أربع لوحات من عالم أبو بكر النواوى
- جميلٌ هذا الرجل، جميلٌ وطيبٌ كالنخلة، أصله ثابت وفنه فى السماء، حنون ومبدع وعطاء لأقصى درجة. كل عمل فنى من أعماله مكون رئيسى من شخصيته الفذة. هناك اتصال ما - يجهله الكثيرون - ما بين أصابع يده وما بين عينيه . هناك انضباط وتناغم رهيب ما بينهما . عيناه فى رؤية الأشياء دقيقة، وأصابع يده تمتلك نفس الانضباط والدقة والموهبة. ليس كمثله فنان فى تعليم طلابه، فهو أبٌ لكل موهوب، ومدرسةٌ لكل فنان طرَق بابه . مدرسته أخرجت أجيالاً وأجيالاً من الموهوبين أثروا الحياة الفنية بإبداعهم. كل من تخرَّج من تحت يديه وارتوى من مدرسته يدين له بالولاء. الدكتور أبوبكر النواوى يعتنق موهبة العطاء ، ولا يبخل بأى نصيحة لأحد تلاميذه، ولديه صبرٌ وإيمانٌ أن بداخل كل إنسان شيئًا جميلاً، وبداخل كل مبدع طاقة جبارة يمكن توظيفها على اللوحة، مؤمن بالأجيال الجديدة؛ لذلك لا يعطيهم من خبرته فقط، بل يعطيهم من روحه الطيبة، حنون ومنتمٍ للإنسانية، وهو طراز فريد من البشر ممن يعمِّرون الأرض، ويقدم لوطنه أجيالاً وأجيالاً من المبدعين يبنون وطنهم ويبنون المستقبل، صوته حنون وفى نظرته عطف ورقة، وهنا على صفحات مجلة «صباح الخير» نود أن نقول له (شكرًا) لكل ما قدمه لهذه الأُمَّة الطيبة، لكل فنان خرج من تحت يديه أضاف لهذه الأمَّة، لكل مبدع قدَّمه للبشرية وأسعد الناس، هذا الرجل كنزٌ من كنوز تلك الأمَّة، فله التحية وعليه السلام ...
رئيس التحرير
وددتُ أن يكون لقاؤنا الأول فى مرسمه الخاص، لألتمس فى جنباته وأركانه حكاياه ومشاعره، لأكون محاطة بعالمه، وعطائه الجمالى، لكن ما حدث كان عفْويًّا ومن صنع الحياة.. د. بكر، فنان محب ومحبوب، كبير ومتواضع وغنى ومترفع. يكاد يرسم الوطن بكلماته، حديثه هادئ وغنى بالله والمحبة، بالفن والوطن، بالأحلام.. أجمل طالب رأيته عند د. بكر هو د. بكر ذاته ، يهتم به ، ويحرص أن يعلمه جديدًا كل يوم.
رأيتُ الحُب..
حين يُهدى الصبحُ إشراقَ سناهْ.. موقظًا بالنورِ أجفانَ الحياةْ..
فى صباحٍ هادئٍ، وبخطوات متحمسة، أصل مكتبه.. مشرقًا مفتوح الأبواب والنوافذ، رحبًا رغم امتلائه.
«تقول النسبية: أن لكل منظومة حركية زمنها الخاص» وكأنى انتقلت لزمان آخر، بعيدًا، ممتدًا وربما ثابتًا لا يبدو له نهاية، سكون يشرق فى النفس.. يأتى المحبون له، للعلم والفن، التواقون لكل جميل، مبكرين، يجلسون معًا كالنور والظلال..
الأولى:
«يرسمهم ويرسمونه، يحبهم ويحبونه»
حواريو د. بكر وتلاميذ يدرسهم بعض المواد، وآخرون من تخصصات أخرى جاءوا حبًا..
«أجىء مبكرًا فى السابعة صباحًا، أجده وبعض الزملاء، نرسم معًا، نرسم بعضنا البعض، هو ليس مجرد فنان، بل أقرب لكونه فنًا يمشى على الأرض، إنه يُعلّم الجميع» تقول هبة: «أطلق عليه البعض رمبرانت العرب، ولكنه أكبر من أى وصف أو لقب»، تقول نوران يوستينا: «د. بكر فنان عظيم وأب عظيم. الجلوس فى حضرته ملهم. الوقت معه هدوء وحب وبساطة. لا يختلف أحد لكونه مثلاً أعلى لنا جميعًا، بأسلوبه الجميل الحنون،. لو فى كلمة أكبر من شكر كنت قلتها»، سارة: «أكثر إنسان يجعلنى أخرج من بيتى كل صباح ، وأتعلم».
ومازالت آفاق الجمال والفن والإنسان المعلم تفتح أبوابها للجميع فى مكتب د. بكر.. وتطل على المدى الواسع للتجريب، والتجديد، والتجاوز للمغامرين والحالمين الصادقين.. ومشاهد صباحية نقية مشرقة، كلوحات معلقة على جدار القلب لن تنمحي..
الثانية :
«الأساتذة والتلاميذ..»
