارية .. تداخل فيها الفن المصرى القديم مع الفن القبطى والإسلامى مع الحديث بما يمثل بانوراما الفن المصرى .. وهى متسعة المساحة بامتداد ما يربو على الثلاثة أمتار فى العرض وقد رسمتها فى سوق الفسطاط بمصر القديمة .
- هو والمقهى
- بدأ حبى للمقهى فى عيد ميلاد شوقى فهيم ` الكاتب والمترجم والمذيع الشهير الذى ارتبط اسمه بالبرنامج الثانى وصاحب الترجمات العديدة الذى قدم أشهر أعمال كتاب أمريكا اللاتينية مثل أعمال ماركيز الذى ترجم له أجمل غريق فى العالم وليلة الكروان .. وبعض أعمال كفافيس شاعر الإسكندرية ` فى انتظار البرابرة ` وهو أيضاً قاص يحمل فكراً تنويرياً لا يعترف بالفواصل الاجتماعية ولا الجغرافية ` .. فى هذا اليوم رسمت أول صورة من وحى هذا العالم الشعبى بما يحوى من مناضد وكراسى .. رسمت رجلاً وحيداً جالساً على منضدة ورأسه ملىء بالهواجس والأفكار والهموم رغم ابتسامته .. يعنى الناس على المقهى عالم خصب .. وجدت نفسى آرسم باهتمام .. وكانت النتيجة معرضاً كاملاً حول المقهى .. وتوالت معارضى من تلك الأماكن الحميمة حتى وصلت خمسة معارض بخمسة طرق مختلفة .. ربما فى الإيقاع واللون والتكوين والخطوط والمساحات .
- وقد جاء شعورى بأن الناس فى المقهى ` قاعدين ` فى الشارع وأن الشارع مفتوح على البيت أيضاً .. تأكد لى هذا عندما رأيت أثناء تجوالى ناحية البساتين رجلاً يجلس على كرسى فى الشارع كأنه فى بيته .. يرتدى الروب وبجواره ` كمودينو ` عليه تليفون .. أ عجبت بهذا المشهد واكتشفت أن المصريين يتعاملون مع الشارع والبيت كأنهما ` حاجة واحدة ` .. وكان لى معرض يعكس هذه الحالة : المقهى اللى جوا البيت والبيت اللى جوا المقهى !
- الملايكة على المقهى
- وماذا عن رسومك للملايكة على المقهى؟
- رسمت بشكل رمزى ناس حلوة تجلس على المقهى .. رسمت ملايكة قاعدين بأجنحة وبنى آدم على العكس طاير زى الملاك يعنى حالة تبادلية بين البشر والملايكة .. وفى الحقيقة كان هذا من وحى حكاية لوليم إسحاق الأب الروحى لى .. هذا الفنان الكبير الذى لم يأخذ حقه حتى الآن .. وكان إنساناً حقيقياً .. تذكر ذات مرة وجدته يقول :` مجسداً مشهداً سيريالياً ` : وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته .. وكنا جالسين على المقهى .. ولم أر أحداً يمر من أمامنا وعندما نظرت إليه بدهشة كان تعليقه ` مارى جرجس رمى السلام باحييه! أعجبتنى الفكرة خاصة ومارى جرجس فى التراث الشعبى ` هو المخلص وله كرامات أشبه بسيدنا الخضر ..وتروى حوله حكايات كثيرة ..كنا نسمع عن عصابة هجمت على امرأة ولكن خلصها رجل بحصان وسلمهم للشرطة ومشى بدون أى تعليق ..وتتواتر شخصيته فى الأحاديث الشفاهية الشعبية `.
- هذه الحكاية أعجبتنى بروحها الشفافة وتجسيد الطيبة والشهامة بالدرجة الأولى بدليل أن معظم أيقونات الشهداء صورت على مر التاريخ بنفس الطريقة ولعل التفسير الأدق للتنين فى أيقونة مارجرجس هو أنها ترمز للشيطان الذى يسحقه القديس ..كما أنها إشارة للشر بداخل الإنسان ومحاولة التخلص منه .
