أحمد محمد إسماعيل نوار
- إن المتابع لإبداع الفنان أحمد نوار فى مجالات الجرافيك والرسم والتصوير عبر مراحله المختلفة يلاحظ ملاحظتين جوهريتين - الأولى : تطور تلك المراحل تطوراً متسعاً منطقياً يعكس درجة عالية من تماسك الفنان فى تعامله مع الزمن وأحداثه المتباينه والمتضاربة لا يتاح هذا التماسك إلا لمن يكرس نفسه لبحث ظاهرة جزئية أما أن تكون تلك الظاهرة المعملية هى حياة الفنان الإبداعية ينشغل بها ويتابعها ويزودها بالمعارف والمهارات فهذا هو الصعب لأنه يحتاج فوق الصبر والإرادة إلى منهج متماسك وتكمن فى هذا المنهج الملاحظة الثانية : إن منهجه الإبداعى يتحرك على ثلاثة محاور : المحور الأول هو محور ` التجريب ` الذى بغيره يبقى الفنان عند حدود المحاكاة سواء للسائد من الأساليب أو لنفسه عندما تنضب موهبته . وتختلف درجات التمرد على ` الأطر المرجعية ` من فنان لآخر وتجربيبية ` نوار ` ترفض ` الجنون ` و ` الدوامات ` التى لا مخرج منها . فهى تجريبية انتخابية تستلهم ، وتنتقى .. لا تلفظ أو تنفر أما المحور الثانى ـ وكما تعكسه مجمل رحلته الفنية ـ فهو الحرص على أن يلمس الشكل الفنى وترين :
أ ` المعاصرة ` بما تتضمنه من هضم لإنجازات النموذج الأوربى ـ بالذات
ب` الهوية ` بما تعنيه من إنتماء تاريخى ويميل ` نوار ` بطبعه، إلى الإرث الجمالى الإسلامى ، بما يعكسه من انصراف عن المشابهة مع المرئيات الواقعية وتحرير العين من المقارنات الوصفية وإعفاء المشاهد من القراءة الروائية . القاموسية ومن ثم تمدد مساحة التأمل الروحى ( وإن لم ينصرف ` نوار ` كلية عن المشابهة الواقعية .. كما فى مجموعة ` معادلة السلام `) كما يميل إلى ما فى الإرث الإسلامى من بناء هندسى . رياضى ، لهذا اختار شكل ` المربع ` إطاراً كلياً للوحاته. أما المحور الثالث فيتمثل فى إرتباط ` نوار ` بقضايا عصره .. سواء على مستوى الفن أو مستوى الفعل الإنسانى المباشر ، فقد شارك فى العمل الوطنى ، مقاتلاً فى الجيش المصرى وعلى مستوى الفن .. كان الوطن فى قلبه دائماً ( كما تفصح عن ذلك بقوة لوحاته ). زودها هو أخيراً .. يعمل مقاتلا من أجل نهضة الفنون التشكيلية فى مصر .. فى منصبه الجديد .
محمود بقشيش
معزوفة الحرب والسلام
ـ فى خضم مسؤولياته الوظيفية المعقدة والسريعة الإيقاع وما تستنزفه من وقت وجهد واحتراق يطالعنا الفنان القدير/ أحمد نوار بمقتطفات من إنتاجه فى مراحله المختلفة بدءاً من مشروع التخرج الذى يودع به كلية الفنون الجميلة التى تعتز بأنه أحد أبنائها طالباً وأحد العاملين بها أستاذاً .. وانتهاء بآخر تجاربه التى يلاحق بها آخر صيحة فى الفن التشكيلى المعاصر .
ـ رحلة خمسة وعشرين عاماً فى دروب الفن والحياة والفكر تشتمل على عجالات خاطفة وساخنة أنجزها فى رحلاته خارج البلاد ومجسمات معدنية ألفها من مخلفات حرب الاستنزاف عندما كان يعبر القناة ذهاباً وإياباً ليفرغ حقده انتقاماً لزملائه الذين استشهدوا فى ساحة الشرف ، ولوحات تصويرية يدخل بها عصر الفضاء الذى يمثل أروع انتصارات الإنسان على جاذبية الأرض والتنقل بين الكواكب بنفس السهولة التى ينتقل بها بين القارات .. وإبداعات ` جرافيكية ` تعكس قدرات فنية وتقنية متفردة فى هذا المجال الذى جعل إسمه يتردد فى جميع المحافل الفنية فى العالم وأخيراً تجارب رائدة فى مجال ` العمل المركب ` يستخدم فيها الشكل المجسم والإضاءة والحركة والمؤثرات الصوتية والإيحاءات السيكولوجية لإيجاد معادل زمانى ومكانى متكامل لا تحققه الثوابت التقليدية المتعارف عليها !!
ـ كل هذا الإنجاز الضخم يتم بموازاة نشاط أكثر كثافة وحيوية .. اشتراك فى أكثر من مائتى معرض فردى وجماعى فى مصر والخارج ، مقتنيات فى كبريات المتاحف والمجموعة الخاصة هنا وهناك ، جوائز مصرية وعالمية تصل إلى 27 جائزة وأخيراً وسام الاستحقاق من ملك أسبانيا تقديراً للفنان المصرى الهوية .. وتعود بنا الذاكرة إلى أول لقاء مع ` نوار` الموهبة منذ خمسة وعشرين عاماً من خلال مشروع التخرج الذى اختار له موضوع ` يوم الحساب ` وهو موضوع يذكرنا برائعة ` ميكل انجلو ` العملاقة التى تغطى سقف كنيسة ` سيستينيا ` بروما .. ولعل الإقدام على مثل هذه المغامرة الانتحارية من شاب يقف على أعتاب المستقبل لعلها تكشف عن معدن هذا الشاب وطموحاته العريضة فهو لا يلجأ إلى أقصر الطرق وأسهل الحلول للحصول على موضع قدم بين جمهرة الفنانين ولكنه يسعى منذ البداية إلى التفوق وركوب الصعب وبلوغ القمة مهما كلفه ذلك فيفرد لمشروعه مساحة تقرب من ثلاثين متراً مربعاً ولا يكتفى بهذه المساحة الشاسعة بل يصر على تنفيذها بالقلم الرصاص ولنتصور الجهد الشاق الذى تتطلبه تغطية هذه المساحة الهائلة بطرف قلم فى حجم رأس الدبوس وما تتطلبه من مجاهدة أثناء معالجة هذا التكوين البالغ التعقيد والمؤلف من عشرات الشخوص الآدمية بأحجامها الطبيعية ونحن لو عدنا إلى الوراء لنقيم هذا العمل الضخم بجميع الحسابات الأكاديمية والفنية لوجدناه يتجاوز قدرات جميع أقرانه فى هذه المرحلة السنية الأمر الذى أهله للحصول على أعلى التقديرات بجدارة واستحقاق فنى..
حسين بيكار 1992
أن معرض الفنان الكبير أحمد نوار ( فلسطين 54 سنة إحتلال ) ليس معرضا عاديا .. انه رسالة ضوء صادقة الى ظلام حل بنا وبالوطن .. انه تحريك قوى وفعال للعقل والعاطفة ضد ما يحدث للشعب الفلسطينى .. أو لشعوب العالم من جراء الحروب والطغيان والعنصرية وقد نجح الفنان المقاتل فى أن يحول إبداعه الى سلاح مؤثر ولو انه عرض الجزء الخاص بمقابر شهداء النضال الفلسطينى وعرض تراكمات جبل أبو غنيم ومجموعة فلسطين الهدف فى حديقة عامة لوصلت رسالته واضحة صريحة لقطاعات كبيرة من أفراد الشعب فهذه الأعمال شعبية بالدرجة الأولى بعكس بقية مكونات العرض الملحمى الذى قد لا يتفاعل معه إلا القادرين على استوعاب التقنيات والتراكيب الحديثة فى الفن .. معرض نوار تشكيليا رسالة مستقبلية .. فحين يتخلى الفنان عن أدواته التقليدية ويدخل فى هذه المغامرة الكونية فانه يفتح أفاقا جديدة للإبداع وجديرة بالإستمرار .
عصمت داوستاشى
عمل فنى سياسى جدير بالاحترام
- حمل الفنان أحمد نوار .. على كاهله .. قضية الوطن .. فلسطين .. كرمز لن يفرط ابداً فيه .. حتى النهاية .. لانه فنان .. ومناضل .. وإنسان صادق مع نفسه .. مؤمن بالحرية والسلام للشعب الفلسطينى .. ولكل شعوب العالم المنهوبة .. والواقعة داخل دائرة .. الظلم .. والقهر .. والاحتلال .
فمنذ عامين والشعب الفلسطينى يدفع الثمن غالياً .. من دم الأطفال وارواح الشهداء .. التى تروى بدمائه الغزيرة أشجار الصبار اليائسة فنبت فيها زهور صغيرة من الأمل .. لعل هناك فجراً جديداً سوف يشرق .. من خلف مقابر الضحايا .. مبشرا بالحرية والسلام ..
ليفاجئنا الفنان فى معرضه المستوحى من المأساة الفلسطينية عام 2000 بحفر الأرض لاقامة 52 مجزرة .. اقترفتها القوى الصهيونية فى حق الشعب الفلسطينى .. والبلاد المجاورة .
- ولكنه فى معرضه القائم حالياً فى مجمع الفنون بالزمالك .. ادهشنا بعرضه المتميز .. بالأفكار المفاهيمية الفنية Conceptual Art المجدولة مع فنون الأرض والحدث والجسد Land, Happening and Body Arts .. حيث زادت المقابر الى 54 مجزرة عبر 54 عاماً من كفاح أهل فلسطين ضد ازاحتهم من أرضهم .. ووطنهم .. بابشع العمليات الإجرامية .. من حرث للإنسان .. والأرض .. والزرع .. والضرع .. وكل ما يمكن أن تصل إليه آله الإفناء العسكرية الإسرائيلية من عمران بشرى لنشاهد فى ظلام المساء .. انبعاث الأنوار المتلألئه من داخل قبور الشهداء .. ومواقع المذابح .. بينما تنبت بين الزهور الصغيرة اياد بشرية .. تخترق الصخر .. حاملة علامات النصر .. وتشب من بين الأنقاض عمالقة نورانية .. تحمل مشاعل الحرية لاستعادة .. الأرض المسلوبة .. نابضة حياتها بالسلام .. ومتصلة بالعالم بهوائيات مغروسة فى صدور الكون .
كما اقام نفس الجبل الرمز ` أبو غنيم ` الذى فعلت فيه الجرافات جرائم لن ينساها الضمير الإنسانى العالمى .. ولكنه أضاف إليه بقايا الحياة الآمنة .. المحطمة .. والمتناثرة حول هذا الجبل .. بلا حياة .
- رسم الفنان نوار فى المعرض الماضى أشكال الجرافات المتوحشة .. ولكنه فى هذا المعرض جاء بأحد الجرافات الضخمة الحقيقية .. وثبت فى اداتها الصلبة المتحركة للجرف .. أحد أشجار الزيتون المقلوعة من الأرض بجذورها .. حتى لا ينتفع بها أى كائن بشرى حى .. كما يفعلون بأرض فلسطين .. مجسدا المأساة فى تحريك آلته الضخمة .. موحيا بحركة التجريف والقلع فى كل اتجاه .
فعل ذلك فى ظلمه المساء الدامس .. بفضاء حديقة مجمع الفنون موضحا فلسطين ` الهدف ` كرمز .. الممثلة فى نخلة عالية .. زيّن جذعها العالى بأعلام فلسطين .. الورقية .. الصغيرة .. المتناثرة .. بينما تطل على الموقع الحمائم البيضاء من كل جانب .. على الأسوار العالية .. وحول الأشجار تحلق .. حاملة رمز السلام .. وقد سلطت عليها أشعة إضاءة .. خافته .. تضيف إيحاء للمشاهد بطيرانها ورفرفة أجنحتها فى الفضاء المكشوف .
- وضم المعرض أثنى عشر موقعا .. منها أربعة فى الهواء الطلق .. ` الجرافة الجهنمية .. وفلسطين الهدف .. والمقابر .. وجبل أبو غنيم ` .. أما الباقى من عناصر العمل .. فى مواقع داخلية بين الأربع حوائط .. فإذا دلفنا الى الموقع الرئيسى المتضمن سبعة محاور .. شاهدناها فى ظلام دامس .. أولها شجرة ضخمة فى المقدمة تستقبل الزوار .. تعلو فى الفضاء الى مالا نهاية .. وبالرغم من تجريف كل شئ على أرض فلسطين .. إلا أن تلك الشجرة .. ` شجرة الحياة ` تعلو فوق البشر .. نامية بكبرياء وشموخ .. ضاربه جذورها فى ارض ثابتة .. تضيئها أضواء غير مباشرة .. توحى بالرهبة والتأمل الإنسانى من الكون .. والحضارات المتتابعة على الأرض .. كنبع دائم .. ومستمر .. ينهل منه البشر .. التقدم .. والتطور .. والثقافة .. والعلوم .. والفنون .. وما بعد الطاقة النووية .. والتكنولوجيا المتقدمة .. وعلوم الإلكترونيات والاتصالات .. التى تعم العالم ..
يشعر الزائر وهو وسط هذا الظلام الدامس .. كأنه يمر داخل نفق هائل لانهائى .. حيث يظهر بصيص من الضوء حول التجهيزات المعروضة فى الفراغ .. بينما المؤثرات الصوتية والموسيقية تملأ المكان ..
- فاذا اتجهنا يمينا .. نجد أرض منبسطة .. تنمو داخلها المحاصيل الزراعية الوافية لحاجة الإنسان .. بينما تسيل الدماء .. دماء البشر .. فى قنوات .. محيطة .. وحول الأرض تدور مراوح قريبة .. كانها طاحونات التدمير أثناء الحرب الأولى والثانية العالميتين .. بل هى الطائرات المروحية الحربية ` الأباتشى ` التى لا تكل ولا تمل من ضرب بقذائفها الصاروخية الحارقة رؤوس أهل فلسطين من كل جانب ..
فمنذ الحرب الأولى والثانية .. والعصابات الصهيونية تدبر لاحتلال ارض فلسطين .. والاستيطان فيها .. وتهجير أهلها بأى وسيلة لاقامة دولتهم .. بعد اخذهم الوعد من بريطانيا العظمى فى ذلك الحين .. عن طريق ` بلفور `..
- وبفعل قذف طائرات الولايات المتحدة اثناء الحرب العالمية الثانية القنبلة النووية على مدينتى ` هيروشيما .. ونجزاكى ` استسلمت اليابان .. وانتهت الحرب .. ولكن على أشلاء الملايين من مواطنى اليابان لتعم الكارثة البشرية الشنيعة .. الغير مسبوقة .. بين قتيل .. وجريح ومريض بالإشعاعات الذرية الذى ليس لها علاج .. ويعم السكون والأسى العالم أجمع ..
- وقد صوّر الفنان هذا المشهد المأساوى .. بقبو معدنى ضخم ملأ كل الفراغ .. يبرز من المركز مخروط معدنى متجه قمته لاعلى يوحى بموقع الاشعاع الذرى .. الماحى لكل شئ حى فى ذاك الموقع .. المسدول عليه ستائر الموت .. والقفر .
- ونمُر داخل النفق `بضجيج العالم ` الذى تحمل فيه وسائل الاتصال .. والأقمار الصناعية .. من خلال تكنولوجيا الإلكترونيات .. بالغة السرعة كل وسائط الاعلام المسموع والمرئى .. والمقروء عبر القارات ليصبح العالم قرية صغيرة .. يعرف الانسان الموجود فى أى بقعة من العالم الأحداث أثناء وقوعها .. من بينها حادث نيويورك المأساوى فى 11 سبتمبر .. الذى غير المفهوم حول الإرهاب .. والديمقراطية .. والعنف .. حتى الثقافة والفن والاقتصاد . ولازال الضجيج مستمرا .. يجذب الأبصار والأسماع خلال الأربعة والعشرين ساعة فى اليوم .
- وفى طريقنا نشاهد `الصاروخ النووى` .. الذى وصل إنتاجه الى حد الإشباع بين الدولتين العظمتين الاتحاد السوفيتى .. والولايات المتحدة والذى من خلاله يمكن دمار العالم .. الى أن حدث الاتفاق على عدم إنتاجه بل تدمير بعضه .. وتفكك وأنهيار الاتحاد السوفيتى ولم يبق سوى روسيا الضعيفة وبعض حلفائها .. وتربعت الولايات المتحدة على القمة بمفردها تتحكم فى تلك الصواريخ .. ومنع إنتاجها بين الدول ما عدا إسرائيل طفلها المدلل .. وحرمان كل من إيران وكوريا الشمالية والعراق العربية من امتلاكه .
- ويقف `القرار العسكرى النووى` .. تحت سيطرة الولايات المتحدة بما رمز له الفنان أحمد نوار .. من شكل يوضح الهيمنه المتمثل فى كرسى شبيه بكرسى قائد الطائرة .. وحوله أجهزة عالية الكفاءة .. لتقرير مصير كل الشعوب التى لا تسير فى فلك الولايات المتحدة . وينتهى العرض الفنى للافكار المفاهيمية فى هذا النفق الطويل بثلاثة صواريخ .. حاملة لرؤوس نووية .. خارجه من قواعدها فى الولايات المتحدة .. وبريطانيا .. وإسرائيل .. استعدادا لتدمير العالم وابادته .. حيث أطلق عليها الفنان عن حق ` محور الشر ` .
- ونخرج من النفق .. متوجهين الى ` قاعة شهداء الأقصى ` فى طرف الحديقة الغربى .. حيث توجد ثلاجة المشرحة المليئة ادرجها بجثث الشهداء .. بينما الأجساد الملفوفة بالعلم الفلسطينى .. وقد صفت فوق بعضها من الأرض الى السقف فى الجهة اليسرى .. لعدم قدرة الادراج على استيعابها .. وذلك للفتك اليومى بالشهداء فى قطاع غزة والضفة الغربية ..
- ولكن الحركة الفلسطينية الوطنية والجماهيرية .. كانت ولا تزال عملاقة بحجم انتفاضة القدس والاقصى .. حيث ابتكرت رموزاً وابدعت بطولات وقدست الشهادة والتضحية .. من اجل اختراق الحصار الدولى السياسى على الشعب والقيادة الفلسطينية .
- وتتم الملحمة الفنية التى جسدها الفنان أحمد نوار ورواها بعمله الكامل .. بفكر مفاهيمى ناضج .. مودعا الصورة التزيينيه التقليدية .. ومرحبا بالعمل الجماعى .. مضحيا بكل نفيس من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية .. والحرية السياسية .. وتحرير فلسطين .. تلك الأفكار التى ظلت مختزنة فى وجدانه اكثر من ثلاثين عاما .. والتى حققها .. وصرف عليها عشرات الآلاف من الجنيهات ..
- وبدون عائد مادى سريع الفائدة .. من اجل توصيلها لاكبر عدد من الجماهير فى مصر والبلاد العربية .. والخارج .. ولذلك لم يستخدم الفرشاة والألوان ولكنه استخدم بموهبته أشياء أوبجكت صامته ومتحركة يشع من خلالها النور ونبضات نشطة منتظمة فى أرجاء العرض .
فتحية للفنان البطل صاحب الخمسة عشر وساما على صدره وكل فرد من الجموع الخفية التى ساعدته فى تحقيق هذا العمل الفذ .. من أصغر عامل حفر شبراً من الأرض .. وأضاء ركنا من العرض .. ومن ثبّت الشباك الحديدية .. والمرايا .. وتابع صب التماثيل .. وشرائط المؤثرات الصوتية .. وكل الذين أضاءوا بجهدهم جنبات هذا العرض الفكرى المفاهيمى .
- واتمنى ان يجوب هذا العمل الفنى السياسى بالدرجة الأولى أنحاء العالم .. وأن اقل واجب يقدمه المجلس الأعلى للثقافة .. هو منحه الجائزة التقديرية للدولة .. وتشييد هذا العمل فى البيناليات والاحتفاليات الفنية العالمية باسم مصر .
محمد حمزة
نورانية الروح .. والجاذبية العليا لنوار (صياغة جديدة فى الفن التشكيلى للذاكرة المصرية والعربية)
الايقاع المنتظم لتلاوة القرآن الكريم منحوتات كالدر الطائرة ترفرف بالإعلام الفلسطينية سيريالية سمير رافع .. الجزار.. حامد ندا .. رمسيس يونان .. تتجسد فى حديقة مجمع الفنون عالم بروجيل Bruegel .. بوش Bosch.... المأساوى يعاود الظهور. مربع موندريان يعود الى أصوله الطبيعية فى الشجرة الجرداء ميتافيزيقيا دى كيريكو .. عيون ميرو .. الطبيعة الصامته لموراندى .. كرسى فان جوخ .. الاشكال الاميبية لإف تانج .. تتجسد فى قاعات العرض 1،4،5 التعليق على ماحدث أمل دنقل أحلام الفارس القديم صلاح عبد الصبور أطلال إبراهيم ناجى الحرام يوسف أدريس مالك الحزين إبراهيم أصلان تلك الرائحه صنع الله إبراهيم ثرثرة على النيل فى مجمع الفنون المومياء ... العصفور ... الارض الخراب قوم يا مصرى مصر دايماً بتناديك سيد درويش دع سمائى كمال عبد الحليم عودة الروح لوفاء أدريس وآيات الأخرس محمد الدرة وشهداء فلسطين والقدس ياسر عرفات الموت أو الشهادة رجال تحت الشمس قبة الصخرة أولاد حارتنا جورنيكا .... نـــــوار
سامح الميرغنى
القاهرة 28 /11/ 2002
- ان أحمد نوار فنان جمع بين الموهبة الابداعية والمهارة الادائية المتقنة والاحساس الانسانى المرهف ، وفنه ـ يخلق حوارات بين الكمال الهندسى والاحكام التقنى شديد الصرامة والجدية التى لا يبددها اى دافع زخرفى ، وانما هدفها التشكيل النقى والنضوج المكتمل ، وهناك كذلك التحليلات العضوية التى تصل احياناً الى حد التمزيق فتوحى بصرخات محتبسة فى الخلق وبانفعالات عاطفية مكبوتة ، بل بتشنجات حادة ، تبعث برسائل سرية لا تترجمها العين وانما تفهم اذا ما عبرت حدود عالم البصر الى عالم الخيال . وتنفذ الاحكامات الهندسية الى الآفاق الروحية السامية ، بعد ان تتخطى الحدود الزمانية والمكانية ، بحس شرقى عال ، وبمثابرة لا يتصف بها الى صائغ مجوهرات ممتزج المثلثات والمستطيلات والمعينات بخطوط أرابسكية ـ توريقية ، جديدة فى مذاقها ، ولها ابعاد فضائية لا نهائية ، تكنى عن سمو انسانى وشموخ نعثر على جذور له فى كمال الاهرامات ، التى وقفت منذ الاف السنين لتقطع بشموخها صمت الصحراء . - والاشكال التى تقبع فى الظل ، تبدو مثل وميض خاطف ، فتبرز الصور ، ويتقابل المرئى فى مواجهة الحلمى ، مثل رموز عبرت اغوار النفس والوجود ، وطفت فوق العدم فى اتجاهاتها نحو المطلق ، فاعادت للفن قدرته على الخلود ، حينما مزجت بين عهود الفطرة المتوهجة وحاضر يطمح للسمو بالقلب العامر بفيض المشاعر الحنونة ، واذا نظرت الى الاشكال فى لوحات نوار نجدها تتحول احياناً الى اشلاء تمزقت بفعل عربدة شيطانية ثم استعادت اكتمالها بفضل استقامة ملائكية ، فجمعت بين اعلام غرائزية وتوق الى عالم الحقائق فى عقول الفلاسفة ، وكذلك الى نقاء منزهه والهامات عاطفية . - فلتنظر الى ليل الزمان الابدى فى لوحات الفنان نوار وقد صدرت الالوان عن جوفة السحيق لتغمر الحياة ، مثل نجوم أو شبل شعاع فجر ، عبر عالم الكلمات متلمسا الخطى ، ومردداً الابتهالات المقدسة ، ليعيد تمثيل الاسطورة بلا نهاية ، حتى تحظى بعالم الخلود ، وتنكشف الاستار بفضل الخيال القادر على ابداع الحقائق الباهرة فى روعنها . - تبدو ابداعات أحمد نوار مثل صروح ذات طابع جليل وفى نفس الوقت لا تخلو من رشاقات اغصان الشجر او من الالحان الطروبة . - ولم يكتف فن نوار بالتناغمات وبعناصر الدقة الادائية التى تمتع البصر ، وانما وصل الى مستويات رمزية تكنى عن معانى النظام والتناغم الابدى فى الكون وقد اقتبس الفنان من النماء العضو فى الطبيعة ، فعمل هذا المبدا بالروحية ذاتها التى عهدناها فى تلك الطبيعة . إن الخطوط الهندسية المركبة فى تفاعلها مع التشكيلات العضوية قد خلقت تشبيهات مجازية واستثارت الوجدان والعاطفة وفى تداخلها أوحت بتأويلات متنوعة ، فبدت نصف بصرية وذات ازدواجية مثيرة للتساؤلات ، بنيت على التورية البصرية التى تدعو الى البحث عما يكمن وراء المظاهر وفى اكثر الاشكال تجريدية فى أعمال نوار نعثر على تمثيلات صورية طبيعية ، اذا ما استخدمنا بداهتنا الحرسية ، واستطعنا ان نحافظ على صفاء رؤيتنا انها أعمال فنية تجمع بين الصلابة والرهافة ، وبين الظلمة والنور ، وبين الاقتضاب الشاعرى الرمزى والتفسيرات المفصلة ، مثل معزوفة متناغمة جمعت بين متناقضات ابدية ، وصيغت فى قالب اسطورى يطمح ان يحصل على اسباب ضمان الوجود الدائم . وقد اكتشف الفنان سر الحقيقة المستترة خلف المرئيات ، وعثر على لحن الانسجام الخفى فى الاشكال المجردة وكذلك فى الاشكال الطبيعية . - ان كل عمل من أعمال نوار يمثل اسطورة تجسد اشواق الفنان للعبور بخياله وانفعاله خلال عالم المرئيات من اجل ان يعمل الى رمز يكن عن سلام مستغيث ، وهذه الطريقة هى ذاتها الى صنع بى الانسان الاول رموزه ، عندما كان ما يزال متحداً مع الكون والحياة ، ولم يكن قد انفصل بعد كل من العضوى عن الهندسى أو الخيالى عن الحقيقى . - ومنذ عروض الفنان نوار فى التسعينات تحول الاتصال بينه وبين جمهور فنه الى نوع من المشاركة المتفاعلة ، وقد تأكد ميله لجعل الجمهور شريكا فى عمله الفنى ، فيستمتع بعملية الابداع ، وينتهج بها باحساس مصحوب بالدهشة . ان هذا الفن من النوع المصمم بوعى وبطريقة تود ان تحيط بالمشاهد وتحتويه كمشارك فى الممارسة الابداعية ، وكذلك هو من النوع الذى ليس فيه حواجز بينه وبين الحياة ذاتها ، لقد اصبحت الاعمال الفنية هنا وبكاملها جزءاً من البيئة المحيطة بها فلا تتجزا عن المكان الذى يتم فيما انشاؤها انها تشمل على مساحات فراغية شاسعة ، محاطة بالطبيعة التى تكملها ، وتتقاطع معها عناصرها ، والفنان يستفيد من التغيرات فى التضاريس الارضية وهكذا اصبح فى استطاعة الجمهور المشاهد لاعمال نوار المشى حول ومن خلال وفوق العمل الفنى ومثل هذه الاعمال قطعا تتخطى المفاهيم التقليدية لتصل الى رؤية ابداعية ، تختصر الفن من خلال مادة العالم الطبيعى وبشكل مباشر ومع تجول الجمهور بين اعمال نوار تترك فى نفسه اثاراً عميقة ومشاعر مكثفة عن الحياة والثقافة ، حتى اصبحت لغة الفن مع هذه الاعمال امتداداً للحقيقى ومعايشة بين ثقافات خاصة وثقافات عامة . - لقد كانت دائماً عروض الفنان نوار مثل احتفاليات طقوسية لمقدسات ابداعية تشكيلية . ذات تأثيرات قوية وفعاله وفى مقدورها احداث التواصل المباشر بين المحتفلين بها وتحقق حماستهم الجماعية ، بل وتوحد بينهم وبين عوالم سرية . - ان الغد كان وما يزال يتمثل فى قدرة الفنان للاستحواذ على مكان خارج حدود الزمن ، فيشكله بتأثير من عواطفة ، ليكتسب قوة الرموز السحرية والحقائق الروحية ، ونجعل ما يقع خلف المرئى قابلا للرؤية العينية . - وفى الفن ، مثلما فى الاساطير يشعر المرء بقوى عارمة تستولى عليه ، فلا يشعر بكونه فرد ، بل يعود الجنس الذى ينتمى اليه بأكمله ، فيتردد فى نفسه صوت البشرية كلها . لقد جمعت أعمال نوار بين عقلانية الكلاسيكيين وانفعال الرومانسيين والسمو الروحى عند الرمزيين .
أ.د / محسن عطية
العبور .. معزوفة مستمرة
- دائما وكلما شاهدنا معرضا للفنان أحمد نوار ، وحتى قبل وصولى إلى قاعة العرض ، أتذكر فنانى الحرب العالمية الأولى والثانية الذين تناولوا الحرب مصورين قسوتها سواء تناولوا آله الحرب أو معاناة الجنود . - إلا أن نوار استفاد من تجربته الخاصة فى الميدان المعركة وحرب الاستنزاف ، وحرب أكتوبر 1973 ، وأحس وحشية الحرب وعنفها وتنامت بداخله لغة تشكيلية خاصة ، يكثف فى معانيها مستخدماُ الرموز المعبرة مع القدرة الفنية المتميزة فى كيفية الحوار الضوئى والظلى . - ويستخدم نوار وسائط أخرى على سطح اللوحة غير الألوان لتجسيد المعانى وتأكيدها ، ولكنه يحرص على إعلاء اللغة التشكيلية بعيداً عن المباشرة .. مغازلا المعنى العام الذى يسعى للتعبير عنه وينحاز له . - إنه لا يتناول الحرب بعيداً عن السلام فيعبر عن الاثنين معاً .. إلا أنه فى لوحات السلام ورغم كثرتها تجده مهموماً يحاول أن يراه واضحاً فيجده أسيراً ومكبلاً ومحبطاً ، ليس من خلال إيمانه به ، ولكن من خلال الواقع الذى يراه ، وهو يسعى دائما إلى تأكيد قيمته وتمييز العلامات الفارقة المضطرمة بينه وبين الحرب حتى يحرك حس المشاهد بلغة تشكيلية متراكبة سواء فى التشكيل أو التلوين ليضاعف الإحساس بالمعنى . يواجه بالإحباط من تحقيق فكرة السلام مكتملة فى لوحاته بالإيمان وقوة العزيمة فى لوحات الحرب ، وهنا تتأكد الفلسفة التعبيرية بين نقيضين ` الحرب والسلام ` والتى تختلف عن فنانى الحرب العالمية الأولى والثانية فهم كانوا يعبرون عن هول الحرب ويصورون الجثث والأشلاء والأسلحة المدمرة ، أما نوار فقد اهتم بطاقة الإنسان وإرادته المستمرة ضد المعانى السلبية التى تصور المآسى .. لقد نضجت الفكرة تماماً ، ولا أبالغ إذا قلت إننى تعرفت على جزء كبير من ذاتى وأنا أتنقل بين لوحات المعرض ، وازداد هذا الإحساس قوة وتفاعلا حين توجهت إلى ذلك النفق المظلم المؤدى للعمل المجسم الذى أقامه نوار فى فراغ ضيق ليشعرك بالرهبة بمجرد دخولك النفق . - قرأت العمل من وجهة نظرى وأردت أن أؤكد إحساسى بسماع رؤية الفنان الذى قال : هناك جانبان للرؤية الأول هو الجانب الجمالى من خلال خلق بيئة وهمية فى الفراغ المحدد الضيق لتحقيق القيمة الإنسانية التى تؤكد سمو الانتصار ، فالمقاتل بخروجه من حيز فضائى مطلق وصولاً إلى رفع العلم فى فضاء مطلق أيضاً ، فإن هذا يعنى تعميق الطاقة الإنسانية الداخلية التى تفجرت فى عام 1973 لتحطيم خط بارليف . - وفى الجانب الموضوعى ، فالمشاهد يأتى إلى العمل من خلال نفق مظلم فى إشارة إلى انتكاسة 1967 وفى أسفل النفق تنطلق إضاءة ضوئية حمراء من علم مصر لتشير إلى قوة الوطن ، فالنفق المظلم مدخل لمعزوفة الانتصار والزهو والتحدى لتشعرك بأنك انتقلت من الانكسار إلى الانتصار .
د. سامى البلشى
جريدة الإذاعة والتليفزيون-2009
ثلاثية أحمد نوار على شواطئ المكسيك
* التمثال جزء من مشروع ضخم شارك فيه كبار مثالى العالم لإقامة 7 تماثيل ضخمة على شاطئ ` سانتا كاتارينا ` * ` التحدى ` يحرض الشعوب على مواصلة النضال ضد قوى الشر فى الدنيا كلها * الحرية حلم الشعوب لا يمكن أن تتحقق إلا بإرادة الإنسان القوية - عاد من المكسيك فى منتصف هذا الشهر الفنان أحمد نوار بعد أن أمضى بها نحو أسبوعين قام خلالهما بالإشراف على نصب تمثاله الضخم `التحدى` على شاطئ نهر ` سانتا كاتارينا ` الذى يقطع مدينة ` مونتى راى ` بمسافة تصل إلى 42 كيلومترا ، التمثال جزء من مشروع ضخم تبناه مجلس المدينة للاستفادة من أراضى طرح النهر ، على جانبيه بتحويلها إلى مكان حضارى يجذب الناس إليه ويتناسب مع احتياجات العصر ، بإنشاء ملاعب للجولف وحدائق للأطفال وحدائق عامة وأماكن ثقافية وترفيهية وأماكن للألعاب الرياضية وتسلق الجبال .. ومساحات شعبية كبيرة يتجمع فيها المواطنون والسائحون فى الأعياد والمهرجانات والاحتفالات .. فضلا عن المسارح والأسواق الشعبية والجداريات الضخمة التى تقرر إقامتها على شاطئ النهر . - وتضمن التخطيط للمشروع اختيار ستة من كبار المثالين الأجانب على مستوى العالم وفنان مكسيكى لإقامة سبعة تماثيل ضخمة تتوزع على شاطئ النهر هم أوسكار نيمير من البرازيل ، وماتيس جورتيز من ألمانيا وهو مكسيكى الأصل وبروس بيزلى من الولايات المتحدة ، البرتو بالى من الولايات المتحدة الأمريكية ، وخوس ماريا سيرفنتى من أسبانيا ، وأحمد نوار من مصر ، فضلا عن فنان مكسيكى يتم اختياره عبر مسابقة تجرى بين المثالين المكسيكيين . * استكمال الثلاثية - ويقول الفنان أحمد نوار : عندما تلقيت فى أواخر عام 2005 دعوة من حكومة مقاطعة مونتى راى للمشاركة فى المشروع مع الفنانين السبعة الأجانب وبعد أن تلقيت التفاصيل الكاملة للموقع من الناحية التخطيطية والعمرانية ، فكرت فى أن أصمم تمثالا يكمل الثنائية التى سبق لى أن أقمتها فى المكسيك نفسها ، وتضم تمثالين يفصل بينهما مائة ألف كيلو متر الأول هو ` الحرية ` الذى أقيم بجزيرة النساء بالشمال ، والثانى ` الإرادة ` الذى أقيم بمدينة شيتومال بالجنوب ، وهما تمثالان من الحديد والصلب يزن الواحد منهما ما بين 5 إلى 8 أطنان وملونان بالأبيض والأسود من هنا نبتت فكرة تمثال ` التحدى ` ليكون استكمالا لهذه الثلاثية المهمة فى تصورى فى حياة وأحلام البشر ، فالحرية حلم الشعوب ولا يمكن أن تتحقق إلا بالإرادة القوية للإنسان وإزاء ما يدور الآن على سطح الكرة الأرضية من كوارث إنسانية تحرص الشعوب على مواصلة التحدى ضد قوى الشر لتحقيق قدر مناسب من العدالة لشعوب الدنيا كلها ، فالتحدى صراع ممتد إلى عنان السماء ولكن حلم الفنان وخياله ومبادئه تجعل الانتصار دائما للخير اختزالا لآمال الإنسانية، أما النهايات الهرمية فهى تنمو بسمو وتمتد إلى الجاذبية العليا والذهبية منها هى تماس مع الطاقة الكونية وتجسيد لروح الطاقة المكونة فى هذا النضال الفسيح . * التحدى تماس الكون - ويضيف أحمد نوار أنه أعد تفصيلا مبدئيا عن المشروع وبعد أكثر من عام وفى 19 يناير من هذا العام وصلته دعوة لحضور مؤتمر صحفى لتقديم فكرة التمثال مع بقية المثالين الأجانب الذين اختيروا للمشاركة فى المشروع ومع الخبراء فى اكاديمية العمارة ومعاينة المواقع المختارة لإقامة التماثيل السبعة واستكمال التفاصيل مع المكاتب الاستشارية المكلفة بإعداد الدراسات العمرانية والإنشائية والبيئية ودراسة أوزان التماثيل وحركة الرياح على مدار فصول العام بما يضمن ثبات التماثيل واستمرارها دون حدوث أخطار . - ويبلغ ارتفاع تمثال ` التحدى تماس الكون ` الذى صممه نوار 25 مترا بعرض وعمق يصل إلى 3.40 متر ويزن 40 طنا من الحديد الصلب ولون باللونين الأبيض والأسود .. وقد تم تنفيذه بالعاصمة المكسيك ، ونقل إلى موقعه فى مدينة ` مونتى راى ` على مبعدة 1200 كيلو متر على مقطورة ضخمة حيث قامت بتثبيته على القاعدة التى أعدت له بقياسات انشائية دقيقة حتى تتحمل وزن التمثال الضخم . * الاتقان وثقافة المهنة - ويضيف د. أحمد نوار أنه توجه فى اليوم التالى إلى المكان الذى نفذ فيه التمثال لاستكمال الأسطح الشبكية التى ستثبت على بعض جوانبه ، وكانت هذه الأسطح قد وصلت إلى موقع التمثال وبدأ العمل فى تنظيفها من الزيوت والدهون ، ثم بدأوا بالعمل وإحضار أدوات القياس بانضباط ودراية ومعرفة بتنفيذ ما هو مطلوب ، وحين لاحظت أن هناك اختلافا فى ارتفاعات الأشكال الهرمية التى ثبتت على نهاية أعمدة مختلفة الارتفاعات عن التصميم الذى وضعته وهممت بأن أطلب منهم تعديل ذلك قال لى أحدهم لقد فعلنا ذلك حتى لا تتلاشى الأهرامات بفعل المنظور جراء الارتفاع وحتى تظهر الاهرامات العلوية بشكلها الطبيعى وتلك هى ثقافة المهنة والاتقان . - ما يتمناه الفنان أحمد نوار هو أن ينفذ مشروع مماثل مثل المشروع الذى أقامته مدينة ` مونتى راى ` على ضفتى نهر سانتا كاتارينا على جانبي نهر النيل فى أى موقع من المواقع التى يمر بها النهر ، وأن يتم التخطيط له بشكل علمى متقن يشترك فيه جميع المتخصصين .
