عبد العزيز خالد درويش
فى صمت عاش ... فى صمت رحل
- وكان الصمت هو الضريبة الباهظة التى دفعها فى حياته .
- وعندما رحل لم يشعر برحيله أحد وذلك لأنه كان يؤثر الأنطواء .. ولا يحفل بالأضواء ويترك مهمة التحدث عن الذات لفراشته التى كانت تتولى الأفصاح عن قدراته بما تعجز عنه لغة الفصحاء والبلغاء ..
- فارس من فرسان الرسم والتصوير والملامح التاريخية وبطل من أبطال الجيل الثالث أو جاز لنا تقسيم الحركة الفنية المعاصرة إلى أجيال ولأنه كان يؤثر الأنزواء عن دائرة الضوء ولأن هدفه لم يكن التشبث بزيل الجماهير أو التعلق بأهداب الشهرة لهذا قد لا يعرف قدرته إلا من عاصره أو زامله أو عرفه عن قرب ولهذا أيضاً قد يسقط أسمه سهواً من ذاكرة الفنانين الشبان فلا يعرفون من هو الفنان عبد العزيز خالد درويش وقد تكون الكرامة وعزة النفس لعنة على الفنان الجاد ذلك لأنه فى غمرة التكالب على المكاسب والمناصب تدفعه المناكب القوية إلى أخر الصف أو تدفعه أكثر إلى ما هو أبعد من هذا .. إلى هاوية النسيان .
- ولكن الذين يعرفون أقدار الناس لا تلهيهم الفقاقيع الطافية فوق السطح عن الأعلان عن القيم الحقيقية حتى لو تأخر ذلك عن بعض الوقت لأنها أمانه فى عنق كتاب التاريخ سوف يسألون عنها عندما تدون الحقائق .
- والفنان عبد الغزيز درويش كان قيمة وعلامة .. ففى حدود الأطار الذى التزم بالتحرك فى داخله كان أميناً وصادقاً مع نفسه حتى أخر أيام حياته .
- على الرغم من أنه عاصر هستيرية تسابق التيارات المتصارعة التى تسببت فى بلبلة أفكار الكثيرين إلا أنه كان يقف عند مفترق الطرق مدركاً تماماً الطريق الذى يسلكه فآثر البقاء فى منطقة الأعتدال متجنباً التطرف يميناً أو يساراً معتمداً على ما أستقر فى ضمير التاريخ من قيم تشكيلية ثابتة .
- وإذا كان فى مطلع حياته الفنية قد تشرب ` بالسيزانية ` من أستاذه الأرمانى ` جرابيديان ` إلا أنه لم يخضع لأثرها تماماً .. وإنما جعلها منطلقاً لأسلوب شخصى يتوائم مع طبيعته ومزاجه وفلسفته فى الحياه فلازمته غنائية اللمسات ` التأثيرية ` وصلابة وثقل البناء ` السيزانى ` دون التخلى عن أعماق البعد الثالث أو الأخلال بمظهر الأشياء أو الأنزلاق فى مهاوى التهويل والمغالاة شكلاً ولوناً .
- والذين يصنفون أعمالهم الفنانين ومذاهبهم ويضعون الفنان ` عبد العزيز درويش ` فى خانة الأكاديمية إلا أن هذا لا ينقص من قدرته كمصور مبدع وفناناً يملك ناصية الصنعة ولغة التشكيل وأسرار التصوير فناناً تنساب اللمسات الواثقة من ريشته بغير جهد ينهكها أو يفقدها حرارتها ونبضها بدون أن تتعثر فى مطبات الثأثأة والتهتهه والركاكة .. الأمر الذى يدعو إلى الأعتراف بأقتداره وأستاذيته التى أهلته لكى ينجز أكبر الجداريات مساحة بنفس القدرة التى ينجز بها أصغر لوحات فقد كان من الفنانين القلائل الذين لديهم القدرة على تدوين التاريخ بفرشاته الذكية اللماحة تشهد بذلك جداريات محطة بورسعيد ومجمع المحاكم بالقاهرة والمتحف البحرى بالأسكندرية ومتحف المنصورة .
- والحكم على إقتدار الفنان ` عبد العزيز درويش ` لن يكون صحيحاً إلا بأستعراض جميع أعماله فى جميع مراحل حياته عند إذ سيشعر الذين عرفوه والذين لم يعرفوه إن مصر خسرت طاقة لم يحسن إستثمارها .
الفنان/ حسين بيكار
كلمة جمعية خريجى كلية الفنون الجميلة
- كانت النافذة مفتوحة ..ترى منها على بعد النخيل يحتضن مسلة فرعونية .. الأضواء تتلألأ هنا وهناك .. اللوحات المعلقة على الحائط تحيطها غلالة شفافة كنا فيه بين أحضان الطبيعة الصامته بعيداً عن ضوضاء المدينة .. يحدثنى فى أفكاره وأماله العريضة فى حيوية الشباب وحكمة الشيوخ فى تدفق وتحمس .