- عملت بهذا المعنى تخيلا لحالة الصراع بين الخير والشر .. ولكن رسمت مارى جرجس ممتطياً الحصان وبدون التنين فى 9 لوحات من الممكن أن ترى مجتمعه أو فى مجموعات تضم كل منها ثلاث لوحات .. والحالة اللونية هى التى تعبر دراميا عن الوضع .. فالمجموعة الأولى تتميز بدرجة الصفاء مع غلبة اللون الأبيض .. والثانية نرى فيها حالة من الصراع بين الأسود والأحمر .. ثم تخف درجة الصراع فى المجموعة الأخيرة فى ألوان مضيئة لكنها لا تصل إلى ألوان المجموعة الأولى.
- وعندما كنت طالباً بالفنون الجميلة.. كنت أحب الفرجة بتأمل فى وجوه الفيوم أو بورتريهات الفيوم .. وهو ` الاسم الحديث لمجموعة من اللوحات التى رسمت على الخشب وارتبطت بالمومياوات فى مصر أيام الرومان . وأكبر مجموعة كانت موجودة فى ` الفيوم ` .. وهى التى انتسبت إليها تلك الوجوه التى رسمها المصريون حتى تتعرف الروح على صاحبها .. بدأت اللوحات من القرن الأول قبل الميلاد واستمرت حتى القرن الثالث الميلادى .. وبعدها بدأت تظهر الأيقونات المسيحية القبطية التى تعبر امتداداً لها وللفن المصرى `.
- وفى الحقيقة لم يكن لدى الجرأة أن أرسم تلك الوجوه رغم إعجابى الشديد بها .. ولكن وأنا فى روسيا عملت أيقونات ` كوبى ` بدافع الدراسة والتعايش مع هذا الإيقاع المفعم بالروحية مع الترويج لها والتعايش من خلالها .. وبعد ذلك بدأ أهتمامى بتلك الوجوه فعملت معرضاً كاملاً عام 1997 مستوحى منها عند كريم فرنسيس فى وسط البلد وتوالت الأعمال فى هذا الاتجاه من خلال المزج الدرامى بالدرجة الأولى.
- وعالمه
- وعالم الفيومى موغل فى القدم .. وهو فى نفس الوقت حديث فى الأداء من حيث الإيقاع والتكوين .. كما أن اللون لديه يمثل عمقاً تعبيرياً لأعماله .. فقد اكتشف النور والضياء بالأقصر وتحولت ألوانه إلى ملاحم من الأضواء والظلال .. وهو يجسد بلغة جديدة روح الفن القبطى .. كما ينتقل فى أعماله إلى المقهى فى الشارع المصرى بعالمه الساحر الذى يتجاوز الواقعية إلى آفاق جديدة تنتمى للتعبيرية التشخيصية.
- وإذا كان عالمه يمتد من المقهى إلى الحياة الاجتماعية للمرأة المصرية التى صورها بروح وجوه الفيوم وملامح الفن القبطى .. فإن له مجموعة من الأعمال جسد فيها دنيا من النساء هن بنات حواء فى حالة حوار .. صورهن بألوان داكنة تقترب من اللون الأسود مع لمسات من الأحمر والأزرق عاريات وسط أحزمة من الضوء .. كما ينتقل بهن إلى رقصات إيقاعية .. وهو يلجأ فى هذه اللوحات إلى الاختزال والتلخيص وتخفيف كثافة الأجساد .. حتى إننا نرى فى إحدى اللوحات نساء طائرات فى الأفق وأخريات واقفات وسط اللوحة .. والأجساد هنا رغم عريها ورغم تجردها من الثياب فإنها تبتعد عن الحسية لا نرى فيها إلا مجرد علامات ورموز توحى بالحركة والحيوية تذكرنا بالمرأة فى عالم أستاذ الفيومى حامد ندا وكأنها تحية له من وحى فنه.
- فى لوحات الفيومى للمقهى يقدم عالماً يجمع بين الصخب والهدوء .. بين الثرثرات وحديث الناس والصمت.. فالمقهى لديه يمثل حالة اجتماعية للإنسان المصرى فى حالاته النفسية العديدة .. لذا فهى حالة تعكس الحزن والبهجة والتوهج والتجلى .. وهو هنا يصور مشاهد للمقهى فى صورته العامة.. وفى لوحات أخرى يصور الإنسان كحالة وحيدة .. وله أعمال أخرى لا نرى فيها أى أثر لإنسان .. فقط مجرد ركن يضم كرسياً أو منضدة .. والمكان مغمور بضوء أزرق هادىء وكأنه تعبير عن بصمة الوجود الإنسانى .. المقهى فى عالم الفيومى يمثل نبضاً وحياة .