فاطمة على
القاهرة - 2007
العبور العظيم .. والقوى الكامنة فى إبداعات ` نوار `
- إبداعاته دائما مثيرة للجدل والدهشة والإعجاب بما تحمله من معان وقيم وطنية وحضارية ومفاهيم وتقنيات تشكيلية قادرة على التمرد على المألوف والتقليدى والاتجاه نحو التحديث والتجديد باستخدام كل لغات الجمال وإيقاعاتها المبهرة . - وهو ما يميز أسلوب وشخصية د. ` أحمد نوار ` الفنان والمبدع والكاتب والأستاذ ومربى الأجيال والعميد السابق لكلية فنون المنيا مؤسس العديد من الفعاليات والبيناليات الدولية والمحلية .. صاحب البصمة المتميزة فى الحركة الفنية المصرية المعاصرة .. فسجل فناننا حافل بالعطاءات والمعارض واللقاءات حتى أنه أقام عبر 42 عام من الإبداع 94 معرضا خاصا وشارك فى مئات المحافل الجماعية الدولية والمحلية .. توجها بـ 25 جائزة ووساما رفيعا أهمها وسام الدولة للفنون والعلوم من الطبقة الأولى وأوسمة الاستحقاق المدنى من ملك أسبانيا ` خوان كارلوس ` ` اوفيسيه ` فى الآداب والفنون من الحكومة الفرنسية وغيرها من التكريمات والصفحات المشرقة التى يصعب سردها . * ملحمة شعب - فالحديث عن ` نوار ` يحتاج لصفحات وصفحات بلورها اليوم معرضه الجديد الذى يشغل قاعات أفق `1` بمتحف محمود خليل بعنوان ` العبور ` .. لكن داخله سرعان ما تكتشف أنك أمام ملحمة شعب ووطن وليس مجرد لوحة أو منحوتة أو عمل مجهز فى فراغ .. فمعروضاته الثلاثة والثلاثون تمثل حالة تتوحد دقائقها فى سيمفونية نصر ومعزوفة أمل تحقق بطولة شعب وجندى وشهيد انتقض وعبر وانتصر وحقق بصموده المستحيل . * ممر الانكسار - منذ حرب أكتوبر وقبل 36 عاما وفناننا يسعى لترسيخ لحظة الحدث العظيم والقوة الكامنة التى تفجرت خلاله فهو واحد من أبطال حرب الاستنزاف قنص 51 إسرائيليا وتمنى أن يجسد هذه اللحظة بريشته وأعماله .. لكن انشغاله بعمله بوزارة الثقافة كرئيسا لقطاع الفنون التشكيلية أو الهيئة العامة لقصور الثقافة حال دون تحقيق فكره ورؤيته .. أما وقد تفرغ لفنه وتحرر من أعباء الكرسى .. أتاح له مساحة إبداعية أوسع لتحقيقها بهذه القوة والصدق والإبهار معتمدا على تقنيات وخامات وأدوات متعددة .. تتوحد تنغيماتها وتتصاعد إيقاعاتها حتى تبلغ قمة تأججها عبر ممر مظلم أو قل خندق ضيق يمثل حالة الانكسار وآلام النكسة وتأثيراتها السلبية على المصريين .. أكدها خلال همهمات صوتية ونبضات قلبى مهزومة ومحبطة . - لكنه حافظ على بصيص من أمل وشعاع ضوء رفيع يخترق هذه الظلمة بطول الممر بألوان علم مصر .. رمز القوة الساكنة فى أعماقنا فى انتظار لحظة الفرج والخروج من العتمة .. وبانتهائه جاءت فرحة النصر وعودة الثقة فى النفوس .. ثم تتابع مشاهد القبور ومواكب الأبطال والشهداء وأشلاء الأجساد العارية على كراسى متحركة مؤكدة أنهم أحياء عند ربهم يرزقون .. وكأن أرواحهم تنتشى بسماع أنشودة النصر على أنغام آلة ` الهارب ` . - والأهم أن د. ` نوار ` نجح أن يجعلك كملتقى مشاركا إيجابيا فى المشهد باستخدام الأسطح الزجاجية العاكسة . والمرايا خلال مرورك بقبور الشهداء تحت تأثير اللمبات الضوئية الخافتة وانعكاساتها .. وتأتى النهاية أكثر تشويقا وجمالا عندما تتلاحم الأرض والسماء وتتلالأء النجوم وترفرف أعلام النصر فى مشهد أحياء روح أكتوبر واعادة شحن الطاقات الجبارة الكامنة فى المجتمع . * توحد المقاتل والآلة العسكرية - أما لوحاته الفنية لا تختلف كثيرا عن سابقتها وأن توحدت فيها الشخوص وتلاحمت مع الآلة العسكرية . فتبدو عضلات المقاتل جزءا من تكوين المدفع .. أو جسد طائرة تتبدى فى تكوينات سيقان قوية متحركة تدفعها للانطلاق والطيران .. ` لنكتشف فى النهاية أن صياغة ` نوار ` الجديدة للأشياء أكثر إنسانية وأن المقاتل لا يلتحم فقط بجسده ولكن بروحه ووجدانه وأن الطاقة المحركة لها هى طاقة الفعل الإنسانى الخلاقة التى أبدعت وانتصرت ` كما ذكر الزميل الناقد الكبير أسامة عفيفى فى دراسته الرائعة التى نشرها فى الكتيب المصاحبى للمعرض . - تعتبر معزوفة النصر من أهم لوحاته قدمها فى عشر لوحات متنوعة .. لون العلم فيها هو البطل ` الأحمر ` ` الأبيض ` ` والأسود ` .. ثم تأتى مجموعة الثلاثيات ` كالإرادة ` الاقتحام ، عزف الشهيد ، الهرم ، وغيرها من الأعمال تؤكد نفس المعنى والهدف وتدعونا للخروج من غيبوبتنا وأن ننفض عنا غبار الزمن ونستعيد روح النصر والصمود . - تحية للدكتور ` أحمد نوار ` الفنان والمقاتل والإنسان الذى تكلف جهدا وأعباء مالية ضخمة ليهدى لنا هذا السيناريو الرائع بلغة تشكيلية مبهرة فى شهر اكتوبر وذكرى النصر .
ثريا درويش
جريدة الأخبار -2009
العبور .. معزوفة مستمرة
- دائما وكلما شاهدنا معرضا للفنان أحمد نوار ، وحتى قبل وصولى إلى قاعة العرض ، أتذكر فنانى الحرب العالمية الأولى والثانية الذين تناولوا الحرب مصورين قسوتها سواء تناولوا آله الحرب أو معاناة الجنود . - إلا أن نوار استفاد من تجربته الخاصة فى الميدان المعركة وحرب الاستنزاف ، وحرب أكتوبر 1973 ، وأحس وحشية الحرب وعنفها وتنامت بداخله لغة تشكيلية خاصة ، يكثف فى معانيها مستخدماُ الرموز المعبرة مع القدرة الفنية المتميزة فى كيفية الحوار الضوئى والظلى . - ويستخدم نوار وسائط أخرى على سطح اللوحة غير الألوان لتجسيد المعانى وتأكيدها ، ولكنه يحرص على إعلاء اللغة التشكيلية بعيداً عن المباشرة .. مغازلا المعنى العام الذى يسعى للتعبير عنه وينحاز له . - إنه لا يتناول الحرب بعيداً عن السلام فيعبر عن الاثنين معاً .. إلا أنه فى لوحات السلام ورغم كثرتها تجده مهموماً يحاول أن يراه واضحاً فيجده أسيراً ومكبلاً ومحبطاً ، ليس من خلال إيمانه به ، ولكن من خلال الواقع الذى يراه ، وهو يسعى دائما إلى تأكيد قيمته وتمييز العلامات الفارقة المضطرمة بينه وبين الحرب حتى يحرك حس المشاهد بلغة تشكيلية متراكبة سواء فى التشكيل أو التلوين ليضاعف الإحساس بالمعنى . يواجه بالإحباط من تحقيق فكرة السلام مكتملة فى لوحاته بالإيمان وقوة العزيمة فى لوحات الحرب ، وهنا تتأكد الفلسفة التعبيرية بين نقيضين ` الحرب والسلام ` والتى تختلف عن فنانى الحرب العالمية الأولى والثانية فهم كانوا يعبرون عن هول الحرب ويصورون الجثث والأشلاء والأسلحة المدمرة ، أما نوار فقد اهتم بطاقة الإنسان وإرادته المستمرة ضد المعانى السلبية التى تصور المآسى .. لقد نضجت الفكرة تماماً ، ولا أبالغ إذا قلت إننى تعرفت على جزء كبير من ذاتى وأنا أتنقل بين لوحات المعرض ، وازداد هذا الإحساس قوة وتفاعلا حين توجهت إلى ذلك النفق المظلم المؤدى للعمل المجسم الذى أقامه نوار فى فراغ ضيق ليشعرك بالرهبة بمجرد دخولك النفق . - قرأت العمل من وجهة نظرى وأردت أن أؤكد إحساسى بسماع رؤية الفنان الذى قال : هناك جانبان للرؤية الأول هو الجانب الجمالى من خلال خلق بيئة وهمية فى الفراغ المحدد الضيق لتحقيق القيمة الإنسانية التى تؤكد سمو الانتصار ، فالمقاتل بخروجه من حيز فضائى مطلق وصولاً إلى رفع العلم فى فضاء مطلق أيضاً ، فإن هذا يعنى تعميق الطاقة الإنسانية الداخلية التى تفجرت فى عام 1973 لتحطيم خط بارليف . - وفى الجانب الموضوعى ، فالمشاهد يأتى إلى العمل من خلال نفق مظلم فى إشارة إلى انتكاسة 1967 وفى أسفل النفق تنطلق إضاءة ضوئية حمراء من علم مصر لتشير إلى قوة الوطن ، فالنفق المظلم مدخل لمعزوفة الانتصار والزهو والتحدى لتشعرك بأنك انتقلت من الانكسار إلى الانتصار .
سامى البلشى
جريدة الإذاعة والتليفزيون-2009
` نوار` يرصد التاريخ ويفجر طاقاتنا الكامنة
- هنا الوطن فى أقسى لحظات الألم يعزف لحناً شجيا مختزناً طاقة جبارة تخلق لحظة الانتصار .. هنا التاريخ نابضاً قادراً على إحداث تلك الرهبة وخلق تلك الدهشة وفتح مجالات الرؤية وإظهار مواطن القوة وتجميع دقائق اللحظة فى صورة متكاملة مبهرة مدهشة أنت بداخلها .. جزء منها .. خائفاً .. منقبضا .. مبهوراً ..منتشياً هذا تماماً ما فعله الدكتور أحمد نوار فى معرضه المدهش ` العبور ` المقام حالياً بمتحف محمود خليل بالدقى مجسداً هذا الحدث التاريخى المعجز الأسطورى بعد أكثر من 36 سنه من حدوثه ويتفرد المبدع أحمد نوار وهو أحد أبطال حرب الاستنزاف بصنع مجسم فنى شديد الإبهار يأخذ المشاهد عبر دروبة إلى تلك ` الحالة ` وإلى هذه ` اللحظة ` بدءاً من هذا الممر المظلم الضيق الذى يمثل فترة الهزيمة ويشعرك بقسوة القهر ولحظات الخوف مع مؤثرات صوتية مصاحبة لقلب ينبض فى خوف ورهبة يدعم شعور الملتقى بتلك الحالة ، لكن الظلمة ليست كاملة ، فجانبا أسفل هذا الممر يبرز ضوء خفيف باللون الأحمر مظهراً علم مصر على امتداد الممر وكأن الأمل مازال باقياُ وإن كان خافتاً ، ولحظة الخروج من هذا الممر هى لحظة الصدمة التى لا تلبث أن تتحول إلى دهشة تتوالد بعدها مشاعر الثقة والأمل .. فأنت أمام أجساد عارية ممزقة معظمها على كراسى متحركة لكن أصحابها أحياء ، أطرافها هنا وهناك لكنهم يتجاوبون مع عازف ` الهارب ` تلك الآلة المصرية الصميمة الذى يعزف من نوتة موسيقية تمثل علم مصر معزوفة البطولة والفداء . - أنت أمام عالم فى أضيق حيز يمكن أن تتصور حيث استخدم د. نوار تقنية الأسطح الزجاجية العاكسة لخلق هذا الامتداد وجعل المشاهد مشاركاً متداخلاً بخلق فضاء وهمى بدون حدود وزوايا مركبة تجعل عناصر العمل الفنى مرئية فى مختلف مراحله مروراً بقبور الشهداء التى تدهشك تلك اللمبات الخاصة الموحية بالشموع المضاءة فوق كل قبر لتعبر عن خلود أرواحهم وتكريمهم حيث تصنع المرايا انعكاساً مبهراً للشموع المتراصة فى الظلمة لنصل فى النهاية إلى عالم مصر يرفرف على خط بارليف فى ختام مؤثر لكل تلك التضحيات الكبيرة ، وكل تلك اللحظات القاسية وكأنها لحظة الحصاد ، وفى وسط كل هذا علم مصر يصنع إطاراً بين السماء والأرض .. السماء بنجومها الذهبية فى لحظة العطاء والفداء ونجومها التى تتحول إلى ألوان علم مصر فى لحظة العبور والانتصار . وعن لوحات المعرض يتحدث الدكتور نوار حيث أكد أنه استخدم خامة الأكريليك لينجز تلك الأعمال الفنية فى وقت أقصر واستخدام ألوان العلم لأن العلم ليس قطعة قماش وإنما هو دلالة على روح مصر ، وعن تأخرة فى إنجاز هذا المعرض أكد أن القياس بالسنوات يجعلنا نتصور أن المعرض قد تأخر زمنياً ، لكن القياس بالتسلسل الطبيعى للفترة التى تلت حرب أكتوبر نعتبره فترة طبيعية مؤكداً أن شعوره بأن العبور عمل فذ أدى إلى امتداد فترة ما قبل تفجر شحنته من المشاعر والأحاسيس . - وأضاف : أنا أبحث دائما عن الطاقة الداخلية للجندى المصرى التى تعاظمت وتوهجت فى أكتوبر 73 وهو ما تظهره اللوحات . - ويؤكد أن المعرض يفجر أكثر من قضية منها الحديث بلغة الفن فى القضايا والموضوعات القومية ففى فترة الستينيات وما قبلها كان هناك ارتباط وثيق للمبدع بالقضايا القومية بينما فى أيامنا هذه تتلاشى العلاقة مقتصرة على أغان هابطة فى المناسبات القومية حتى أننا نعيش حتى هذه اللحظة على أغانى أكتوبر وما قبله ، ويفجر المعرض أيضا قضية عدم توثيق حرب أكتوبر درامياً على مستوى السينما والتليفزيون والفنون التشكيلية ، فما تم إنتاجه فى معظمه لا يرقى إلى مستوى هذا النصر العظيم الذى تجاوز كل النظريات التكتيكية فى العالم فالعبور فى عز الظهر كان عبقرية لم تترجم فنياً ويؤكد نوار أن المعرض على المستوى الشخصى يمثل بداية ولهذا فهو يسميه العبور رقم `1` لأنه يعتبره محاولة أولى وهناك محاولة ثانية فى المعرض القادم عن العبور أيضاً . - مؤكداً أن العبور فى لوحاته ليس بمعناه الحرفى فهو عبور مصر بطاقتها وروحها لتجاوز محنة أصابت كل المصريين والعرب فى هزيمة 67 مؤكداً أن العلاقة واضحة فى لوحاته بين الشكل الهندسى والشكل العضوى وأن استخدامه لتشكيل يعطى انطباعاً بأشكال بعض الأسلحة هو جزء من البناء التشكيلى فى اللوحات . ويفجر معرض د. أحمد نوار مفاجأة أخرى فى ورشة العمل التى تحدث لأول مرة بين ناقد وفنان أثناء الرسم بحيث نجد كتالوج المعرض يحتوى على نصين ` نص بصرى ` و ` نص كتابى ` يصنع بين يدى المشاهد مفاتيح عالم نوار ويضع رؤيته النقدية لهذه اللوحات ، مؤكداً تمرد نوار على القوانين الثابتة فى عصر المتغيرات الكبرى كاشفاَ عن الطاقة الكامنة فى كائناته فيشع نورها بين ثنايا التكوين لتنير الطريق أمام الملتقى فيكشف الطاقة الكامنة فى داخله ويشتعل فيه إرادة التغيير ، ويؤكد أسامة عفيفى فى دراسته الفنية التى لا تخلو من ملامح نوار الإنسانية أن نوار فى هذا العرض يستدعى الملحمة البشرية بطاقاتها الهائلة ليحاول أن يضعنا فى قلب تفاعلاتها وتجلياتها كى يدهشنا ويثبت أننا جميعاً نمتلك هذه الطاقة لكنها تعيش الآن تحت ركام الركود .
نفيسة
جريدة الأسبوع - 2009
أحمد نوار يعزف مجددًا أنشودة العبور
- منذ اللحظة الأولى لدخولك قاعة أفق ، تدرك أنك قد دخلت عالما ملحميا بامتياز . الموسيقى الملحمية يتخللها المارش العسكرى والإيقاع العصرى المتوتر ، عنوان المعرض ` العبور ` وما يتبعه من أسماء للأعمال الفنية ( مثل الانكسار ، الروح ، الارداة ، صعود الجندى ... ) والأهم من ذلك كله هو تنسيق قاعة العرض التى تدخلك - رغما عنك فى قلب الطقس المشهدى وفى حالة العبور ، التى صممها الفنان صاحب ( لوحة أنسان السد العالى ) من خلال عنصرى المعرض : أى مجموعة اللوحات الأكريلك والعمل المركب المكمل والمتمم للوحات الفنية ، الذى سكن فى قاعة موازية صممت خصيصا له.
- أى العبور يقصده الفنان أحمد نوار ؟ هناك المعنى الرمزى الذى ينشده أى فنان ، أى العبور بمعناه الإنساني ، الانتقال من العثرة إلى الانفراجة ومن النفق المعتم إلى الضوء الفسيح ، العبور من الظلام إلى النور . وهناك المستوى الأول الذى يبدأ الفنان باصطحابنا إليه ، عبور خط بارليف ونصر أكتوبر الذى تجسد بعد مجموعة من الهزائم والانكسارات ، فيتوقف الفنان بريشته عند تداعيات الحرب والهزيمة والانتصار والسلام .. موضوعاته الأثيرة منذ ما يزيد على الأربعين عاما لم يستطع أن يتخلص خلالها من تأثير مشاركته فى الحرب على عمله الفنى حتى وإن تطرق لموضوعات أخرى مثل الاحتلال الفلسطينى أو الانتفاضة فكلها تتشابك وتصب عند روح المقاتل بداخله . فقد لقب بـ ` القناص ` حينما تمكن أثناء حرب الاستنزاف ( 1968-1970 ) من قنص 15 من قوات العدو ، وعرف بعدها بالممسك بريشته والبندقية فى آن . كيف يمكن الاستمرار فى العزف على موضوع الحرب والسلام طيلة هذه السنين ؟
- فقد عرف العديد من الفنانين العالميين كمؤرخين للحروب سواء من خلال تصويرهم الدقيق لبشاعات الحرب أو من خلال تعبيرهم غير المباشر عن الدمار الإنساني .
- والمتابع لمسيرة أحمد نوار يجد تطور الفنان فى نفس هذا الموضوع ، حيث شرع فى السبعينيات فى استخدام شظايا القنابل وفوارغ طلقات الدبابات فى اللوحة الفنية ، ثم قدم بعدها الحرب من خلال أفكار أكثر تجريدية يلعب الزمن والرمز فيها دورين كبيرين مثل تيمة ` الصمت ` أو ` عزف الشهيد ` أو ` الصعود ` الذى يستفيد من الموروث الدينى . كما لم يتوان الفنان فى استخدام التقنيات المختلفة مثل الجرافيك أو إضافة المجسمات إلى اللوحة ، أو مؤخرا فى عام 2000 أقبل على تجربة العمل المركب أو التجهيز فى الفراغ لأنه كان القالب الملائم لموضوع ` فن الأرض ` أو شهداء جبل أبو غنيم الفلسطينى .
- فى `العبور` اليوم - أو معرضه الحالى - يستمر نوار فى التجريب فى دمج المعزوفة الموسيقية بأدوات الحرب، يعتمد فى التشكيل على النوتة الموسيقية وهيكل البيانو أو الهارب ويعشقها بشكل طبيعى بالمقاتلة أو الصاروخ ، يتهامى الوجود الإنسانى مع السلاح ، وتصبح الموسيقى هى هذا الرمز الزمنى العصى على التعبير ، الذى يجسد تجاور الحياة والموت .
- مثل مجموعة لوحات ` معزوفة النصر` حيث تتداخل الحروف الموسيقية فى بناء أشبه إلى البيانو ويغطيها غطاء صاروخى ، أو مثل لوحة ` عزف الشهيد ` التى تعتمد على عنصر فنى بامتياز هو المرأة ، حيث تنعكس الصورة وتنكسر فى المرآة فتظهر آلة البيانو مقلوبة تعزف عليها أيدى وأصابع مشوهة .
- ثم يشركك الفنان فى رحلة العبور بشكل فعلى من خلال قاعة العمل المركب حيث تجتاز ممرا طويلا مظلما تغلفه المرايا من كل جانب لتصطدم بثلاثة أجزاء من العمل الأول هو الوجود الإنسانى المهشم عبر مجسمات لأعضاء مبتورة وأجساد منتقصة على كراسى متحركة ، والجزء الثانى يبدو المسطح المظلم أشبه بمقابر للشهداء تضفى عليه الشموع المضيئة جو كنسى مهيب ثم الجزء الأخير هو الكتلة الصرحية المرتفعة ، التى تشير إلى الجندى المجهول وعلامات النصر ، والتى لا يعكر صفوها سوى استخدام العلم الذى يتكرر أيضا فى اللوحات فينقلنا سريعا إلى المباشرة ، كل هذا محاطا بالموسيقى الملحمية التى تتبعنا منذ الولوج إلى قاعة العرض .
- هل حقا أصبح الفنان حبيس موضوع الحرب حتى وإن عدد تقنياته وغاص فى عالم التجريب ؟ أم أنه يشير أيضا إلى العبور المجازى الذى يحتاجه كل منا فى مرحلة خفوت الهمم وتردى الأحوال ؟ رمزيته وانفتاحه على التفسيرات المختلفة ، ولكن قد تكون إحدى هذه التفسيرات هى محاولة تأكيد نوار على روح الفنان المقاتل الرمزى فى هذه الأزمنة ، الذى لا ينعزل فى قضاياه الصغرى ورقته المتناهية ليرتدى روح المقاتل ويستتبع نصرا وراء نصر .
دينا قابيل
جريدة الشروق - 2009
الطاقة الكامنة فى `عبور` أحمد نوار
- يعد أحمد نوار واحداً من الفنانين التشكيليين الذين يتميزون بتعددية الثقافة التشكيلية المعاصرة ، التى تسعى إلى إحداث قفزات واسعة ، حيث يتمتع أحمد نوار بجميع المقومات الفنية لفنان يمتلك ناصية الفن ، وهو ما أتاح له حرية التنقل والتنويع فى اتجاهات ومفاهيم حداثية شديدة الجنوح والجرأة ، حيث تمتد لديه مساحات شاسعة من الغوص فى مجالات التجريب المتقن الذى يطوعه باقتدار لعمل مزيج بين خلفيته الأكاديمية كأستاذ ومتخصص فى مجال الحفر وبين طليعيته وتمرده الذى أسهم فيها بقدر كبير انفتاحه على الغرب من خلال أسفاره المتعددة واحتكاكه ، بمحافل واسعة فى مجالات الثقافة التشكيلية العالمية ، كل هذا أكسبه خاصية المرونة البصرية التى تقوى على اختزان لا شعورى لجرعات هائلة من الأرصدة الإبداعية التى تراكمت فى ذاكرته ووجدانه لتنصهر مع ما يتمتع به من موروث ثقافى ومخزون أكاديمى يستخرجه نوار فى هذا المزيج المبهر الذى عكسته مجموعة معارضه على مدى عشرين عاما . - كما يعتبر أحمد نوار واحدا من من أولئك الفنانين الذين حملوا تبعه التحول السياسى والاجتماعى بشكل مباشر أو غير مباشر فى أعمالهم الفنية المختلفة وكان لديهم الوعى العميق برسالة الفن، وعرفوا كيف يقدمون أعمالاً فنية تمد الذاكرة بثراء الذكريات التاريخية ، مؤكدا أن الفنان التشكيلى يعبر عما يجيش بداخله من انفعالات ويتأثر بما حوله من أحاسيس ، يجتر من ذاكرته ما يحمله بداخلها فيخرجه فى أعماله من خلال الكتل والخطوط والألوان والملامح والأشكال التى تعكس تبريرا جماليا وحساسية عالية فى صياغة الموضوعات والتكوينات ضمن فهم عميق وخيال حر طليق ورؤى مستقلة أصيلة . - ومعرض الفنان أحمد نوار الذى يحمل عنوان العبور ، والمقام حاليا بقاعة أفق (1 ) بمتحف محمد محمود خليل بالجيزة لجأ فيه الفنان للتعبير عن فكرته التى تمحورت حول مفهوم الحرب والسلام إلى نظام بنائى ملائم لتحقيق منظومة فكرية وتجسيدها تشكيليا عبر أسلوب فنى . - فقد عاش نوار حياة العسكرية وذلك حينما كان جنديا خلال فترة حرب الاستنزاف ، وشاهد وقائع الدمار والخراب والقتل والإبادة عن قرب، فتأثر بها واختزنها فى وجدانه وذاكراته وسجلها فى مذكراته ، فجاءت أعماله متأثرة بتلك الفترة التى تعد بمثابة الحلم أو الرغبة فى تغيير العالم ، ويرى فيها البعض أنها دعوة للمقاومة ،فكما يقول الفنان محمد عبد المعطى : الفنان أحمد نوار يدعونا إلى ألا نترك خفافيش الظلام تغتال أحلامنا النبيلة والتى جسدها على هيئة حمامات بيضاء ترفرف فى كل أرجاء المكان،إنه يدعونا إلى أن نقاوم هذا الكابوس . - والحقيقة أن أحمد نوار خلال بحثه عن تجليات الطاقة الكامنة فى ملحمة العبور لا يرسم من أجل التفتيش فى وجدانه ووجدان جيل كامل من صناع العبور عن أسباب حدوثه وتمجيد أبطاله ، إنما يستشرق بغوصه فى تجلياتها آفاق مستقبل قادم يمكن أن يعبر بنا إلى حياة أجمل تحقق إنسانية الإنسان المصرى الذى حقق معجزة العبور .ذلك أن نوار كان خارج مصر للدراسة فى فترة العبور ولم يستطع العودة للمشاركة فى هذه الملحمة ،لكنه أطلق لخياله الفنى العنان واسترجع المشهد من خلال حصيلة الذاكرة التى امتلأت بالبطولات والتضحيات خلال حرب الاستنزاف ، ولاحت له فى الأفق فكرة الطاقة الكامنة ، فالبشر الذين عبروا وتحدوا التكنولوجيا لم يكونوا بشرا عاديين ، لكنهم كانوا مشحونين بطاقة هائلة تسعى إلى التغيير ،وتسعى إلى العبور إلى غد أكثر إنسانية ، وتسعى إلى الثأر لأرواح الشهداء ، وتسعى إلى رفع العلم حفاظا على الكرامة الوطنية على أعلى نقطة فوق خط بارليف الذى قيل إنه لا يقهر. - حالة من السمو والتوحد مع الهدف لم يسبق لها مثيل ،فجرت طاقات الإنسان المصرى الكامنة فراح يصوغ ملحمة لم يشهد لها العالم مثيلا فى حيويتها ومعجزاتها وتضحياتها لتعيد للإنسان المصرى توازنه وكرامته وإنسانيته ، وكل هذا يظهر فى تكوينات نوار التى تلتحم فيها الآلة بالإنسان ليخلق منها شخوصا لها واقعيتها الخاصة التى تشع نورا كاشفا يبحث فى قلب الأسود الداكن عن تجليات الطاقة الكامنة ونظرة على مسيرة نوار الذاتية نجدها حافلة بالدراسات والمعارض والجوائز والمناصب التى تقلدها .
نجوى العشرى
جريدة الأهرام الدولى - 2009
نداء نوار للأجيال
- ما أعظم أن يكون الفنان قائداً قادراً على أن يستنهض أمة ويستنطقها بفنه من أجل السمو بالمجتمع والفن بقدرته الفذة على دمج مفردات العصر بسرعته وتطوره بأحداث التاريخ المصيرية ، واستعراضهما فى حالة نداء إنسانى رفيع المعانى ..إنه د. أحمد نوار الذى جسد حلمه وحكمته بموهبته التى منحها الله لقلة من المبدعين مسترجعاً ومستلهماً ملحمة حرب أكتوبر المجيدة والتى عاشها الفنان جندياً مشاركاً فى حرب الاستنزاف لتكون نداء وحافزاً إبداعياً فى معرضه الأخير بقاعة ( أفق واحد ) بمتحف محمد محمود خليل ،يعلن فيه أن الإنسان هو الوطن وأن الأرض وطن لكل البشر دون تفرقة أو تمييز عنصرى أو دينى فالله خلق الإنسان ليعمر الأرض بالحب والسلام وليس بالحرب والكراهية ، وأن الإنسان عندما لا يجد طريقاً يسلكه سوى الحرب فلتكن حربه من أجل الوصول للسلام والحب بينه وبين نفسه ومع الآخرين، إنها قضية إنسانية مهمة طرحها الفنان فى أعماله بتقنيات متلاحقة مستحدثة باستلهام واستحضار روح ومعانى انتصارات أكتوبر بعمق نافذ لعقل وحس جمهور المشاهدين للمعرض مهما اختلفت هويتهم وجنسياتهم ..إنه يقدم فنه بلغة عالمية تحمل رسالة للإنسانية فى وقت تئن فيه الشعوب من ويلات الصراعات والحروب وما أحوجنا اليوم للأمن والأمان من هنا جعل د.نوار فيه الحافز والحاكم بمفردات إبداعية وتقنيات عالية الجودة يصول ويجول بها فى معركته التشكيلية ليبلغ قمة الوعى والاكتمال التقنى والتعبيرى الذى جعل المشاهد فى حالة انبهار وإعجاب ومتابعة للوحات والأعمال الأنيقة المركبة بتفاعل عقلى ووجدانى يخلق وعياً ثقافياً وجمالياً ووطنياً يرتقى بالفكر والحس معا وكما عودنا دائما يأتينا د.نوار فى كل مرة بأداء تقنى مكتمل وغير مسبوق فى قدرته الفائقة على ترويض وحصار الفراغ على سطح لوحاته فقدمه فى تشكيلات مجسداً روعة النصر بعد الهزيمة ، وقيمة وثمن العبور المقدم من دماء الشهداء من أجل استرداد الأرض فى استعراض درامى تشكيلى منه ما يجسم فيه المقاتلين جالسين على مقاعد متحركة وكأنهم يتغنون بأنشودة الشهيد على نغمات آلة الهارب فى مشهد جنائزى ملكى تزفه صفوف الشموع المضيئة تحية لهم فى طريقهم إلى حياة أبدية فهم أحياء عند ربهم يرزقون فى مناخ تشكيلى يسمو بالنفس والمشاعر ..ومنه ما يمثل علم مصر بألوانه كعنصر يؤكد الانتصار والانتماء للوطن ثم الضوء الساطع الذى يخاطب الروح والعقل قبل العين وكأن الفنان يقصد به بزوغ نور الأمل المنشود فى غد أفضل على أيدى الأجيال القادمة من أجل الإصلاح ، وتغيير التداعيات والمتناقضات السلبية التى لحقت بمجتمعاتنا مستعيناً بمعجزة العبور للتذكرة وشحذ الهمم بالطاقة الجبارة التى حققت العبور العظيم .
مريم المهدى
جريدة الهلال
أحمد نوار يزرع ويقاتل ويبدع فى العبور : موسيقى النصر بين حكمة العقل وإرادة الروح
- منذ أن خلق الله الكون ، ثم استوى على العرش ، وهو يرتب الدنيا ويسخّر مفرداتها للإنسان كأروع إبداعاته الاعجازية ، حيث استخلفه فى الأرض وحمّله أمانتها ، بعد أن توّجه بلؤلؤة العقل التى ميزته عن سائر المخلوقات .. ولا يشك أحد أن تلك المنحة العقلية هى محور الإدراك الوجودى الذى تكمن بداخله الرغبة البشرية الجامحة فى التطور والاندفاع الحضارى للأمام ، عبر سيطرة متمايزة القوة على السلوك الجسدى ، بيد أن الروح تظل هى الطاقة العظمى التى أمد الله بها الإنسان عبر نفحات جزئية من روحه ، لتصبح سراً من الأسرار الإلهية المثيرة ، رغم أنها تشكل ركناً عتيداً فى صيرورة الحيوات الدنيا والبرزخية والآخرة ، حيث تتجاوز الجسد فى قدراته المحدودة القابلة للفناء عند وقت معلوم ، لذا فهى لا تموت ، بل ترتحل من مستقر لآخر ، حتى اقترانها بالجسد ثانية يوم البعث ، وخلال مشوارها الآدمى الدنيوى تبقى فى صراع مع العقل ، تتحدد الغلبة فيه تبعاً للمكتسبات المعرفية لكلا الطرفين ، أو يستمر التكافؤ بينهما سيداً للموقف ..