- كان هذا آخر لقاء لى بالفنان الراحل عبد العزيز درويش .. عاشق الطبيعة المتعبد .. كان كالفراشه يجوب المزارع والحقول لعله يجد غايته بعين المصور اللماح .. يقف عند مكان بعينيه يضع أوراقه وأدواته الفنية .. يستوحى .. يتغنى بالطبيعة ينتقل من مكان إلى أخر .. حتى يأتى الليل ويرخى سدوله ..
- أخذ الفنان يستخدم أضواء خياله مسجلاً إنطباعه بقوة البناء وعظمة الأستقرار فى لوحاته التى تعبر بثبوت قدرته وتمكنه فى تشكيل الأعمال بصورة لا تجدها إلا فى لوحات عبد العزيز درويش غير مبال بالأضواء ... غير راغب فى عرض إنتاجه فى صالونات لم يفكر فى إقامة معرض خاص ...
- لم يعبأ بوضع لوحاته فى براويز تحفظها .. إنه ينتج وكفى .. يعلم الأجيال الحب والفن .. صديق وزميل لكل تلاميذه .. انسان غاية فى الرقة والشفافية .. غير متشائم .. دائم الأبتسامة .. معتز بنفسه وكرامته .
- أقيم هذا المعرض برغم عنه بعد أن سكتت فرشاته إلى الأبد وفتحت الأرض فمها تبتلع جثمانه المسجى .. الريح خفت حدتها .. تزداد أشعة الشمس حرارة .. العرق يتصبب على الجباه .. الدموع تقف فى المآقى .. ينتزع قلوبنا معه ويتوارى جسده فى التراب الجميع يمضون وتتوارى أشعة الشمس .. ويخيم على المكان صمت أبدى ولكن .. أعماله الفنية تبقى تعلن عن خلوده بيننا .. مزهوة بالوانها المتألقة تبعث فينا الأمل والحب والثقة والحياة .
- شكراً للمركز القومى للفنون وكل من ساهم بمجهود لأخراج هذا المعرض للنور وهذا الكتالوج بهذه الصورة المشرفة .
رئيس الجمعية / محمد حمزة
المصور عبد العزيز درويش وإنعاش الذاكرة الفنية
- كان الفنان الكبير المرحوم عبد العزيز درويش أقرب أساتذة الفن لقلوبنا عندما كنا طلبة فى كلية الفنون الجميلة ، كان يتمتع بشخصية فريدة بين أساتذة الكلية، تجمع بين السماحة والحيوية الصاخبة والبساطة التى تزيح أعتى الحواجز بين الأستاذ والتلميذ. ولم نكن ونحن معه فى حاجةِ إلى قاعة للمحاضرات لنتلقى منه أفكاره, وخبرته فى الفن لأنه كان يغدق علينا بها أينما إلتقينا: داخل المرسم وفى فناء الكلية وفى الطريق العام.
- واعترف بأنَ كثيراً من ملاحظاته الثاقبة فى الفن مازلت أستعيدها وأفيد منها حتى اليوم، رغم أن ذاكره قد أهيل عليها تراب النسيان ولا يضم متحف الفن الحديث من روائعه إلا أقلها شأناً وحتى هذا النزر اليسير محجوبٌ فى مخازن المتحف. لقد تتلمذت على ` درويش` أجيال من المبدعين، يعدون من أبرز الفنانين فى مصر وهم: (بدون ترتيب) رجائى ونيس وزكريا الزينى وكمال السراج ومحيى الدين اللباد ومحمد حجى وجميل شفيق وعزالدين نجيب وأحمد نبيل وصبرى منصور ومحمد رياض سعيد والدسوقى فهمى وجوده خليفة ونبيل تاج، أماَ تلميذه المفضلَ فكان هو الفنان الكبير وعالم المصريات الآن:`عبد الغفار شديد`.
- وكان مساعده الأول فى انجاز الجدارية الملحمية التى أقيمت بالمبنى الداخلى لمجمَع المحاكم. وقد وجدتُ صعوبةً فى الحصول على صور لأعماله وقد تخربت بعض أصولها تخريباً جزئياً أو كليا مثل جداريته الفريسكية بمجمع المحاكم التى خربها الاهمال والتخلف تخريبا لا سبيل إلى إصلاحه. ولحسن الحظ فقد نجح `شديد` فى تصوير أهم مشاهد اللوحة قبل أن يجهز عليها الفناء إجهازاً كاملاً، غير أن الصورة ستبقى محجوزة، لزمنِ لا أدرى مداه، لأن المانع الرقابى يحول دون نشر الجسد الإنسانى عارياً مهما كانت بلاغة المصور وروعة التصوير. وسوف أتحدث عن هذه اللوحة بشئىء من الإفاضة فى سياق المقال.