- وعمر الفيومى علاقته بالمقهى ، وبخاصة مقاهى وسط البلد ، علاقة فريدة .. وكل المقاهى تعرفه من خلال تلك العلاقة الحميمة بدءاً من زهرة البستان والحرية وسوق الحامدية والندوة الثقافية .. وفى كل مكان هنا وهناك له أصدقاء من الكتاب والفنانين ومن أبناء الشعب عموماً .. وفى إحدى لوحاته صور الروائى مكاوى سعيد صاحب ` تغريدة البجعة ` .. صورة واقفاً غارقاً فى التأمل فى مقدمة اللوحة ومن خلفه مجموعة من الجلوس .. هى لوحة تمثل صورة للتواصل الإنسانى .
- وفى لوحة رمزية لعمر الفيومى نطل على كرسى بزاوية مقهى وفوقه باقة من الزهور فى أصيص زجاجى إشارة إلى الناس الذوق ` الورد ` بالتعبير الشعبى.
- أما دنيا الناس بروح الفن القبطى ، فقد صور فيها المرأة المصرية الحديثة فى حالة كونية تذكرنا بتلك النظرة الشاخصة التى نراها فى وجوه الفيوم وفى الفن القبطى أيضاً .. كما صور مجاميع من النساء فى تواصل إنسانى مثل لوحته الشرفة أو ` البلكونة ` التى نرى فيها مجموعة من السيدات فى حالة حوار ويتدلى كليم شعبى تأكيدا على توحد الحياة بين داخل البيت وخارجه بتلك الإطلالة .. ومع تصويره للمرأة الحديثة فى صور شخصية بخطوطه التعبيرية يصور النساء بنفس الروح يلعبن الكوتشينة أو يتحاورن ، وربما فى حالة من الصمت فى انتظار القادم.
- ولا شك أن البطل فى أعمال الفيومى هو شلالات الضوء البهيج الذى يسرى بين المسافات والمساحات مع تلك الألوان المضيئة التى استلهمها من شمس مصر وضوئها وروحها الطليقة.
- تحية إلى الفنان عمر الفيومى بعمق المسافة بين الحاضر والتاريخ .. بين لمسته ولمسة الأجداد.
بقلم: صلاح بيصار
مجلة الخيال العدد ( 38 ) مايو 2013
وكأننا فى القاهرة..عمر الفيومى يبحث عن ملامح المدينة التى كانت
- فى الصباحات التى كانت نباتات الصبار تجود بوردة واحدة، كان الصبى يقرر ألا يذهب إلى المدرسة ويجاورها، ولم تكن تلك هى العلاقة الوحيدة التى ربطت الفنان عمر الفيومى بالورود، ففى بيته القديم كانت هناك عشرات النباتات والزهور التى تسكن بلكونته والتى يحصل عليها من المشتل المجاور للمدرسة، الذى يزوره أيام الخميس ليبتاع بالقروش التى يمتلكها كلها زرعا، لقد ورث الفيومى محبة الورد عن أبيه الذى كان يمتلك محلا لبيع الورد بشارع طلعت حرب والذى ورثه بدوره عن والده، وكأن تلك الوردات البديعة التى يقدمها الفيومى فى كثير من لوحاته قد جاءت معه منذ الطفولة.
- لم تكن الوردات وحدها التى رافقت الفنان عمر الفيومى، ولكن وجوها عديدة سجلها فى ذاكرته حيث كان يقضى أيامه فى تأمل الوجوه وملامحها وما تحمله قسماتها من شجون وفرح ليعيد الفيومى تقديمها بطريقة جمعت بين وجوه الفيوم التاريخية وأسلوبه الفنى، ولكنه لم يحتفظ فقط بملامح البشر ولكن أيضا ملامح المدينة التى كان يتجول بين شوارعها وحواريها يومياً، حتى أنه حين اختار بيته اختاره بشارع محمد على.
- فى معرضه الأخير الذى استضافه جاليرى النيل بالزمالك، اختار الفيومى عنوانا خرج من علاقته الوطيدة بالمدينة التى كانت دوما حاضرة فى ذاكرته البصرية وفى أعماله بشوارعها وبمقايها تيمته الأثيرة، المدينة التى قدمها فى التسعينيات والتى اختلفت تماما عما هى الآن.