- ولا أعتقد أن المبدع يكون بمنأى عن تلك الجدلية ، بل هو الأكثر اشتباكاً معها من غيره ، علاوة على حساسيته المفرطة دوماً نحو سياقه البيئى على كل الأصعدة السياسية والاجتماعية والتاريخية والجغرافية ، بما يجعل وجدانه أيضاً فى حالة تأهب مستمر للاشتعال .. ويعد الفنان الكبير أحمد نوار ( 1945م ) هو العينة التطبيقية الأكثر ملاءمة للأطروحة السابقة ، حيث تشف أعماله بوضوح عن مهارة فائقة فى خلق توازن صارم بين حكمة العقل وإرادة الروح ، داخل غلاف شعورى دافىء يحافظ به على سمت الإنحياز لثقافة وطن .. وربما يبدو هذا جلياً فى آخر تجاربه الإبداعية التى قدمها بقاعة ` أفق ` خلال شهرى أكتوبر ونوفمبر من عام 2009م ، تحت عنوان ` العبور ` ، مستلهماً فيه آليات نصر أكتوبر 1973م ، بعد ستة وثلاثين عاماً من حدوثه ، وهو الفارق الزمنى الذى يفسر تناوله الهادىء المنضبط للحدث ، بعيداً عن الانفعال اللحظى والفوران المتزامن معه .. وقد احتوى العرض على مايقرب من خمسين مسطحاً تصويرياً بألوان الإكريليك على التوال ، أنجزها الفنان بين عامى 2007م ، 2009م ، إضافة إلى مسرح كبير لفن العمل التجميعى ، يفصله عن قاعة العرض الأصلية ممر طويل يتصل فكرياً وروحياً وبصرياً بجوهر الرسالة التعبيرية كما سنرى لاحقاً .. وقد اخترت هذا العرض الفريد لنوار كعينة نقدية ، ليقينى أنه كاشف لشخصيته الإبداعية ، حيث يمثل عصارة صافية لثمار تجاربه السابقة التى كان غالباً مايحتفى فيها بعنصر المقاومة الفطرية لمعاول الشر ، من أجل استشراء الخير فى العالم ، بداية من تجميعه لشظايا حرب الإستنزاف أثناء تجنيدة بالقوات المسلحة آنذاك كقناص على جبهة القتال ، من خلال مجموعته ( الحرب والسلام _ 1970م ) ، ومروراً بتلك الحمامة المعتقلة وراء القضبان على ألواحه الجرافيكية فى مجموعة ( معادلة السلام _ 1986م ) ، ثم تراكيبه التكنولوجية الجاهزة والمتداخلة مع تقاطعات خشبية على مسطحات تصويرية غنية تحتشد بالمادى والروحى معاً فى مجموعته ( الإنسان والطاقة _ 1994م ، 1995م ) ، ثم رسوماته عن جبل أبوغنيم عام 1998م ، والتى جسدت الإجرام الصهيونى فى أبشع صوره ، ثم حفره الهندسية فى حديقة مجمع الفنون بالزمالك عام 2002م تحت عنوان ( 54 سنة إحتلال ) ، إحتجاجاً على ذبح الشهداء الفلسطينيين أمام عالم بلا قلب ، يشاهد إبادتهم بدم بارد ، علاوة على تجارب أخرى لم تخرج كثيراً عن هذا الإطار الإنتمائى لأمة زادها التمرد على الطغيان ، حتى كانت مغامرته الأخيرة تحت عنوان ` العبور ` التى تجلت فيها قدراته الذهنية على بناء الصورة بتجاوز نسبى لماهية المفردات المرئية ، عبر تدفق وجدانى سيّال ؛ فجاء العرض كعزف لموسيقى النصر بين حكمة العقل وإرادة الروح .. وهنا قد لا نستطيع القبض على بوصلة التحليل النقدى دون معرفة مقبولة بمنشأ الفنان أحمد نوار فى بلدته ` الشين ` إحدى قرى محافظة الغربية ، والتى ولد بها فى الثالث من يونيو عام 1945م ، عاش فيها طفولته المبكرة بين هندسية مساحاتها الخضراء ورطوبة طينتها الخصبة وبساطة ناسها التلقائيين من أصحاب الطموح الإنسانى المحصور فى عبادة صافية وقوت حلال وعائلة دافئة ، وهو ما أتاح له حياة موفورة التأمل ، موزعة بين اللعب فى الغيطان تحت ظلال الأشجار ، وعلى المصطبة الكائنة فوق الفرن البلدى بالقرية المطرزة ببيوت الفلاحين المكافحين ، حتى يحل الليل بعبائته حالكة السواد التى لا يشقها إلا ضوء القمر ، ملقياً بطرحته الفضية على رأس وجسد البلدة الحالمة ، وعند غيابه لا يخترق ظلمة الليل سوى مواقد النار التى يشعلها الفلاحون للتدفئة أو الطهى .. وعلى أبواب المراهقة كان الصبى أحمد نوار قد رحل إلى مدينة طنطا ليلتحق بمدرسة الصنايع الزخرفية فى أواخر الخمسينيات ، حيث تعلم بها أصول الرسم والزخرفة ، وهو ماأثر إيجابياً على مهاراته التصميمية كما سنلحظ فيما بعد .. وفى شوارع طنطا صال وجال الفتى بين الرسامين والخطاطين الشعبيين ، مستأنساً بالنفحات الصوفية للسيد البدوى ، ونكهة طنطا العتيقة التى تختلط فيها روائح البخور والتوابل بمشاهد بائعى الحمص والحلاوة ، وصوت جلجلة الأذان فى مدينة مشبعة بالحس الدينى ، لذا فعندما التحق نوار بكلية الفنون الجميلة بالقاهرة ، كان طالباً مسلحاً بتراث بيئى شديد الخصوصية على الأصعدة الدينية والجغرافية والعلمية ، بما أهله للتفوق المنطقى بين أقرانه ، وكان بديهياً أن يحمل مشروع تخرجه ` يوم الحساب ` تلك الميول الدينية عبر عشرة أمتار طول وثلاثة عرض ، مارس فيها الرسم بالقلم الرصاص على الورق ، إذ بدا شغوفاً بالجنة والنار .. بالثواب والعقاب ، على جسر يصل بين الشهادى والغيبى .. بين الحسى والحدسى ، لذا فمع تجنيده بالجبهة بعد تخرجه عام 1967م من قسم الجرافيك بالكلية ، كان مهيأً لفكرة التحام الفن بالقتال ، والإبداع بالجهاد ، على خلفية الانتماء الوطنى الدافىء ، سيما أن مصر وقتذاك كانت تعيش حالة من تعاظم الهمة عقب نكسة 1967م الموجعة ، بما جعل فناناً بتركيبة نوار النفسية والإبداعية يصير جاهزاً باستمرار لكتابة موسيقى النصر بين حكمة العقل وإرادة الروح .
- فإذا تأملنا عرض العبور إرتكاناً إلى ما طرحناه سالفاً ، سيما الأعمال التصويرية الإكريليكية ، سنجد أن نوار يعتمد فيها على العلم المصرى بألوانه المألوفة من الأسود والأبيض والأحمر ، كعلامة لا يخطئها العقل الجمعى ، ليندفع الفنان فى تفكيكها وتحويلها إلى فيض من الرموز متعددة الدلالات داخل نفس الحالة موضع التناول ، مع مراعاة أنه يعطى لكل لون منها المساحة المناسبة للهدف التعبيرى ، فنراه على سبيل المثال يوظف اللون الأسود فى منطقة أدائية تتراوح فى مفهومها بين التجريدية والرمزية ، كما يبدو فى مجموعة أعماله ` الانكسار 1967 ` 1 _ 2 ، ` اعتصار ` ، ` ترقب ` ، والتى يسيطر عليها السواد كرمز للحزن والحداد ، فى هيئة كتل متماسكة تكاد تنفلت من فعل الجاذبية الأرضية ، لتقطعها خطوط متداخلة بارقة كالشهب ، تشرع فى ذبح تلك القتامة كفعل أشعة الليزر فى الجسد الآدمى .. والكتل السوداء رغم إيماءاتها الواضحة نحو اعتصار القلوب للهزيمة المباغتة فى 67 ، إلا أن الفنان هنا يحيطها بمساحة لونية يمتزج فيها البرتقالى بالأحمر ، موحياً بعزيمة مضطردة وقودها من الدم والنار ، وقد أكد هذا الإصرار فى عمل ` ترقب ` عندما اقترنت العين أسفل المشهد وهى فى حالة تربص وشجن بالتليسكوب المتجه يساراً نحو هدف مرصود ، مستحضراً مهارته كقناص محترف على خط المواجهة .. وربما عند هذه النقطة الحدية فى نسيج الصورة ، يبدو اللون الأبيض فى سياقه التعبيرى كأحد معاول التحدى الروحى الناتج عن وصول طاقة الاستنفار إلى درجتها القصوى بعد صبر على التشبع بمرارة الأزمة ، خاصة أن اللون الأسود على المستوى الفيزيقى هو الأكثر قدرة على امتصاص الحرارة والضوء ، لذا فقد كان بديهياً أن تظهر شرائح اللون الأبيض كمثل شظايا نورانية تحمل نفحات البشرى والأمل .. ورغم أن الأعمال الأربعة تتكئ شكلياً على إحكام تصميمى دقيق ، إلا أنها بدت وكأنها حبلى من الداخل بقدر وفير من التضاد بين وجع الانكسار والرغبة فى الانتصار .. بين ضبط النفس والجنوح للمروق .. بين زخرفة الظاهر وموار الباطن ، وهو ما يجعل المتلقى فى حالة توتر دائم أمام المشهد التصويرى ، متجاوزاً نعومة غزل التكوين وهندسيته البالغة .. أما المدهش هنا فهو اختفاء الجسد البشرى كلية من أرجاء الصورة ، رغم ميل الفنان الشديد للإعلاء من مكانة العزم الإنسانى الذى ظهر جلياً فى حدية الطاقة عند نقطة الانفجار الوشيك وسط بعض الألوان المحايدة فى خلفية الأعمال كالرمادى والترابى ، وهو ما يؤكد أن أحمد نوار كان يمهد فى تلك المجموعة التصويرية لموسيقى النصر بين حكمة العقل وإرادة الروح .
- وبمفهوم آخر لبناء المشهد يزاوج نوار بين العنصر البشرى وآلة الحرب الجهنمية ؛ فنجده يؤنسن أدوات القتال ، ويحول الإنسان إلى أداة قتال عتيدة فى آن ، مثلما يبدو فى أعمال ` الإقتحام ` 1 _ 2 _ 3 ، ` حامل المدفع ` ، ` صعود الشهيد ` ، ` الروح ` ، ` الطاقة ` ، ` الإرادة ` 1 _ 2 _ 3 ، ` الهجوم ` ، ` العبور ` ، ` نبض الطاقة ` ، وفيها تظهر الطائرات والصواريخ والمدافع على جسر إيهامى يحولها إلى عناصر عضوية حيوية من لحم ودم ، تحتشد بطاقة روحية تسبق الوجود الجسدى الذى يقف عند نقطة الذوبان والتلاشى مع دوران رحى الآلة ، فى حين تظل ألوان العلم الثلاثة قاسماً مشتركاً فى كل التكوينات ، مع حرص الفنان على الدفع باللونين الأزرق والترابى كمعادل تعبيرى رمزى يومىء به بشكل مستتر إلى مياه القناة ورمال سيناء تحت سماء ملتهبة تحرر أرضاً مغتصبة .. وعند هذا المنعطف المغرق فى العاطفة الوطنية والإبداعية معاً ، نلاحظ إرهاصاً لتضفير الصوتى مع البصرى فى عمل ` عزف الشهيد ` الذى يسوده اللون الأحمر ، احتفاءاً بطهر دم الشهيد الذى تزفه آلتا البيانو والهارب إلى السماء ، فتتداخل الأصابع والأوتار مع الشهب الخطى المتوهج المميز لمعظم أعمال نوار ، بينما تظهر الآلة الحربية فى يمين الصورة على هيئة سواعد وأيدى ترفع البيانو إلى أعلى ، لتشارك بالعزف فى ذلك الزفاف السماوى المقدس .. وانطلاقاً من هذا المفهوم الروحانى ، سنجد أن أغلب تكوينات نوار تندفع فى العروج إلى أعلى صوب أحد أركان المشهد وهى محملة بالحد الأقصى للطاقة ، حتى أن الضوء الأبيض فيها يتحول إلى فيض من نور داخلى شديد الوهج ، وكأن المشهد كله أصبح على مشارف العرش ، فى إطار التحولات الذاتية بين الآلة الحربية الظاهرة والمقاتل المستتر خلف تلك النفحة الإلهية .. وربما من هنا نستطيع أن نصطلح على هذه المساحة فى أعمال أحمد نوار ب ` الأسطورية الشعبية ` ، والتى يرتبط فيها أداؤه بلغة المعتقد الجمعى داخل فضاء من الخيال الميثولوجى الساحر الذى يتصل بحبل زمنى سرى مع الجوهر الحقيقى لمعركة أكتوبر الخالدة . . وتأصيلاً لهذا الإعصار الرابض بين الأرض والسماء ، نرى نوار وهو يمزج باقتدار بين أدوات التحريك المستمر للمشهد فى بطن العلم ، مثل الأسهم والعجل والصواريخ والسلالم ، فى تكريس لآلية الصعود نحو الهدف ، بما يمهد لغزل موسيقى النصر بين حكمة العقل وإرادة الروح .
- وبالفعل يدخل نوار منطقة الغنائية البواحة فى مجموعة أعمال ` معزوفة النصر ` التى يمزج فيها بين حروف السلم الموسيقى وأصابع البيانو والطائرات والمدافع والصواريخ وقوارب العبور ، إضافة للعلم المصرى كقاسم تعبيرى مشترك ، حيث بدأت الأعمال تفصح عن مكنون تراسلى مضطرد ، يضفر من خلاله الفنان الصوتى بالبصرى بالحركى ، سيما الأعمال من 5 إلى 10 ، والتى يحافظ فيها على الألق الشديد لألوان خلفية الصورة ، مثل الأحمر الملتهب والبرتقالى المشع والأزرق المنير والأخضر المضىء ، علاوة على تدرجات البنى والترابى ، وهى الألوان التى قد يكون الفنان بها يستعيد تلقائياً رصيده البصرى والوجدانى فى قريته ` الشين ` مع موقد النار فى ظلام الغيطان ، وتسربل الضوء فى الليالى القمرية ، والهندسة الطينية فى الأرض الولود التى تكتسى غالباً بثيابها السندسية الخضراء ، لذا فإن المتلقى المدقق فى هذه النقطة على منحنى الأداء ، يكاد يشعر أن نوار يزرع ويقاتل ويبدع فى آن ، مستحضراً منظومة العبور الاعجازية من خزان ذكرياته كمحارب ، وهو ما يؤدى بالتبعية لاستثارة أبعد بقعة فى قاع نفس الخزان ، والذى ترقد فيه لقطات بارقة لحقبة الطفولة والصبا بذات القرية ، فيحدث ذلك التزامن الإسترجاعى الدقيق فى لحظات إبداعية مدهشة ، تعتمد فى حيويتها على امتصاص غذائها من الجذور المتينة لأحمد نوار كفلاح ومقاتل ومبدع قادر على الاغتراف من بئره التراثى عبر قنوات زمنية مكثفة .
- ويظل الفنان مندمجاً فى نسج هذه المنظومة الغنائية القتالية بتوافق هارمونى مع المقطوعة الموسيقية المصاحبة للعرض ، والتى تحتوى على خليط أوركسترالى من دقات المارش العسكرى ولهاث أنفاس الجنود ونغمات الزهو بالنصر ، فى محاولة لتعميق شعور المتلقى بالإيقاع العاطفى للمشهد التصويرى ، حتى يصل نوار إلى نقطة الثبات الإنفعالى على قوس الأداء ، عندما يدفع بمفرداته القتالية إلى صفحات من نوتة موسيقية حقيقية تمتزج على أسطرها ألوان العلم وحروف السلم الموسيقى مع الطائرات والصواريخ والمدافع ، وذلك فى مجموعة ` معزوفة النصر ` من 1 إلى 4 ، والتى تقترب فيها لغة الكتابة من عناصر الصورة داخل بوتقة رمزية جامعة تشير إلى قدرة الإبداع الصوتية والبصرية على تدوين الانتصار فى الذاكرة الشعبية الجمعية .. لذا فقد حاول نوار إلقاء الوشاح الأسود على معظم مفردات المشهد ، لإبراز التوحد الإيهامى بين النغمة والرصاصة .. بين الترانيم والتفجيرات .. بين الدندنة والأزيز .. بين العزف والقصف ، حتى أن المتلقى يكاد يشعر أن الآلة الحربية قد تحولت إلى حرف موسيقى ، ليتحول هو بدوره إلى مقذوف نارى يبدو بين الاشتعال والانطفاء .. وربما جاءت الخلفية البرتقالية المتوهجة التى احتضنت المفردات السوداء ، لتؤكد العلاقة التضادية داخل نوار نفسه بين الحماة الوجدانية والجدولة الذهنية ، وهو ما يهيىء جدران الذاكرة الشعبية لنقش موسيقى النصر بين حكمة العقل وإرادة الروح .
- ومع نهاية العرض التصويرى بكتابة النوتة الموسيقية للانتصار ، نجد أحمد نوار وهو يستدرج المشاهد إلى عرض تجميعى مواز ، من خلال ممر طويل مغلف من الداخل بفيض من ضوء أحمر ملتهب يجهز به الفنان مشاعر المتلقى لاستقبال المجهول فى مساحة من الرهبة وجلال الموقف ، حتى يصل بالفعل لفناء العرض الذى يخصبه الفنان لإنبات علاقة بصرية جديدة بين العين ومفردات محسوسة تصل بين المادى والروحى ، مثل كراسى الإعاقة والنوتة الموسيقية وآلة الهارب والسلم والعجلة والمرايا وأكوام الرمال والمصابيح ، إضافة إلى العلم أيضاً كعلامة تحولت مع الوقت إلى فعل رمزى ذاتى متنوع الدلالة .. واللافت هنا أن أغلب عناصر العمل التجميعى حاضرة داخل الأعمال التصويرية ، حيث بدت وكأن الفنان قد انتزعها من مسطحاته الإكريليكية ليزج بها إلى آتون الاشتباك المباشر مع المشاهد على أرض تقترب من الواقع الفعلى لحرب أكتوبر 1973م . . وارتكاناً إلى مفهوم التصاعد الدرامى المسرحى ، قسّم نوار ساحة الرؤية إلى ثلاثة مشاهد منفصلة ومتصلة فى آن ، ليؤكد من خلالها رسالته التعبيرية بشكل أكثر مباشرة وقدرة على مغازلة مشاعر بسطاء المتلقين ، حيث يأتى المشهد الأول ` أغنية المقاتل ` _ التسمية من وحى الكاتب _ محتوياً على عدد من كراسى الإعاقة المتحركة ، وعليها مجموعة من الأجساد مقطعة الأوصال ، والتى تعتمد فى بنائها على اللدائن الصناعية ، لتبدو وكأنها لمحاربين فرغوا من واجبهم القتالى ، سيما أن الأرض تحتهم قد فرشت بالرمال .. وعلى الجانب الأيسر من المشهد وقف أحدهم يعزف على آلة الهارب مصرية النشأة ، وأمامه نوتة موسيقية ، بينما اكتست الخلفية كاملة بالمرايا ، ليتضاعف عدد المحاربين المعاقين فى عمق المشهد ، ترميزاً لامتداد التضحية من أجل غلاوة الأرض ، عبر قدر وفير من الإيمان والرضا والفرحة التى يؤكدها وقوف المقاتل أمام آلة الهارب ، وكأنه يعزف لحناً جهادياً مدوناً فى نوتته الموسيقية .. والمشهد يحتوى على نفس آلية التضاد داخل الأعمال التصويرية بين وجع الحرب وبهجة النصر .. بين أنين الإصابة وموسيقى الفوز ، على أرضية عقائدية راسخة ، لذا فإن الانتقال للمشهد الثانى ` نور الشهادة ` كان منطقياً لذلك المتلقى الواقع تحت تأثير روحى متواتر ، حيث يجد نفسه فى مواجهة تقسيم هندسى لمقابر متجاورة ، يعتلى شواهدها مجموعة من المصابيح الكهربائية خافتة الإضاءة ، لتبدو كمشاعل إلهية تنير قبر الشهيد إلى يوم يبعثون ، وهو ما يتأكد فى حزام المرايا المحيط بالقبور ، والذى يخلق بعداً بصرياً سرمدياً يجتذب الرائى إلى مشارف المطلق ، بما يكشف عن رغبة عارمة لدى نوار للارتقاء بمكانة الشهيد والشهادة معاً ، إنطلاقاً من دافع دينى متجذر فى شخصيته ، ظهر جلياً عند منعطف مبكر فى مشواره ، وقتما رسم صرحيته ` يوم الحساب ` كمشروع للتخرج من الكلية ، مثلما أشرت سالفاً فى مطالع هذه الدراسة .. وعندما يواجه المتلقى جغرافيا المشهد الثالث ` فجر التحرير ` يكون قد وصل إلى ألمع نقطة على منحنى الإدراك الذهنى والروحى والوجدانى ، متفاعلاً مع مفردات مادية ملموسة ، مثل أكوام الرمال التى يغرس فيها نوار العجلة والسلم الذى تنتهى درجاته صعوداً بالعلم المرفرف على قمة مشهد التحرير المشبع بأريج الانتصار ، والذى يزداد رسوخاً فى مخيلة المشاهد بتلك الموسيقى المصاحبة للعرض ، والمحتشدة بمتضادات متنوعة من الهمس والهدير .. من رنات الأوتار ودقات الطبول .. وربما قصد الفنان هنا تأسيس خط سير المشاهدة بشكل عكسى يبدأ من الجود بالبدن فى ` أغنية المقاتل ` ، ثم المقايضة بالروح فى ` نور الشهادة ` ، حتى يقبض المتلقى على قناعته الراسخة بأن فجر التحرير لا يلوح إلا بسيل من التضحيات ، دون النظر إلى المقاصد النفعية المحدودة .. وأظن انه عند هذه المساحة الإنسانية المضيئة فى العرض يكمن جزء من الرسالة الإبداعية لنوار ، والتى يدثرها بلحاف فضفاض من الاجترار الذاتى الذى يبدأ من غيطان وبيوت الشين ، ويمر بشوارع وحوارى طنطا ومدرستها الزخرفية ، والمآذن والقباب والهرم والنيل وكلية الفنون الجميلة بالقاهرة ، والخنادق والتلال الرملية والصواريخ والطائرات والمدافع والقوارب ورؤوس الصهاينة وراء تليسكوب البندقية على جبهة القتال ، حتى ينصهر الفنان الكبير أحمد نوار مع ألواحه الجرافيكية ومفرداته التجميعية ومسطحاته التصويرية ، فى حالة من الزهو بذاته الفردية والوطنية ، كفلاح ومقاتل ومبدع فى العبور نحو ضفاف النور ، وعازف ومؤلف بارع لموسيقى النصر بين حكمة العقل وإرادة الروح .
محمد كمال
جريدة نهضة مصر - 6 أكتوبر 2011
` رؤية معاصرة لوجوة الفيوم `
التواصل الحضارى فى إبداعات نوار
فى الحقيقة لا نستطيع أن نفصل وجدان الفنان وكيانه الإبداعى عن ميراثه الثقافى والحضارى والفنى .. إنما هو المد الروحى المندمج فى ضمير الفنان الكامن فى عمق التراث . فهناك قله من الفنانين يملكون قدرة إبداعية حقيقية بل أصيله تتمثل فى ارتباطهم بميراثهم الثقافى والحضارى الذى يحمل فى طياته موروثاتهم الثقافية بتنوع حقبها الحضارية .
فيأتى الفنان / أحمد نوار الذى تبرز مقدرته الإبداعية فى كونه دائم التطلع الى رؤية فنية عميقة تمتد لجذورة الإرثية يميزها رحابه الفكر ورؤاها المعاصرة للتواصل الحضارى .
فمن خلال تلك الأعمال التى يضمها معرضة المقام بمدينة موسكو فى إطار تفعيل التبادل الثقافى المصرى والروسى ` أيام الثقافة المصرية فى موسكو ` وهو المعرض الذى افتتح فى 18/11/2005 تحت عنوان ` روح الحضارة .. رؤية معاصرة لوجوه الفيوم ` لعدد 34 عملا فنيا تتخطى تلك الاعمال الحدود الزمانية والمكانيةوتبعث برسائل لا تترجمها العين ، وإنما تفهم إذا ما عبرت حدود عالم البصر إلى الخيال فتنفذ ببنائها الهندسى إلى آفاق روحية سامية ، فتلك الاعمال التى يشارك بها الفنان ويميزها طابعها الفنى الفريد ، وانصهرت فيها شخصيته الفنية وتراثة الحضارى المصرى اللذان يمثلان فى ابداعات نوار عاملاً من العوامل التى تشكل قسمات أعماله الفنية .
قراءة فى ثلاثية روح الحضارة
يأتى العمل الفنى ثلاثية روح الحضارة للفنان نوار معتمداً على استثمار أساليب التكرار المختلفة وذا بناء رياضى وهو العمل المنفذ بخامة الاكريلك والجواش العام 2005. حيث نجد تكافؤ المساحات و التعامدات الرأسية والأفقية فى أنساق رياضية وعلاقات ناشئة كما نجد سيطرة للخطوط المستقيمة والاشكال الهندسية كالمربع والمثلث حيث القاموس التشكيلى المميز للفنان فى استلهامة للبناءات الرياضية للفن المصرى القديم والاسلامى وميله للطابع الهندسى والرياضى .. وإنما لم يقف نوار عند تلك الخطوة بل يضيف إليها من إبداعة ومقدرته التقنية ، فلا يعطى اهتماما بالمنظور الثابت ( التقليدى ) والمتعارف عليه للضوء والرؤية قاصدا التحرر منه وكأنه فى ذلك يوجه رسالة ودعوة للتلقى والمشاركة الإيجابية للمشاهد لاكتمال تجربته الإبداعية .
والمشاهد لهذا العمل يلحظ للوهلة الأولى أن الفنان لم يكتف بالتناغمات اللونية والخطية وكذلك عناصر الدقة الأدائية والتى بدورها مثيرا للتأمل ومجالا يمتع البصر .. وانما يلحظ أنه وصل بهذا العمل الى مستويات رمزية تترجم عن معانى النظام والتناغم الأبدى للكون والحياة بل وفى معظم الأعمال المشاركة فى المعرض مغلفها بأبعاد رمزية وتشبيهات مجازية .. ففى إطار تكويناتها الهندسية تعثر على تمثيلات صورية طبيعية من شأنها أن توحى بتأويلات متنوعة فبدت فى بعضها نصف بصرية وذات ازدواجة مثيرة للتأمل بل قادرة على الاستحواذ على مدركات المشاهد الحسية .. عندما يستخدم بداهته الحدسية بل استطاع ان يحافظ على صفاء رؤيته .
روح الحضارة .. تجسد أشواق الفنان
إنها الأعمال التى تجمع بين الصلابة والرفاهة وما بين الظلمة والنور وبين الاقتضاب الشاعرى و الرمزى والتفسيرات المفصلة وكأننا أما معزوفة متكاملة جمعت بين متناقضات أبدية .. باحثا عن سر الحقيقة خلف المرئيات ولحن الانسجام الفخى فى أشكال مجردة بتداخلها مع الأشكال الطبيعية فالعمل كأنه أسطورة تجسد أشواق الفنان للعبور بخياله وانفعالاته خلال عالم المرئيات ، تلك الطريقة ذاتها التى صنع الإنسان الأول رموزه بها عندما كان مايزال متحدا مع الكون والحياة ولم يكن قد انفصل بعد العضوى عن الهندسى والخيالى عن الواقعى .
بناء اللوحة .. ومسار الرؤية
يأتى بناء اللوحة وتكوينها مؤكدا على دور الإيقاع فى تحقيق التناغم لوحدة العمل الفنى وذلك فى أخذه بالنظام الهندسى .. عندما قسم العمل إلى ثلاثة أجزاء كل جزء متساوى مع الاخر ويحتوى على عناصر عضوية ذات دينامية متميزة وفعاله منظما عناصر لوحته فى مسار يحدد رؤية المشاهد من اليمين إلى اليسار ثم الى منتصفها الذى يمثل بؤرة العمل الفنى حيث المساحة التى قام بتلوينها باللون الازرق الأكريلك ودرجات الأصفر والبرتقالى فصنع عذوبة وإيقاع رصين من خلال الربط بين جزئى العمل .
فنجد فى الجزء الأيمن من العمل قد تحققت دينامية يقابلها فى الجزء الأيسر دينامية وحركة ورغم التماثل ما بين عناصر الأجزاء الثلاثة ، فنجد أن هناك إيقاعا عاما فريدا وحيوية تشمل العمل الفنى ككل تكنى مقدرته فى توظيف العناصر رغم تباينها ، وتترجم عن فراده إبداعية فى أحداث ذلك التداخل والتوفيق ما بين العضوى والهندسى الضدين الآزيلين محققا التماثل الديناميكى فنجد العمل وكأنه تكوينا واحدا متماسكا رغم أن العمل مكون من ثلاث أجزاء أكدتها ديناميكه التنوع فى ذلك التماثل .. من خلال اختلاف حركات العناصر واتجاهات الخطوط كاسرا حدة الرتابه والجمود ( الصلابة الاستاتيكية ) للتماثل والبناء الإنشائى الرصين .. كذلك من خلال توظيف الخطوط الرأسية والأفقية والمائلة بشكل جمالى يظهر تقسيما نسبيا رياضيا لمسطح اللوحة ويعكس انتظام العناصر وتفصيلاتها الداخلية ، وفقا لنسق رياضى فيرى المشاهد امتداد الخطوط الرأسية والافقية والمائلة والتى تنسج وحدة وترابط العمل الفنى كما اكسب الإسقاط الضوئى على عناصر العمل الفنى التكوين ترابطا وتماسكا وإشعاعا وحيوية من خلال انتقال العين لنقاط الارتكاز على مسطح اللوحة .
الإيقاع اللونى فى العمل
يسيطر على العمل إيقاعاً لونياً يغلفه تألقاً وانسجاماً من خلال عمومية داكنه تظهر الألوان من خلالها ذات بريق ناصع وتشبع متوهج للون الساخن ، فجاء استخدامة للألوان القوية والدافئة يظهر الاشكال ويجعلها ذات بريق وكأن الضوء منبعث من داخلها ويكسبها حرارة وحيوية ، فتوظيفه للون يؤكد الرسوخ المعمارى بعلاقات الأشكال والعناصر وكذلك المحاور البنائية للعمل المتمثل فى خطوطه الرأسية والأفقية التى تشكل منها لوحاته والتى تكشف عن وجود أسس هندسية وعلاقات ذات نسب رياضية من شأنها تأكيد أحكام بناء التكوين وتماسكه ، كما تتضح براعته الإبداعية ومقدرته فى تحقيق العلاقات العضوية بين الثابت والدينامى فى التكوينات وجمعه بين الخواص البنائية لانتظام رسوخ الكتل تؤكدها معالجته اللونية وبين تدفق الحركة الديناميه نحو مسارات وإبداعات لها خاصية الانطلاق والحيوية من خلال الدينامى ، النشط والقوى ، المنتشر والمتشعب ، الهادئ والراسخ فجاء توظيفة للون بكثافته العالية ، متخذا دورا بنائيا وتجسيداً أكسب العناصر صلابة ورهافة وتماسكاً .
إن المتأمل للعمل يلاحظ العناصر العضوية وقد اكتسبت بريقا نقياً من خلال اللون الساخن ( درجات الأصفر والبرتقالى ) فى تباينها مع اللون البارد لدرجات الأزرق فى خلفية العمل ناشئا سياقات تعبيرية مشوقة ومثيرة بجاذبيتها للتأمل الممتع ودلالتها الرمزية ، بذلك تضمنت أعماله قيم فنية وجمالية من خلال مزجه بين الجانب البصرى والإيحائى المعتمد على العضوية فى عتاصرة .. إن إبداعاته الفنية تعبر عن متانه الهيكل ورسوخ المفهوم وخصوبة فى إبداع التكوينات وتنوع الاشكال وكذلك حسها الدرامى الناتج من الثنائيات العضوية والهندسية والتى ذكر ` حسين بكار ` : إنه لا يتحقق الا بالتفاعل الكيميائى بين الضدين الآزيلين العضوى والهندسى ، إن فيض الذاتيه فى أعمال نوار فى مزجه بين الزمانى والمكانى أو بالخلط فيما بينهما من ارتباطات وطرق أداء غير تقليدية سبيلاً معينا للتوصل إلى تشكيل صور من خلال إطلاق الحرية والخيال ، إن ما يفيد المشاهد ( المتذوق ) لأعمال الفنان نوار هو استمتاعه بالبراعة فى حبكة التراكيب وتحقيق التجانس وبنائها الشكلى بارتباطاتها التخيلية من ناحية واحتوائها على طاقة روحانية ورمزية من ناحية أخرى ، فتوحى للمشاهد بتأويلات مختلفة وإيحاءات مزدوجة مثيرة للتساؤل .. أنها دعوة للمشاهد للبحث عما يكمن خلف مظهر الاشكال وصولا للحقيقة الجمالية ما بين الاقتضاب الشاعرى والرمزى والتفسيرات المفصلة .
إنها أعمال تنسج خيالية ذات وجود تتكشف فيها حقيقة مستترة تجسد أشواق الفنان للصور بميله لعالم المرئيات .. فأضحت أعماله تتمتع بمكان حقيقى ومحققه على أكبر قدر من التأثير على مدركات المشاهد وبشكل متداخل ، فلا يستطيع الإفلات من حوزتها ولكن يتبقى فقط تآلفه معها واستمتاعة بها .
إنه المد الروحى المندمج فى وجدان وروح الفنان وكيانه الابداعى بما يحمله فى ضميره الكامن فى أعماق تراثه الحضارى ومجتمعه الذى لم ولن تطمس ملامحة وشخصيته الفنية .
إيهاب محمد الزهيرى
جريدة المحيط الثقافى - مارس 2006
يذكر أن من يشاهد اللوحة الحائطية الضخمة التى أنجزها `نوار` أثناء مشروع التخرج عام 1967 التى تبلغ مساحتها حوالى 10م × 3م وقد استخدم فى تنفيذها أقلام الرصاص متنوعة الدرجات على مدى شهرين، وكان موضوعها يدور حول فكرة `بعث الآخرة والحساب` سوف يدرك على الفور أنه امام عمل فنى لطالب موهوب وواعد بالعطاء الكثير.
وبالفعل أثبتت الأيام بعد تخرجه والتحاقه بالخدمة العسكرية عام 1967 ضمن طاقم القناصة فى كتيبة الاستطلاع، ثم انشغاله بالتدريس بعد ذلك فى الفنون الجميلة وحرصه على اقامة المعارض الخاصة المعرض تلو المعرض فى مجالات: الرسم والتصوير والجرافيك أنه كان بالفعل فناناً مميزاً ونشطاً وفاعلاً ومؤثراً فى الكثير من تلاميذه والحركة الفنية المصرية المعاصرة وبخاصة فى فن الجرافيك والرسم اللذين كان يتقنهما أداء واسلوبا ورسومه التى انجزها بعد تخرجه بسنوات ومازال يبدع فيها تمثل منحى مستقلاً متفرداً وموازياً فى الوقت نفسه من حيث القيمة التعبيرية والجمالية لأعماله الفنية فى مجالى التصوير والجرافيك بل وأحياناً يتجاوزهما باعتباره أحد وسائل تعبيره المباشرة عن خلجات نفسه وفكره وأيضاً لاتقانه مهارة الرسم وإجادته التنويع بتقنياته من الأسود والابيض فى يسر وسرعة وتمكن وهو ما سوف نستوضحه هنا بشيء من التفصيل.
إن فن الرسم عن الفنان `احمد نوار` يمثل مرحلتين مهمتين متجانستين من مراحل إبداعه الفنى، ولكل مرحلة وظيفتها وأهميتها.
المرحلة الاولى: وهى المرحلة التى يواصل فيها الفنان عمل الدراسات التفصيلية المستفيضة للأشكال ومحاولة بلورتها وصولاً الى ابتكار شكل فنى يلائم الوظيفة، والغرض المعبر عنه.. أو من اجل ان تكون هذه الاشكال نفسها إعداداً مرحلياً يمكن ترجمتها بواسطة وسائط التصوير والجرافيك الى عمل فنى.. وسوف أتناول هذا الجانب عن الفنان فى الفصل التالى.
المرحلة الثانية: وهى المرحلة التى يعالج فيها الفنان رسوماته على أنها عمل فنى `متكامل` وقد استخدم فى تنفيذها القلم الرابيدو جراف `الأبيض والأسود`، وقد تثنى لى مشاهدة ومتابعة تلك الأعمال فى المعارض الخاصة التى اقامها الفنان خلال السنوات الماضية فى أوائل السبعينات وأوائل الثمانينات وحتى عام 2000، ويمكن القول إذن إن الرسوم الفنية `المتكاملة` التى قدمها `نوار` فى معارضه تدور جميعها حول دائرة بحث واحدة سبق أن عالجها فى أعماله الفنية فى مجالى التصوير والجرافيك وهى `علاقة الشكل العضوى بالشكل الهندسى` بل وفى الموضوعات نفسها التى طرقها، والمسميات مثل: `الانسان وانطلاق رقم من 1-13-1979`، والإنسان والحركة 81-1982` والسلام والمعاناة.. 1983`.