- منظور الطائر
- إذا شئنا أن ننظر إلى حركة الفنون الجميلة بمصر بمنظور الطائر فإننا نكتشف - من بين الخطوط المتداخلة - توجُهين يكادان أن يكون متعارضين : توجه إلى البناء يتحدّر من جذر الجمالية المصرية القديمة ، بكلَ ما تتجلى به - فى المعمار النحتى - من نقاءٍ وصرحية فى الكتلة، أمًا التوجّه الثانى فإنه يتعاكس مع خصائص الجمالية الأولى ويتمرد على بنائياتها الشامخة، والواضحة، الأنيقة طموحاً إلى إظهار الصدق الكامن. ويتحدّر هذا التوجّه مما توحى به الفنون الشعبية - فى مجالاتها المرئية والمسموعة - من حريةٍ وارتجال فى التعبير وما قد يرتبط به - أحياناً - من خشونة. ينتمى إلى التوجه الأول من النحاتين والمصورين- دون تمييز فى المجال والجيل - محمود مختار ومحمود سعيد ومحمد ناجى وحسين بيكار ومحمود موسى وحسن سليمان ورسامنا الفذ : ` عبد العزيز درويش`.. أما التوجَه الثانى فمن ممثليه الرئيسيين: راغب عياد ويوسف كامل وكمال خليفة وصبحى جرجس.
- بنائيات درويش
- كان ` درويش ` نزاعاً إلى الرسوم الصرحية. لهذا تفوق على غيره فى الجداريات الملحمية/ الفريسكية. لم تُتح لى الظروف إلا مشاهدة لوحتين من جدارياته: لوحة بمحطة السكك الحديدية بمدينة بورسعيد، أَما لوحته الثانية والأهم فهى ملحمته عن الجريمة والعقاب منذ بدء الخليقة، التى نفذَها بمجمع المحاكم فى أوائل الستينيات، طولها ثلاثة وعشرون متراً وارتفاعها ثلاثة أمتار. وقد أُتيح لى أن أشهد عن قرب بعض رسومه التحضيرية لتلك اللوحة داخل الكلية، وكنت مفتوناً ومازلت بالدراسات التى رسمها للمرحوم ` عبد الوهاب` - أشهر موديل فى تاريخ الكلية والذى اتخذه نموذجاً لآدم.
- واتخذ إحدى الموديلات، لا أذكر اسمها الآن ، لتكون نموذجاً لحواء.
- وأنا أعد تلك الدراسات التمهيدية والدراسات المنفذة بالجدارية الفريسكية دراسات لا مثيل لها فى فن التصوير المصرى. كانت علاقته بتلامذته - كما سبق القول - علاقة صداقة حميمة، لهذا اتخذ من بعضهم نماذج لرسم شخصيات فى موضوعه الملحمى. رسم الفنان جميل شفيق فى شخصية `هابيل` ورسم عبد الغفار شديد فى شخصية جندى مصر.
- ولحسن الحظ لم يكن جحيم الإرهاب الدينى قد امتد بعد إلى الفن وتسبب فى إلغاء موضوع ` العارى ` وإلاحُرمنا من الدراسة التحليلية الرائعة لجسدى آدم وحواء. وكان ` درويش`- وقتها- متشبعاً بالأسلوب التكعيبى، لهذا استعار مسطَحاته وزواياه الحادة فى تحليل جسد آدم مما أعطاه صلابةَ نحتية. ولكى يميَز بين جسد الرجل والأنثى احتفل بالبناء الأسطوانى لأعضاء حواء. إختار درويش من النص الدينى مشهد الخروج من الجنة وما أعقب ذلك من ندم وابتهال طلباً للعفو. وعلى الرغم من التزامه بالنص القرآنى فقد بدا منحازاً ضد المرأة وأغرقها فى يأس عميق، فى حين ظل الرجل منتصباً مبتهلاً إلى السماء أملاً فى الخلاص من المصير المحزن!.
- وحدة المبنى والمعنى
- كان ` درويش ` لا يحتفى بالبناء من أجل البناء ، بل لإحاطة التعبير الإنسانى بأفضل الظروف لكى يكون صادقاُ ومؤثراً. فى لوحة بعنوان ` فلاح مصر` كان نموذجها الموديل عبد الوهاب وكان يعمل ويقيم فى قرية من قرى الجيزة، أجلسه درويش القرفصاء وبدا فى جلسته تلك المستقرة، شامخاً، هرمى الشكل، ساقاه متينتان، أشبه بعمودين من أعمدة معبد من المعابد المصرية القديمة. ويتوج هذا البناء الهرمى /الراسخ وجه ذو عينين تتأملان بعمقٍ مصبوغ بالحزن والإصرار معا. وتكشف تضاريس الوجه المصرى/ الريفى/ الصلب عن آثار المعاناة الطويلة.
- وتتألق لمسات الفنان فى البناء والتحليل، كلُ لمسةٍ فى موضعها الصحيح ودرجتها الظلية والضوئية المحكمة. ولا يميل ` درويش` إلى اسطوانيات `محمود سعيد` الزاخرة بالأنوثة بل يميل إلى المسطحات التى تمنح الجسد صلابة وتؤكد ذكورته وديناميته، تزيد من حيويتها ألوانه الصريحة، خصوصاً فى مساحات النور. وكانت تغويه تلك المساحات المنوَرة بزيادة كثافة العجائن اللونية، فيما كان تقل فى مساحات الظل. وعندما يدفعه الموضوع المصور إلى كرنفالية لونية فإنه لا ينزلق إلى اللمسات التأثيرية التى كان يصفها بالعشوائية، ففى لوحة ` المهرج الحزين` أشاع فى ثوب المهرج ألواناً كرنفالية مناسبة لوظيفته،غير أنه هندسها بمساحات متلاصقة ومتوالية توالياً يصيب بالدوار، مستغلا إيحاءها بحريرية سطح الرداء ليجرى عليه لمساتٍ حرة ، تؤكد بالتماعها طبيعية الخامة ، ولا يترك تلك اللمسات لتداعيات الارتجال بل يقودها إلى تأكيد خريطة وتضاريس الجسد المخفى. وحرصاً على صلابة عناصره المحورية أحاطها بخلفية سماوية اللون، تحولت إلى برتقالية/ نافذة/ مضيئة. رسم بها حدود ما بين الفخذين وقاوم بها- فى آن واحد- المنطقة التى غزتها العتمة.