يحدق بعينى مليًّا، ويقول مبتسمًا: لا أريد أن تكتبى عنى، أريد أن تكتبى عن قضيتى القومية، وهمّى الأكبر، عن مأساة التعليم فى مصر، خاصة التعليم الجامعى، يؤسفنى أن أستاذ الجامعة عندنا يتصور بغرور أنه امتلك المعرفة، بل امتلك حق منحها، ومنعها لمن شاء وعمّن شاء، وفق مراقبة ومباركة باسم الدولة «الشهادة» وثيقة الشبه بصك عبودية جاهليّ.
يذهب الطلاب للكليات - فى أحايين كثيرة إن لم تكن كلها- برغبة غير حرة تمامًا، مما يسمح لأستاذ الجامعة التحكم بمصيره. وعلى الجانب الآخر قد يتعرض الأساتذة أنفسهم للظلم، فنحن لا نقدر للمعلم قدره الحق، فيتصورون خطأً أنهم ضحايا، بل ربما أبطال.
العلم والمعرفة طريق طويل لا نهاية له، كلنا سائرون به مادامت الحياة، ليس حكرًا على أحد. وكل العلماء والفنانين الحقيقيين على مرّ التاريخ كانت الحياة بالنسبة لهم مدرسة والله معلمًا..
الله هو المعلم الأول « علّم الإنسان مالم يعلم » وعلّم كل المخلوقات، فللمعرفة مصادر كثيرة، منها المتحف أو تاريخ الفن والعلم لإدراك ما لم نتمكن من اللحاق به فى حركة التاريخ، ثم الكتاب، والتعلم الذاتى، ثم يأتى المدرس «الغلبان» الذى لم يؤتَ من العلم إلاّ قليلًا، ويعجز أحيانًا عن إيصاله، كما يعجز عن بلوغ العدل فى تقييمه. ويبقى الدور الأكبر لكل راغب فى المعرفة وتحرى الصدق فى السعى والمثابرة.
الثالثة:
«علبة ألوان»
تغيرت حياته بحصوله على جائزة «علبة ألوان»، لإحرازه المركز الأول فى الابتدائيّ.
للدكتور بكر مُلهمان فى رحلته، أستاذه فى المدرسة الإعدادية الفنية «سامى رزق بشاي»، الذى له أكبر الأثر فى نفسه وعالمه، وعلمه كل شيء احتاجه حتى التحق بالجامعة، ثم تعرف إلى حسن سليمان فور تخرجه.
بعد إعجاب د. سليمان بإحدى لوحاته أرسل فى طلبه ليتعرف إليه، وبدأت علاقتهما.. ليلعب فى حياته دورًا شبيهًا بدور شوقى بك فى حياة عبدالوهاب: «لم أكن أتخيل أن هذا الرجل العجيب، القصير سيحيا بقلبى كل العمر. علمنى كيف أدرك قيمة الأشياء بغض النظر عن ثمنها. وتعرفت فى أتيليه حسن سليمان على يحيى حقى، شادى عبدالسلام، وحسين بيكار، وغيرهم كثير من الفنانين».
يعمل بالتدريس كقديس . ويجزم أنه غير راضٍِ: «كيف لى أن أعرف من سيكون فنانًا حقيقيًّا ومن لن يكون؟!.. ويذكر لى يوم قابل أستاذه سامى بشاى فوجده حزينًا، قائلاً: يا بكر التدريس مهنة شاقة ومزعجة، ولطالما كان قضيتى تجاه الوطن، بذلت فيه الجهد والعمر، والنتيجة؟ ماذا قدمت للوطن؟
فنانًا واحدًا».
الرابعة:
«بورتريه، زوجة الفنان»
الفن مرض رهيب، شرس لا يستطيع الفنان الفكاك منه. تكمن بشاعته فى جماله الفريد، وبعد تجربتى الفنية والإنسانية، لا يهمنى إن خسرت كل شىء، ما يهمنى أن تظل معى « فاتن» زوجتى؛ لأنها.. حياتى .. يحكى عنها بشغف وفخر ويضحك رافعًا وجهه لأعلى فى نظرة شاكرة، حتى امتلأت عيناه بالدموع وقلبه بالفرح.
الحب لدى د. بكر ، شرف، علاقة ميزها الله بكونها وجهًا لوجه ، وقلبًا ينصت لدقات قلب، وعندما أراد الله تكريم الإنسان خلق له الحب. وتوّجنا بالعقل والخيال. «من حسن حظى أنا عشت عمرى مع من أحببت. منحها الله لى كهدية أو مكافأة، سيدة واسعة العقل والقلب، تشعر بى فى كل لحظة، أميز حضورها فى المكان، أسعد بوجودنا معًا، فالحب فناء فى الشريك وفيما يحب، عطاء لا محدود، وبلا انتظارات لمقابل».
..الحوار مع د. بكر أشبه بلوحة - الفنان السريالى البلجيكى - رينيه ما جريت «فن الحوار» يرتفع من مستوى الواقعى اليومى إلى سماوات الخيال. •
إيمان عثمان
صباح لخير : 20-2-2018