أما مجموعة الأبيض والأسود المنفذة بالحبر الشينى - وهى مسلسل من اللوحات اُنجزت ما بين أعوام `1981 - 1984`، نجد ان موضوع البحث فيها يدور حول الموضوع نفسه الذى سبق الاشارة إليه وهو `الشكل العضوى والشكل الهندسى`، وقد استعان الفنان بالحبر الشينى فى إنجاز تلك الأعمال، وكما هو معروف، أن الحبر وسيلة سهلة تتيح للفنان القدرة على التعبير عن أفكاره مباشرة فى أقصر وقت ممكن دون المرور على مراحل ملزمة لتحقيق فكرة تكامل العمل الفنى.
فى هذا البحث يتناول `نوار` علاقة الخط بتنوعاته وايقاعاته المختلفة مع المساحات الهندسية الصريحة، مع ملامس الأسطح المشكلة من شبكة المربعات وكثافة المساحات القاتمة.. فى محاولة لايجاد صيغة تحقق نسبة كبيرة من درجات التوافق والتوازن بين الشكل العضوى والمساحات المجردة `الفواتح`.
وقد استطاع `نوار` بالفعل من خلال عناصر التشكيل المختلفة وتلك الرموز المحورة، وما توحى به من ملامح على هيئة طائر أو شكل آدمى وتلك الأشكال الهندسية الصارمة.. أن يشيد مسلسل لوحاته التى بتكرارها وتشابهها هى أقرب ما يقال: مشهداً واحداً من مشاهد حلم، حلم يحدثنا فيه الحالم المبدع عن تداعيات الصور السجينة فى ذكرياته، وعما يوحى به كل رمز وكل حادثة.. ولما كان الحلم بتداعياته وصورة العديدة والرتيبة يتطلب نوعاً خاصاً من التكثيف والتنظيم والتوكيد على التداعيات حتى لا يكون هناك شائبة جمالية، نجد أن الفنان استطاع بما توفر لديه من مهارة فى الأداء، وقدرة على التعبير، أن يهيمن عليه ويحوله إلى مشهد حى من مشاهد رؤية مأساة الإنسان المعاصر فى صراعه الأبدى مع عالم بالغ التعقيد بأسلوب رصين وقوى.. انظر إلى مسلسل لوحاته `الإنسان والحركة` و`السلام والمعاناة` و `معادلة السلام`.
أما فى التسعينات فقد تحرر `نوار` إلى حد كبير من صياغاته ذات القالب الهندسى الصارم ومن الأشكال النجمية، وأشكاله الإنسانية والعضوية وأصبح يولى اهتماماً أكبر بالقضايا الإنسانية المعاصرة وبأشكال أكثر واقعية والتكوينات المفتوحة وبخاصة قضية تجريف الأرض الفلسطينية وإحلال المستوطنات الاسرائيلية اليهودية مكانها، كما حدث فى جبل أبو غنيم وغيره.. إن نوار اثبت فى معرضه الأخير الذى أقامه بمجمع الفنون فى ابريل عام 2000 باسم `من وجوه الفيوم إلى جبل أبو غنيم جسد مصرى وروح عربية` إنه قادر بموهبته وتمكنه الأسلوبى الحاذق الانتقال برسومه وتقنياته المتنوعة بالأسود والأبيض من موضوع إلى آخر ومن صياغة تشكيلية إلى أخرى بنفس الطاقة التعبيرية المتجددة والمتطورة فى الآن نفسه.
د. رضا عبد السلام
من كتاب الرسم المصرى المعاصر
اهتم الفنان `أحمد نوار` منذ بدايات تجربته الأولى فى أوائل السبعينات وحتى الآن بما اصطلح على تسميته علاقة `الشكل العضوى بالشكل الهندسى`، وقد استند الفنان فى صياغة بحثه الجمالى على مبررات عقلانية تقوم على تحقيق قيم تشكيلية بنائية تعتمد على عوامل التعقل والوعى والتصميم، فالعلاقة المذكورة بين `الشكل العضوى والشكل الهندسى` هلا علاقة المشخص بالمجرد- وبتفسير آخر علاقة التفاعل المستمر بين كائن حى نابض فى حيز مكانى أو زمانى مجرد ومطلق.
هذه العلاقة- الرمزية- هى الاساس المحورى الذى أقام عليه الفنان نسقه الجمالى. والاعمال الفنية فى مجالى الرسم والتصوير التى قدمها الفنان للجمهور فى معارضه فى السبعينات والثمانينات، والتسعينات جاءت مؤكدة فكرة هذه العلاقة- الإنسان والفراغ الكونى- التى قد يعود منشأها الى وجه الشبه بين رجل الفضاء فى هيئته وهو يرتاد المجهول بحثاً عن الحقيقة العلمية.. وبين `إنسان` ` نوار `فى تأهبه واندفاعاته فى الفراغ بحثاً عن هويته وهموم عصره الجسيمة. إنسان `نوار` هنا، نتاج حرب وحضارة بالغة التعقيد هو اشبه بالسجين غير المستسلم يعيش فى صراع حركى وحركة مستمرة تحاول وتقاوم أن تحطم جدار الزنزانة، وبهذا الصراع تشكل صورة الانسان مطموس الملامح- عند `نوار` فهو يبدو دائماً، إما فى مركز اللوحة أو فى إحدى زواياها حيث يلقى الاهتمام الأول من حيث البعد الضوئى لإبراز المضمون الإنسانى. انظر الى مسلسل لوحاته وعناوينها `الإنسان وانطلاقه...` و`الإنسان والهدف...` و`الإنسان والحركة...`. ولكن ليس بالإنسان وحدة رسم أو صور الفنان لوحاته. أنه عنصر ضمن عناصر أخرى اساسية كالخط والمساحات الهندسية المتنوعة والاضواء والظلال والفراغ والحركة.. كلها مجتمعه اسهمت فى تشكيل، وبناء لوحاته باتساق وأحكام. فالخط مثلا له دور مهم وفعال فى جوانب عديدة منها الجانب الشكلى، إذ يعتبر الدعامة الاساسية فى رسم الاشكال الهندسية والعضوية وهو يضفى السمة المميزة لفن الرسم وهى الحيوية وحرية التعبير والمباشرة، كما أنه- أي الخط المضىء- الذى ينبعث من الأشكال والأجسام ويتلاشى مع الفراغ بتدرجاته، كل هذا يكسب العمل الفنى ايقاعاً متنوعاً والمساحات اللونية والظلية الصريحة والمتنوعة فى تدرجاتها وكذا الحركة التى تتولد عن الشكل من مصدر واحد لتجذب العين فى سرعة مفاجئة، فضلاً عن التباين الضوئى الذي يتوافق فى سرعة مع العناصر المحيطة، فالأشكال التى تنطلق من الزوايا على مسافات مختلفة تضفى على العمل نوعاً من الحركة.. كما يشكل الضوء فى رسومه وتصاويره عنصراً آخر بارزا، فهو يمنح أشكاله سحراً وتشويقاً كما يضفى عليها حساً درامياً، وهو هنا يذكرنا بالعظيم `جويا` والمدرسة الإسبانية الحديثة واستخدامها للضوء. أما الفراغ فى لوحاته فهو يعتبر وسيلة مهمة من وسائل التعبير، حيث يتيح لكائناته-العضوية الحية- أن تستمتع بحرية التنفس أو تأنس بأصداء انفعالاتها المترددة بين ارجاء المساحات اللونية والظلية..
بهذه العناصر وتنويعاتها الفياضة حقق الفنان التآلف والترابط بين الشكلين المتناقضين فى يسر واحكام.
التكوين فى أعمال نوار:
لايميل `نوار` الى التكوينات التقليدية، أو الى مثاليات القواعد الثابتة، لكنه يسعى الى إبتكار شكل أو نمط فنى خاص به هو. وبالقاء نظرة حول رسومه ذات المساحات الصغيرة المنفذة بالألوان الجواش وأخرى منفذة بالحبر والجواش والاكريلك فى تصاويره ذات المساحات الكبيرة نجد أن مجموعة لوحاته المسلسله تحت اسماء وعناوين لموضوعات `الإنسان` قد يصل مجموع اللوحات للموضوع الواحد الى ثلاث عشرة لوحة منفذة فى توقيت زمنى محدد مثال لوحات `الإنسان وانطلاقه رقم 1،2،3 - 13` أو قد تشمل هذه الرسوم والتصاوير معرضاً كاملاً يقدم فيه الفنان تجربة جديدة تعكس تطوراً مماثلاً لاتجاهه السابق، مبيناً فيه استثماراً لشكل تراثى جديد أو استعمالاً جديداً للخامة برؤية حديثة.. هذه الطريقة فى التعبير إن دلت على شىء فهى تدل على وضوح ذهن الفنان وإحساسه بالاتجاه فهو يعرف ما يريد أن يقول: `اخوض فى تجربتى هذه - بحثاً - ذا اطار فكرى محدد..` ويقصد بالبحث هذا، أعماله المبتكرة عن الشكل الثمانى، شارحاً إياها بأنها `تنظيم للأشكال العضوية داخل اطار هندسى موحد يحكمه مربعان متعاكسان او ثلاثة مربعات، اثنان منهما مستقران والثالث متحرك، وبالرغم من ثبات محاور وأبعاد المربعات الثلاثة فإن خطوطاً تنبعث داخلها تتحرك فى اتجاهات متنوعة لتحدث تنغيماً غير محدود لمجموع الاسطح يشكل فى النهاية عالماً كونياً تتقابل فيه المساحات وتبتعد، تميل وتعتدل، تضيق وتتسع، تتوحد وتنشطر`. إن هذا الفكر المحدد، عند صياغته لعديد من اللوحات فى نسق جمالى مدروس ومتقن، وفى زمن محدد لابد أن يسبقها تخطيط يلازم عمله بلا نهاية، أي أن الفنان يعد التخطيطات اللازمة من الرسوم التى تسبق عمله، حتى إذا حصل الإنجاز يبدو عقلانياً.. ودون افتعال إن كل المقومات `مقومات العمل الفنى` تحلل وتدرس قبل التنفيذ النهائى بحيث أن أي عائق شكلى، لم يسمح به ليقف فى طريق مشاعره الغريزية فى الوقت المحدد للرسم أو التصوير. انظر الى رسومه التخطيطية أو التحضيرية التى أعدها خصيصاً قبل الشروع فى العمل تجد أن هناك ملامح مشتركة فى طريقة التفكير بينه وبين من سبقوه `عفت ناجى وبيكار وكنعان والزينى..` فى الرسوم الذهنية المختزلة- مع فارق الرؤية والاداء لكل منهم، فعند ` نوار` تجد أنه حدد رسومه الخيالية على أرضية مقسمه الى شبكة من المربعات بنسب مقياس رسم محدد ليسهل نقلها وتكبيرها فضلاً عن الوظيفة التشكيلية والرمزية لها، إن هذه الارضية الشبكية كان يستخدمها المصرى القديم فى تحديد نسب الاشكال والحجوم والمساحات وموجود آثارها على جدران المعابد والمقابر. اما هنا عند ` نوار` فهى تساعده فى تثبيت أفكاره التشكيلية أثناء وضع أسس التصميم والشكل الهندسى كالمربع والمثلث بنسب وأبعاد وحسابات رياضية واضحة. كما لايفوته أن يدون عليها أيضاً بعض الملاحظات كالخامه التى يستعملها واللون، انظر الى المسودات والرسوم التخطيطية ثم اللوحات بعد الانتهاء وقارن بينها تجد أن هناك تماثلاً بل تطابقاً حرفياً فى الشكل والبناء. ان مثل هذه الطريقة فى التفكير والتعبير تتيح بلا شك للفنان ان يقدم حلولاً ابتكارية فى الشكل والتصميم، وتنوعاً فياضاً من الافكار التشكيلية التى لاتقف عند حدود القوالب النمطية، ولكن إذا توقف الأسلوب عند حدود الكشف ولم يتجاوزه فهنا يجب الحذر وإلا لأصبحت نتاجات الفنان نمطيه القالب. وهذا بالطبع يتوقف على وعى الفنان الكامل بأدواته وطاقاته الخلاقة.
د. رضا عبد السلام
من كتاب الرسم المصرى المعاصر
أحمد نوار فى مغامرة صينية بالأبيض والاسود
اكتفى الفنان أحمد نوار باللون الاسود وانعكاساته الضوئية اللافتة على الورقة البيضاء ليعبر به عن ملمح مهم من ملامح الحضارة الصينية ، وهو العمارة ، بسمتها القديم الراسخ فى الذاكرة والوجدان ، وطبيعتها الجذابة ، كأشكال متنوعة تداعب خيال النحات والمصور معا .
مغامرة نوار جسدتها30 لوحة من الحجم المتوسط ضمها معرض خاص له ، استضافه حديثا غاليرى ` سفر خان ` بالقاهرة ، وحمل عنوان ` رحلة نوار ` وهو ثمرة لزيارة قام بها منذ عدة سنوات الى الصين ، ضمن وفد لفنانين تشكيليين من عدة دول .
تخلى نوار عن نزوعه الأثير للوحات الكبيرة ذات الطابع الصرحى ، وبحزمة أوراق بيضاء محدده المساحة ، تشف بمسحة صفراء أحيانا ، وبعض أقلام الفلوماستر والرصاص ، وطاقة حادة من التأمل والدهشة ، استعاد طفولة الرسام فى تجربته الفنية الخصبة ، وابتكر فضاء تشكيليا فى اللوحة ، موزايا لفضاء الطبيعة فى الواقع الصينى وما تزخر به من تفاصيل ومفردات بصرية ، وعناصر وشواهد أثرية ، لا تزال ممتدة فى الزمان والمكان حرص نوار على ألا تنفصل رسوماته عن فن الرسم ذى الباع الطويل فى تاريخ الفن الصينى، حيث كان ينظرون إلى الفن باعتباره التجلى الأعمق بل المقدس لعبقرية الإنسان المبدعة ، ونقطة ارتكاز حية لمفهوم الكون والحياة من حوله ، فلجأ الى خامة شبيهة بالحبر الصينى ذى التراث العريق ، كما اعتمد على رسم عناصر المكان فى بساطتها وعمقها ، من بيوت واشجار وجبال ووديان ومعابد وأنهار ، وهى العناصر نفسها الذى احتفى بها الفن الصينى القديم ، لكنه أضاف إليها نماذج من العمارة الصينية الحديثة ، تبرز على نحو خاص فى نماذج من المحال التجارية ، والمقاهى والكبارى المعلقة.
ورغم أن اللوحات تخلو من الشخوص بشكل واضح ، فإن حركة الخطوط والظلال المكثفة فى كثير من اللوحات تعطى انطباعا بحركة البشر ، وبروح الناس فى المكان على ضوء ذلك ، نجح المعرض فى أن يشكل حالة خاصة من الترديد البصرى ، تعكس طبيعة العمارة الآسيوية بشكل عام والصينية على نحو خاص ، وتبدت مهارة نوار فى جعل خطوطه منسابة ، وبشكل عفوى فوق مسطح اللوحة ، كاشفة عن حيوية جذابة لمساحات ولطشات الأسود والأبيض ، كمعول أساسى فى تكوين الشكل وإنضاجه تلقائيا ، بحيث يبدو كأثر معمارى ، أو منظر خلوى ، التقط توا فى مغامرة الرسم وليس مجرد استعارة بصرية لتكوينات وأشكال مسبقة . كما قدمت اللوحات حلولا بصرية فارقة فى التعامل مع الفضاء والفراغ ، فكثيرا مايشكل اللون نفسه الفراغ ، والعكس صحيح أيضا ، إضافة الى مراعاة طبيعة التفاصيل فى التكوين ، وما تنطوى عليه من نعومة بادية فى بعض زوايا الصورة ، أو خشونة شفيفة فى زوايا أخرى ، وهو مايؤكد أننا أمام طبيعة تستلهم ، لأنها تنفرد بمقومات جمالية وحضارية خاصة ، تحفز على الاستكشاف والتأمل ، وإعادة القراءة وطرح الأسئلة ، المشتبكة مع الماضى والحاضر معا .
كما تعكس اللوحات خبرة نوار كحفار ، يعرف طبيعة السطح وطرق معالجته فى إطار جدلية التجسيد والتجريد ، وكيفية المواءمة بينهما ، بصيغ فنية بسيطة على شكل إشارات وعلامات خطية ومساقط خاطفة للضوء ، تساهم فى بلورة اللون ودفع حركته فى تضادات وعلاقات فنية مثمرة ، وهو ما انعكس فى كثير من لوحات المعرض ، حيث ذابت فى نسيج الكتلة بسمتها الأسود الداكن والمخفف ، حيوات متنوعة للطبيعة ، ولدواخل الذات الإنسانية وعلائقها المتنوعة بالمكان ، وبهموم الفنان نفسه ، وحلمه فى أن يحول اليومى العابر إلى كائن مقيم بحب وصفاء داخل اللوحة .
جمال القصاص
الشرق الأوسط - 2015/11/28
أحمد نوار فى رحلة الصين بالأسود والأبيض
- «رحلة نوَّار» هو عنوان المعرض المقام حالياً في قاعة «سفر خان» في القاهرة لأعمال الفنان المصري أحمد نوَّار. يضم المعرض مجموعة من الأعمال المرسومة بالأبيض والأسود (نحو 30 لوحة من القطع المتوسط) أنجزها الفنان أثناء رحلته إلى الصين قبل عامين. الأعمال المعروضة تزخر بحالة من الاستكشاف البصري لفضاءات جديدة ومختلفة عما هو معتاد لفنان مصري أو عربي، فضاءات مليئة بالكثير من التفاصيل والمفردات البصرية التي لابد لها من أن تثير قريحة فنان متمكن من أدواته. وعادة ما تفرض الأسفار من هذا النوع على الفنان اللجوء إلى خامة يسهل التعامل معها أثناء الانتقال من مكان إلى آخر، كما أن الموضوع عادة ما يستدعي الخامة المناسبة أيضاً، لذا اكتفى نوَّار في رحلته تلك برزمة من الأوراق المتساوية المساحة، وعدد من الأقلام، اكتفى من بينها باللون الأسود.
لون واحد يلخص به حالة النهم البصري والاكتشاف التي انتابته تجاه هذه التفاصيل الجمالية ذات الطابع الآسيوي. مرتفعات شاهقة تمتد على مدى البصر، تتداخل في تناغم مع حركة الناس والحياة التي لا تتوقف في هذا البلد المتعدّد المناخات والتضاريس. الطبيعة بعنفوانها وحضورها الطاغي هي أكثر ما يلفت في تلك المشاهد الخلوية التي رسمها أحمد نوار بالأبيض والأسود، وزادتها نشوة الاكتشاف جمالاً وحميمية، ناهيك بمتعة الخوض في تجربة الرسم بالألوان الحيادية من جديد.
كانت الأجواء المحيطة بالرحلة مهيأة تماماً لعودة نوار إلى الرسم بالأبيض والأسود، يدفعه حنين جارف إلى بداية تجربته، حين أنجز مشروع تخرّجه في كلية الفنون الجميلة. التجربة التي يعرضها نوار حالياً تستحق المشاهدة؛ فهي تختلف عن تجاربه السابقة، والتي كان يغلب عليها اللون، واتسمت غالبيتها بصياغات أقرب إلى التجريد وفق نسق يجمع بين العناصر العضوية والهندسية في آن معاً. هو في هذه الأعمال فضَّل العودة إلى الصياغات الأكاديمية والمعالجات المدرسية للمشاهد الطبيعية مكتفياً بقدرته على التلخيص، في صياغات يبرز فيها سطوة الطبيعة، في تناغم مع حركة الحياة والعناصر المعمارية الصينية بأشكالها المميزة.
المرتفعات والجبال الشاهقة المحيطة بالمدن والقرى الصينية بدت في أعمال نوار أشبه بكائنات مهولة تحيط بالعناصر من حولها، تتضاءل إلى جانبها العناصر والجموع البشرية في الأسفل. في معظم الأعمال المرسومة هناك خط واحد للأفق يرسم أطراف المرتفعات، ويترك مساحة للفراغ في أعلى المشهد، بينما يزيح الاشتباك بين العناصر الأخرى المتعدّدة، من بيوت وأشخاص وأشجار وتفاصيل هندسية إلى القاعدة ليؤكد رسوخ المشهد ويزيده ثباتاً واستقراراً.
نظرة عامة على تجربة نوار الإبداعية منذ تخرّجه في الفنون الجميلة عام 1967 تجعلنا ندرك مدى ولعه بفكرة الاكتشاف والتعامل مع وسائط متعددة ومتنوعة، حتى وإن بدت خارجة عن المألوف من أدائه الفني. انتقل نوار خلال تجربته الإبداعية تلك بين أكثر من وسيط، كأنما أراد أن ينهل من وسائط الفن كافة، من الرسم إلى التصوير إلى النحت والعمل المركّب. وربما أيضاً ليثبت رجاحة اختياره حين التحق بالفنون الجميلة من دون موافقة الأهل، حتى أنه حرص في أول معارضه (وكان في أتيليه القاهرة) بعد تخرّجه مباشرة على أن يدعو أقاربه وأبناء قريته لحضور الافتتاح، وكانوا أيضاً في وداعه وهو متوجّه إلى إسبانيا لاستكمال دراسته العليا.
رحلة نوار إلى الصين هي استكمال لهذا التحدي الشخصي والتحدي الإبداعي أيضاً، فخلافاً لكونها استكشافاً لمفردات بصرية مغايرة، فهي تحمل أكثر من فكرة الانتقال من المكان. عنوان المعرض يترك الباب موارباً لتفسيرات أخرى لمعنى الرحلة ودلالاتها المباشرة من الانتقال من مكان إلى آخر، هي رحلة من وسيط إلى آخر، ومن سلوك مستقرّ في طريقة التناول والبناء الفنّي لمساحة الرسم إلى توجّه آخر يخدش به حالة الاستقرار هذه ويزيدها ثراءً.
ياسر سلطان
الحياة - 2015/10/11
فنان مصرى يغزو أوربا
- ` قد تختفى أشعة بعض النجوم من سمائنا بعض الوقت ، فنظن أن نورها قد انطفأ ، وأن جذوتها قد خبت ، ولكننالا نبلث أن نتبين أن سبب هذا الاختفاء سحابة عابرة حجبت الرؤية ، أو عيب طارئ فى أجهزة الإرصاد يعود بعدها النجم إلى الظهور أكثر تألقا ولمعانا .
- وهكذا يطلع علينا الفنان ` أحمد نوار` بعد غيبة أربع سنوات قضاها فى بعثته الدراسية بأسبانيا ليطلعنا على محصلة رحلته الطويلة وسط بريق نجاح يخطف الأبصار ، وظروف صحية بالغة القسوة استنزفت قدرا كبيرا من جهده ووقته نتيجة علة حملها معه من مصر عندما كان يعبر القناة ذهابا وإيابا خلال معارك الاستنزاف ليدك مواقع العدو وليقتل منهم خمسة عشر ، وليرصع صدره بوسام ` بطل الجيش ` سنة 1969 ثم يعود حاملا بين جنبيه انطباعات حية عن تجربته فوق رمال سيناء المخضبة بالدماء ، يترجمها فى لوحات تنضح بمشاعر لايمكن أن تعبر عنها غير ريشة فنان صادق وأصيل يخوض تجربة حقيقية !!
- وذهب الفنان إلى أسبانيا وفى نفسه بصمات غائرة لأحداث هذه الأيام .. وكعادة العقل الواعى عندما يحاول دائما أن يطمس الصور المفزعة فى حياته ، أو يطوى صفحاتها السوداء بإيداعها فى غياهب النسيان غاصت هذه الذكريات فى أعماق اللاشعور ، ولكنها لم تنمح تماما من وجوده بل صارت جزءا من تكوينه العضوى مثلما كانت جزءا من تاريخه وماضيه ، ولتصبح فى النهاية محورا تطوف حوله رمزياته الشاعرية ، ومنطلقا تنطلق منه فلسفته التشكيلية .
- وفى أسبانيا وجد ` نوار ` الأرض الطيبة لإنماء مواهبه ، والمناخ الصالح لظهور قدراته وملكاته الكامنة ، وكان احتكاكه بالفنانين وكبار الأساتذة والنقاد والجمهور الواعى من خلال 22 معرضا خاصا فى أسبانيا وخارجها حافزا على الغوص فى أغور أعمق فى فن الحفر والتصوير .
- ولم يكن تهافت الجمهور على اقتناء أعماله ، ولا التقدير العظيم الذى استقبله به كبار النقاد ، لم يكن هذا أو ذاك من باب المجاملة أو الدعاية المأجورة ، ولكنه كان اعترافا وتقديرا أكده إفراد مقال كبير فى كتاب الحفارين الأسبان يشيد بالجديد الذى أضافه الفنان المصرى إلى فن الحفر المعاصر والذى يتيح للفنان عمل طبقات متعددة الألوان من لوحة ` زنكية ` واحدة ، وهو مالم يسبقه إليه فنان آخر من قبل ...
- ولعل اللهفة التى تبدو فى إحدى المقالات التى ظهرت فى الصحف الإسبانية ، والتى تحث المسئولين على ` الإسراع إلى اقتناء بعض أعمال الفنان المصرى ` قبل أن يجئ اليوم الذى يصبح فيه الحصول على أحد أعماله من الأمور المتعذرة !! لعل هذه اللهفة دليل على ما بلغه فناننا من مكانة عالية أهلته لكى يحتل مكانا مرموقا بين كبار الحفارين العالميين .
- ويكتف الفنان إحساسه المأسوى والإنسانى فى مضمونه التشكيلى بقدرة وكفاءة توازى موهبته الابداعية ومهاراته اليدوية وثرائه الفنى ، فهو يغوص فى قرارة نفسه التى يضطرم فيها الإحساس بالمعاناة التى تقاوم الضغوط بكل ضراوتها .. معاناة الخوض فى معارك لا تحسمها هزيمة ولا نصر . ثم يطلق كائناته الممسوخة فتترنح أشلاؤها فى فراغ موحش يملأ القلب رهبة وهلعا دون أن يحول دون استمرار الصراع من أجل انتصار الحياة .
- وتقوم المواءمة بين المساحات الهندسية والعناصر الأخرى التى قد تكون آدمية أو شبه آدمية بخلق الديالوج الازلى بين الكمال الهندسى الذى يرمز إلى الديمومة وبين التهتك العضوى الذى يكشف بعض مراحل الصيرورة ..
- وقد تسمع أمام أحدى اللوحات رنة حزن عميق تصدر عن هذا العنوان الذى يحفه الجلال ` الشهيد الأول ` فتجد نفسك أمام لفائف كفنية أو موميائية أو أشلاء دمية عتيقة منتفخة محشوة بالخرق والقطن ، فتحتار هل هو شبح جندى تعثرت فيه أقدامه وهو يشق طريقه بين الألغام والأسلاك الشائكة ، أم هى أشلاء الفنان المتمزق بين الحلم والواقع ، والحقيقة والوهم .. إنك تكاد تسمع الصرخات المكتومة تنبعث من الفجوات التى تتخلل اللفائف البالية ، وتحس بقصوة الكبت الذى توحى به الأربطة الضاغطة حول الأجساد المهترئة المنتفخة كالوسائد التى عبث بها ليل مؤرق طويل .
- ويفوح الإحساس بالتمزق الذى يودعه الفنان فى مشخصاته أو فى عناصره المجردة من السطوح الخشنة التى تعلو وتهبط وتكسو بشرة اللوحة فى تشنج عصبى حاد حيث تلتقى بتمزق من نوع آخر ، تمزق انفصال جسد عن جسد ، وانتزاع كائن من أحشاء كائن آخر .. إنه ليس تمزقا مرضيا ولا تشاؤميا ولا حطاميا .. وليس تمزقا سيرياليا يغرقنا فى متاهات اللامعقول ، ولكنه تمزق صراعى بين طرفى حياة . عنيف الوقع شديد الإغراء، عميق المغزى ، يدعونا إلى تخطى حدود الزمان والمكان ، وينتشلنا من وهدة الأحزان ليرفعنا إلى آفاق روحية وإنسانية نستشعرها من المساحات الممدودة فى فضاءاته القاتمة ، والألوان المرهفة التى تستقر واحدة فوق الأخرى، والظلال الضبابية التى تسرى فى دروب التكوين والخيوط التى تمتد لتلتحم بالاجسام المعلقة، فتتشبث بها كما تتشبث بالحياة أو بخيط من أمل ينتشلها من عزلة قاتلة .. وفى هذا الفراغ اللامتناهى تحس بدوار الانطلاق إلى أعلى أو الغوص إلى أعمق .. دوار لذيذ لا يفقدك توازنك بل يعيد إليك الثقة بالإنسان .
- لقد كانت رقائق الزنك وأطراف الإبر ومسام الشباك الحريرية أبلغ من أى لغة فى نقل مشاعر صوفية بالغة العمق والنفاذ .
بقلم : حسين بيكار
من كتاب أفاق الفن التشكيلى
عالم بمنطق الأشكال
- إليكم يتكلمون .. ولكن لا ينطقون .. يتكلمون بغير كلام .. بالإشارة والإماءة وبتعبيرات الوجوه ..... وعجز اللسان الأبكم عن النطق لايمنع وصول الخواطر من شخص إلى آخر .. فهناك لغة أخرى غير لغة الكلام .. لغة التعبير .. وقد تكون أبلغ من الكلام نفسه .. وكلما كانت شحنة الانفعال عند المعبر قوية نابضة ، كانت أعمق أثرا وأقرب وأسرع إلى قلب المتلقى وفهمه ..
- ويقولون إن ` سليمان ` كان يعرف منطق الطير . ويفهم قول النمل .. وأسراب النمل تسعى تحت أرجلنا فى كل لحظة .. ولكننا لانفهم ولا نعى ما يقوله النمل للنمل الآخر .. ولابد أن ما يوقله كثيرا .. فهذا النشاط الخارق ، والنظام الدقيق المحير الذى يتبعه النمل كأسلوب حياة لا يتم بدون تخاطب .. أو تفاهم أو كلام .. وإنما هناك حديث يتم دون أن يصل إلى أسماعنا .. وإذا وصل فانه لن يصل إلى افهامنا .. لأننا لم نتعلم لغة النمل بعد .. ولاننا لم نتعلم لغة النمل بعد .. والعيب فينا .. والذنب ذنبنا وليس ذنب النمل .
- والطبيعة مليئة بالكائنات الحية ، والكائنات الجامدة .. ولكل كائن لغته التى يتحدث بها .. وقد يكون صمته أبلغ وأعمق من حديثه ونحن نمر على هذه الكائنات مر الكرام دون أن نصغى إلى حديثها البالغ البلاغة ، أو إلى صمتها البالغ الفصاحة ..
- وربما كان الشئ حائطاً متهدما أو حصاة ملقاة فوق الأرض ، أو ورقة ذابلة ، أو حبلا يتولى .. أو أى شئ آخر مهما حقر فى نظرنا .. وربما كان معلما كبيرا نخسر كثيرا إذا لم نستمع إلى درس يلقيه على مسامعنا أو يلقيه على وجداننا .
- والعجائن .. العجائن الصماء عندما تتشكل قبضا أو بسطا ، أو ارتفاعا وانخفاضا .. وما يتخللها ساعة التشكل من فجوات بينية تضيق وتتسع .. أو فقاقيع سطحها كالبثور خشنة تارة ، ملساء تارة أخرى ، إنها أيضا لغة عويصة ذات مضمون عضوى وحياتى للذى يعرف كيف يستنطقها ويحل رموزها ويستمع إلى حديثها المجرد النقى .
- إنها مثل مولد كائن عضوى عندما يشرع فى التنفس والاختلاج حين تدب فيه الحياة فى رحم التكوين .. وحياة الشكل غير حياة النبات والحيوان إنها حياة قوامها تحرك` النقطة ` فى جميع الأبعاد صعودا أو هبوطا . طولا وعرضا وفوق وتحت .. وأمام وخلف .. وهذه الحياة هى التى يسعى إلى أحيائها التجريديون ، ويضعون بينها وبين الواقع فاصلا كالسقف الذى يفصل طابقا عن طابق فى عمارة شاهقة ، حيث يتسع مدى الرؤية فى الأدوار العليا كلما ارتفع موقع المشاهدة والمراقبة ..
- كان لابد من ذكر هذه المقدمة قبل الخوض فى الحديث عن فن ` أحمد نوار ` وعن معرضه الذى يقيمه فى المركز الثقافى لألمانيا الديمقراطية بالجيزة .. الذى يضم نماذج من حصيلة تجاربه المتعددة الجوانب .. فقد عرفناه فى البداية ` حفارا ` متألقا متفرد الطابع ثم عاد من جبهة القتال ليفاجئنا بخبرة جديدة فى مجال التشكيل المجسم .. وها هو ذا يعود مرة ثانية من بعثته الدراسية من أسبانيا بتجربة أخرى فى حقل التصوير..
- ويقف ` نوار ` كالصرح الشامخ بواجهاته الثلاث . ومواهبة المتعددة يملك ناصيتها جميعا بأستاذية وفهم وعمق ، ويقدمها فى تواضع العلماء بلا غرور صبيانى ، أو تكالب على الوقوف تحت الأضواء .
- ويقطع ` نوار ` فى مجال الحفر شوطا طويلا فى استنطاق الأشكال ` العجائنية ` المجردة .. يصغى إليها وهى تهمس أو تصرخ .. إنها تتحرك فى رحم الإبداع بلا خطة .. مثل كائن هلامى فوق سطح مواج .. ينمو ويتشكل ويتحول من صورة لاخرى تبعا لظروف اللحظة .. يغمرها سائل وردى كبحر من الدم الشفيف تسبح فيه الخلايا التى تتكون منها الحياة .
- ثم يفيق عقل المبدع فجأة على صراخ النظام الهندسى ، صارما بجديته ، صادرا من المخ المدبر .
- شامخا كالقانون الكونى . والناموس الأعظم .. فيلتقط بعض ` أميباته ` الجنينية.. ويسكنها داخل حظائر هندسية التخطيط فيها حسم وإرادة ونظام وحسن تدبير .. فيتألف العضوى والهندسى فى تزاوج حميم ، ويتلاقى عنصرا ` الأولية أو البدء أو النشاة الاولى` فى كل واحد بين الضدين .. المصادفة والنظام ، العاطفية والعقلانية . فى تجانس حكيم .
- ثم يمسك ` نوار ` فرشاته ليصور ويلون .. يدعوه الحلم أن يغمض عينيه . ويسرح ، ويحلق فى أجواء ليلة داكنة ، تسبح فيها كائنات شاردة شبه آلية أو معدنية .. كأنها كائنات قادمة من كوكب أخر . أو انقاض صاروخ دمره السكون الأسود .. فانتشر فى الفضاء الصامت فى منطقة انعدام الوزن ..
- ميتافيزيقية فضائية ، لم يعرفها الإبداع الفنى قبل أن يطأ الإنسان الكواكب المجاورة .. الرؤية سيريالية المذاق .. لكنها لا تنتمى إلى سيريالية ` دكيريكو أو دالى أو يونات أو التلمسانى ` لقد تخطت مرحلة الهلوسة اللاشعورية وتخاريف العقل الباطن لتبشر بظهور عقل فضولى مكتشف مغامر طيار ، يمكن أن نطلق عليه ` العقل الاثيرى ` يتجاوز حدود دائرة المحسوسات ليعود بصوره الحالمة يعرضها فى ذهول وانبهار الذى أفاق لتوه من حلم مثير ..
- ويعود ` أحمد نوار` من رحلة الكشف يحكى رؤاه بهدوء عبقرى بلا مبالغة ولا تهويل فى صورة بالغة الإيحاء . كائنات معلقة فى الفضاء . فى اطرافها خيوط مشعة هل هى الحبل السرى الذى يربطها بالعالم الذى جاءت منه ؟! أم خيوط من شعاع ` ليزرى ` مجهول تطعن به الظلمات التى يتراكم بها فوق بعض .. وتدفع المشاهد من وراء إلى وراء أعمق وأكثر غورا .. فضاء عدمى موحش منهار يصرخ صمتا .. فيبتلع الظلام أصداء الصمت ، ورنين الأضواء الخافتة المنبثقة من السواد الفاحم لتذوب فى فناء الفناء ..
- وهو لا يستثير المشاهد بالمحسنات اللفظية ولا يستهويه بالإنشاء الخطابى .. ولكن بأنات الأشكال المكتومة .. وآهات الأضواء المكبوتة بالاهتراء ، والتهتك ، والتفتت والتشتت ، والتحلل .. بالانتفاخ العفنى ، بالالتفاف الكفنى . بالتيه الأسود والقلق الحالك . سمات عصر نستشعرها دون قلوبتها فى قوالب نمطية دارجة .