- ولم يترك لهذا الغزو فرصة لإعلان انتصاره بل باغته بلمسات مضيئة رسمت حضوراً قوياً لقنينة خمر،لايقل تأثيرها وأهميتها عن رداء المهرج وخلق بالجذب المتبادل بين المركز والهامش شحنات كهربية فاعلة ومنشطة تحول دون استرخاء المتلقى وانصرافه عن العمل الفنى . وهو لايزاحم بالقنينة عناصر المحورــــ وأبرزهاـــ بالطبع ـــ وجه المهرج ــــ بل يدعمه ويبرر حزنه.
- ولأن ` درويش` مايسترو حقيقى لم، يصرفه الحرص على البناء إلى استعراضات الشكل ولم تصرفه بهجة الألوان عن الاهتمام بأدق المشاعر الداخلية. وهو يختار بعناية الوجوه المعَبرة . إن وجه المهرج وجه بالغ الرهافة، أشبه بوجه فيلسوف أو شاعر متأمل، استطاع درويش أن يستنطقه تعبيراً حقيقياً بالضياع، رسمته عينان تائهتان. وهو لايتركنا لهذا الضياع السالب بل ينبهنا إلى شبح ابتسامة ساخرة تتحرك فوق شفتيه . ويكشف لنا الفنان بهذه الابتسامة عن وعى الشخصية التى رسمها بمأساتها. بهذا يختلف ` درويش` إختلافاً جوهرياً مع رسامى الصورة الشخصية فى مصر، فهم يحرصون على اخفاء عيوب الأشخاص ويُظهرون فقط المزايا التى يحب أن يراها الشخص المرسوم فى نفسه. يرى ` درويش` أن `البورتريه` موضوع مثل بقية الموضوعات يكشف بها عن الحقيقة. لهذا لم يرسم ` درويش` إلا الوجوه التى يرتبط بأصحابها بالصداقة، ولم يرسم وعندما رسم صورته الشخصية لم يجامل نفسه بل أظهر وجهه خشن المظهر مع أنه كان فى الواقع وسيماً وردى البشرة .
- مواقف
- عندما كنت أشطح فى لوحة من لوحاتى بدافع المغامرة أو بتأثير من إغواء غرائبية من غرائبيات تيار الفن الحديث لم يكن يسخر منى أو يوبخنى على ما فعلت أو يغالطنى بالتشجيع الزائف على جسارة ليست فى مكانها الصحيح، مثلما تفعل وزارة الثقافة الحالية مع مثل هذه الأمور، حيث تغرق أصحابها بولائم الجوائز. وكان يقول لى بحنو الأب ومسئولية الأستاذ/ المعلم: ` قبل أن تفعل `الغريب` و` الغامض` عليك أن تتقن أولاً ماهو بديهى وواضح. قبل أن تحطم المنظور عليك أن تهضمه. ويمكننا إضافة: هل يمكن لشاعرٍ أن يجدد فى لغة لا يعرفها وهكذا، ولو وجد شباب اليوم من يحدثهم بهذا الشكل لما التقينا بكثير من الغرائب التى يطلقون عليها فناً وهى أشد ما تكون بعداً عن مجال الفنون الجميلة. لهذا لم أفاجأ عندما نبهتنى كريمته السيدة : ` وجدان عبد العزيز` بأن الموديل الذى استلهم منه `درويش` رائعته: ` المهرج الحزين ` ليس مهرجاً حقيقياً وليس رجلاً بل سيدة إسبانية عجوز، كانت تقوم على خدمته وزملائه فى البعثة إلى إسبانيا. ورسم لها درويش لوحة شخصية من أجمل لوحاته، بعد أن خلع عنها قناع الرجل الحزين وإن لم يستطع أن يزيل عن وجهها حزناً دفيناً.
- شوط القبس
- إذا كان كثير من فنانى جيل التسعينيات قد تاهوا فى متاهة التغريب والتبعية، بتأييد من صنَاع القرار الثقافى الحاليين فإن كثيرا من نفس الجيل قد اعتصموا بأسلوب `درويش` رفضاً للتغريب والتبعية، ومن أبرز فنانى هذا الجيل الذين ينفرون من التجميل الكاذب والإبهار المخادع الفنان الشاب ` إبراهيم الدسوقى فهمى` الذى أعده إضافة وامتداداً إلى فن أستاذ الأجيال `عبد العزيز درويش`
بقلم : محمود بقشيش
مجلة الهلال - ديسمبر 1999
عبد العزيز درويش الفنان الناسك
- لسنا أعجوبة بين شعوب العالم. ففى جميع البلاد وعلى مر العصور.. يولد عباقرة ويموتون دون أن يشعر بهم أحد. أو تدق لوفاتهم الأجراس، ثم تكتشف عبقريتهم بعد عشرات ومئات السنين وربما لا تكتشف أبدا.. وتمضى قدم الزمان.. تدوس القوى كما تدوس الضعيف وتخسر البشرية واحداً من فلتاتها.