- يبدو العنوان `وكأننا.. فى القاهرة` يخص مدينة أخرى تشبه القاهرة.. ولكنها ليست كذلك إنها بالفعل القاهرة.. فقاهرة اليوم.. التى اختلفت تماما عما كانت عليه فى طفولته، تتغير القاهرة يوما بعد يوم، تضيع ملامح الشوارع، يشعر الفنان عمر الفيومى بأن هناك مدينة تستبدل أخرى لا تحمل سوى الاسم وبعض الملامح البعيدة الغائمة، إذ يقول الناس اختلفت.. والشوارع، البيوت تم هدمها وظهرت عمارات أخرى.. قبيحة.. حتى واجهات المحلات أصبحت مزعجة، يبدو أن التغيير لم يصب المدينة فحسب بل أصاب الأرواح المرهقة الباحثة عن الونس والرفقة، وكأن عمر الفيومى يشرد بعيدا ليردد على نفسه كلمات محمود درويش `إن أعادوا لنا المقاهى القديمة.. فمن يعيد لك الرفاق؟`.. قبل أن يختار تلك الكلمات ليستهل بها كلمته عن المعرض.. قبل أن ستكمل قائلا وكأنه يطرح تساؤلا على نفسه قبل جمهوره، وكأنهم نفس البشر ونفس الكائنات وكأنها نفس الأماكن والمقاهى والبيوت.. نفس الكراسى والموائد والطرقات.. تتعدد الأزمان وتمر.. وتبقى القاهرة.. قاهرة.
- ويبدو أن الفيومى قرر تقديم كل تلك المفردات كل على حدة ومجتمعة فى معرضه ليستنطقها ويتعرف منها عما حدث، يسأل الكراسى والموائد والبشر والطرقات ما الذى حل بالمدينة التى يعرفها.
- إذ يعود الفنان عمر الفيومى لتقديم المدينة التى سبق وأن رسمها عام 1997، والتى قدم من خلالها أيضا تيمة القديس مارجرجس يتجول بين مبانى القاهرة، القاهرة، إذ تبدو مدينة اليوم كذلك بحاجة لمعجزة جديدة، ربما لهذا بإمكاننا أن نلمح ملائكة يحلقون فى بعض الأعمال فى حالة سريالية تطرح أمنية أن تعود المدينة لسابق عهدها، وأن تتخلص من الحزن ومن الوجوم ومن العزلة التى فرضت وجودها، إذ أن هناك حالة تباعد لم تعرفها ليالى القاهرة من قبل، تباعد حتى بين رواد المقهى، وجوم المدينة المنهكة انتقل للملامح، حتى لاعب الشطرنج الذى جلس فى مواجهتنا لا نرى شريكه فى اللعب، جلس أمام الرقعة الممتدة لتتساءل إن كان يلعب وحيدا. تلك الحالة من الوجوم والوحدة انتقلت بالتبعية للكراسى التى تحولت لأبطال يحاورون بعضهم البعض باحثين عن الحياة، تشعر الكراسى بالاغتراب حين يغيب الإنسان عنها، تجلس غارقة فى خلفية قاتمة، تعلوها سحابة وردية، وتبدو إحدى اللوحات كذلك شاهدة على ما طرأ من تغيرات زمنية، إذ تحمل تاريخين 2014 و2020، حيث يدون الفنان تفاصيل جديدة ويمحو أخرى كمفكرة زمنية بصرية ورفيق يؤكد صدق هواجسه.
- معرض` وكأننا.. فى القاهرة ` كان بمثابة دفتر حواديت، حملت كل مجموعة من الأعمال فصل من فصول حكاية عمر الفيومى الفنية فى علاقته الممتدة بالمدينة والبشر، بل إن فى واحدة من غرف الجاليرى تجاورت نساء الفيومى جلسن يفتشن فى فناجين القهوة وأوراق الكوتشينة وعيونهم مليئة بالحيرة والانتظار عما يحمله المستقبل.. ربما لهن أو لنا أو للمدينة الغارقة فى الحيرة.
بقلم : منى عبد الكريم
جريدة :أخبار الأدب( العدد 1440) 28-12-2021
|