- وقد يذكرنا جرح غائر أو ندبة قديمة بانتصار فى معركة ، أو سقطة شهيد ، وهكذا تذكرنا المجسمات التى يشكلها ` نوار ` من دانات المدافع ورصاص البنادق والشظايا .
بقلم : حسين بيكار
من كتاب أفاق الفن التشكيلى
نوار ورومانسية الفضاء
- قد تدمع عيناك وأنت تودع صديقا عزيزا عليك لا تدرى كم ستطول غيبته .. ولكن أن تبكى بالدموع وأنت تفارق سيارة كنت تمتلكها بعتها راضيا مختارا وقبضت الثمن هذا مالم أصدقه عندما روى لى صديقى تجربته مع سيارته وهى تبتعد عنه إلى الأبد إن باعها لشخص غريب ....!!
- كان صديقى يقسم بأغلظ الايمان بأن هذا حدث .. كان يقول .. ولماذا لا أبكى سيارتى وقد كانت كواحد من أفراد اسرتى تماما قاسمتنى شطرا كبيرا من حياتى ، وذاقت معى حلو الحياة ومرها ؟؟ ولماذا لا ابكيها وقد بذلت أقصى ما تستطيع لاراحتى وارضاء غرورى والترفيه عنى رغم أننى كنت ارهقها بالاحمال الثقيلة وبالخوض فى مفاوز وعرة وأرغمها على قطع المسافات الطويلة وأوقظها فى أى ساعة من ساعات الليل أو النهار فتستجيب صابرة راضية لا تتأفف ولا تتذمر !
- كانت مثل الجواد الأصيل السلس القياد بفارق بسيط هو أن الجواد مخلوق من لحم ودم وجلد وشرايين ، وهى مصنوعه من حديد وصفيح وزجاج وكاوتش وصواميل وخراطيم .. ألم يكن أجدادنا يبالغون فى تدليل وتكريم جيادهم ونظم أروع القصائد لأفراسهم ؟ حتى إنهم كانوا يطلقون عليها أسماءهم والقابهم وكأنها أفراد فى أسرهم العريقة النسب ؟
- إن شعورنا نحو الآلة التى تقاسمنا الحياة لا يختلف عن شعورنا نحو أى إنسان أو حيوان نعاشره لفترة ما .. وهناك أشياء حميمة وعزيزة على الإنسان قد تكون غليونة أو نظارته أو القلم الذى يكتب به أو الوسادة التى يريح عليها رأسه ، تنشأ بينه وبينها علاقة وثيقة ، وإذا حدث وضاع أحد هذه الأشياء أو أصابه التلف فإن ذلك يشكل فراغا موحشا فى حياة صاحبه ، ويظل حزينا عليه حزنه على فقيد عزيز .
- هذه المشاعر الجديدة فى حياة الإنسان وسعت أفق أحاسيسه وأثرت رصيد انفعالاته وتجاربه العاطفية ، وغيرت بعض مفاهيمه تجاه العلاقات الإنسانية بشكل عام وتجاه العواطف بشكل خاص .. وصنعت تحولا هائلا فى موقف الانسان من مقدسات سابقة ، بل لعلها تكون قد خلقت ( رومانسية ) من نوع جديد ، صنعها زحف الآلة على الإنسان لدرجة السيطرة ، فقد صنع الإنسان الآلة لخدمته فأصبح خادما لها . وقديما صنع الصنم بيديه ثم عبده بعد ذلك .
- إن رومانسية الريف تختلف عن رومانسية المدينة ، وذلك بسبب اختلاف مكونات كل من القرية والمدينة .. فالإطار الذى يضم الحياة الريفية يشمل شاطئ الترعة والقنطرة والنخيل والحقل والدوار والساقية والزرع والجاموسة والفلاحة والبلاص والفرن .. إلخ .. وعلاقة الريفى بهذه العناصر علاقة مباشرة ووثيقة لانها جزء من كيانه ، بل انها كيانه كله .. لذا لايمكن فصل مشاعره عن هذه العناصر التى تخلق بينها وبينه لغة تفاهم ومنافع مشتركة وذكريات وردود أفعال مختلفة الأشكال وتتفاعل هذه العلاقات فى داخله لدرجة التخمير لتحدث ما يشبه ( الرغوة ) الملونة تطفو فوق السطح وتعكس مختلف الاضواء والبريق .. هذه الفقاقيع والبالونات الفنتازية هى مكونات الرومانسية الجديدة التى تسحبه إلى فوق محلقة به فى أجواء غريبة المعالم مقاوما بها جاذبية الارض وكثافة الواقع .
- أما الإطار الذى يضم حياة المدينة فهو زحام الناس والسيارات والميكروفونات والعمارات الشاهقة وهدير البضائع الباعة المتجولين ودخان المداخن وهستيرية الحركة ليلا ونهارا وإشارات المرور والأنوار التى لا تنام . ولا شك أن الانفعال الذى يحدثه التواجد فى مناخ ريفى هادئ يختلف تماما عنه فى مناخ حضرى صاخب .
- ونحن نلمس كيف أثر هذا الواقع فى لغة الموسيقى الحديثة ، وكيف حول انغامها الحالمة إلى ضوضاء صاخبة يطرب لها جيل هذا العصر مثلما كان اجدادنا يتمايلون طربا عند سماع سيمفونيات ( بيتهوفن ) وسوناتات ( شوبان ) .
- من هذا المنطلق ، وبهذه الرؤية ينبغى أن نواجه أعمال الفنان ` أحمد نوار ` التى يقدمها هذا الأسبوع فى قاعة الأتيليية بالقاهرة . فالمشاهد ينبغى أن يتجرد من ميوله وأفكاره السابقة ، ويقف مطهرا ذاته لاستقبال ايحاءات هذه اللوحات التى تطل عليه من عالم غريب عليه تماما . رغم أنه عالم متواجد معه ، ومخالط له لدرجة الالتصاق ..
- إن الانسان الآن يجتاز مرحلة من أعجب وأخطر مراحل تطوره ، وهى مرحلة غزو الفضاء .. انه يقتحم هذا العالم المجهول بمركباته وصواريخه وأقماره بحثا عن أسرار الكون الغامض الذى كان يتغنى به فى أشعاره وملاحمه .. هذه السماء الشاسعة التى تحتضن ملايين الكواكب والأقمار والشموس أصبحت محطات يقف عليها الإنسان للراحة أثناء تنقلاته من كوكب لآخر .. هذه السماء التى تخدعنا بزرقتها الظاهرة ليس فيها أى ذرة من هذا اللون الأثيرى . إنها طبقات بعضها فوق بعض من سواد حالك وظلمة دامسة .. هكذا يقول رواد الفضاء .. وهذه الفضلات المتناثرة فى الفضاء الأسود الذى يفترش اللوحات جميعا . إنها مخلفات مركبات عابرة ، أو صواريخ منتحرة تبعثرت أشلاؤها هنا وهناك .. وهذه الومضات الضوئية المبهرة التى تنعكس على الأجسام المعدنية فيصدر عنها بريق نابض يؤنس الرؤية وسط الظلام الموحش .. وهذه الأشكال التى تشبه خواذف كالنيازك تطعن السواد بطرفها النافذ وهذه الأشكال التى تشبه خوذات رواد الفضاء أو دروعهم الثقيلة أو الأدوات التى يستعملونها ، إنها عناصر جديدة لها وجود حقيقى فى عالم نصنعه بأيدينا ، ونغامر باقتحامه ، إنه عالمنا الذى سيحتوينا غدا .. وهو العالم الذى يرتاده الفنان ( أحمد نوار) بفرشاته ويضفى عليه هذا الغموض الرومانسى الذى يغمر المشاهد بفيض من المشاعر الطازجة والأحاسيس العذراء الجديدة على تجاربه . مشاعر لم يسبق له تذوقها ، ولكنه لا يلبث أن يألفها ويصنع معها حوارا يزداد عمقا مع كل كشف يكشفه فى متاهات الفراغ العدمى . ثم لا يلبث ان يستطيب هذا السكون الطلسمى الذى تسكبه الأجسام المعدنية فى داخله ، فيشاركها السباحة فى فلكها الأسود كالحالم الذى لايريد أن يوقظه الواقع الأرضى بصخبه وضجيجه .
بقلم : حسين بيكار
من كتاب أفاق الفن التشكيلى
مفردات عَالم ` نوار` الرّمزى
- كائنات ` نوار`
- إن المتأمل لكائنات `نوّار` الفنية - منذ مشروع تخرجه فى كلية الفنون الجميلة حتى الآن - يكتشف أنها مرّت بما يمر به الكائن الحى من أطوار، وإن أتيح للكائن الفنى ما لا يتاح لنظيره الواقعى من تحولات حلمية، فالكائن الحى يقوده قانونه الداخلى، وملابساته الخارجية إلى النماء، طوراً بعد طور، أما الكائن الفنى فمصنوع من مادة الحلم، والأصباغ.. يفتح الأبواب, أو تفتح له، من أجل التحولات المستحيلة، فالإنسان يمكن أن يمسخ قرداً، أو يتخشب `خيالاً لمآته`، أو ينتفخ بالونة.. ثم يرتد إنساناً، أو طيراً، فى لحظة خاطفة.. وهكذا، وهكذا.. ويجمع كائن `نوّار` بين صفات الموجود الحى، والموجود الفنى، بين التحولات الخيالية، والتطورات الواقعية.
- فى عام 1967 كانت بداية تعرفنا على كائنه الفنى فى مشروع تخرجه. وجدناه ` قريباً` من هيئة الإنسان المألوفة ظهر عارياً، وإن شاء حياء الفنان إلا أن يبهم عورته، ولم تمر بضع سنوات حتى ابّنهم الجسد كله أو بالأحرى غاب داخل لفائف موميائية - ثم غاب ثانية، ولكن عن اللوحات هذه المرة، ثم عاد.. بعد سنوات، فى هيئة كائن آخر احتل مركز الصدارة واقترب من جديد، من ملامح نظيره فى الواقع.. وكان هذا الوافد المتحول هو ` الحمامة`!.. لكن.. على الرغم من الظهور, والاختفاء.. ثم معاودة الظهور.. للإنسان الذى يتجلى فى صور مختلفة, فإن ما نراه فى كل الأحوال, ليس غير قناع؛ أى رمز.. يدعونا الفنان لفض أسراره, والتقاط شفرته السرية. وإذا كانت هناك عوامل خارجية، اجتماعية، واقتصادية، ونفسية، وسياسية `تسهم` فى إزدهار الإنسان أو انكساره فإن التجليات المختلفة لإنسانه الفنى ترتبط بذات الفنان الموصوله بهموم الإنسان المعاصر بشكل عام، والعربى بشكل خاص. إن `نوار` يستقى مادته من دراما الواقع العربى، واغتراب الإنسان فى كون لم يفلح فى تحقيق الوئام معه، أو تحقيق العدل، والسلام مع نفسه، ويلوذ بتراث المنطقة، وخاصة الإسلامى, ليمنحه ما يعتقد أنه قوة للتميز، والتمايز فى عصر الاجتياح وهولا يغلق، رغم ذلك، نوافذ الاتصال, لأن عاقلاً لا يرضى بذلك فضلاً عن كونه لا يستطيع أن يقاوم قنوات الاتصال المقتحمة, ولتلك أسباب، وغيرها، كما سنرى.. ترحب بإنتاجه المحافل الدولية، والعربية على السواء.
- اللوحة الثلاثية
- كانت تلك اللوحة هى لوحة مشروع التخرج، وهى تتكون من ثلاث لوحات متصلة، ويمكن رؤية كل منها على حده خاماتها: الأقلام الرصاص على الورق الأبيض المقوى. مقياسها: 10X2.75متر، ويمكن تخيل ما تحتاجه لوحة بهذا الاتساع، وتلك الخامات، من الجهد، والبراعة ولقد اندثر - للأسف جزء من تلك اللوحة، ويتجه ما تبقى منها إلى نفس المصير، دون أن تجد من ينقذها، ولقد أعلن الفنان أكثر من مرة عن رغبته فى التبرع بها إلى أية مؤسسة، مقابل وضعها فى مكان أكثر لياقة من مخزن الكلية.. دون جدوى!.. وأدرك فى النهاية، أنه لا يستطيع إنقاذها، ولا يستطيع التخلص منها، فأثر النسيان، وتركها للزمن ليقوم بالواجب!.
- كان المحرّك الأول هذه اللوحة الملحمية هو الجدارية الشهيرة للفنان `مايكل أنجلو` التى تصور البعث، وكان قد شاهدها - على الطبيعة - فى رحلة من رحلات الصيف إلى أوربا. استقر هذا العمل الفنى العظيم كوامن الإبداع والتحدى لدى ` نوار` طالب الفنون فى ذلك الوقت - فقرر التحدى فى حدود المتاح من الموهبة, والخامات الفنية، فاختار تلك المساحة الضخمة لتكون ساحة لملحمة حملت ثلاثة عناوين: (الجنة - يوم الحساب - الجحيم).. أمّا المحرك الثانى فكان ثلاثية الفنان` بوش` - الجد الأكبر لسيرياليتى القرن العشرين - المسماه: حدائق البهجة، ولقد انتشرت فى تاريخ الفن الغربى تلك الثلاثيات، ربما تيمناً بالرقم `3`، المتمثل فى الثالوث المسيحى. ولقد انتشرت تلك الثلاثيات فى الإبداع التشكيلى العربى لغير هذا السبب المفترض بالطبع، وإن صار ذلك الشكل الساحة المختارة - فى معظم الأحوال - للأبنية الملحمية، سواء فى مجال الأدب، أو الفن التشكيلى. والتزم `نوار` فى تقسيم ثلاثيته نفس نظام التقسيم التقليدى؛ أى جعل اللوحة الوسطى هى الأكثر اتساعاً, والأكثر حظاً من الإثارة، والجذب، بينما تظهر اللوحتان: اليمنى، واليسرى كوصيفتين. تتساويان حجماً، وربما قيمة أيضاً.
- فتح له ` أنجلو` و` بوش` منابع أخرى هى: كوميديا (دانتى) الإلهية، فاختار جحيمها (!) ثم انغمس، بعد ذلك، فى رؤيا `يوحنا المعمدان` المثيرة، وانطلق إلى صور `جهنم` فى القرآن الكريم, وأنهى رحلة التحصيل مع أبى العلاء المعرى فى رسالة الغفران.
- [ يقول الفنان عن تلك الفترة إن الأشباح، والشياطين, ظلت تطارده ليل نهار، ولم يكن قد كّون لنفسه أسرة تستعيده إلى الواقع، وتدفع عنه المرارة، وإن كان الواقع نفسه، فى تلك الأيام، مشحوناً بالتوتر، انتظاراً للحرب.. ثم.. بالإحباط بسبب النتيجة غير المتوقعة, وأدرك أنه إمّا أن يتخلص من هذا الكابوس `الحقيقى` بتجسيده كابوساً ` فنياً `, جميلاً.. على الورق، أو يجن!].
- كانت شخوص تلك اللوحة مُحرّفة، غير أنه تحريف موصول بالواقع؛ يلتزم إلى حد بعيد النسب الواقعية، والأشكال التشريحية, وربما كان يُعد الفنان نفسه للتخلص مستقبلاً من الإنسان بهيئته المعروفة، فقد أظهر ` الوجوه` كما لو كانت تسعى إلى الاختفاء، والهرب من مشاهديها!.
- اتسمت الثلاثية - كما أجمع النقاد - `بالطابع الروائى` والحرص على ضخ التوتر فى المشاهد، وقد ` انخفض` هذان الملحمان فى معظم مراحله، و`تلاشى` فى مراحل أخرى، بعد أن اعتنق `الرمزية` منهجاً لتجسيد رؤيته.. أما ما تبقى من تلك الثلاثية من ثوابت، احتفظ بها قاموسه التشكيلى حتى الآن، فهى:
1- الميل إلى الطابع الهندسى الرياضى. وإذا كان هذا الميل فى تلك الثلاثية مدعوما باستلهام (بعض) ملامح `التكعيبية` فقد تأكد هذا الميل فيما بعد باستلهامه بعض تصميمات الفن الإسلامى (فى مجال الزخرفة) ورسوم البردى.
2- الميل إلى تفتيت `المنظور الثابت` للتحرر من مصدر ثابت للضوء، مع ملء اللوحة بأكثر من `حدث`، وإذا كان مصدر `تنوع أحداث الثلاثية غريباً فقد اختار جذوراً أخرى فى `التنوع`، أعنى المنمنمات الإسلامية، فى الأعمال اللاحقة.
3- الميل إلى `الأناقة`، الذى تأكد فيما بعد, وأسهم هذا الميل إلى تجميل الشحنة التعبيرية، أو نفى، الطابع التحريضى أو على الأقل تخفيضه ورفعه إلى منطقة التأمل الهادىء العميق.
4- على الرغم من ازدحام شخوص تلك الثلاثية, فإن المتلقى يلحظ ميلاً إلى استقلالها, أو امتزاجها فى ثنائيات منفصلة، وستظهر هذه الحالة، بصورة أوضح، فى معرضه التالى لتخرجه, بقاعة اخناتون, ولقد ظهر فى ذلك المعرض مفردتان جديدتان هما: الدائرة, والخط الضوئى اللامع فى الفراغ القاتم، وقد احتلت المفردة الأخيرة مركز البطولة فى إنتاجه.
5- لم يترك فن `الرسم` بعد الثلاثية، بل تعلق به حتى الآن, وتُعدّ مجموعة رسومه المسماة [معادلة السلام] من أهم ما أنجز فى مجال الرسم المعاصر في مصر.
-[ قبل أن أفاتحه فى ملابسات مولد مفردتيه الأخيرتين أجاب عل سؤالى المتوقع بأن تلك المفردتان ولدتا فى مرحلة التجنيد، ولد الضوء الخاطف فى ليالى القلق الطويلة.. تشقها، بين حين وحين، طلقات نارية.. تولد, وتغيب فجأة، تاركة آثارها الممتدة فى الذاكرة. أما ` الدائرة ` فقد كانت دائرة بندقية القنص البشرى، التى عهد بها إليه, ليصبح ويسمى بها، ويقتنص بها المتاح من الأعداء!].
- احتلت تلك المفردتان البطولة ابتداء من معرضه بقاعة اخناتون عام 1968، بينما تراجعت شخوصه عن اقترابها من مظاهر الواقع، وإن دلّت عليه, فقد اكتسبت تشوهها منه, فلم يعد يظهر منها غير مقاطع شبحية, فإذا قدْر لوجوهها أن تتضح قليلاً، فلا يتضح منها غير الذعر!.
- ويعلّق الفنان `بيكار` على المعرض بقوله: [ تستوقفنا لوحاته البليغة بلونها الداكن، لون ليلى صامت. متربص يكظم الغيظ؛ لون الاتنظار الطويل، الذى لا يعرف أحد مداه.. وتناغم تشكيلى مرهف، يحكمه تقسيم هندسى، يختلف عما تعودناه فى أعماله السابقة].
- ترك الخدمة فى الجيش، ولم تتركه آثار الحرب فى بعثته إلى أسبانيا - التى استمرت أربع سنوات - وهناك ظهرت تطورات، وتحولات فى مفردته الرئيسية: الإنسان؛ الذى يكتف بالتحريف السابق بل اختفى، أحياناً، داخل أكفان موميائية, وأحياناً أخرى، داخل أجولة، وحقائب، وأحياناً ثالثة، وبصورة أقل حدة، تجلّى فى أشكال بالونية، شفيفة, تهيم فى فضاء اللوحة أو فضاء الكون، وعلى الرغم من ظهور ما يوحى للوهلة الأولى بالحرص على الإنشاء الرياضى، فالمتأمل يكتشف أنه لم يتخلص بعد، أو لم يتخلص كلية من الطابع الروائى، وإن أبهمه ارتفاع نبرة الرموز الذاتية، إن تصميماته لا تعتمد المألوف من أسس التصميم، بقدر ما تعتمد ذاتية الفنان, لهذا تتنوع, وتقدر على إثارة الدهشة. وتكاد مجموعة لوحات المرحلة الأسبانية أن تقتصر على حوارية: (المدىّ, والإنسان المسخ).. يتبادل الاثنان المواقع والأدوار، فالمدى محفورة بعنوان `الصمت` يحتل مساحة جريئة؛ فالمساحة الكلية للوحة 50X50سم، يحتل هو منها يساوى تقريباً 50X40سم، تاركاً فى القاع لفائف موميائية، ولا يقنع هذا المدى ذو اللون الأسود إلا بأن يلتهم أيضا أطراف اللفائف, ويأسرها فى حوزته, وتتبدل مساحة الصمت المخيفة، وترتدى فى لوحة أخرى أردية تشبه أنسجتها نسيج أربطة الجروح، كما فى لوحة `الصعود` وقد تفاجئنا `كائناته` البلونية، المضيئة، بظهور غير متوقع من ركن من أركان مربع اللوحة, متجها إلى مركزها، وقد يواجهنا تنظيم العناصر بما يقلق شعورنا باتزان اللوحة. (وسنتحدث عن هذه النقطة فى سياق تحليل أحد نماذج معرضه الأول بالقاهرة بالمقارنة بلوحة تشبهها تصميماً، وتختلف عنها مادة فى مرحلته الأسبانية).
- إن تصميمات` نوار` غير المتوقعة تصدمنا صدمة إفاقة، فمساحة `الصمت` المتسلطة تباغتنا، وتدهشنا، وبعد التأمل نكتشف أنها كانت ضرورة لإبراز غربة `الإنسان` فى كون موحش، لا تربطه بالآخرين سوى أشرطة هزيلة. ممزقة.. حتى يخلع عنه الأكفان، ويرتدى أردية رجال الفضاء اللماعة، المغمورة بالضوء, والتى تشبه فى العتمة تجليات القديسين. إذا تأملت إنسانه هذا، لوجدته شتاتاً من عناصر, يستحيل جمعها إلا فى الخيال, ورغم ذلك فإن تلك المجسمات `المضيئة` لا `المنيرة` والملونة بالألوان الساخنة حاضرة، ومتحدمة لهذا المدى الشاسع، متحدية رغم الغربة رغم الألم، رغم الضياع، تنبثق منها شعاعات الضوء, التى اتسعت بعد ذلك لتصبح شرائط واضحة.. تتدرج من الضوء الباهر إلى العتمة.
- عندما صاحبت `نوّار` إلى أسبانيا ذكريات الحرب، صاحبته أيضاً، وما تزال، مفردة حميمة إلى نفسه: أعنى مفردة الشكل المربع، وهو شكل - كما هو معروف - معشوق لدى المبدعين المسلمين, فمنه يُستخرج الشكل الثمانى، وغيره من التنويعات التى لا حصر لها، لا ينافسه غير شكل `المثلث، الذى ظهر لأول مرة فى معرضه الأول بالقاهرة عام 1968، وظهر وقتها مقنّعاً بقناع طائرة `ميراج`، قبل أن يتخلص بعد ذلك من أية أردية ويصبح مجرد شكل هندسى ذى ثلاثة أضلاع ومنذ ظهور `المثلث` سافراً، صريحاً، فى مرحلته الأسبانية، فتحت أمامه الطرق لابتكارات لافتة للنظر، فبظهور `المثلث` اختفى المدى المتدرج أو المسطح، واغتنى مسطح اللوحة بمثلثات تتكامل.. مساحة، ولوناً، وتألق حوار جديد بين (الأشكال العضوية، والأشكال الهندسية) بالإضافة إلى دراما (الشكل والفراغ).
- إن مفرداته تتطور تطوراً مدهشاً، فبعضها ينمو نمواً مستقيماً، وبعضها يختار طريقاً ملتوياً؛ المفردات الهندسية تنمو فى استقامة, تبدأ من `المربع` ومشتقاته، وتنتهى إلى شبكة من المربعات الصغيرة.. تماثل `الدانتيلا` فى رقتها، وتذكر بالمشربية الإسلامية فى علاقتها بالفراغ. تطل عبر عيونها الأشكال التى تغطيها بخطوطها النحيلة, الدقيقة. تتأملها لذاتها.. فنستمتع بلحن شرقى, ونتأملها مع ما يصاحبها من موضوع درامى، فنعجب ولا نحزن، وإذا أصابنا عارض الحزن قاومناه، ثم أراد لهذه الغلالة أن تناوش، وتشتبك مع البطل الآخر؛ طائر الحمام, فصنع منها شركاً.. وأى شرك!
- أمّا المفردات العضوية (الإنسانية) فهى تنمو فى دروب ملتوية. يبدأ إنسانه قريباً من الواقع.. ثم يخطو خطوة فخطوة فى طريق التشوه.. إلى أن يختفى.. ثم يعود فى هيئة حمامة.. ثم يتلمس طريق العودة إلى هيئته الأولى!.
- ظهرت حماماته فى تجليات متباينة، فتارة تكتسب من قانون الغابة توحشاً تدافع به عن وجودها، وتارة تبدو تائهة فى الفراغ، أو صارخة بلا صدى, وهى فى كل الأحوال تبدو محاصرة، مضغوطاً عليها من قوى عاتيه.. تقاوم أحياناً، وتستسلم أحياناً أخرى..
الحرب
- لنتأمل الآن بعضاً من النماذج من أعماله. نبدأها بلوحة من معرضه الأول عام 1968 بقاعة اخناتون، وعنوانها: `الحرب` بل قل إن المعرض بأكمله كان مكرساً لموضوع الحرب. واللوحة بها آثار لوحته الثلاثية الكبرى, لكن بدلاً من جعلها ثلاثية كلوحة المشروع، قّسم مسطح اللوحة ثلاثة أقسام طولية متجاورة، يحمل كل من قسميها الأيمن, والأيسر وحدة تصويرية مستقلة، بينما يضم القسم الأوسط وحدتين تصويريتين, ولقد ميزّ القسم الأوسط - باعتباره مركز القوى - بالضوء الصريح فى الوحدة السفلى، وبالإضاءة الخاطفة، اللماعة فى المقطع العلوى. وضع عناصر الفعل، ورد الفعل، وترك لنا أن نربط بينها، ونستخرج منها ما خطط له من رموز باطنة، وظاهرة، والحق أن هذه المرحلة كانت رموزها مشتركة، على النقيض من رموز الرحلة الأسبانية؛ فالطائرة الميراج (مثلث متساوى الساقين) تبدو مندفعة - إيحائياً - خارج إطارها المحكم، والمستقل، عبر خط مضىء, يتماس، أو هو فى طريقه إلى تماس `دائرة` الهدف، ولقد رسم الفنان تلك العلاقة بعد ذلك فى أسبانيا بعد أن صارت الطائرة المثلثة مجرد مثلث، وكذلك دائرة الهدف، وإن التزم نفس المواضع، ولقد أدهشنى أن وضع هذين العنصرين (الطائرة المندفعة إلى أسفل، والدائرة المستقرة فى قاع اللوحة) لم يقلقنى، على غير الحال مع اللوحة الإسبانية التى جنحت عناصرها إلى التجريد، فقد شعرت عند تأملها باهتزاز الاتزان، وأدركت أن الإطار الزئبقى للوحدات المجردة هو السبب، فقد أثارت `الدائرة` فى ذاكرتى صورة `القمر` السابح فى السماء، كما أثار `المثلث` صورة للهرم الأكبر، الراسخ على الأرض, على النقيض ما أثارته العناصر فى ذاكره الفنان, فالدائرة - على حد قوله - تذكره بدائرة منظار بندقية القنص وهى يمكن أن تستفز صوراً متبانية لدى متلقين من مختلفى المشارب. ولا شك أن `نواّر` فى اللوحة الأسبانية كان يحاول الإنقلاب من الطابع الروائى, فاعتقلته الرموز الذاتية، وحجبت عنه طريق التواصل مع متذوقيه، فلم يترك لهم غير متعة الاستمتاع ببراعة الرسم, والتظليل.
- فى القسم الأيسر من اللوحة - يمين المتلقى - ينتصب عملاق شبحى، وفى القسم الأيمن يظهر ما يوحى بشكل هلال وصليب، للإشارة إلى قومية المعركة التى تتجاوز اختلاف العقائد الدينية. إن الفنان هنا شأنه شأن كل `الرمزيين`، لا بريد أن يعدينا بانفعالاته الباطنة مثل `التعبيريين`، ولكنه يقاوم شهوة التنفيس، بالاختيار المدقق لعناصر جوهرية.. قليلة، لكنها تغنى عن الوصف، والثرثرة، وبشكل يبدو محايداً، وإن لم يفقد القدرة على أن يحفّز داخلنا الأسئلة، والإجابات، ويدفعنا إلى إعادة التركيب. ولقد منحه التحرر من المصدر الثابت للضوء، وإلغاء المنظور الثابت، حرية الانطلاق، ومع ذلك فقد أعطانا الإحساس بأن المشهد الذى نراه مشهد ليلىّ. تنغمس فيه الأشكال، وتنبهم الملامح.. أمَا الضوء فيلتمع كنصل يشق الليل وتعكس هذه اللوحة، وغيرها من لوحات هذا المعرض بداية العناية بالمنمنمات الإسلامية, حيث تتسع المنمنمة إلى أكثر من زاوية، وأكثر من حدث، يملأ إذا انفرط صفحات وصفحات كما تُذكّر لوحات المعرض، أيضاً، برسوم البرديات، التى تجمع بين الانضباط الصارم، والرقة البالغة، وتقسيمات المسطحات المرسومة.
- (اللوحة صغيرة الحجم نسبياً 60x60سم. مرسومة بالحبر الصينى عل خشب جبيبى).
- معادلة السلام
- قدم مجموعة ضخمة من اللوحات فى مجال الرسم, والجرافيك، والتصوير تحمل عنوان واحد هو: [معادلة السلام], وإذا كان مصطلح المعادلة يعنى وجود طرفين متساويين, فإن المتلقى يشعر بأن الفنان قد رجّح - ربما دون أن يدرى - كفة طرف عل طرف؛ غلب كفة ` الضغوط القاهرة ` على رمز السلام: `الحمامة`، ولأن المعركة بالنسبة للحمامة - أى أخيار هذا العالم - معركة (أكون أولا أكون) فقد أعفاها من الوداعة، وجعل منها مقاتلاً شرساً، ولأن `نوار` فنان غير دعائى فقد وضع طائره فى حالات تستعير أوجه ضعف الإنسان، وتحدياته معاً، فهى تظهر صارخة بالاحتجاج، أو ضائعة، أو مهزومة.. لكن ليس بين حالاتها - إطلاقاً - الوداعة. واللوحة التى نحن بصددها - لنقل: `معادله السلام رقم (1)`، وهى تفصيل من لوحة كان قد أنجزها فى الولايات المتحدة الأمريكية عام 1986، بألوان `الإكليريك`، ومقياسها 60x60سم، ونلاحظ أنها تضم كل مفرداته السابقة. وكما أحدث تحولاً جوهرياً فى طائر الحمام الوديع، أصاب بعض مفرداته الأخرى ببعض التغير؛ مثل الخطوط الضوئية الخاطفة، فبدلاً من انبعاثها من أجسام الرموز البشرية (فى المرحلة الأسبانية) إرتدّت إليها فى شكل خطوط إبرية توحى بالوخز، والإيلام. لا بالانبعاث وإذا انبعثت فهى خطوط دموية، ولقد اختار الفنان حالة الذروة الدرامية، بحشده كل المتصادمات فى حيز تصويرى واحد، هو حيز اللوحة، وزمن واحد هو زمنها، وأعطى أكبر كثافة من الضوء على الطائرٍ، الذى يرفع جناحيه إلى أعلى, ربما تفادياً لضرر ما، أو كارثة ما. وتندفع لمسات الذيل.. ناصعة اليياض. جريئة قوية، وهى لمسات نادرة، لأن فناننا ينبذ وضوح اللمسة، ويتعلق بنعومة الملمس, وأناقته, كما يقلًل - مثل الكلاسيكيين - من سمك عجينة الألوان الزيتية، بحيث لا تكتشف، للوهلة الأولى، إن كانت بالألوان الزيتية, أو ألوان الإكليريك.
- يجمع فى لوحته مالا يجتمع إلاّ فى الحلم، أو الفن، فهناك أشكال شبحية، تطل علينا عبر غلالة من مربعات شفيفة وأخرى ترمقنا، بضوء باره.. يشتد فى المقدمة، ويختفى تدريجياً, وتذكرنا بكائناته الفضائية السابقة. تتسيد الدرجات المعتمة - أو - الفراغ المعتم لوحته.. حتى يظهر الضوء الأبيض, مباغتاً, ومناقضاً, ومانحاً `الحمامة` قوة فى محنتها.
- من بين `المتصادمات` التى نجح الفنان، إلى حد كبير، فى المصالحة بينها: مفردة الحمامة، بانحناءاتها الرقيقة، واستقامات زيلها، وجناحيها، أو(ما يصفه الفنان بالكيان العضوى) + الجمال الهندسى الخالص، المتمثل فى `المربع، ومشقاته`, (وهو ما يصفه بالكيان الهندسى). لا يضع `النقيضين` فى حالة انفصال، بل تفاعل، واشتباك دائم بينهما، وإن وضعها أحيانا فى حالة تكامل أو تقابل، مساحة اللون الساخن تتساوى مع مساحة اللون البارد؛ البرتقالى فى مواجهة الأزرق، كما فى لوحة بعنوان `معادلة السلام رقم (2)`، ولكى يؤكد هذا التطابق، لم يقسّم مساحة اللوحة المربعة قسمين، من لونين متكاملين، بل قام بتجميع لوحتين، مستقلتين، مستطيلتين، تشكلان معا الشكل المربع.. داخل الإطار العام `المربع` الذى يتحد فى الخط الخارجى، وينحف عند الحافة الداخلية، الموازية للوحة العليا لتوسيع مساحة مستطيلها، دون أن تفقد إسهامها الحاسم، فى تأطير مربع اللوحة. وإذا كان المربع هو `اللحن الأساسى` فقد قام بجهد كبير، وبراعة لافتة للنظر فى تحليل، واستخراج تنويعات شطرنجية منه، فاللوحة تمتلى بمربعات متداخلة ومتجاورة، وتضم شكلا ثمانياً، كما تضم عدداً لا بأس به من المثلثات، ولم يكتف `نوار` بكل هذا `الكرم` بل حرص على إنشاء مستويات مختلفة وجعل لكل جزئيه مهما كانت ضئيلة دوراً بل جعل للإطار الخارجى دوراً فعالاً، لا يقل عن دور المساحة المشغولة بالحدث الرمزى الرئيسى.
- وتضم اللوحة, من يين الكائنات الحية أو - العضوية -: الحمامة (فى وسط اللوحة العليا) وتشكل مع كيان مبهم (فى وسط المربع، تماماً، ويرتبط كلا العنصرين - رغم ما يبدو عليهما من استقلال - ارتباطاً قوياً، عبر إطارهما الواحد `عابر` المساحة الساخنة, والباردة!، نلاحظ هنا بعض المبادى التى كانت موجودة فى معرضه الأول عام 1968 ما تزال قائمة, مثل استقلال العناصر الحية, وتجسيمها بعيدا عن مصدر ثابت للضوء وتحريكها على مسطح (فراغ) مشغول أو صامت، وإن تعقد هذا الفراغ, بعد ذلك، وتخلّفت داخله مستويات ظليّة عديدة.. عندما وفد إلى عالم لوحاته - بصورة سافرة - الشكل الثمانى, فبمجيئه لم يعد هناك فراغ واحد, بل فراغات، ذات مستويات مختلقة، وإن احتفظ، باللوحة التى نحن بصددها، بفراغ ياسر الشكل المجسّم المرسوم؛ فالحمامة هرمية الشكل، يؤطرها مثلث, أو فراغ هرمى، والشكل المبهم المقابل يؤطره شكل هندسى يشبهه. ويقوم هذان الفراغان بدور الصندوق الحافظ للكتلتين (العضويتين)، المستقلتين، والمرتبطين (مبنى، ومعنى)، وتظهر `الحمامة` مستسلمة، أو فى وضع إنسانى للصلاة، يخترق وجهها شريط دموى، وعلى الرغم من سكونية الإطار الخطى للحمامة (التى تصلى!) فإنٍ النظام الضوئى، سواء فى مسطحات الفراغ, أو مجسمات الشكلين المرسومين، قد خلق حالة `دينامية` فى مناخ اللوحة بأكملها، ولم ينسّ `نوار` أن يعطى `للنقطة` دوراً.. شأن الكثيرين من الفنانين فى العالم العربى, والغربى، الذين يستخدمون تلك التقاط الخطية وإن اختلفت رموزها لديهم فهى عند فنان مصرى مثل `محسن شرارة ليست أكثر من نقطة على مسطح اللوحة, وعند فنان عراقى مثل `شاكر حسن آل سعيد` ترمز للفن فكل نقطة تلاحق سابقتها، لتلتحم بها فيخلق وهم الملاحقة إيهاماً بالحركة، وربما كانت ترمز تلك النقاط، التى انطلقت من رأس الحمامة، حتى زيلها، فى خط مقوس إلى الزمن أيضاً, وإن ذكرنى هذا الخط بالرسوم التشريحية, التى تتقدم عمليات الجراحة، وقد `أراد` الفنان أن ننتبه إليه فرسمه باللون الأحمر. نلاحظ فى هذه اللوحة أيضاً (غير الموقعة حتى كتابة هذه السطور) ساخنها، وباردها - صريحة إلى حد لافت للنظر، بينما كانت لا تظهر فيما مضى، تلك الصراحة إلا فى الأشكال (العضوية)، فى مواجهاتها الدرامية مع `الفراغ` الهندسى.