- فى هولندا مثلا، ظهر الرسام الموهوب: رامبرانت `1606-1669` منذ أكثر من ثلاثة قرون ثم مات فقيراً معدماً مهضوماً محروماً من المكانة الاجتماعية ولولا أن أحد النقاد اكتشف عبقريته بعد مئة عام.. لطواه النسيان وضاعت وروائعه. ولما عرفنا أنها من أهم المعالم فى تاريخ فن الرسم التصويرى.
- هكذا عاش عبد العزيز خالد درويش `62 سنة` أستاذ التصوير فى كلية الفنون الجميلة بالقاهرة. وهكذا مات. في إحدى غرف مستشفي العجوزة فى يوليو 1981.. ودفن بعد ثلاث ساعات.. دون أى مظهر من مظاهر الاحتفال مجرد عربة سوداء نهبت الأرض إلى مقابر مدينة نصر. ثم انتهى الأمر.. واختفى النجم..
- وهبه الله لحركتنا الثقافية.. لكنها أنكرت النعمة. وكأن شيئاً لم يكن، حتى تحفته الصرحية التى صورها فى مجمع المحاكم بالقاهرة (13x 3متر ) عملت فيها يد الإهمال عملها فتساقط بعض أجزائها وتوشك أن تختفى فى أول عملية صيانة للمبنى، ولا أدعى أننى أعلم بما تم فى رائعته الأخرى فى محطة بورسعيد للسكة الحديد (27x6 متر)..
- ولد درويش في يونيو سنة 1919 في مدينة بني سويف حيث يتسع نهر النيل كالأمل العريض، بعد أن هاجر إليها والده من سوريا هرباً من بطش الفرنسيين لكنه فتح عينيه في مدينة طنطا حيث أنهى تعليمه الابتدائى.. ثم تخرج فى المدرسة الخديوية فى القاهرة.. بعد أن لفت الأنظار بخلقه الدمث، وذكائه اللامع، وقدرته الفائقة على الرسم الذى كان لا يخلو من فراغ فى كراساته وكتبه، فضلاً على نشاطه الجم مع جماعة التمثيل، التى كان يقوم فيها بدور الرسام التقليدي.. ذى الببيون الأسود الكبير.. الذى يحيط بعنقه ويغطى نصف صدره..
- تكمن أهمية عبد العزيز درويش فى أنه من القلة النادرة بين الفنانين الذين اهتموا بجوهر فن التصوير دون مظهره. لم يستخدموا آيا من المواد التشكيلية المستحدثة، كالأركليك والورق الملصق ولم يدخل على سطح لوحاته بروزات مصطنعة من الخشب والرمال والألياف والمسامير والخيش. وما إلى ذلك مما يخرج فى حقيقة الأمر بفن التصوير عن طبيعته من حيث إنه رسم على مسطح. كان يعلم أن مهمته هي تجسيم الأشياء المرسومة على هذا المسطح دون أن يلصقها هى نفسها.. أو يتحايل على إبرازها وتحجيمها كما يفعل أنصار ما يسمى بالفن الجماهيرى `بوب آرت`. ولم يلصق أوراق الصحف كما فعل التكعيبيون وعلى رأسهم بيكاسو (1881-1973)، وكثيرون من الفنانين المصريين الذين وصلوا إلى حد زرع النباتات فى لوحاتهم.
- كان درويش على الرغم من ذلك فناناً معاصراً للقرن العشرين فكراً وإبداعاً. فاهتمام الفنانين فى القرن الماضي، كان منصباً على الموضوعات الشاعرية المؤلفة. والقصص الأسطورية والتسجيلات التاريخية. والمناظر الطبيعية من حيث هى حكايات تروى حياة الريف.. وتذكر ساكنى القصور بأن ثمة طبيعة من حولهم بها أنهار وجبال وأشجار. ثم أتى عصرنا بقفزة علمية هائلة حين اكتشف عالم الطبيعة الفذ: ألبرت أينشتين سنة 1905 نظريته النسبية. ولم يتأخر الفنانون عن مواكبة المسيرة اتي كانت تعنى فى مضمونها بجوهر الشئ دون مظهره.. ودون أن يدخل فى تفاصيل تمل القارئ غير المتخصص نضرب مثلاً بالمصور الفرنسى: بول سيزان (1839-1906) الذى كان لا يفرق بين البرتقالة ورأس الإنسان من حيث إن كلا منهما كروى الشكل. ونجح فى تجسيم سطح اللوحة بحيل وتنظيمات لونية.. دون اعتبار للمشاعر والأحاسيس الإنسانية.
- إن الكشف الكبير الذى حققه عبد العزيز درويش هو أنه استطاع أن يضيف الروح والعاطفة إلى هذا التجسيم المرسوم، حتى إنك إذا نظرت فى عينى وجه من إبداعه، تحس أنهما تتحدثان.. وتنعكس عليك روح الشخصية المرسومة وطبيعتها ومزاجها.. وتدرك ما يكمن فى نظرتها من تعبيرات ومعان. ودرويش من أبرز وأهم من صوروا الوجه الإنسانى `البورتريه` فى حركتنا التصويرية خاصة وأنه برع فى وضع الألوان بوعى كامل، بحيث تظهر `الحيوية` التى هى أهم صفة فى أى عمل فنى تشكيلى.
- أما فى المناظر الطبيعية.. سواء تلك التى صورها فى مصر أو أسبانيا أو فرنسا أو اليمن، فتنقلك مباشرة إلى المكان المرسوم، وتشعر كأنك عنصر من عناصر اللوحة، تكاد تتحرك بين أشجارها.. أو تسبح فوق مائها. أو تدلف إلى قلاعها التي كثيراً ما صورها فى اليمن.. أو تتجول بين روائع قصر الحمراء فى أسبانيا.
- كان درويش خلال يفاعته يحس أنه فنان رسام، لكنه كان متفوقاً في الرياضيات أيضاً، فأنصت إلى قول القائلين بأن المهندسين أوفر حظاً من الفنانين، فألتحق بقسم العمارة بمدرسة الفنون الجميلة.. لكن... حين لمح الفنان الكبير الراحل، يوسف كامل رسم طالب العمارة الجديد. ألح فى تحويله إلى قسم التصوير بنفس المدرسة. وبدأت المسيرة.. وبدأ المصور الفحل طريق الأحلام. مع الألوان والأقلام.
- عاش درويش درويشاً فى معبد الفن. عاش ناسكاً متصوفاً سعيداً.. مع الخطوط والأشكال، والألوان رغم تعاسة حياته الاجتماعية التى يعرفها أصدقاؤه المقربون.
- كان فى أخريات أيامه يترك مسكنه الفاخر فى الزمالك ليحيا أسبوعاً وربما أسبوعين. فى غرفة فوق سطح بيت قديم فى حي المطرية اتخذها مرسماً. ولا يعبأ بما يجرى فى الحى الشعبى، مكتفياً بمتاع بسيط يصلح لطالب أعزب وافد من الريف لا يسمع الضوضاء المتصاعدة من الشارع. ولا يشعر بقسوة الأيام فى تلك الأحياء البعيدة، لأن سعادته الكبرى كانت بين الألوان والجمال.. وروعة الحياة التى أبدعها الله ووضع فيها سراً هائلاً لا يدركه إلا الفنانون أمثال عبد العزيز درويش.
- طوال سنوات الدراسة فى مدرسة الفنون، كان الطلبة والمدرسون يحجون إلى حيث يجلس درويش الفتى في ركن قصى من المرسم الكبير. يغطى لوحته بملاءة حتى لا يراها أحد قبل أن تنضج وتكتمل، إذ كان يقدس عملية الإبداع.. لا يرغب فى أن يراه أحد وهو يتعبد فى محراب الفن. حتى إذا اكتملت التحفة.. رفع الستار وغمرت السعادة نفوس المشاهدين.. وتوالت درجات الامتياز للطالب درويش.
- ماذا يمكن لمدرسة أن تعلم فناناً موهوباً؟ عليها أن تتيح له فرصة العمل والإبداع، بتهيئة النماذج الحية `الموديلات` والخامات والألوان والأدوات المجانية، كما كان الحال في ذاك الزمان. كان الفنان الفتى لا يفارق دفتر تخطيطاته ليل نهار. أذكر ونحن طلبة في مدرسة الفنون، جلسنا في المقهى العالي في الحلمية الجديدة. وأخرج درويش دفتره وقلمه وبدأ يرسم.. فأحتشد من حوله الرواد ذوو اللاسات والجلاليب، وأقسم أحدهم أن يدفع الحساب تقديراً وإعجاباً بالفنان الفتى. وهكذا كانت لوحاته دائماً. من الناس وإليهم.
- على الرغم من أن درويش كان يحس بقدرته وموهبته، إلا أنه شعر بحاجته للعلم.. فالعلم يصقل الأداء.. ويشحذ الموهبة. إلا أن مدرسة الفنون الجميلة كانت تعلّم بطريقة `الصبينة` والتقليد.. التي كانت متبعة منذ آلاف السنين وحتى أواخر عصر النهضة الإيطالية في القرن السادس عشر، منذ أن كان صاحب الموهبة يلتحق صبياً بـ`ورشة أحد الفنانين` الكبار حتى يعرف سر الصنعة ويصقل موهبته. مضى درويش إلى مكتبة المدرسة يقرأ وينظر ويتابع سير الفنانين عسى أن يعثر على الأفق المفقود. وذات مساء كان يجلس مع صديق عمره: عباس شهدي في مقهى بوسط البلد، يرسمان الرواد في دفتر التخطيطات كعادتهما، وإذا برجل أجنبى نحيف طويل القامة، يقترب منهما ويحدثهما عن فن الرسم وعالم الألوان، ثم يصطحبهما إلى مرسمهما الخاص بجوار سينما أوليمبيا بشارع عبد العزيز.