- عرش توت عنخ آمون!
- جاءت العودة إلى `الإنسان بهيئته المألوفة تلبية لدعوة من هيئة اليونسكو الدولية، التى اختارت، معه عدداً من فنانى العالم، وطلبت من كل فنان أن يقدم قراءة تشكيلية معاصرة، لموضوع من موضوعات تراث منطقته، وكان من الطبيعى أن يلوذ بمبدعى `الرمزية` الأوائل، وأن يختار من إبداعاتها `عرش` الملك `توت عنخ آمون`, الموجود حالياً بالمتحف المصرى، حيث يجلس الملك جلسة عائلية، ناعمة بينما تعطر نفرتيتى كتفه، ومن فوقهما يتألق قرص آتون المشع، وعلى الرغم من استطالة اللوحة (بناء على تعليمات اليونسكو) فقد حصر الملك والملكة فى مربعه المحبوب، وربما اختار هذا الموضوع بسبب وجوده - فى الأصل - داخل مسند العرش `المربع`.. لست أدرى!.. ولم أسأله عن هذه النقطة. المهم؛ أنه وضع الملكين داخل مربعين متداخلين؛ مربع يمثل خلفية أو فراغاً, ومربع شبكى. شفيف. فى الأمامية، لتأكيد الإبهام بالعمق، وإعطاء الإيحاء بالسباحة فى النور, وقد جعل `نوار` الملكين يتألقان بضوء داخلى، تنبعث منهما خطوط الضوء، كما يتشمع القرص بشعاعات تتويج الملكين.
- تراجع, فى هذه اللوحة المستطيلة، دور `المربع` ليرتفع دور المثلث الهرمى`، أو على حد تعبير `نوار` - المثلث الذهبى - حيث تتنوع المثلثات المتصاعدة إلى `المربع` الملكى, `والدائرة` المقدسة، وفى العمق، إلى جوار الملكة, تظهر أصداء المثلثات الرئيسية المتصاعدة, فى شكل مثلثين صغيرين، يتماس أعلاهما بدائرة.
- إننا لا ندرى إن كانت استضافة `توت عنخ آمون` مقدمة لاستعادة إنسانه القديم.. إنسان ثلاثية مشروع التخرج، أو أنها كانت عملاً عارضاً.. أو مهمة عاجلة، أنجزها تلبية لهيئة دولية واكتفى..
..... إذن لننتظر!.
بقلم : محمود بقشيش
مجلة : إبداع ( العدد 1 ) يناير 1988
رسوم نوار (الفن .. الحرب .. إرادة الحياة) ومازال ينظر للعالم من فوهة بندقيته
- أحمد نوار هو أحد العلامات الهامة في الفن المصري المعاصر، تضيء تجربته الإبداعية تاريخ هذا الفن ، وتشهد على حياة عاشها في محبة الوطن والتماهي مع قضاياه ، ونستطيع أن نقرأ تاريخ مصر بانتصاراتها وانكساراتها وأحلامها من خلال تأملنا لتجربة نوار التي كانت ذاكرة حية لهذا الوطن ؛ فلم يكن ابدا ذلك الفنان المنعزل في برجه العاجي الهائم في ملكوته الشخصي ، لكنه اعترك الحياة : صبياً ككشاف قائد، وشاباً كرحالة مغامر وجندي قناص ،ورجلاً ناضجاً كأستاذ اكاديمي قدير علم أجيالاً عديدة ثم كإداري بارع في مجال العمل الثقافي ساهم في وضع البنية التحتية للحركة التشكيلية المصرية وقد احتفظ بتفوق نادر في كل هذه الأدوار .
- اصطحب نوار خبراته المتنوعة المشارب لتصب في مجرى تجربته الفنية الحافلة بالقضايا الانسانية والوطنية دون ان تتحول التجربة الفنية للهجة خطابية تحد توهج الشكل الجمالي او تعيق نموه وتحولاته وبنيته الفريدة، وهو فنان حاد البصيرة ثاقب الرؤية كما ينبغي لقناص سابق، تفرق اللحظة عنده بين الموت والحياة، أدرك كيف يكون الفن اجتماعيا دون أن يقع في ربقة الدعائية والمباشرة ، وكيف يكون الفنان مسئولا لا بوهيمياً منعزلاً ، فسيرة حياته تكشف بأنه عاش مهموماً بهذا الوطن مقاتلاً من أجله وإن تعددت صور القتال . وعلى الرغم من الإطار الفكري الذي يحكم تجربة نوار، والمضامين الهادفة التي تؤطرها إلا أنها لا تنتصر على لغة الشكل أو تقودها، فنوار تشكيلي بَنَاء من الطراز الرفيع استطاع أن يبدع هيئاته البصرية الخاصة التي لا تخطئها العين ومفرداته المدموغة ببصمته الخاصة من خلال قدرة هائلة على التخييل وتمرير مفردات العالم عبر مرشحاته الداخلية الخاصة.
- يتفرد إبداع نوار في فن الرسم بما يجعله جوهر تجربته الإبداعية، وإقامة معرض شامل لتجربته في الرسم يعني أننا نستطيع أن نتأمل في يسر انطلاق تلك التجربة وخطوط صعودها وتألقها وتحولاتها المختلفة، نتأمل أيضاً سماتها البنائية التي تتحرك من فن الرسم عند الفنان إلى المسارات المتعددة لفنونه الأخرى كالحفر والتصوير والتجهيز في الفراغ والنحت وفن الفيديو والنصب التذكارية وغيرها. وربما كان فن الرسم هو أقرب الفنون لشخصية نوار بما فيها من وضوح وحسم ونفاذ رؤية وجسارة ، وقد دفعه تقديره الكبير لهذا الفن وإدراكه لأهميته إلى إطلاق جائزة خاصة تحمل اسمه في فن الرسم تستقبل هذ العام دورتها الرابعة ، وهي جائزة موجهة لشباب الفنانين بكليات الفنون في مصر . وفي تصوري أن لهذا العرض الشامل لتجربة نوار في الرسم جانبا تعليميا هاماً لدراسي الفن ومؤرخيه ونقاده للتتبع البحثي والعلمي والنقدي لتجربة فنان مصري كبير أعطى لفن الرسم مساحة هامة في تجربته الإبداعية على مدار أكثر من نصف قرن.
** قوة الرسم
- تتمثل قوة فن الرسم في الوضوح والبساطة التي تستوعب رؤية الفنان ويعد هو القاعدة الضرورية لكل الفنون وأكثر الوسائل المباشرة لدراسة الأساس المعرفي للتجربة الجمالية، والرابط الاكثر مباشرة بين اليد والعين والعقل وممارسة الانتقال السلس بينهم. هو الوسيلة الداعمة والخطوة الأولية لالتقاط الفكرة وصياغتها، وهو سند الفنان في تجربته الإبداعية و اليد التي تطيع أفكاره وتطلقها لحيز الوجود، فمهما كانت الأفكار كبيرة وملهمة فلا قيمة لها بدون قدرة أدائية في فن الرسم تمكنها من التحقق المادي البصري.
- وتتعدد أنواع الرسم بداية من الدراسة الأكاديمية التي لابد أن يجتاز الفنان ليتعرف فيها على مفردات الطبيعة ويكتسب المهارة في التعبير عنها بصريا ليقيم خبرته الأدائية التي سيستند إليها في تجربته الإبداعية ، ويشهد تاريخ الفن بأن حتى أكثر الفنانين جنوحاً للتجريد والتجريب قد امتلكوا قدرات أكاديمية ومهارات في التعبير الواقعي عن مفردات الطبيعة وهو ما منحهم طرائق الفهم لتلخيصها وتحويرها وتجريدها، فالرسم هو الطريقة الأكثر فاعلية في تعليم الفنون وتنمية الحساسية تجاه المرئيات وشحذ الملاحظة واذكاء الذاكرة وتنمية الادراك والتدريب على اطلاق الخيال البصري .
- يُقدم الرسم في هيئة دراسات تحضيرية تكون بمثابة حامل للفكرة و الوسيلة الأقرب لاستقبال حيرة الفنان الأولى في البحث عن التمثيل الأنسب لها وتتبعها ونقلها لحيز الوجود من خلال العديد من الاحتمالات البصرية التي يخلص الفنان لأحدها ويختارها لتنتقل من حيز العمل التجهيزي لحيز العمل الفني الكامل : تصوير أو نحت أو حفر ؛ فيكون الرسم هنا بمثابة أساس تحضيري لأعمال أخرى يمارس فيها الفنان تجربة تركيبية أكبر ويستكشف الاحتمالات التعبيرية للمفردات المرسومة . وقد يقدم الرسم في صورة ` الإسكتش` وهي الرسوم التي تتسم بالسرعة والتلخيص واقتناص المواقف والتتبع البصري للعناصر الحية المتحركة، أو التعبير السريع المتلاحق عن المرئيات بغرض الإلمام بها، وهو تدريب على قوة الملاحظة والقدرة على اختيار أقل عدد من الخطوط المعبرة عن ما يدور في مجال المجابهة المباشرة للمفردات والسعي لفهم قوانين الطبيعة. الا ان هناك مستوى اخر في الوصول بالرسم لكي يكون عملا فنيا مستقلا في ذاته و هو ما ستطرحه بجلاء تجربة نوار في فن الرسم.
** الرسام نوار
- يمثل فن الرسم بالنسبة لنوار مفتاح تجربته الإبداعية بأسرها ، و إن كنا أن نريد رؤية أكثر وضوحا لفهم أعمال نوار وطرقه في بناء أشكاله فمن الهام أن نتأمل تجربته في الرسم إذ أنها تكشف عن فلسفته الإبداعية في حقوله الفنية المختلفة . يمكننا استكشاف كيف ينبت الخط ويندفع وكيف تتكون الكتلة وتنشطر وكيف تبث طاقة الأشكال تأثيراتها البصرية والحسية وكيف تتجسد أحوال الوجود في أنقى وسيلة تعبيرية ، حيث يمتلك الفنان في أعمال الرسم حدة الرؤية وفرادتها ، استقلال الكتلة المحتشدة بالعاطفة ، نقاء الخط وحدته ووضوح مساراته حتى عندما يشتبك في نقاط مفصلية مع الكتلة أو يمهد لها أو يصنع توتره الخاص في التماس معها ، الانتقال من الأسود الفاحم إلى وهج الأبيض، الانتقال من المتتاليات الهندسية الحادة إلى الخطوط العضوية مختلفة الحساسية .. هي كلها مفاتيح للرؤية تقدمها أعمال نوار في فن الرسم.
- وقد وجد الفنان في فن الرسم القدرة الكافية على حمل المعاني وصياغة التصورات، ويعد من الفنانين النادرين الذين قدموا فن الرسم كحالة إبداعية مستقلة ومن خلال عدة تجارب على مدار رحلته الفنية بداية من مشروع تخرجه المسمى `يوم الحساب ` الذي قدمه عام 1967. ومن الجسارة ان يقرر الفنان ان يتخلى عن عطايا اللون ويعتمد فقط على مساحة الدرجات الضوئية من الأبيض للأسود ويجد فيها ترجمة لينقل من خلالها كل ذبذبات اللون وادواره الدرامية والتعبيرية في العمل الفني، وقد خاض نوار تلك التجربة التركيبية لفن الرسم واكتشف احتمالاته التعبيرية والدرامية في عمل فني متكامل لا يمهد لعمل اخر .
**بدايات رحلة الرسم
- تبدأ رحلة نوار مبكراً في فن الرسم حتى قبل التحاقه بكلية الفنون الجميلة بالقاهرة عام 1962 حيث نجده نهما في تتبع المرئيات وبناء خزانة الذاكرة برسوم من قريته الريفية بما تضمه من تجمعات بشرية وحيوانات وبيوت ريفية ووجوه ، ويبدو سعيه البحثي في فن الرسم في تلمسه لطرق مختلفة في ملاحظة المرئيات وصياغتها والتعبير عنها ؛حيث تمضي رسومه في عدة مسارات تارة يرسم بشكل أكاديمي دراسي متبعاً كلاسيكيات فن الرسم ، وتارة يلخص المرئيات إلى لمسات بنائية عريضة يلتقط بها سمات الشكل الأساسية بأقل اللمسات من الدرجات الظلية والضوئية وقليل من الخطوط المحددة للشخصية أو العنصر المرسوم ، ونلاحظ أيضاً تعظيمه لقيمة الظل ووضعه في مساحات كبيرة تؤكد الشكل وتقدمه ، وفي مجموعة رسوم هامة وهي رسوم فرقة جوليبا بالمسرح القومي 1966 نجده يرسم في ظلام المسرح أثناء عرض الفرقة راصدا اندفاع حركة الراقصين والعازفين ملتقطاً الايماءات ومستكشفاً لإمكاناتها التعبيرية . الرسم هنا كان من العين إلى اليد مباشرة دون أوقات للمراجعة والتصحيح فهو يجلس ويرسم في الظلام معتمدا على يد ماهرة مدربة وعين قناصة سريعة الملاحظة تستطيع أن تلتقط وتمسك بخطوط عابرة وتلاحق الزمن وترصد ما يلزم للتعبير عن حالات بصرية متحركة.
- ويبدأ نوار مبكراً أعماله المتكاملة في الرسم كعمل فني مستقل مثل عمله ` السد العالي : إرادة إنسان` 1966 ، رسم بالأحبار على الخشب الحبيبي ، وأعماله أثناء ترحاله سيرًا على الأقدام للتعرف على مصر من أبو سنبل جنوباً، وحتى شمال الدلتا والسلوم غرباً وسيناء شمالها وشرقها، ورحلة أخرى للتعرف على العالم بدأها من الأسكندرية - قبرص - لبنان - سوريا - العراق- الكويت - الأردن -، القدس الشرقية ثم العودة بعد أربعة شهور الى أرض الوطن عام (1966) ، ومن أعمال تلك الفترة ` سيوة 1965 ، سوق بغداد القديم ، سوق الحميدية ، سوق الكويت القديم 1966` رسم بالأحبار على الخشب الحبيبي . واستمر نوار في اهتمامه بفن الرسم كعمل فني مستقل وصولا لمشروع تخرجه 1967 .
** يوم الحساب
- تتوج رحلة نوار الدراسية بتجربة الرسم الأهم في مشواره الدراسي من خلال مشروع تخرجه الضخم الذي أنجزه فقط بالقلم الرصاص تحت عنوان ` يوم الحساب` ومثل عملاً ملحمياً نادراً طوع فيه الفنان ـ الشاب وقتها ـ مهاراته فى تحقيق دراما الموضوع المُركب الصعب الذي تعرض له في جسارة مبكرة كطالب مازال ينهي دراسته الأكاديمية ، ولهذا المشروع قصة نرويها في إيجاز : في أثناء اجتياز الطالب أحمد نوار لمرحلة دراسته في الفرقة الاولى عام 1964 نظمت كلية الفنون الجميلة رحلة لطلبة الكلية الى اليونان وايطاليا ، شارك فيها نوار ضمن ثلاثين طالب من طلاب الكلية وفي الفاتيكان وقف مشدوها امام أعمال مايكل أنجلو خاصة لوحة الحساب التي تغطي حائطاً كاملاً في `الكابيلا سيستينا ` توقف وقتها كثيرا عند فكرة الحساب وبعقل متقد لشاب نابه بدا في البحث حول الفكرة قرأ تفاسير القرآن الكريم ، قرأ الانجيل ، قرأ رسالة الغفران لأبي العلاء المعري و الكوميديا الالهية لدانتي ، توسع في القراءة والبحث لحد مؤرق انشغل بفكرة الحساب ، الجنة ، النار وبدأت مرحلة مؤرقة من التخييل والكوابيس والأحلام التي تدور حول الفكرة خاصة فكرة الجحيم التي قرر أن يخطط من خلالها لمشروعه .
- على خط مواز بحث نوار في التكوينات ثلاثية الأجزاء في تاريخ الفن وبشكل خاص حديقة الملذات لجيروم بوش ، وفى منتصف 1965 اتخذ نوار الطالب قرارا بأن تكون الفكرة أكثر شمولية بأن يقسم الموضوع الذي أسماه `يوم الحساب` إلى ثلاث أجزاء : مشهد الحساب في المنتصف يشغل نصف مساحة العمل ومشهدي الجنة والنار على يمين ويسار العمل يشغلان النصف الأخر بالتساوي . في يناير 1967 بدأ التجهيز للعمل على مساحة ثلاثين متر مربع استهلك في انجازهم خمسمائة قلم رصاص ، استمر في العمل ستة أشهر حتى أغلقت الجامعات أثناء حرب 1967 .
- تم تحكيم العمل الذي حصل على الدرجة النهائية من قبل الأستاذين الكبيرين الحسين فوزي وعبد الله جوهر ، وعرض العمل بمبنى الاتحاد الاشتراكي بالتحرير 1968 وكان مقررا اهداءه إلى كاتدرائية مرقص بالعباسية بعد موافقة الأنبا شنودة الذي حضر بصحبة الأنبا غريقريوس لمشاهدة العمل بالكلية وأبديا إعجابهما به وأكدا ملائمة العمل للعرض بالكاتدرائية ، إلا أن الإهداء لم يتم لتباطؤ الإجراءات ولو تم هذا الإهداء لكنا احتفظنا وحفظنا عملاً تاريخياً لم يتكرر على هذا المستوى الملحمي في مشاريع تخرج كليات الفنون حتى الأن ، خاصة أن العمل تمت سرقة أجزاء منه وفقدها أثنا وجوده في الكلية .
- العمل الفني المكون من ثلاث اجزاء وهو حل تشكيلي تم الاستعانة به في بعض الأعمال الفنية خاصة الدينية في العصور الوسطى لاستيعابه الشكلي لفكرة السرد القصصي في العمل وامكانية
- ان يكون منفصلا متصلا ، وربما يرجع الامر دينيا للبعد العقائدي الرمزي للرقم 3 ولقدرة الثلاثية على احتواء بداية الحبكة سرديا ووسطها ونهايتها . زينت اللوحات ثلاثية الاجزاء مذابح الكنائس في العصور الوسطى وغالبا ما كانت تصور العذراء وولادة المسيح و الصلب . ثم تردد هذا الشكل الثلاثي في أعمال فترة عصر النهضة وأشهرها عمل جيروم بوش `حديقة الملذات` الذي مثل رحلة تبدأ من بداية الخلق وتنتهي بالجحيم ويتوسطها تمثيل لفكرة العبث الدنيوي أو حديقة الملذات .
- اتسم عمل نوار بالملحمية وتقديمه لصورة كلية للحدث الجلل المصور حيث نراه ككيان واحد متصل تذوب أجزاءه الثلاث على اختلاف موضوعاتها في صلب النظام الشامل الذي يحتويها . وهو ما نستطيع أن نطلق عليه مسمى ( التكوين السيمفوني ) وهو ` تكوين معقد الوزن والنغمة ذو قيمة باطنة قوية ` ، وقد حقق الفنان كل حيثيات هذا التكوين ونغماته فقط `بباليتة` القلم الرصاص بدرجاته المختلفة وتبدو فيه حساسية الفنان في الانتقالات بين الدرجات المختلفة والمزج بين التجسيم والتسطيح وبين القدرة على صياغة الأشكال كبلورة شفافة حينا وعلى إغراقها في عتمة الظل حيناً أخر ، وبدا التكوين مكثفا كقطعة من النحت البارز المتعدد الارتفاعات ، بينما نلاحظ سيطرة الفنان الشاب وحسن قيادته لحبكة التصميم وتحقيق التوازن اللازم في الضوء والظل وتوزيع المفردات وإحكام التكوين رغم تعقده واتساع مساحته وأجزاؤه الثلاث ، وقد جمع بمهارة فائقة بين المهارة الأدائية وقوة التعبير وإجراء التحريف الذي يعلي من الحالة الدرامية للعمل اعتماداً على تنمية الصورة الذهنية المزامنة لفترات انجاز العمل دون رسوم تحضيرية مسبقة ، لم يكن بحاجة لتلك الرسوم فقد امتلىء وجدانه وعقله تماماً بالفكرة واشتعل خياله المنشغل بها فبدا العمل وكأنه تحقيق مادى للصورة الذهنية التي كانت قد اكتملت تماماً .
- في الجزء الأول من العمل يرسم نوار الجحيم حيث تبدو وجوه البشر مسودة شاخصة مذعورة تتخللها الشياطين في يومهم المرجو وتقبع كل مجموعة من البشر محاطة بشرنقتها الخاصة وربما تكون محاطة بما قدمت يداها من شرور في الحياة ، ويتخلل منتصف الجزء الأول مساحة مضيئة لكنها هيولية تختلط فيها الأجساد وتتداخل . وفي المنتصف تكمن فكرة الحساب ببعدها الدرامي وأجوائها المخيف ، أين المفر ؟ ، الكل الأن يواجه ماصنعت يداه ، المصير مجهول ، النظرات واتجاهات الأجساد متفرقة مشتتة لاتمتلك أي يقين تجاه مصيرها ، والجميع لاه عما حوله ملتصق بخطيئته ، مكبل بذنوبه في انتظار لحظة الحساب ، عرش نوراني يعلو منتصف العمل تنبعث منه أشعة ضوئية تمتد على اليمين لتحمل الأخيار إلى الجنة بينما اليسار مشغول بحزمة من السلاسل تقود الأشرار لعمق الجحيم ، وفي الجزء الثالث مشهد متخيل للجنة حافل بالنور ووجوه الأطفال والحلم بالاقتراب من العرش الإلهي ، تختفي الوجوه القبيحة والثقل الأرضي وتبدو الأجساد نورانية شفافة والوجوه هادئة الملامح كأنها براعم نبتة ولدت من جديد لحياة النعيم ، وهنا تغلق ثلاثية الوجود الإنساني ورحلة الإنسان الوعرة الشائكة . ويظل هذا العمل درة في تاريخ نوار الفني وبداية تليق بفنان جسور. وقد ارتبط عمل ` يوم الحساب ` لنوار ارتباطاً قدرياً بهزيمة 1967 حيث رفع الفنان يده عن العمل لصدور الأوامر بإيقاف الدراسة في المدارس والجامعات بسبب الحرب ، تلك الحرب التي بددت أحلام هذا الجيل وردته مذعوراً لواقع مؤلم وقذفت به من أحلام ربطته بالسماء إلى خط نار حقيقي على الأرض عليه أن يعبره وهنا تبدأ قصة نوار مع الحرب .
** قصة الحرب
- واجه نوار الحرب للمرة الأولى في قريته `يوسف بك شريف` بمحافظة الغربية عندما هدد أمن القرية أحد المجرمين الخطرين ولقبه `الخط ` وحبس أهلها في منازلهم ليلاً خوفا من بطشه واعتبره الصبي نوار مجرم حرب. في هذا التوقيت كان نوار قد شكل فريق الكشافة في مدرسته واختير قائداً له وتعلم مع الكشافة كيفية اكتشاف الغايات وتحقيقها وقد تمكن من جعل المشاركة في الحرب إحدى غايات الكشافة وذهب مع فريقه الكشفي إلى الشرطة لحثها على أداء دورها في القبض على ` الخط` ، كذلك طلب من والده في مجلس عائلي بندقية ليقوم بقتله وسط مشاعر مختلطة بالفزع والتقدير من أفراد أسرته لشجاعته . استمرت مأساة القرية مع المجرم وكانت كل أسرة تمتلك سلاح تأهباً للمواجهة معه حتى قضي عليه أصهار أسرة نوار وأردوه قتيلاً. تخلصت القرية من المجرم لكن كان الصبي الصغير قد وعى مبكرا معنى الحرب وشهد الأسلحة تسكن البيوت.
- انتقل الفتى من القرية للمدينة لاستكمال دراسته في المدرسة الثانوية الفنية بطنطا وتحول نشاطه إلى الرياضة لعدم وجود الكشافة في تلك المدارس، وشارك في سباقات للدراجات واعتبر الرياضة أيضاً تمت بصلة للكشافة حيث تحتم كل رياضة تحديد غايتها ووجد صلة بين الكشافة والرياضة والحرب حيث تشترك جميعا في احتياجها لاستراتيجية منظمة تدفع لحزمة من الأفعال والإجراءات لتحقيق غاية ما. ومن طنطا انتقل الشاب نوار للقاهرة للالتحاق بكلية الفنون الجميلة ورغم انشغاله الجاد بدراسته إلا أنه لم ينس قصة الحرب خاصة جوانبها المأسوية فقد بدأ يقرأ عن فيتنام وفلسطين وتشرد اللاجئين الفلسطينيين ثم عبر إحساسه بالتفرقة العنصرية باعتبارها إحدى أنواع الحروب. في منتصف الستينيات من القرن العشرين رسم لوحات عن حرب فيتنام وحرب لبنان وحرب 56 ، وقدم عام 1968 لوحاته : فلسطين/اقتحام ، وفلسطين ، وصرخة فلسطين منفذة بأحبار على خشب حبيبي ، وبعد أن أنهى نوار دراسته بالكلية بقرار استلزمته حرب 1967 كما أسلفنا انضم مع زملائه للمقاومة الشعبية بشعور متزايد بالمسئولية عن الوطن وحالة من الترقب لساعة الثأر واستعادة الوطن .
- دفعته هذه الحالة للتعبير عنها في عمل فني ` `استعداد وترقب `1968 ، يصور فيها مساحة محتشدة بالوجوه وقد تحولت فيها العيون إلى فوهات بنادق ومدافع. شارك بالعمل في معرض دولي بإسبانيا ` بينالي إيبيثا الدولي` في بداية عام 1968 وفاز العمل بالجائزة الأولى وبدأ التجهيز للسفر واستلام الجائزة التى كانت تشمل مبلغاً ماليا وميدالية تذكارية بجانب منحة دراسية لمدة أربع سنوات بإسبانيا ، وكان قد تخرج من الكلية وعين معيداً بها وانتهاء تاريخ تأجيل تجنيده ، وفي طريقه لإنهاء اجراءات السفر واحضار موافقة القوات المسلحة على السفر وبوصوله لمنطقة التجنيد بالإسكندرية تم اعتباره مجنداً من تلك اللحظة ، ارتدى زيه العسكري و تسلم متاعه ومعداته وألغي سفره لاستلام الجائزة ومنحته الدراسية . وانضم بعد تدريبه إلى ` سلاح القناصة ` ليصبح قناصاً بارعاً ، وليدخل نوار بعدها معتركاً أخر بدأ معه يرى العالم من فوهة بندقيته .
- عند وصوله للجبهة كجندي قناص تعمقت مفاهيمه حول الحرب، إن تلك الحرب التي اكتشفها في قريته ثم عبر قراءاته في المرحلة الجامعية تختلف عن الحرب التي عاشها و واجهها على الجبهة جزءاً من آلتها القاسية وهنا تقوده تأملاته لما أسماه ` قانون الظلم` الذي كان يبحث من خلاله عن العدل وحقوق الإنسان . العبقريات التي تصنع أدوات الدمار بدلا من صناعة أدوات الحياة ، وتُدخل الإنسان في حلقة مفرغة ليتورط الجميع في لعبة الحرب فالظالم يستخدم السلاح والمظلوم أيضاً يستخدم السلاح ولا سبيل لدحر السلاح إلا بالسلاح. من هنا تحول الفنان المرهف الحس إلى قناص يحركه معنى الثأر للمظلوم من الظالم . ألتصق نوار بسلاحه وأصبح القنص عنده حرفة مقدسة في قضية المواجهة مع العدو الصهيوني ، لقد اندمج تماماً في قضيته حتى نسي قريته ومدينته وكل ما هو خارج ساحة القتال.
وهكذا عاش نوار قضية الحرب باحثاُ عن أفق إنساني يدعم المظلومين وضحايا الحروب ، حتى وصفه بعض النقاد الإسبان بأنه ` أسير الحرب` مرة ، و` مطوق الحرب ` مرة أخرى ومازال نوار مختزناً لفكرة الحرب التي أثرت معطياتها على مفردات الصورة عنده بداية من معرضه عن الحرب الذي أقامه عام 1970 في نفس عام انتهاء خدمته بالقوات المسلحة والذي ضم سبعين عملاً مستعيناً ببعض الشظايا التي استأذن في اصطحابها من الجبهة لتكون جزءاً من هذه التجربة الفنية . لقد تحولت الشظايا وهي الدمار نفسه إلى تماثيل ضد الدمار ، والحقيقة أن نوار غادر الجبهة بجسده بينما لم تغادرها روحه ، وظل محتفظاً بروح المقاتل وظلت أعماله ساحات يعلى فيها شأن الوطن ويقدم فيها قضاياه بأداة القتال التي يملكها ولا تشيخ ، التي لاتحدها فترة تجنيد أو موقع معركة : فنه الذي حمله بقضايا الوطن ونستطيع تتبع ذلك بيسر من خلال عناوين معارضه ` جبل أبوغنيم ، الشهيد ، الحرب والسلام ، وأسماء لوحاته ومنحوتاته الميدانية ( تمثال الحرية ، تمثال الإرادة ، تمثال التحدي ) وأعماله التجهيزية ( فلسطين 52، 54 عام من الاحتلال ) وكذلك أفلامه ( العبور ، الصراعات والأحلام ، فلسطين ) .
- إن ذاكرة الحرب لم تفارق نوار حتى الآن ؛ لقد جعلته يرى في كل مشهد ليلي الكتلة السوداء لموقع الديفرسوار وفي كل مجرى مائي قناة السويس، وجعلت من جميع أحداث الحرب شريط سينمائي في عرض موصول لا ينقطع من ذاكرته صورة وصوتاً فقد احتفظ نوار بحاسة المقاتل في تمييز الأصوات بل واستقبالها عند لحظة صدورها رنانة من مصدرها، تلك الحاسة السمعية الفائقة التي اكتسبها من ترقب غارات الطيران وأصوات القنابل والرصاص الطنانة، والتطور في درجات الصوت وشدته وقراره كصوت الدانة منذ خروجها من ماسورة المدفع واختراقها الهواء مقتربة حتى تسقط على الأرض. تحولت أصوات الحياة العادية إلى معمعة من الفزع وأصبح الليل مرتعاً للكوابيس السوداء. إن الخوف الذي كبته ومنع نفسه من الإستسلام له أثناء فترة تجنيده تحول لحالة مرضية وإحساس دائم بمطاردة الموت ... إنها تبعات الحرب التي لم تفارق نوار لسنوات عديدة .
- لم يكن سرد قصة الحرب في حياة نوار بهدف التعريف به كقاتل وقناص بارع أقض مضجع أعدائه وشهد قواده بشجاعته وتفوقه بل لطرح تأثير حياة الحرب على تجربته كفنان وهذا ما سنوجه إليه بعضا من الإشارات الاجتهادية.
** بين ذاكرة الحرب وذاكرة اللوحة
- وضعت الحرب نوار في حقلها الخاص بمفاهيم جديدة للموت والحياة ، وزرعت في ذاكرته أشكالا جديدة ارتبطت بكل مكان عايشه وبكل زاوية راقبها بدقة وبكل تفصيلية في سلاحه ، كان تلسكوب البندقية هو البلورة السحرية التي يرى من خلالها العالم ، علمته بندقية القنص حساباتها المعقدة و جبلته على التنظيم الدقيق : المسافة ، البؤرة ،الاتجاه ، حسبة الرياح ، وحسبة حركة الهدف، ضبط محور تلسكوب مع محور ماسورة البندقية ، دقة انضباط السلاح في مركز الهدف وسرعة اتخاذ القرار والجاهزية بعد تدريب بصري حاد تستلزمه مراقبة دقيقة لموقع العدو وفك شفرات تمويهاته المتبدلة والمتطورة دوما.
- لقد أثرت تلك المواقف على ضبط مفردات عمله الفني ؛ فالأشكال عنده كتل محددة بدقة لكنها تفيض من الداخل كعاطفة يسيجها العقل ، فقد كان عليه كقناص أن يضبط مشاعره ويفتح قناة الاهتمام في عقله على هدف واحد فقط حتى ولو اشتعل المكان من حوله بالقصف والانفجارات ودانات المدافع وألسنة النيران : أي قوة تلك التي يستلزمها هذا الفعل.
- ونجد ملمحاً مشتركاً في العديد من أعمال نوار المرتبطة بموضوعات الحرب والصراع أن التكوين فيها يتخذ شكل كتلة مركزية محورية تعتمل داخلها مفردات العمل وعلاقاته؛ تماما مثلما كان يرى الأشياء من خلال تيلسكوب بندقيته، إذ تقتضي حالة القنص أن يثبت عينه في نقطة تقاطع `صليبة` دائرة التنشين، يحدد هدفه في اللوحة مثلما كان يحدد هدفه في الجبهة، بؤرة مركزية تنتظم حولها وتتصاعد علاقات الشكل .
- الدشم والألغام والسواتر الترابية والتباب ونقاط الاستطلاع فوق الأشجار والكتل السوداء للموقع الإسرائيلي تحولت لأبنية شكلية مشحونة بالطاقة في أعماله . الكراكات والجرافات وجدناه في مجموعة جبل أبو غنيم وترددت أجزاء منها في الكثير من الأعمال الأخرى . خط الأفق المتكسر في أعماله يذكرنا بأكوام من الأخشاب والمخلفات والشباك الملقاة و المخلفات الصلبة التي استخدمها العدو للتخفي والتمويه .
- وتنتشر الدوائر وأنصاف الدوائر والأقواس في الكثير من رسومه ، إنها الدوائر التي كان يراها في أنبوبة التلسكوب و في عدسة وفوهة ماسورة البندقية وفي دائرة التنشين ، يراها في البراميل المغروسة في رمال الصحراء التي كان يلجأ إليها مع زملائه عند هجوم الطيران خشية أن تُدك ملاجئهم المعتادة فوق رؤوسهم .
- وسنحاول أن نستكشف تأثيرات الحرب على تناول مفردات التشكيل عند نوار فقد كانت روايات القناص أحمد نوار أحد وسائلي لفهم تجربته البصرية في فن الرسم .
** ثنائية الضوء والظل
- مسارات الضوء في رسوم نوار تماثل الشهب النافذة كطلقات متتالية يرسمها من خلال خطوط حادة بيضاء تخترق فضاء اللوحة ، الرصاصة صاحبة اللهب ذات البريق الناري القادرة على الاختراق تتردد ذهاباً وإياباً في فراغات أعماله . المثلثات والأسهم المضيئة البيضاء التي تمرق في أروقة لوحاته تضىء الفراغ مثل البرق الناتج عن سقوط القنابل أو ضوء وابل الطلقات ` نصف البوصة ` التي استقبلته عند وصوله مستلماً خدمته في الدفرسوار والتي يصفها بأنها كانت تتناثر مثل جذوات نار متطايرة مضيئة بدت له كأزهار حمراء تنثرها عاصفة داخل الغابة.
- حسابات الضوء والظل الدقيقة في أعمال نوار ذات صلة بحسبته للعلاقة التناسبية الطردية بين حجم ظل الأشخاص والمسافة بينها وبين ساتر الخيش الذي كان يراقبه طول الوقت ببيروسكوب بندقيته القانصة ليتمكن من اصطياد اهدافه بدقة مدركاً كفنان للعبة الشمس والظل وتأثيرها على المرئيات مستخدماً خياله الفني في فك شفرات عمليات التمويه .
- لسعات الضوء اللامعة في رسومه أشبه بأشعة الشمس الذهبية التي تضىء خوذة القناص والأجزاء المعدنية من سلاحه، التناقض الحاد بين الأضواء والظلال يذكرنا بالشمس الساطعة التي كانت تشرق على المناطق العالية في الموقع الإسرائيلي في ذرى خط بارليف بينما يبدو سفحه قطعة سوداء من الظلام الدامس، الخوذة وتحتها العينين لجزء من رأس الجندي الإسرائيلي هي تلك الصورة التي كان يراها في مراقبته لمداخل البحيرات المرة ورسمها محورة تتخلل مفردات العديد من رسومه ، بينما ساعدته مراقبة ظلال أعدائه في قدرته على التشكيل البصري للظل في رسومه حتى أصبح الظل في أعماله كائن يتحرك ويتشكل طوال الوقت .