- لم يكن ذلك الرجل سوى الفنان الكبير: ديران جرايديان، وهو مصرى أرمنى الأصل منعته الحرب العالمية (1939-1945) من التردد على باريس كعادته فبقى فى القاهرة يرسم ويلون وأصلا ليله بنهاره لا يتحدث إلا عن الرسم وفلسفته ونظريات أساليبه، الواقع أن جرابديان لعب دوراً هاماً في حركة التصوير المعاصر فى مصر، بالرغم من أنه ووجه بمعارضه قاسية من أساتذة المدرسة أثناء حياته، وبالإمساك حتى عن ذكر اسمه بعد أن طواه التاريخ منذ بضعة عشر عاماً فأثر هذا الفنان خلال وجوده فى مصر لم يقل عن أثر روادنا الكبار يوسف كامل واحمد صبرى.
- كان بالغ الثراء يتخذ مرسماً فسيحاً فى سطح إحدى عمائره فى شبرا، يتردد عليه الكثيرون من طلبة الفنون الجميلة، رغم ما كانوا يلاقونه من اضطهاد ومطاردة ورسوب.. عرف درويش لأول مرة أن فن الرسم التصويرى ليس مجرد فرش وألوان.. إنما هو نظريات أيضا وفلسفة `نادى سيزان` الذى أسسه جرابديان فى حى عابدين، كان لا يفارق أستاذه أبداً. جعل جرابديان من هذا النادى أكاديمية صغيرة يتردد عليها طلبة الفنون وهواتها.. يضع أمامهم نموذجاً: سواء كان فتاة أو شاباً، أو مجموعة من الفاكهة والخضروات، ثم يبدأ فى الرسم والتلوين مشاركاً تلاميذه.. لا يضع أمامهم خطأ إلا ويشرح لماذا.. ولا يلمس لوحته بلون إلا وأرجع ذلك إلى نظرية وفلسفة. كان أسلوبه فى الحقيقة يسير فى الدرب الذى أشار إليه سيزان حين قال: `أنا الأول فى عالم الفن الحديث. لم أفعل سوى أنى فتحت الباب.. الطبيعة هى المخروط.. والكرة.. والشكل البيضى`.
- بول سيزان كان الأول الذى فتح الباب. وجرابديان كان الثانى الذي سار فى الطريق. ولا شك أن عبد العزيز درويش كان الثالث الذى أضاف إلى سيزان وجرابديان. أضاف المشاعر والعواطف والأحاسيس إلى التجسيد وحلاوة الألوان.. وسحر التشكيلات الداخلية، أضاف التعبير، ليس طريقة المبالغة فى الألوان.. والنسب، ولكن.. بلمسات وإيماءات وإشارات خفيفة نحسها ولا نكاد نراها.
- أن الله حين خلق الطبيعة.. خلق معها الحكمة والمعنى، ولقد صور درويش الطبيعة بحكمتها ومعناها كان يرسم وكأنه يصلى. لذلك.. لم يرسم أبداً من الخيال كان يتخذ زوجته وأولاده نماذج حية، يمد منها الدراسات ليبدع تكويناته وموضوعاته الصرحية، ففى لوحته الكبرى بمجمع المحاكم بشارع الجلاء، اتخذ من زوجته نموذجاً حياً، حين رمز للعدالة بسيدة مهيبة معصوبة العينين. ممسكة بالميزان وكان يرسم مع تلاميذه في كلية الفنون الجميلة ويحدثهم عن عالم الألوان والخطوط، وعن الفن النابع من القلب والعقل معاً. وحاول أن يطور تعليم فن التصوير إلى طرق مستحدثة كالتي شاهدها أثناء بعثته إلى إسبانيا، حين تخرج في أكاديمية سان فرناندو، ولكن.. لا يقدر على القدرة إلا الله هناك.. كما ذكر فى يومياته. كان المرسم على شكل مدرج يتيح لكل الطلبة مشاهدة النموذج الحي `الموديل` الواقف أمامه، يتخذ النموذج وضعاً معيناً لدقائق قد تطول أو تقصر حسب المنهج الموضوع يرسمه الطلبة مباشرة أحياناً، وقد يؤدى بعض الحركات المحسوبة.. ويمضى.. ثم يطلب الأستاذ من تلاميذه رسم الحركات من الذاكرة لكن درويش الأستاذ، لم يستطع أن يفعل شيئاً في المراسم المحلية الضيقة، التي يحتشد فيها عشرات الطلبة والطالبات، يختفى النموذج بينهم فلا يرونه من خلال اللوحات المشرعة. فضلاً على أن الطلبة أنفسهم قد ألتحقوا بالكلية، ليس لأنهم موهوبون، بل لأنهم فشلوا فى التفوق فى التعليم الثانوى واجتازوا اختبارا شكلياً روتينياً للقدرات الفنية.
- تخرج درويش في مدرسة الفنون الجميلة العليا `كلية الفنون الآن` سنة 1943 واتخذ مرسمه مسكناً فى غرفة فى سطح عمارة في ميدان باب الخلق. سرعان ما تحولت بلمساته إلى استوديو الأحلام شيد أمامه قاعة بالخشب البغددلي. وأسسها بالحصير والكليم ومقاعد الجريد والشجيرات الخضراء.
- عين معيداً بقسم الحفر `الجرافيك الآن` بالرغم من أنه خريج قسم التصوير. وبعد عام نقل إلى وظيفة إدارية بمكتبة المدرسة.. وكانت هناك يد خفية تعمل على إبعاده عن الطلاب. ويبدو أن هذا الأجراء كان بتأثير النفوذ القوي لمصورنا الأكاديمى الكبير أحمد صبرى وسعة الشقة بين أسلوبه التصويرى وأسلوب درويش. وحين رجحت كفة يوسف كامل، نقل درويش إلى قسم التصوير فى العام الثالث من تعيينه، كان يوسف كامل مقدراً مواهب فناننا الكبير رغم اختلاف الأسلوب، أما أحمد صبري فكان متعصباً يريد أن يدمغ الطلاب جميعاً بطابعه الخاص، حتى إنه كان يقذف بأدوات الطالب من نافذة المرسم.. إذ خالف التعاليم الأكاديمية التقليدية. والواقع أن درويش كان يجمع فى أسلوبه بين أكاديمية صبرى وتأثيرية يوسف كامل لكنه كان يزيد عليهما من تعاليم جرابديان. ويضفى شخصيته الحالمة مما اكسبه عداء القطبين الكبيرين. لذلك لم يتمكن من القيام بدوره الريادى كما كان ينبغى أن يكون.
- لم تصادف عبقرية عبد العزيز درويش المناخ المناسب.. ولا الأرض الخصبة.. والحياة الخارجية السعيدة، فأندفع إلى داخل نفسه. وغاص فى بحر الألوان والخطوط والتشكيلات الداخلية فى ظلال لوحاته. ولو تأملنا صورته الشخصية التى أبدعها قبيل وفاته فى استوديو المطرية.. تلمسنا أمارات الاكتئاب والحزن ويزداد احساسنا هذا لو ازددنا تأملاً. وفحصنا التشكيلات الداخلية للوجه، وتلافيف الألوان.. وترابط التفاصيل. فضلاً على أنه كان يظهر بالتجسيم بالضوء واللون، وليس بالضوء والظل كم كان يفعل يوسف كامل وأحمد صبرى. والأكاديميون بوجه عام.
- لا يمكن لأحد أن يضع بطاقة تصنيف على الصنعة الفنية `تكنيك` عند درويش.. لا يمكننا أن نسميها `تأثيرية أو تكعيبية أو رومانسية`.. ألخ، كان نسيجاً فريداً يستفيد من كل الأساليب بالقدر المناسب لذلك نتبين من روائعه صفات المصور.. والرسام.. والحفار.. والمعمارى. حتى أنك تستطيع أن تلتقط إبداعه من بين آلاف اللوحات.
- .. كم شقى درويش فى طريق الإبداع الفنى منذ يفاعته أيام كان طالباً فى مدرسة الفنون. تسلق السقالات لساعات وساعات وهو يشترك فى ترميم لوحات قصر محمد على فى شبرا. وتسلقها مرة وثانية وهو يرمم لوحات قصر الجوهرة بالمقطم: القصر الذى احترق مؤخراً ثم تسلقها ثالثاً بعد تخرجه فى مجمع المحاكم بشارع الجلاء وهو يصور قصة الجريمة والعقاب منذ بدء الخليفة. منذ أن قتل قابيل أخاه هابيل حتى الآن ورابعة حين صور تاريخ المواصلات البحرية على مبنى محطة السكة الحديد في بورسعيد.. قصة المواصلات منذ أيام القارب والشراع حتى عصر البواخر والطائرات وكلما طلب منه عمل مشابه.
- كانت اليمن بالنسبة إليه قديماً كتاباً مثيراً للخيال. رسم فيها كل شئ. ونشر الفن بين شبابها واكتشف المواهب. حاول أن يؤسس معهداً للفنون الجميلة والتربية الفنية. كان راضياً فرحاً بنصيب من الحياة. مجحف لعبقرى مثله. لكن الحياة لم ترض. طاردته التعاسة إلى هناك.
- عاد إلى مصر فى أجازه قبل وفاته بعام واحداً، ليطمئن على الزوجة والأبناء الخمسة. ثم رجع إلى اليمن فإذا بالمطار مغلق في وجهه. تغيير فى الإدارة الحكومية منعه من الدخول. وهو الذى لم ينشغل بغير فنه طوال سنواته الاثنتين والستين. عاد إلى القاهرة. إلى الحضن الدافئ الذى منه ننطلق. وإليه نعود. لم يصعب عليه أن يفقد ما كان فى مسكنه اليمنى من أجهزة إليكترونية وأدوات كهربائية وأموال مستحقة له فى ذمة الدولة. إنما صعب عليه أن يحرم من لوحاته وهى بعض حياته.
- كانت صدمة عاطفية للفنان الكبير... لعلها لعبت دوراً فى `انفجار المخ` الذى أصابه يوم حمله ابنه من بيته فى الزمالك إلى مستشفى العجوزة فى رمضان قبيل الإفطار بساعة.
د./ مختار العطار
من ( كتاب رواد الفن وطليعة التنوير فى مصر - الجزء الأول )
|