- الثقوب المضيئة التي تخلخل كثافة الكتل السوداء في رسوم نوار تشبه الثغرات والثقوب الدائرية والمثلثة وهلالية الشكل التي كان يرى منها الضفة الشرقية ، وتشبه كذلك الثقوب التي وضعها الإسرائيليين في البراميل والصفائح ليطل من خلالها جنودهم وقناصيهم على المواقع المصرية ، لقد فك نوار شفرتها فكان ينتظر لحظات اعتامها لتدله على مرور أحد الجنود العدو فيقتنصه ليسقط أرضاً فينزاح السواد عن الفوهة ويبيض وجه البرميل كما كان يروى عن تجربته كقناص ، وربما كانت الثغرات المضيئة في أعماله رمز مواز لسقوط العدو .
** الخطوط والزوايا الحادة
- الخطوط الحادة المتوترة في رسوم نوار تذكرنا بالأسلاك الشائكة التي تحيط موقع الجبهة، وشرائح المربعات الخطية الدقيقة المتكررة في تكويناته تذكرنا بقطعة الخيش التي كان يسد بها فوهة بندقيته ليخفى ثقب الفوهة الذي قد تخترقه الشمس فيكشف عن موقعه لعدوه، فهو يرى الضوء من خلال مربعات نسيج الخيش الدقيقة التي كان يراقب من خلالها أيضاً علاقة الشمس بستائر العدو الخيشية . كذلك قد تترادف خطوطه مع الخطوط الحادة التي يحسب بها مسار الطلقة وخط حركة الهدف وامتداد ظله. و إن كان نوار قد أجاد استثمار الخصائص التصويرية للخطوط دوراً هاماً في أعمال نوار فتتضاؤل الخطوط من ناحية وزنها و درجة لونها حتى تتلاشى أثناء مسارها ، يؤدي إلى تغلغل الفراغ داخل الصورة في اتجاهات عديدة ، و كلما كانت الخطوط أخف وزناً و درجة ظلية بدت و كأنها أكثر بعداً و أسرع في حركتها ؛ فالوزن النسبي للخطوط و درجتها تتحدد وفقاً للموقع المعين الذي يوحي به الفنان سواء في مقدمة الصورة أو في احتلالها موقعاً متأخراً .
- كما تساهم أطوال الخطوط و زوايا اتجاهها و علاقتها بجوانب العمل في موقف الفراغ الذي تخلقـه . ذلك لأن النقـاط و الخطوط المستقيمة تؤدي لخلق مواقف فراغية معينة ؛ فالإحساس القوي بحركة الخطوط المنحنية التي تتغلغل داخل المساحات تعمل على تجميع الفراغ و اختراقه بسـرعات مختلفـة . و على الرغم من ذلك و مع وجود هذا الفيض من الفراغ ، إلا أن الخطوط و النقاط تكون بمفردها خاصية ذات صفة بعدية تتميز بوجود نابض بالحياة في تلك الأعمال .
- نلاحظ كذلك انتشار الزوايا الحادة في أعمال نوار وتحليل المفردات من خلال شرائح متراكبة وزوايا جانبية مختلفة حيث لا يقتصر في رسم الأشكال على زاوية واحدة مواجهة، وربما نجد تفسيراً لذلك في روايته عن مراقبته للموقع الإسرائيلي حيث يذكر : أن الرؤية المباشرة من المواجهة كانت لا تتيح له أن يرى حصون العدو فكان يراقب الموقع من بعيد ومن زوايا حادة بالبيروسكوب ليكتشف شرائح جانبية يستطيع من خلالها اختراق الموقع ورؤية جوانب أخرى لا تظهرها الرؤية المواجهة فيجتمع عنده تصور أشمل للفراغ وموقع الأهداف التي يرغب في قنصها.
** موسيقى الجبهة
- لنتأمل إحدى روايات نوار في كتابه ` عين الصقر` التي ربما تبرر لنا ذلك الطابع السيمفوني في تكوينات أعماله :
- ` ضرب مفاجئ كرد فعل يركز على نقطة واحدة بأكبر قدر من التنوع في الأسلحة، بعكس الضرب الديمومي الذي يشبه دوام تدفق المياه في نهر يتميز بتخصص الأسلحة حيث تراشق للأسلحة الخفيفة تتخلله بين الحين والحين دقات دانات هاون تسقط لتقوم بالدور الإيقاعي الذي تقوم به الطبل في الموسيقى ... إيقاع الداون إيقاع قاتل مثل قدر مفاجئ ينزل من السماء .. ترتفع من فوهة المدفع لترسم قوساً بعيد المدى يهبط بشكل مفاجئ ليتلقى موقع القنبلة هلاك لامفر منه ؛ حيث يفاجئك فيوقف الحياة بك وبما في محيطك بلا رجعة `.
- `السحب النارية التي تنتج عن إطلاق بنادقهم الآلية ورشاشاتهم لصنع ساتر نيران جوي لمساعدة الدفاع الجوي والذي غالباً ما ينتج عنه أن يلقي العدو بحمولته عشوائيا فتسقط في قناة السويس أو موقع العدو أو الموقع المصري حيث يصنع مهرجانات النابلم والقنابل الحارقة مصاحب بأصوات انفجارات هائلة ... بعدها يبدأ صفير دانات الدبابات والهاون والمدفعية الثقيلة قبل أن تنهمر علينا مثل رجوم الشياطين، أو شظايا كواكب تنقض على الأرض.. يصاحب المدفعية الصواريخ الحارقة أرض ـ أرض والصواريخ المسممة جو ـ أرض ، المسامير ذات الأسنان المسممة التي تقتل في الحال إذا اخترقت الجسد، تشبه أسنانها الزعانف مع الحركة الدوارة للصاروخ، فرح دامي ثقيل تتخلله طقطوقات غنائية للأسلحة الخفيفة`
- هذه الأجواء هي التي صنعت عند المقاتل حواس لا تعمل عند الأخرين ـ على حد تعبيره ـ فهو يحس بطيران دانات الهاون وهي تطير ويحدد أسرابها وأهدافها وذلك من خلال تصاعد صوتها المفاجئ كما يتصاعد صوت الموسيقى السيمفونية ، وبالتالي يستطيع توجيه رد الفعل وتحديد التصرف المناسب ، وربما هذه الحواس الجديدة وراء نجاته اللا معقولة أمام هجمات العدو مع كل هدف ينجح في اقتناصه . نستطيع أن نسمع في فضاء رسوم نوار أصوات القنابل التي تخترق عتمة الليل وعمق الصحراء ، صوت الانفجارات وأزيز الطائرات وضجيج تفريغ حمولاتها من القنابل ومحاولات الأشكال للخروج من الفوهات الضيقة تماما كمحاولات الجندي نوار الخروج برأسه من فتحة الملجأ الضيق مفضلاً الموت بشظية طائشة عن الموت اختناقا داخل الملجأ .
** الإنشطار
- الكتل المنشطرة لها حضور واضح في أعمال نوار ، ربما ترده إلى موقع القناة المنشطرة التي طالما تأمل منها العدو على الضفة الأخرى ينتظر اللحظة المواتية لقنص هدف جديد ، المصريون من جهة والعدو الإسرائيلي من جهة وبينهما خط نار حقيقي يفصل بين أصحاب الحق ومغتصبي الأرض والذي بدوره يذكره بالقدس المنشطرة نصفين بين الأرض العربية والأرض الإسرائيلية التى توقف في أحد شوارعها في رحلته الكشفية عام 1966 في منتصف شارع ممتد ممنوعا من استكماله عند نقطة ما بأمر اسرائيلي ، كم باغتته فكرة الانشطار ولم تغادر عقله ولا تصوراته حول فكرة الصراع الأبدي بين طرفين مقتتلين .
- وهناك دائما في أعمال نوار مركزا للصراع يضم كتلتين منشطرتين متواجهتين ؛ نجد مثالاً واضحا لذلك في مجموعة أعمال ` جبل أبو غنيم` حيث شاهد الفنان عبر وسائل الإعلام المرئية عام 1989 الهجوم الغاشم من قبل الصهاينة على جبل أبو غنيم بالقدس ، وهاله تدمير البيوت واقتلاع أشجار الزيتون والفاكهة والأرض الزراعية وبيوت الأهالي بوحشية غير مسبوقة من أجل أن يبني العدو مستوطناته ، استثار الهجوم الغاشم روح المحارب الذي لم يترك بندقيته ، رسم ثلاث وثلاثون لوحة بمعدل لوحة كل يوم ، و في مقابل الألات المهاجمة الشرسة يرسم نوار جبل أبو غنيم وقد تحول إلى طاقة متحركة تنبض بالحياة وتواجه ألة التدمير الصهيونية حتى تحولت النباتات إلى طاقة دفاع في مواجهة شيطان الحرب الغاشم. وأمام كراكات وجرافات الصهاينة وهي تحاصر أبو غنيم تقتلع الحياة يرسم نوار الجبل وقد دبت الروح فيه فتحرك ليدافع عن الوطن ونبتت له أوراق تشبه رؤوس المقذوفات وتحول لشلال هادر انتفض واقفا في وجه الشر، وبأداء نوار الدرامي بالأبيض والأسود يؤنسن الجبل ويحول الجرافات إلى وحوش قبيحة متحركة ناهشة. لقد كان نوار يصنع موقفه الوطني ويقدم رسالة حادة لضمير العالم لعله يستيقظ.
- تلك الانشطارات المتكتلة نجدها أيضاً في مجموعة رسوم `الحرب والقناع` 2017، 2018 في تلك الوجوه الهلامية المتداخلة السوداء التي اتخذت سمت قناع قبيح ذو أسنة سوداء كأسنة الرماح وأعين مخيفة تحدق في ظلمة الكتلة ، وفي مجموعة `رسوم إرادة وطن ` التي بلغت فيها رسالة نوار حدها التراجيدي الأقصى باستعانته بقصاصات من `الفوتوغرافيا` نسجها في رسومه باستخدام تقنية ` الكولاج` تتوسط الكتلة المنشطرة ، حيث تصور القصاصات مقاطع فوتوغرافية لويلات الحرب وفظائع الإرهاب بين مشاهد من القتل والذبح والحرائق وجثث الشهداء غارقة في اللون الأحمر لون الدماء والنار .
- وفي مجموعة ` اختراق خط بارليف` 2021 يقدم نوار بداية مرحلة جديدة للتعبير عن عبقرية هذا الحدث الذي غير موازين العالم، يحاول نوار أن يصور معجزة الاختراق : جيش في مواجهة تمتد بطول 160 كيلو متر مع جيش أخر أكثر عتاداً وقوة بالموازين العسكرية ، تفصل بينهما قناة بمسافة 120 متر وينتصر عليه . وفي معظم أعمال تلك المجموعة يطرح نوار كتلتين تحتشدان متواجهتين تشغلان مساحة كل لوحة على محور مائل يؤكد الحركة ، وتأخذ الكتلة في كل منهما شكلا يشبه شرنقة تتجمع فيها الطاقة لتنطلق بشكل رمزي في اتجاه ما من خلال سهم أوخط أو رأس مقذوف.
- بدت في إحدى أعمال مجموعة ` اختراق خط بارليف` الكتلة الأولى متماسكة ضخمة وقد بدأت بشائر اتصال خفي هادئ بينها وبين الكتلة المواجهة السوداء التي تحزمها بعض الخطوط الهندسية البيضاء، بينما في العمل الثاني نرى خروج شكل يشبه الطائرة يخترق الكتلة الأخرى وينتج عن اختراقه ضوء حاد يغمر سوادها ويفتته، بينما يبدو في العمل الثالث يخرج شكل ملتوى ليلتف محاصراً الكتلة السوداء الأقل حجما ويبدو الانشطار واضحا وتضغط فيه القوة الأكبر .
- تظهر كتل نوار المنحوتة بجلاء واضح محاطة بفراغ كامل فيتركز النظر على الحدث المصور أو حلقة الصراع بينما تتنوع درجات الأداء بين الأسود الفاحم والكتل الرمادية الداكنة المنحوتة بتفاصيل من ذاكرة الحرب وبين مساحات من الأبيض رهيف الظل الذي بدا كجسور بصرية تنقلنا من الأسود الداكن إلى الأبيض المشع.
- وفي ثلاثية إرادة وطن 2021 نجده يقدم في أحد الأعمال كتلة متماسكة ترمز لوطن متلاحم يصدر عنفوانه نحو أحد الوجوه السوداء المتجعدة القبيحة التي ترمز لقوى الشر وقد تحولت نهايات الكتلة في بعض الأماكن إلى سنون مدببة تنقض لتنحر رقبة هذا الوجه ، وفي عمل أخر نجد هذا الوجه يلتحم بجسده كشيطان أسود يندحر تحت وطأة طائرة مهاجمة من تصميم الفنان تقسم جسد الشيطان لنصفين وتترك في أثرها سحب دخانية تمتد تحت الجسد ، بينما نجد في العمل الثالث نفس الكتلة وقد بدت أكثر التحاما وقوة تسبح تحتها مجموعة من الهيئات القوسية الملتفة بعجلات ترمز للطاقة واستمرار الحياة وانتصار الحضارة .
- وفي أحدث أعمال نوار في الرسم `مجموعة القنص 2021` نجده يرسم ببلاغة كتلة الدفرسوار المظلمة وكأنه يرى من لحظته الحاضرة بجلاء موقعه منها وهو يصطاد أهدافه عام 1968 بعد مرور أكثر من خمسين عام على تلك اللحظة، إن التفاصيل حاضرة في وضوح مدهش بل وكأنها اكتسبت حضورا أكثر صفاءً وحدة. إضاءة ليلية تبدو معها ضفتي الجبهة بشكل ظلي ` سلويت` وتبدو قدرة نوار الفائقة في الرسم في صياغته للكتل المرسومة وتفاصيلها في درجات الإعتام والإضاءة المختلفة وبانتقال رهيف جدا بين الدرجات الضوئية والظلية وعلى الرغم من الظلام المهيمن إلا أننا نجد تفاصيل الموقعين : التبات والثكنات وخط الأفق المتكسر المموه وأبراج المراقبة وهدوء الليل المشوب بالحذر والترقب ، لا يقطع عتمة الجبهتين سوى شعاع مارق من بندقية قناص تخرج من تل صغير مضيء مزان بعجلات درج نوار على تكرارها في أعماله كرمز لانتصار الحياة ، وفي مجموعة الأعمال تتعدد زوايا القنص ويختلف اتجاه الشعاع المارق كاختلاف موقعه في كل مرة من مرات القنص الخمسة عشر التي أتمها بنجاح .
- وفي مجموعة أعمال حول ` فيروس الكورونا ` 2021 يعود نوار لكتلته الظلية السوداء التي تذكرنا برؤوس الأعداء التي كان يراها بشكل ظلي `سلويت` خلف سواتر الأعداء وفي القلب منها تدور عجلات الحياة في صراع مع الشكل الدائري ذو الرؤوس، `الكورونا` هي نفس العدو الذي يريد أن يفترس الحياة ، وجوه سوداء هجينة متجعدة تتواجه أو تمتزج وشكل الفيروس يحاصر الأجساد وهى تقاومه حينا ويهاجمها حينا ويلتف حولها حيناً أخر وكتلة الصراع تتصدر منتصف الصورة لكنها متجزئة من الداخل من خلال مسطحات ومجسمات سوداء يتخللها خط ألأبيض دقيق متصل أو متقطع مختلف الاتجاهات يحدد مسار العين ويخدم مركزية التكوين وقد يخترق المساحة البيضاء في خلفية الكتلة ، وتنتشر في التكوينات شبكات من المربعات الخطية الصغيرة قد تأخذ شكل سور يحيط بقمة التكوين أو شرائح مستطيلة أو مربعة أو مثلثة الشكل تتداخل معه .
** خارج مسرح الحرب
- تضم تجربة نوار في الرسم مجموعات لتجارب أخرى لا ترتبط بشكل مباشر بالحرب وجدت أنه من الضروري أن أشير لبعضها لتصبح رؤية التجربة أكثر تكاملاً .
** وجوه الفيوم
- وجوه الفيوم هي إحدى التجارب الهامة في رسوم نوار ، وهي الوجوه التي رسمت علي توابيت مومياوات مصرية في الفيوم فترة الحكم الروماني في مصر، ويُعتقد أن بداياتها تعود إلى القرن الأول للميلاد، تبين اللوحات رسمًا لشخصية ما للشخص المدفون في التابوت وعادةً ما يكون شخصية كبيرة أو معروفة، ويرجح أن هذه الوجوه كانت ترسم أثناء حياة أصحابها ثم يُحتفظ بها معلقة على جدران المساكن حتى الوفاة حيث ترفع وتوضع داخل اللفائف على وجه المومياء .
- تبدأ فكرة مجموعة وجوه الفيوم عندما أقام الفنان عام 1995 أثناء رئاسته لقطاع الفنون التشكيلية معرضا غير مسبوق لوجوه الفيوم التي تمت استعارتها من المتحف المصري، استمر المعرض لمدة عام في قاعة أفق الملحقة بمتحف محمد محمود خليل ، على مدار العام كان يقوم بزيارة يومية للمعرض حققت نوع من التواصل الكبير بينها وبينه استشعر من زياراته التأملية المنتظمة مدى حيوية تلك الوجوه وقدرتها التعبيرية الفائقة ، فقام برسم عشرين عمل عرضها بالقاهرة وألحقها بمعرض بمتحف البرديات بالنمسا (فيينا) بعد زيارته للمتحف واطلاعه على سبعة وجوه من مقتنيات المتحف رسمها الفنان أيضا وأقام معرض يضم 27 عمل لوجوه الفيوم عرض معها السبع وجوه الأصلية بجوار أعماله وذلك عام 2005.
- ويتساءل نوار في تلك التجربة:ماذا لو عادت الروح لأصحاب هذه الوجوه في وقتنا الحالي ؟
- إنه استدعاء لفكرة عودة الروح من جديد لأصحاب هذه الوجوه في الزمن المعاصر؛ حيث ينسج نوار الوجوه بمفرداتها القديمة مع مفردات الحياة المعاصرة فتخرج بعض تفاصيل الوجوه خارج حدودها القديمة وتتفكك لتمتزج مع مفردات معاصرة تخترق الفراغ الجديد وترسم تشكلاتها الجديدة. إنه امتزاج بين الحياة المعاصرة والذاكرة القديمة، وجه الماضي القديم الغارق في سكونه وسرمديته ووجه الحاضر المفتوح على مخاوفه الجديدة، أشكال هندسية ومعدات وأجزاء من أسلحة وطائرات تخترق هالة الوجه القديم.
- الشخوص التي تحمل النبتات والأزاهير تُطوق أكتافها بمخلفات الحرب وشرائح إلكترونية وأجزاء لأبنية هندسية، بينما تخترق الصدر عمائر متصدعة ، تدخل الرؤوس دائرة الميكنة وترصع بالرايات والأعلام . يتفكك إطار التابوت الحاوي لوجه المومياء، ينقسم لشرائح ويدخل في معادلات بصرية رياضية.أجزاء من أوناش ومنشئات معمارية حديثة تحاصر العينين العميقتين السابحتين في الفراغ وتخترق الشرائح المعدنية تصفيفة الشعر المجعد ، ويكلل طوق الزهور على رأس إحدى الفتيات بقوس مقسم لعلامات قياسية يعلوه سهم كأنه تاج الحياة الجديدة . أسهم تجاورها مسطرة مجزئة لوحدات قياس تحاصر الوجه، وقد تخترق وحدات القياس الوجه نفسه كشرائح شفافة تعيد رسم معالمه ، أو يباغت الوجه الحالم بأشعة من الضوء الحاد تحرك ثباته واستقراره ، سياجات من مسطحات هندسية وعضوية متداخلة تحاصر وجه شيخ متأمل. ويحتفظ نوار في معالجة كل وجه بإحاطته بهالة خارجية اربما يمثل حدود التابوت الموضوعة فوقه صورة الوجه إلا أنه يعيد صياغة وتنغيم هذا الشكل الخارجي ويكسر انتظامه بأشكال ورسوم تنتمي للعالم المعاصر.
- وفي بعض رسوم وجوه الفيوم اقتصر الفنان على رسم الجزء العلوي من الوجه مركزاً على منطقة العينين ، نجد في اللوحة عين تبقى على وضعها الواقعي الأصلي يعالجها في درجة ظلية مظلمة بالتهشبر الكثيف بالحبر بينما تبدأ أطرافها بالتحول ، وعين تتغير وتصطبغ بعالم هندسي بأرقامه وإحداثياته وشبكاته ورسومه البيانية في إشارة للتحول الذي طرأ على حياتنا المعاصرة وانتقالنا من الإنسانية إلى نظام `الأكواد` .
- تؤرق ضوضاء الحاضر حلم الماضي، أي غربة تلك أن تعاد لنا الروح في زمن لا يشبهنا وتجبر الشخوص الحالمة السابحة في ملكوتها على العيش في عوالمنا القلقة .ولا ينسى نوار وضع نموذجاً مصغراً للوجه الأصلي في أحد الأركان السفلية للوحة كأنه ينظر من عالمه القديم إلى ما سيؤول إليه إذا بعث في هذه الحياة الجديدة . لقد أعطى نوار في هذه التجربة نموذجاً لإعادة الحوار مع فنوننا القديمة وتضمينها بروح معاصرة محملة بهواجسنا الجديدة وقيمنا البصرية المختلفة. وتظهر في هذه الأعمال بوضوح مهارة القدرات الأدائية لدى نوار، إنه يمتلك يد تطيع خياله وعقل يتسع لتفسيراته، وقدرة في النسج البصري بين الواقعية السحرية للوجوه والحقل التجريدي الجديد الذي زرعت فيها .
** ذاكرة اليد `مجموعة البصمة`
- عشرون بصمة ليد الفنان وضعها على أوراقه في الليلة التي سبقت دخوله لغرفة العمليات لإجراء جراحة دقيقة بكفي اليد ، وعاهد نفسه إن شافاه الله سيكملها بالرسم فوقها ، ولنا أن نتصور ما مر به فنان روحه في يديه قلقاً على تلك الروح التي خشي تعطلها ، عاش نوار في تلك التجربة فكرة الخوف من الفقد التي ربما لم يستشعرها في وسط ضراوة الحرب ؛ فإحساس الخطر هذه المرة يهدده بمفارقة حياة الفن .
- وأورد هنا مقتطفاً من نص كتبه الفنان في تعبير يقطر إنسانية عن حالات تلك اليد التي أثمرت حياة حافلة بالعمل والإنجاز:
- `رسمت .. بنت .. دافعت.. زرعت .. علمت ..حاربت .. سلمت .. رمت .. أصابت .. رعت .. صافحت ..انبسطت .. دعت .. تحملت .. طبعت.. حصنت .. حملت .............
هل جرافات إسرائيل هي السبب ؟ فقد كانت رسومي عن جبل أبو غنيم بالقدس تنهش قلمي وأصابعي فهزت أوتارها ... فكانت بصمتي .. تألمت .. تألمت .. ارتعشت .. خافت واستسلمت أمام المشرط .. الإرادة .. الحياة `
- وعندما أراد الله له الشفاء أنجز مجموعة رسوم أسماها `البصمة` تروي ذاكرة تلك اليد وترد لها صنائعها ، ففوق تلك الأعمال التي شكلت بصمة اليد بطلها الأساسي ، تداعت ذاكرته بلقطات ومقاطع من معظم تجاربه السابقة ، يقدم التحية والامتنان لليد التي صنعت تاريخه الإنساني والوطني والفني فيجعلها خلفية مشتركة لتلك المجموعة من الأعمال يشيد فوقها أبنيته وعمائره ومفرداته من الخطوط والأسهم والإشارات والحروف والأرقام والرسوم البيانية وبقايا الأجهزة والشرائح الإلكترونية ، تشتبك معها تشكيلاته الخطية ، يُنبت من أطراف أصابعها أوراقه الخضراء ، يطلق منها عجلاته المحاربة التي تنتصر للحياة ، ويضع حواجزه ذات الشبكات المربعة ، يرسمها صامدة في مواجهة تلال وهضاب الجبهة السوداء ، يزرع فوقها الحياة وروعة الإنجاز والتحقق والانتصار ، ويدخل معها شرائح من مذكرات مكتوبة بخط يده .
- لقد أعطى تشريح اليد وبنيتها البصرية الخاصة متغيرا جديدا حتى في طريقة بناء نوار لتكويناته وستظل هذه المجموعة دائما مقترنة بطابعها العاطفي الإنساني الخاص كأنه يتذكر كل تجربته الفنية فوق تلك اليد التي قبعت في قلب العمل كأصل للحياة .
** المشهد في رسوم نوار: رسوم الحجاز والصين
- قدم نوار أطروحات جديدة لفكرة رسم المشهد من خلال مجموعة من الأعمال التي تصور بعض الأماكن المختارة في مدينة جدة وبعض الأماكن الأخرى بأرض الحجاز، حيث قام بالبحث في روح المشهد ناشداً التعبير المكثف عنه ، من هنا فهو لا يقدم مشهداً يرقبه من الخارج بل مشهدا يتأمله من الداخل بعد تواجده في فضائه واتصاله المباشر بمفرداته ، ومحاولة تلمس جوهرها ، مقدماً بنية جمالية متأنقة لاتعرف التفريط .
- إن الفنان يقوم بعملية تنظيم لفوضى المشهد وعشوائيته الظاهرية، ويرجع لقانون الطبيعة الأصلي فى البناء محافظاً علي الاستقلال الجمالي للمكان المرسوم من خلال معرفة بجوهر المشهد واستحضار لحالة من الهدوء الفلسفي الذي يستدعي لدى المتلقي الرغبة فى التأمل والمتابعة. إننا أمام فنان كبير يمتلك حكمة الشكل ويرتكن إلي ذاكرة بصرية حادة رزق بها .
- إن نوار يُجري تجريداً للمشهد ، ينقيه من كل العوارض ليستقبل فقط صحيفتي النور والظل فى أنقي صورهما فيقدم لنا أيقونة بصرية مصدرها خبرة فنية متسعة قادرة على الاحتفاظ فقط بما يلزم ، وهو ينتخب بنية مختارة لمشاهده في انتقاء رائق لجوهرها ، مشاهد مرت من خلال وجدان كاشف قادر على النفاذ إلى أسرارها ، وهو يُعبر عن كل ألوان الطبيعة بمعادلات من درجات الأبيض والأسود تتنقل مابين شبكات ظلية ومساحات معتمة وبِنية من الخطوط تتخذ مواقعها المثالية في الشكل . لقد حول الأداء كل الدرجات اللونية إلى درجات اللون الأسود المختلفة ، وقد استطاع الفنان أن يكثف حساسيته أحياناً ويخففها أحياناً أخرى لتغدو عالما تتمازج فيه الأشكال كافة لتذوب فى الأسود ، فاستطاع بذلك أن يقترب من النبضات الضوئية التي تكمن وراء ألوان الطبيعة .
- وكرسام متمكن يدرك نوار قيمة عنفوان الخط وقدرته على الاختراق الجرىء لمساحات الظل ، والمرور الرهيف فى مساحات الضوء ، إنه يطوع الطاقة الغاشمة للضوء فتغدو إرادة نور تطمس وتمحو ما تشاء وتُثبت بنية تنقل للعين فقط ما يستحق أن يُرى ، فهو يعيد ترتيب المشهد بما يتناسب مع حسه الجمالي الرائق ورؤيته العارفة . إنه لا يرسم هذا المشهد وكفي لكنه يجري تحويراً فى تفسيره البصري لما يراه لذا لا يقدم تصويراً للمشهد ـ كما تدركه الحواس عادة بكل تنافره وعفويته ـ بل يعتمد على حدس يبدأ بالخبرات البصرية ليستخلص منها السمات المميزة للأشياء والكائنات مجرداً إياها إلى أصفى سماتها عن طريق الخط ومساحات الأضواء والظلال ، متجاوزاً عبثية الأشكال المباشرة وفوضاها ، محاكياً لحركة الطبيعة ونظمها في التشكل والنمو والانتظام فتكون المحصلة تلك الرؤية النقية للمشهد .
- ويتجاوز الفنان أيضاً تلك الحالات المتتابعة المتغيرة للعالم الخارجي حيث يجعلنا نتخلى عن حَرفية التفاصيل والجزئيات التي من شأنها أن تعيق سلاسة التلقي فنصبح قادرين على الإمساك بحالة خاصة للمشهد بعيداً عن الحالات العرضية المبعثَرة له .والمسألة لا تقتصر فقط على مجموعة من العلاقات أو الأنظمة الشكلية إذ أن هناك نبرة عاطفية واضحة في الأعمال لكنها عاطفة الجوهر الممتدة فى أرواحنا والقابعة خلف العواطف المؤقتة المتغيرة للإنسان .
- إن رؤية الفنان الإبداعية هي التي تعدل تلك المواد التي يستقبلها من العالم الخارجي المحيط وتمررها إلى ذاكرته الخاصة ، تلك الذاكرة التى تختلط فيها المادة الخام للمشهد مع صنوف الخيال التي يمتلكها كمبدع يجري عليها ذلك التحول الذي يخرجها من حيز الذاكرة إلي فضاء العمل الفني .
- ويبدو الضوء في أعمال الفنان كشلال نوراني يغمر مفردات المكان ويعيد تشكيلها بمعرفة تبقى على ما هو لازم وجوهري وضروري . وذلك للحفاظ على تماسك بنية العمل من جهة ولتحقيق الحالة المشعة المضيئة التي غمرت المكان من جهة أخرى . والأحرى أن نصف الضوء فى أعمال الفنان بالنور لأن مصطلح الضوء مصطلح مادي مرتبط بمصادر معلومة ومحددة أما الضوء عند نوار في مشاهده لأرض الحجاز هو ضوء روحاني لا مصدر معلوم له بل يرد في مشاهده منبثقاً من جهة لا مادية لا نستطيع معرفة مصادرها فهو يشرق في مسارات المشهد وفق رؤية داخلية للفنان. من هنا فإن مشاهده تعبر بنا إلى مشارف الروح لأنها تزيح تفاصيل العالم المادي غير اللازمة لصالح عالم آخر تمتزج فيه جغرافيا المكان بجغرافيا الروح.
- وإذا توقفنا عند بعض مفردات في مشاهد الحجاز تلفتنا صياغة الفنان للجبال وفوهات البراكين كمنحوتات ضخمة تتحرك فوق هيئاتها الظلال والأضواء بصورة تجعلها تبدو وكأنها نحتت للتو . بينما نجد الفنان فى مجموعات أخرى ينحاز أكثر إلي فكرة التسطيح فتتحول بعض مشاهد السفن في رسوم الحجاز إلى مساحات و تراكيب ظلية ` سلويت` تتضافر مع التراكيب الخطية التي ترسم باقي أجزاء المشهد وقد وضح في تلك الأعمال استمتاع الفنان باستحضار موسيقى الخط الذي تدرجت `ثخاناته` وسماته ليشكل الفراغ خاصة فى المناطق ذات الخلفيات البيضاء التي تتيح لحركة الخط طاقة أعلي في الحضور وتصبح مساحات الظل متوسطة الدرجة بمثابة ممرات تؤدي إلى استدراجنا لإدراك العلاقة الأكثر أهمية بين المناطق الظلية كاملة الإعتام وبين الخط الذي صاغ شبكة من الإيقاع الموسيقي بين الأبيض والأسود تستمتع فيها العين بانتقالات نغمية مختلفة بين التأثيرات المتنوعة للقيم البصرية للخط .
- وفي بعض المشاهد التي يصور فيها الفنان بنايات ضخمة يجعلها تتصدر العمل أو تتخذ موقعها بشكل رئيسي على أحد جوانبه ثم ينقل عين المتلقي إلى الجانب الأخر حيث يجد مشهداً متسعاً يربط بينه وبين الهيئة الأساسية للشكل بمجموعة من الممرات الخطية التي تربط بين مقدمة الصورة وخلفيتها .
- وفي تقنية مختلفة لترجمة الفضاء بصرياً يقدم الفنان أحمد نوار المشاهد ذات المنظور العلوي المحلق كمشاهد البركان وخيم الحجيج والجبال في رسوم الحجاز ، حيث تبدو الحضرة المهيبة للجغرافيا الخاصة بالمكان ، وتبدأ الأشياء والبشر في التضاؤل لتتحول إلى شذرات متناثرة ، ويعود الإنسان ليصبح جرما صغيرا في قلب كون هائل، وهو تناول يتناسب مع فكرة ذوبان أفواج الحجيج في طقسهم المقدس عند الوقوف بعرفة .. حيث يتلاشى الوجود الإنساني ويتوحد مع الوجود الأعظم الذي يحتويه بجلال .،
- وفي مجموعة `رسوم الصين` لنوار نتذكر مقولة الفنان الصيني وولي WULI ( 1632 - 1715 ) ` إن الأعمال التصويرية الشرقية لم تحاول خلق مساحات وهمية توحي بالحقيقة بقدر تحقيق نوع من البناء الداخلي للعمل المصور ، ناتج عن امتزاج ما بين الحلم و الذاكرة ، دون اللجوء إلى نوع مـن الوصف التفصيلي الذي يبعد المشاهد عن حالة الإشعاع الروحي المنبعثة من العمل الفني لذلك فإن هذا يعد من أحد أسباب اعتبار أن الفنون الشـرقية بشكل عـام كـانت حالة أرفع و أعمق من كونها مجرد فن.
- وقد استخدم الفنان في أغلب تكويناته طريقة ` المستويات المتداخلة ` فوق بعضها البعض ليعبر عن المسافات ، تلك الطريقة التي استخدمها الفنان الصيني القديم في تقديم مناظره الطبيعية التى كانت موضوعاً لكثير من أعمال الفنان أحمد نوار فى مجموعة رسوم الصين ؛ فأشياء بعيدة مثلاً لا يسمح لها بأن تختفي ، و لكـنها مرسـومة في حدود بُعدها المسافي ، و في بعض الأحيان مكبرة أو مرفوعة في الصورة ، فقد استخدم سلسلة من المسطحات المركبة تعطي تأثيراً بالبعد ، وقد تمكن عن طريقها مـن التنويـه بالمسـافة العميقة دون أن يقطع هيكل التكوين ، و بذلك هو يبسط المفردات على سطح الصورة على شكل مسطحات تتركب جزئياً فتعطي هذا الإيهام بالبعد ، و هنا استطاع الفنان عن طريق المستويات المتداخلة أن يخلق تجاوباً إيقاعياً بين العلاقات المكانية التي تمتد عبر مسطح الصورة ، فتنتقل عين المشاهد فوق المسطحات المتداخلة للوحة ، و يشعر نتيجة لذلك بالحركة و الأبعاد المسافية . من هنا لا نجد في مشاهد نوار تلك الترجمة السطحية للمنظور الأوربي ذو النقطة الواحدة التى تنتظم وفقها عناصر المشهد على جانبي اللوحة صانعاً ذلك ` القمع` الذي يفسد بنية التصميم ـ على حد تعبير سيزان ـ الذي استعان بدوره هو الأخر بفكرة المستويات المتداخلة فى تفسير الأبعاد المكانية خاصة في مجموعة مشاهده لجبل ` سان فكتوار`.
- وهنا يستخدم الفنان منظورا يمزج ما بين رؤيته العينية للأشياء ورؤيته التخيلية لها ` منظورا يذكرنا بالتناول الشرقي للأبعاد المكانية من خلال منظور عين الطائر حيث تلتقط العين الأشياء من زواياها الأكثر قدرة على إبراز شاعرية المشهد ، ومنظور الأسقف المخلوعة حيث تلتقى الصورة العينية بالصورة الوهمية ليتواصل بينهما تطور الموضوع ، فتجتمع المرئيات بصورة لايمكننا أن ندركها إلا من خـلال رؤيـة عيـن متحركـة تجـوب السـماء و تلتقط الأشكال من زواياها الأكثر قدرة على تكثيف حضورها سواء في مقدمة الصورة أو في خلفيتها و بصفة تتجاوز واقعية المكان .
- وقد شاع هذا التقليد في جميع الفنون الشرقية ، فكان يفترض أن يتخيل المتفرج نفسـه و كأنه يشرف على المشهد من مكان مرتفع أو كـما يقال يطل إطلالـة طـائر محلق ، حتى لا يضطر الفنان إلى رسوم الشخوص أو الجماعات متراكبة بعضها فوق بعض ، مستخدماً خياله في إعادة صياغة رؤية المكان . فنجد الفنان يرسم المبنى و كأنه يطالعه من علٍ ، في حين تظهر بقية الصورة للعين في مسـتوى النظـر أو من زاويتيـن مختلفـين فـي آن واحـد ` . و من هنا تمتزج الصورتين بما يحقق للفنان بمرماه الروحي و العاطفي .
- وهناك مشاهد أخرى تعتمد على البنية ذات الشكل الواحد الرئيسي الذي تنتظم حوله بقية عناصر الصورة كمشهد السفينة البحرية التقليدية في رسوم الحجاز التي رفعها الفنان على تل خاص ليعطيها هذا الكيان الأهم ، وتتجلى قدرات الفنان الأدائية في ترجمته لمفردات العمل من خلال شبكات ظلية متعددة الدرجات وصياغته للإنسحاب المتدرج لتلك الظلال فوق مجسم السفينة كهيئة نحتية ثم ما تلبث العين أن تربط بين التراكيب الخطية في القواعد التى تقوم عليها السفينة وبين التراكيب الخطية التى يكتمل بها جسم السفينة من أعلى ، ويؤكد الفنان وجودها الأهم عندما يقدم لها في بداية العمل بمساحات صريحة من الضؤ والظل الذي يتجه إليها . وحتى فى تعامل الفنان مع المشاهد التي تقوم فقط علي تصوير العمائر التقليدية بجدة يختار أحدها ليصبح هو قائد المشهد ثم يبدأ في تهدئة الأجواء من حوله. إن الفنان لايرغب لنا أن نرى الأشياء كلها فى ذات التوقيت وبنفس القوة حتى لاتتحدد رؤيتنا للعمل بميزان واحد وإلا فقدنا إحساسنا بالعمق والإمتداد وأبعاد المكان وفقدنا معها أبعاد الزمان أيضاً في حين كان الفنان حريصاً على وجودهما معاً في آن واحد دوماً .
- وفي مشهد أخر يذكرنا بمشهد وقوف الحجيج علي جبل عرفات تتحرك العين من الجبل الداكن أعلى اليسار إلى جبل الحجيج الذي تناثروا فوقه بكثافة ثم إلي حركة خط قوسية تشدنا نحو السماء في موائمة بين الرمز والشكل كأنه يشير ببلاغة لحتمية العودة للسماء مرة أخرى .
- وكظاهرة غالبة في مشاهد نوار الطبيعية نجد في الخلفيات طبقات من المشهد تتراوح بين التحقق والوجود وبين التلاشي والذوبان وصولاً لأن يتحلل وجودها لمجموعة من الخطوط الدقيقة الواهية التي تتحول لخيالات بصرية تبدو كأنها تتراءى لنا فى الذاكرة البعيدة ، فننتقل بذلك من البنية الراسخة فى مقدمة العمل إلى البنية الضبابية الأثيرية في خلفيته ذهاباً وإياباً مما يتيح له تقديم صيغة بصرية للإحساس بالمكان دون إفساد للمشهد بمنظور مخروطي يخترق عمق الصورة ويكسر المدى الأفقي الممتد للمشهد .
- وفي أعمال أخرى في هذه التجربة نجد الفنان يستخدم طريقة الأنهر العرضية أو السجلات كما استخدمها الفنان المصري القديم ، على سبيل المثال في مشهد خيم الحجيج نجدة يتناول المشهد من زاوية رؤية مرتفعة ويقسمه لمجموعة من الأنهر العرضية غير المباشرة تحتضن الشكل الهرمي للخيمة والجبل لتتحرك العين في المشهد متجولة برحابة كبرى خاصة مع وجود بعض الخطوط والأشكال المائلة التى تأخذنا بصورة غير مباشرة لعمق العمل .
- وفي مجموعة مشاهد نوار ` رسوم الصين ` نتذكر الرؤية الشرقية للطبيعة تلك الرؤية التي نمت و تطورت عبر المفاهيم الروحية التي طرحتها الطاوية والبوذيـة التي سعت دائما لربط عناصر الطبيعة وتفاصيلها بدلالاتها على مغزى الحياة والانسجام الكوني الشمولي الذي يربط الإنسان في علاقة جدلية بالمنظومة الكونية ككل ، وأكدت على الصلات بين البشر والطبيعة ولم تميز بين الإنسان والطبيعة أو الحـيوان والجماد ، وكانت ترى أن كل شئ حتى الصخور والأحجار تسرى فيـها الحـياة . تلك الصلات التي لا يمكن التعبير عنها بشكل أحسن مما هو في تصوير المناظر الطبيعية . ما دامت الطبيعة نفسها رمزاً بالغ الوضوح لهذا الكون .
- وتتضح لنا تلك الرؤية في المشاهد الصينية للفنان حيث تصور العمارة الصينية القديمة تتوسط الهضاب كمنحوتات متصلة مع عناصر الطبيعة لاتتنافر معها بل يكونا معا وحدة متكاملة ، ويدمجها أيضاً اشتراكها معاً في المعالجة الخطية والظلية بالأبيض والأسود . وكذلك تتضح في المنازل الصينية العتيقة التي رسمها الفنان مزروعة داخل الجبال تتخذ سلالمها في الأودية والممرات الجبلية ، تحيطها الأشجار والنباتات الوارفة ، تستقبل ضوء الشمس الساطع وتظلها السموات الواسعة فيصبح سكن الإنسان في قلب الطبيعة يسمع أصواتها ونداءاتها الأبدية ويستعيد صلته بها ويندمج مع روحها التي تبثها في جميع الموجودات . وهنا نتذكر مقولة ووسيوس وونج ` إن الفنان لم يستهدف من تصوير المنظر الطبيعى مجرد المشاهدة ولكنه كان يستهدف حث المشاهد على ارتياد رحلة روحية لم يكن الغرض هو أن يرى اللوحة بل أن يقرأها ` .
- لقد قدم نوار مشاهدا خالية من الهفوات فهو يدعو المشاهد للدخول فى اللوحة والتجول فى ممراتها ، وفى كل مرة يشاهد اللوحة كانت هذه المشاهدة تأخذ شكل رحلة جديدة لاكتشاف المكان مقرونا بارتباطاته الروحية . و نستطيع أن نقول الكثير عن الجانب التقني في تجربة الفنان وامتلاكه لقدرات مهارية كبيرة كما أسلفنا ، إلا أننا يجب أن نشير لجانب آخر أكثر أهمية وهو أن هذه المهارة قد ارتبطت بتناول ذي صبغة تجريدية على الرغم مما يبدو ظاهرياً من واقعية للمشهد المرسوم .. فهو يحاول أن يخلص المشهد من التفاصيل المادية الزائدة ليقتصر على أنقى سماته حتى يعرض العالم المادى فى إيجاز بدلاً من هيئته الواقعية، وهو يبذل جهداً إبداعيا موازيا ليربط نفسه من كل النواحى بما يرسمه حتى يصل إلى جوهره .
- إن أحمد نوار يلتقط من المشهد الواقعي ما يراه جديراً بالحياة داخل أعماله وما هو فاعل في بنية العمل التي قامت بشكل أساسي على الاحتفاظ بالجوهر الثابت للأشياء بعيداً عن العوارض المتغيرة ، إنه يقوم بعملية إزاحة لكل ما هو من شأنه أن يعيق اتصالنا بالمكان كما أراد أن يطرحه علينا لنصبح وكأننا نراه للمرة الأولى . وفي النهاية نستطيع أن نقول أن الشطوط الممتدة لفكرة التجريد تصل بنا لتلك المشاهد التي لايمكننا أن نراها في الطبيعة بشكل مباشر بل نراها فقط عندما يقوم الفنان بذلك الإنتقاء الواعي فيخلع عليها سحراً خاصاً ينقل لنا حالة من الحبور والمتعة في تأمل مشهد يتوسط المنطقة التي تقبع ما بين جغرافيا المكان وجغرافيا الروح .
** إطلالة عامة
- تعد الإشارات السابقة التي تم التوقف من خلالها على بعض محطات رسوم نوار هي محاولة للفهم والاقتراب من حدود تجربة شاسعة المدى لا سبيل للإحاطة بها بشكل مرضي من خلال هذه العجالة وإن طالت . لكن هذه العجالة ربما ترسم لنا بعض السمات العامة في تجربة نوار الرسام الذي أجده من الفنانين الذين يحترمون فكرة الصنعة الإحترافية في الفن لأنه بدونها يبقي الفنان مغلول اليد مهما تألقت أفكاره والمدهش أنه يستخدم في معظم رسومه أداة بسيطة للغاية وهي الأقلام `الفلوماستر` ، وقد بنى بها عالماً زاخراً بالمعطيات البصرية حيث كان قادراً أن يترجم من خلالها درجات الضوء والظل بحساسية فائقة معتمداً على شبكات ظلية ذات ملمس مسامي نابض ينقل برهف تدرجات الضوء والظل على العناصر المرسومة بعيداً عن درجة الأسود المصمت المباشر الذي تعطيه هذه الخامة عند استخدامها بالصورة التقليدية . وقد قدم استخداماً خاصاً للخامة حين استغل حالة القلم الفلومستر الذي أوشكت مادته السوداء على الإنتهاء في تقديم درجة ظلية متوسطة يصعب الحصول عليها إلا في هذه الحالة.
- أدار الفنان أداته الخاصة في الرسم بمهارة فائقة فلا نشعر بتقطع المساحات أو انتهائها المفاجئ ، هذا بالإضافة للاستعانة بإمكانية الإعتام التام للخامة في رسم مناطق الظل المظلمة أو شبكة الأشكال والخطوط المتقاطعة ، وفي المقابل يتحرك الضوء ليصير مساحات شاسعة تتوازن مع التركيبات البنائية وتنقل خرائط النور في المكان كقيمة تدثرت بها جميع المفردات وتسللت برفق بين بدايات العناصر المرسومة ونهاياتها لتطمس معالم بعض الهيئات محولة إياها من حالتها المادية لحالة أخرى لامادية تخلت فيها عن ارتباطها المادي الأرضي وتحولت لأثير نوراني يناسب طبيعة الموضوع المرسوم .
- وتظهر أعمال نوار بوضوح العلاقة بين لذة الاستمتاع بالتنفيذ التقني الفائق المهارة و بين البحث عن الإيقاعات الداخلية التي تحقق الانسجام في العمل الفني الذي يكشف بدوره عن انسجام الروح و عن جوهر الحقيقة و حركتها الهادئة و تذكرنا أعماله بما سمي بلوائح ` الأوليات الست ` في الفن الصيني القديم التي تحدثت عن : ضرورة ` البحث عن العقل وسط التبعثر و التداخل `والحرص على توافر الطاقة في اليد واليقين في التنفيذ وأهمية التعبير عن إيقاع الروح في الأشياء لإيجاد حركة منسجمة عن طريق المشاركة بين وجدان الفنان و يده في إطار نظام مبدئي واحد يرتكن إلى التقسيم الصحيح لفراغ اللوحة والتعبير عن دقة الأشكال من غير أن يقتضي ذلك إسهابا في التفاصيل .
** القانون الرياضي للصورة
- لا نستطيع أن نغفل في تجربة نوار بأكملها متضمنة فن الرسم فكرة القانون الرياضي للصورة ولربما يجوز أن نقرن التجربة الإبداعية للفنان نوار بأقوال بعض علماء الجمال الذين أقروا بأن لكافة قوانين الصورة طابعاً رياضياً، فكل مدارس الفن لها نظامها الرياضي الخاص . والشعور بالجمال من خلال الرياضيات لابد وأن يأخذنا للوراء على الأقل حتى عهد ` فيثاغورث ` فالعلاقة بين الرياضيات وبين عالم الصورة علاقة مؤكدة تناولتها دراسات عديدة .
- هذا الطابع الرياضي نتابعه في أعمال نوار فهو يقدم متتاليات من أسطح هندسية حادة وأبنية شديدة النقاء، خطوط بيانية، رسوم هندسية فراغية، وأيضاً شبكات رياضية من الخطوط المتقاطعة ترق أحياناً فتصبح حادة دقيقة، وتتحول أحياناً إلى مجسمات خطية مركبة على السطح وأحياناً إلى مساحات تجريدية ساطعة الحضور بدرجات متنوعة من الأبيض للأسود تصنع إيحاءاً بالاقتراب والابتعاد والتقدم والارتداد . ويستخدم الفنان الخطوط والمسطحات المائلة فيظهر محتوى العناصر المصورة وعلاقته بالتوتر في المساحة وذلك من خلال حركة الشكل المائل الذي يوضع في علاقة حية مع باقي مكونات الصورة. وأحياناً ما يحدث الفنان ميولاً في اتجاهات الأسطح أو انحرافاً يصنع نوعاً من الإيهام البصري بالتوجه نحو العمق أو الداخل، خاصة إنه أحياناً ما يشغل المسطح بأشكال تحتل مواقعها بصورة ظلية موحية مما يعطى للعمل بعداً مسافياً أخر ، فيؤكد بذلك الحالة الحركية للشكل في إطار التجريد الذي أخلص له الفنان .
- كذلك نجد في أعماله خروجا للأشكال عن إطارها الداخلي مما يردنا في تاريخ الفن للمنمنمات الفارسية والهندية ، كما نجد أيضاً ما يعرف بالإطار داخل الإطار الذي يذكرنا بما ابتكره الفنانـون اليابانيون كنظام لازدواج التكوين أطلقــوا عليه في بعض الأحيـان ` تنافس إطار داخل إطار` ، و هو يعني احتواء العمل لأكثر من إطار متداخل به ، نستطيع أن نسمي هذا النظام `الأشكال داخل الأشكال` . ودائماً في أعمال نوار هناك شكل عضوي غامض هائم يطير داخل تلك الهندسة الصارمة يبدو وكأنه على وشك التشكل أو على وشك التلاشى، فيضفى على العمل تلك المسحة الإنسانية أو التعاطفية التي لولاها لوقع العمل في إشكالية الذهنية الصارمة، فنوار مولع بالعلم وبالتقدم التكنولوجي لكن الروح العلمية لا تفقده الروح الشعرية التي نتلمسها في أعماله . تظهر في طائره المحمل بالرموز وفى تلك النبتة الخضراء التي أصبح لها بعداً أيقونياً في تجربته .
** جماليات التكنولوجيا
- تصدح جماليات الآلة في أعمال نوار، يردد قانونها بأقواس وخطوط رياضية متقاطعة ويرصد نبضها برسوم بيانية ترددية، فتتحول الدائرة الكهربية إلى منمنمة خطية نقية جميلة ، وتتحول الخطوط الهندسية الحادة إلى أوتار رقيقة ، وتتحول الأسلاك إلى قرط ملون في وجه من وجوه الفيوم. وهو يختار درجات داكنة عميقة لتستقبل تركيبات تكنولوجية ويقيم أجزاء من أجهزة كهربية على خلفيات نقية مختارة فيكسبها جلالاً خاصاً ويعطيها حضوراً نبيلاً . إنها ميتافيزيقا التكنولوجيا إذا جاز التعبير .
- لقد قدم نوار كشفا لجماليات التكنولوجيا، لكنه كشف غير مبهور بالآلة أو التقنية فهو يخضعها لإرادته كفنان بأن يقيم لها حضوراً داخل نسقه الخاص فيمررها من خلال نسيج إرادته ليمنحها العقل الإنساني؛ ذلك الوجود الخاص خارجاً بها من عالم نفعيتها إلى عالم جمالياته .
- ونوار ينهى في رسومه حالة التضاد القديمة بين الحساسية والآلة خاصة آلات الحرب ومعداتها التي أكسبها نوار طابعا جمالياً وتعبيريا ً في أعماله ، تلك الحالة التي أثارها روجر فراى فى مقاله ` الحساسية ضد الآلية ` وناقشها هربرت ريد فى كتابه `الفن اليوم` الذي قرر فيه أن تاريخ الفن يثبت لنا أنه يمكن أن يكون لدينا حساسية عضوية تنجم عن التجاوب الانفعالي نحو الحياة وأخرى هندسية تنجم عن التجاوب الانفعالي نحو الآلة، وليس هناك تضاد بين الحساسية والآلية ، وربما يكون لتلك الحساسية الآلية أو الهندسية جذب خاص في عصرنا لجذب الأشكال الميكانيكية وحضور الآلات في حياتنا حضورا كبيراً خاصة تلك التي يحيلها كمالها الوظيفي لدرجة إطلاق صفة الجمال عليها ، خاصة تلك الآلات التى تعبر عن بعض الأفكار المجردة صانعة الطاقة مثل السرعة أو القوة أو الدقة.
- إن الطاقة التي اغتوى بها نوار وقدمها في كثير من أعماله كطاقة مقاومة ضد الشر والظلم كانت مرادفاً مناسباً يعادل موقفه المقدام من الحياة ، تلك الحياة التي زخرت بالعمل والتفوق والمحبة الخالصة للوطن .
- وفي النهاية : رسم نوار كثيراً كثيرا لكن المشهد الذي مازال يحلم برسمه ـ كما يردد دائماً ـ هو مشهد القدس المحررة النقية من الأسر وانتهاك المقدسات، فمازال نوار حتى الأن هو الجندي المصري بروحه المقاتلة و ومازال يرى العالم من فوهة بندقيته ....
أمل نصر
26أكتوبر 2021
أحمد نوار فى معرضه الكبير بمجمع الفنون
- رحلة فنية زاخرة من يوم القيامة حتى الآن.
- برعاية وزيرة الثقافة دكتور نيفين الكيلانى افتتح الدكتور وليد قانوش المعرض الإستعادى للفنان الكبير دكتور أحمد نوار بقصر الأميرة عائشة بالزمالك، فى أجواء يملؤها البهجة والسرور بمشاركة لفيف من الأصدقاء، والمعجبين، والطلبة والطالبات، والفنانين التشكيليين والفنانات، فالفنان أحمد نوار رغم تركه المنصب الإدارى إلا أن المنصب الإنسانى لم يتركه أو يتخلى عنه فى ذلك اليوم الذى اجتمع فيه كل المقربين شخصية الدكتور أحمد نوار الإنسان القائد الحازم والفنان الرقيق، الذى يسير فى محراب الفن بخطوات واثقة متحديًا حاجز الزمان والمكان، وكان مشروع يوم القيامة بالقلم الرصاص هو نقطة انطلاقة الحقيقية، وللأسف تم سرقة جزء كبير من هذا العمل عندما تم عرضه فى بهو مبنى قسم الحفر منذ سنوات طويلة مضت، وقد علمت بالصدفة أن عملية السرقة تمت على يد طالب قام بسرقة هذا الجزء الهام من المشروع وتم بيعه لفنان تشكيلى غير معروف وكان أحد أعضاء أتيليه القاهرة.
- والفنان أحمد نوار له إنجازات عظيمة لا تعد ولا تحصى فى مجال العمل الإداري عندما كان رئيس قطاع الفنون التشكيلية، وأقام العديد من الفعاليات الفنية فى عدة مجالات مثل بينالى القاهرة الدولى، ترينالى الحفر الدولى، بينالى الخزف الدولى، صالون التصوير الضوئى، صالون مصر، صالون القطع الفنية الصغيرة، معرض الفن الفطرى، وغيرها من الأنشطة والفعاليات التى توقفت بعد انتهاء مدة خدمته.
- بالإضافة إلى تأسيسه كلية الفنون الجميلة بالمنيا مع زوجته الدكتورة وفاء، وكذلك تأسيسه لمتحف بنفس الكلية، والأهم من ذلك كان اهتمامه بالفنانين الشباب، وقد كتب عن تلاميذه من الفنانين فى عمود بأخبار اليوم وكان يطلق على كل فنان (نجم) بالإضافة لعمود نهر الفن الذى تطرق فيه لمواضيع فنية وإنسانية تذيب تلك الفوارق التى تقف حائلا بين الفنان والمتلقى، وكتابه عين الصقر الذى يؤرخ فيها لذكرياته العسكرية كأحد قناصى حرب 73.
- وأحمد نوار فنان شامل فهو بجانب أنه رسام وحفار فهو مصور ونحات، ومارس الفنون المفاهيمية، فهو لم يدع أى مجال لم يتطرق إليه بأنامله القوية التى قبضت على السلاح فى حالة الحرب، وبنفس الأنامل رسم حمامة السلام لأن من ذاق مرارة الحرب وويلاتها عرف معنى السلام والاستقرار، وكثير هى أعماله التى تنبثق من حياته العسكرية التى دائما يضعها فى المقام الأول، فنشاهد مفردات مثل الطائرة والصاروخ، والرصاصة، والدبابة، والخوذة، والمدفع والحمامة والكف وفى أعمال أخرى نشاهد الوجه الإنسانى بصيغ تعبيرية مختلفة على خشب الحبيبى المضغوط، بالألوان ووجوه محاربة على الجبهة تعكس مفهوم الإرادة والتحدى عند الإنسان المصرى.
- وفى بعض الأعمال يستلهم وجوه الفيوم ليحولها إلى بناء هندسى فى طبقات مجسمة تتوزع على عدة مستويات يحدث فى بعض منها قطع للوجه بحيث لا يبدو منه إلا العين التى تنظر للعالم وسط هذا التراكم اللامحدود، وهو بذلك يكسب الشكل مفهوم حداثى جديد يعجز عن إخفاء تلك التعابير الصامتة فى الوجوه العائدة من العالم الآخر تطل علينا بنظراتها العميقة الغامضة بفعل موقعها المجهول تارة بالألوان وتارة بالأبيض والأسود.
- وفى أعمال أخرى والتى يسيطر عليها الحس الهندسى وعناصر التصميم، والرمز من خلال حالة من التفكير البصرى فى العالم اللامرئى والميتافيزيقى الذى يخضع لخيال الفنان وفلسفته الشخصية، نشاهد الكتلة فى أعمال الفنان أحمد نوار فى حالة انقسام خارج الجاذبية الأرضية فكأنه لا يخضع لقانون الجاذبية بل أن رموزه ومفرداته معلقة سابحة فى فضاء مطلق، لا تعترف بمنطق الثبات وهى تختلف عن أعماله السابقة التى تنطوى على كثير من العناصر البصرية كالزوايا الحادة، والمنحنيات والتقاطعات الرأسية والأفقية والمربعات والمكعبات.
- وعندما نتأمل بعض لوحاته المعروضة نشاهد حالة متفردة ومميزة بقدر كبير من الدقة والالتزام الذى اكتسبها من دراساته الأكاديمية فى قسم الحفر، وكان الأبيض والأسود هما المفضلين لديه رغم صعوبة استخدام الأسود فوق السطح الأبيض، وعندما نتناول اللون الأسود وهو من المجموعة غير اللونية، فهو لا لون يعكس حالة من الصمت العميق هو صمت الموت التى هى من صفاته وعندما يأتى بجوار الأبيض الذى أنكر التأثيريين وجوده فى الطبيعة، ولولاه لما أصبح للأسود وجود على الإطلاق لذلك فالرسم بالأسود فوق السطح الأبيض أو العكس من أصعب المهارات التى يحتل بها الفنان مكانة تبرز تمكنه فى مجاله الفنى خاصة عند رسم الاسكتش.
- ورغم أن الفرشاة أكثر تحررا وأكثر قوة وسرعة، من سن القلم الرصاص أو سن القلم الحبر الرابيدو الأسود إلا أننا عندما نتأمل لوحات الفنان نشاهد أننا أمام فنان استطاع بمهارة فائقة أن يسيطر على هذا السن الرفيع ويطوعه لفكره كما يشاء بنفس سرعة الفرشاة وهذا ما يبدو لنا وإن دل فإنما يدل على حالة الاتزان النفسى الهائلة التى يزاول بها أعماله الفنية، حين نرى خطوطه وكأنها تجرى من بين يديه، وهو يتحرك بسن القلم كقناص فهو لم ينسى عمليات اقتناصه للأعداء فى حرب الاستنزاف وحرب 73، فهو لم ينفصل عن شخصيته الحقيقية كأحد أبطال القوات المسلحة المصرية، فكل خطوطه ثابتة ومتزنة، حين ييتبع الخط حتى نهايته ويعلم متى سوف يلتقى بالخطوط الأخرى، فهو لا يمحو ولا يصحح كما المصور الذى يتعامل بفرشاته وألوانه دون اكتراث من غلطة فى الشكل أو اللون فباستطاعته محوها فورا بلون آخر دون ملاحظة ذلك، أنه يحكم عملية الرسم قبل أن يبدأ التصوير وتجسيد الشكل بالظل والنور، وتتميز تكوينات الفنان بالفخامة والمثالية، والتنوع، فنحن أمام الاسكتش لوجوه وأشكال إنسانية من واقع مشاهداته فى أسفاره المتعددة ينقل لنا الفنان نوار حس المصور المحترف، وفى لوحات الأماكن المقدسة يبرع فى استخدام اللون الأسود بدرجاته فى سفوح الجبال الممتدة ومجسم الكعبة الأسود أيضًا بعبقرية غير مسبوقة وها نحن أمام واقع تم تناوله بفكر تصويرى يجسد حالة الطواف، حول الكعبة ومدى جلال المكان وقدسيته الذى يتخلل وجداننا باشتياق ولهفة. وعندما نتبع تجربة الفنان وغزارة إنتاجه نجدها لا تنفصل عن شخصيته وتسير بالتوازى مع عطاءه الفنى الذى يستحق التكريم والتقدير، وللفنان احمد نوار مشاركات عديدة فى معظم دول العالم لا تتسع المساحة هنا للخوض فى ذكرها فالفنان أحمد نوار غنى عن التعريف، فأعماله فى حد ذاتها موسوعة فنية.
بقلم : د./ أحلام فكرى
جريدة : القاهرة 7-3-2023
دلالة العلم بجسديته العضويه عند نوار.. وبنيته الأسلوبيه عند جونز
- الفنان الكبير` أحمد نوار` أقام معرضاً بعنوان `العلم` فى جاليرى ياسين بالزمالك.. وعن`العلم` أيضاً سبق وأنجز الفنان الأمريكى `جاسبر جونز` العديد من لوحات `العلم` فى خمسينات وستينيات القرن الماضى.. ورغم اتفاق العالم على `العلم` كقيمه رمزيه إلا أننى أريد عرض مقابله لدلالة وأبعاد معالجة كلا من الفنانين `نوار` و`جونز` لعلمى بلديهما.. وبسبب التباين فى معالجة كلا منهما لعلم بلده بين `عضوية العلم وبنيته` يُثار تساؤل حول العلاقة بين العمل الفنى وموضوعه.. إلى جانب رمزية العلم الذى حين يُرفرف لأعلى لا يرفرف فى الفراغ...
- استلهاماً من معرض العلم لأحمد نوار :
- علم ` نوار` كائن عضوى
- سأبدأ بـ`علم` الفنان `نوار` والذى شاهدنا له حضوراً محورياً فى لوحات تعبيريه كثيرة فى عروض سابقه مرتبطه فى أكثرها والشهيد.. ويعتمد جزء كبير من رؤيتى لعلم نوار فى كيفية استحضاره للعلم داخل اللوحة ككائن وليس كقطعة قماش مطبوع وتطويعه كقيمه من قبل طبقات ذاكرة الفنان المقاتل.. ورغم أن `العلم` يتشكل كحاله مجازية داخل لوحاته من حمله لنعش الشهيد أو كونه جزء من آلة حرب إلا إنه يتمتع بحضور عضوى حيوى مُحرك للعمل كله لإستكشاف تعقيدات الحرب والبطولة والشهادة وأيضاً للتذكير الوحشي بتكلفة الصراع ليقدم الحاله الأعمق للعلم ذاته حين يُرفع فى مقدمة ملحمه القتال وكأن العلم هو أيضاً مشارك من لحم ودم وعقيده.. وفى لوحات `صعود الشهيد` ملفوفا بالعلم بدى `العلم` كأم حاضنه وحاويه لجثمانه وقد صار كجزء جسدى فى ارتباط عضوى بينه وبين جثمان الشهيد ليبدو أنه بسبب أهوال الحرب هناك رابطة غير قابله للكسر تشكلت بين أولئك الذين يقاتلون جنبًا إلى جنب تحت راية العلم وبنفس القوة بين جثمان الشهيد والعلم.. ولتبدو نعوش شهداء اللوحات المتطايره تجاه السماء ملتصقه بالعلم فى إرتباط شرطي بين الجثمان والعلم الذى أستشهد تحت رايته..
فأقوى رؤيه قدمها الفنان `نوار` ذلك الإرتباط العضوى للعلم بجثمان الشهيد وتمتده من لوحة لأخرى صعودا وعمقاً فى فضاءات العمل حيث فضاءات ذلك الإنتقال الجسدى الفيزيقى للشهيد إلى حالة الديمومة.. وأيضاً تقديم فكرة الأستشهاد كحالة فداء جسدى من أجل هدف معنوى..خاصة وهذه اللوحات إقترنت بالفنان المقاتل `نوار` ليروي لنا صدقاً قصصاً بصريه عايشها مقاتلا تتشكل أمامنا فى اللوحات كوعى وهويه مستقبل جماعى.. ولندرك دون جمل خطابيه أن الحريه التى نعيشها ليست مجانية أبداً وحين يقاتل الجندى فهو يقاتل من أجل حرية من تركهم خلفه.. وأن أعلامنا لا ترفرف لأن الرياح تحركه بل ترفرف رفقاً وفخراً مع آخر نفس لكل جندى أستشهد تحت ظله وهو يحميه..
- علم جاسبر جونز الصورة
- أما علم `جاسبر جونز` الأمريكى فقد رسمه مكرراً حرفياً ومراراً بصياغه تتمتع بتقنيه التجريديه التعبيريه فى لمسات السطح والتى أجاد فى تنوعها كتقنيه حديثه.. وعن دافعه لرسم علم بلده فى أوائل خمسينيات القرن الماضي قال فى أحد لقاءاته الصحفيه قال جونز `حلمت أنني أرسم علمًا أمريكيًا كبيرًا وفي صباح اليوم التالي نهضت وخرجت اشتريت المواد اللازمة للبدء في ذلك ورسمته بمزيج من الشمع الساخن واللون`.. إذن فأعلام جونز مصدرها حلم نفذه بضربات فرشاه التجريديه التعبيرية بأمانه من يرسم علم فوق جدار كعلامه إعلانيه أو دلاليه لأحد الأبنيه يعتادها السائر بجوارها.. وتم الانتهاء من علمه كما يقول بإستخدام مادة طلاء كاوي حيث خلط الطلاء مع الشمع الساخن مع شرائط من الصحف والقماش التي يلتصق بها الطلاء.. `وكما أوضح `جونز` فإن أسلوب التهكم سمح له بأن يكون أكثر كفاءة وفي الوقت نفسه أكثر تعمدًا في إيماءاته ليحقق سطح سميك يشبه الإمباستو وبهذه الطريقة تم الحفاظ على كل ملمسه وتحنيطه بشكل فعال ليصبح اول اعلامه كلوحة زيتيه وكولاجيه محنطه على لوح خشبى.. وجاء انشاء`جونز` لأعلامه المكرره ليس عن رمزية فقد ذكر: `بدلاً من الرمزية انا مهتم ببنية اعلامى الأسلوبية الرسمية لأن ما يثير اهتمامي هو حقيقة أنها ليست مصممة بل مأخوذة..` إنها ليست ملكى `وباعتبارها شيئًا يعرفه العقل بالفعل`.. لذلك فإن فكرة العلم زودت `جونز` بتركيبة جاهزة وسمحت له بخلق معنى غير الرمزى بطرق أخرى مثل إهتمامه بمادية أسطحه في رسم وصنع العلامات وفي اختياره للوسيط.. فلم تتعلق اعلامه بالرمز بقدر ما تعلقت بضربات الفرشاة وفيزيائية الطلاء حتى أنه أنجز علماً باللون الأبيض وأيضاً ثلاثة أعلام متداخله بنفس المعالجه جيده للغايه تقنياً وبأحجام متدرجه فبدت أعلامه ظلال لذاتها..
- بين نوار وجونز وخيانة الصوره
- وهنا يُثار تساؤل عن العلاقة بين العمل الفنى وموضوعه.. أى عن ماهية اللوحة وكيف يمكن تمييزها عن الشيء الذي تمثله؟.. فهل `علم` جونز علم لوحة أم فقط علم أم كليهما؟.. خاصة وفي الأشهر التي سبقت رسم `جونز` علم بلده زار معرض لأعمال البلجيكى `رينيه ماجريت` وشاهد مفهوم `خيانة الصوره` فى تناول ماجريت لهذه القضية بشكل مباشر حول مفهوم أن الشيء وتمثيله مختلفان في الطبيعة وذلك فى لوحته `هذا ليس بايب` حيث رسم ماجريت بايب كلاسيكى وكتب أسفله `هذا ليس بايب`.. وقد علق ماجريت على لوحته: `إنها مجرد تمثيل؟ فلو كتبت على لوحتى هذا غليون لكنت أكذب`.. ليظهر العمل بذلك مفهوم فكرة خيانة الصوره وتحذير بأن الصور ليست أبدًا كما تبدو للوهلة الأولى وأن هناك فجوه بين الصوره والمعنى وهذا ما أدركته فى أعلام `جونز` حيث قام بدمج الصوره التقليدية للعلم كما هو كمنشور جدارى.. فعند `جونز` ليس علماً حقيقياً بل جعله صوره متجمده للعلم بلا دور غير إنها صوره لشئ فجونز لم يضطر إلى تصميمه.. لذلك أراد أن يتطرق إلى أشياء مماثلة مثل الأهداف التي يعرفها العقل بالفعل فرسمه كلوحه وليس كعلم.. وألغى دوره الشخصي كفنان للتعبيرعن فكره.. وفى هذه القضية قال الباحث البولندى ألفريد كورزيبسكى: `الكلمه ليست الشى أو ما تصفه` و`الخريطة ليست المنطقة` وكلما تم الخلط بين الخريطة والمنطقة يحدث اضطراب دلالي في الكائن الحي ويستمر الاضطراب حتى يتم التعرف على حدود الخريطة`.. ومعظم النقاد قالوا عن علم جاسبر جونز: `يوجد في العمل توتر بين حضوره كصورة ودوره كعلامة.. وتنشأ معضلة: `هل هو علم أم لوحة؟` وكان الناقد `آلان سولومون` أول من طرح هذا التساؤل واعتبرت الإجابة غير قابلة للحسم في ذلك الوقت ومنذ ذلك الحين أصبح العلم يُنظر إليه على أنه علم ولوحة في نفس الوقت.. وقال `بوشلو` شيئًا آخر في هذه التصريحات الصارمة بأن `لوحة جونز تلتزم بنفسها بطريقة` التزام المرء بمؤسسة ما `وتلزم نفسها بـ `دقة التقنيه`..
- بينما نجد عند `نوار` العلم هو مزج حى بصرى ذهنى عاطفي بين خطين من الواقع والخيال فى تصور واحد.. وعند جاسبر يتشكل أكثر بمفهوم خيانة الصورة بما يشبه `دوجما` التلقى النظرى.. فكان الإهتمام الأكبر لـ`جونز` هو إظهار مهارته لتقنيات السطح التجريدي التعبيري للحركه الفنيه السائده تألقاً فى عصره وهذا عكس `نوار` التى اعتمد على معايشة `العلم` لحيوات مختلفه إمتدت لأبعد من السطح المرسوم.. كما اتخذ جاسبر فى معالجته نهجا اكثر بروده وتحليليه استمدها من الدقة والتكرار.. بينما معالجة نوار شديد السخونه والحيويه فى تمثله لكل حالات االتداخل العضوى فى كل المراحل من الحرب الى الشهادة إلى تشييع الشهيد حتى بدى لنا علم نوار كمهجن مُحمل بجينات أجساد الشهداء ومشاركاً عضوياً ورمزياً بما أسمى به عناوين لوحاته مثل: `زفير النار`.. `عزف الشهيد`.. `صعود الشهيد`.. `انين التراب`.. `الشهيد`.. `نفحات الشهيد`.. `عرس الشهيد`.. `ميلاد النور`.. وندرك فى إختزاليه العناوين الجمع بين المكون المجرد والعضوي بتلاحم يصنع تفرداً إرتبط بعلم الوطن وشهيده.. كما ندرك البعد الزمنى فى لوحات نوار بظهور تروس تتواصل وتقود الرؤيه فى اكثر من لوحة ذات أسنان دقيقة تدعم محيط الهيكل الخارجى ارتباطاً بجسد الشهيد الرمزى لتوجه حركته أوحركة عين مشاهد اللوحة.. وهذا الإدخال ليس بهدف تحقيق مظهر للإيحاء بديناميكية العمل بل بتحميله رمزية أعمق فيما بين الترس كرمز للساعة الزمنية الموحيه بتمدد الزمن.. فحركة التروس كتوقيت أبدى لن تتوقف الى ما لا نهاية فى إشارة رمزية لديمومة الوجود للشهيد.. وبذلك ظهر البُعد الزمنى فى أعلام نوار إرتباطا بالشهادة التى لاتنتهى مع الإستشهاد بل هى حالة قائمة ممتدة فى الزمن.
بقلم : فاطمة على
جريدة : القاهرة 9-7-2024
|