منحوتات ` ناجى فريد ` : هناك من يتلاعب بنا
- نجح فريد في توظيف الضوء ك`خامة` وحذر من التكنولوجيا كمصدر خطر.
- يعمل على مفهوم الرأس بجدية والتزام فائق باعتباره مقر العقل وسكنه.
- رغم أن شخوص `ناجى` في وضعية المومياء عاقدة الزراعين أنها لا تبدوا ميتة بالكامل.
- في منحوتاته الأولى، المثال الفنان `ناجي فريد` معالجاً هيئة الفورم الفرعونى دون تفاصيله، كاشفاً عن البُعد المُقدس والجمالى للمنحوتة المصرية القديمة بالشكل المجرد الكامل.. ونجح في إنشاء فنه وفكره الخاص المعاصر بدلالات رؤوس منحوتاته البيضاوية الشكل وأجساده البشرية التى بلا رؤوس.. وعلى مدى سنوات أخذت الفكرة والخامة تعملان معاً لاقتناص الضوء وتحويله لعامل مشترك فوق اسطح منحوتاته، يقعرها ويحدبها ويلتف بها وكأنه بطريقة ما- وتجاوزاً- مثلما مشط المثال `إدوارد تشيلدا `الرياح بمنحوتته `تمشيط الريح` مشط المثال `ناجي` السطح بالضوء..
- وقد أخضع `ناجى` خامات مختلفة وظفها بأسلوب `الكولاج` لتأكيد فكرته المُقطره شكلاً ومفهوماً محققاً نقاء الكتلة وجمالياتها التركيبية، كما بدى فى عرضه قبل الأخير فى جاليرى `أوبنتو` والذى أراه أحد أهم معارض النحت التى نظمها `أوبنتو`.. وأيضاً تلاها مشاركته بأربع منحوتات في `إيجيبت آرت فير`.. ومؤخرا منذ أيام شارك بتركيب نحتى نصبى خلال سمبوزيوم خاص.
- مسرحة الضوء .. خامته الأخرى
- لغة الكتلة عند `ناجى` هى لغة تعبر ممراً من القديم للحداثى.. وبالأحجار الجرانيتية القديمة تتعاشق فى تداخل إبداعى بلغة عالمين بينهما آلاف السنين.. وبهما أقام `جاذبية` تخصه بين المعدن والحجر، كصائغ مجوهرات امتلك الفكرة والحرفية المبهرة لعمليات التعشيق بين خامات قاسيه من `الجرانيت والبرونز` أو `البرونز المطلى بالنيكل كروم والجرانيت` أو `الخشب والاستنلس ستيل` ليظهر التلاحم كقطعه واحده محققاً معادلين بصري ودرامي زاد من حدة صراع الطاقة الكامن من تلاحم خامات مختلفتى القدرات..
- وإلى جانب تلك الخامات المختلفة جعل ناجى الضوء شريك كخامه أخرى.. ففي نحته البرونزى المصقول تحقق انعكاسات الضوء وسيلة رئيسية للتعبير الجمالى الدرامي المُكمل.. مهد بالصقل لإسقاطه ليعيد تشكيل السطح وتضاريسه والظلال..
- ولتتمثل أحدى مميزات ناجى فى قدرته على مسرحة الضوء درامياً وجمالياً، لرؤوس منحوتاته البرونزية والأجساد بلا رؤوس تحت إضاءات الجاليرى لتكتمل هيئة المنحوتة وكأن الضوء الذى تصطاده الأسطح المصقولة هو خامه أخرى سائله إلى جانب خاماته الأساسية القاسية الصلابة حتى ليبدو السطح الصلب على وشك الذوبان فى الضوء الشديد.. هذا الانعكاس للضوء وإعادة ولادته أراه يترك إيحاء بارتباطات روحيه تتشابك مع جماليات الكتلة.
- رؤوس `روح عصرنا`
- لو ابتعدنا عن الجماليات والخامات وكل ما يبهرنا فى أعمال `ناجى`.. أجد لنفسى مع منحوتاته تفسيرات فكريه عديده.. لا أعرف إن قصدها الفنان أم لا..؟ لأنه لا يتكلم عن أعماله..
- وسأبدأ بالرابط مع منحوتة الرأس التركيبية `روح عصرنا` التى أنجزها 1919 الفنان `راؤول هوسمان` زعيم `الدادا` فى برلين، الذى أراد بها التعبير عن روح عصر ما بعد الحرب العالمية.. وهى الرأس الميكانيكية بمفرداتها من رأس دمية خشبيه ملتصق فوقها ومثبت شعر مستعار مزين بشريط قياس ومسطرة خشبية وكوب من الصفيح وعلبة نظارة وقطعة من المعدن وأجزاء من ساعة جيب وقطع الكاميرا..
- الفنان `هوسمان` استخدم بوضوح الرمز والعلامة للتعبير عن روح عصر عاشه.. بينما `ناجى فريد` فى رؤوس بورتريهاته والتى أراها هى الأخرى تقوم بنفس الدور للتعبير عن روح عصرنا لزمن غير زمن `هوسمان`، لكن دون استعانة `ناجى` بالعلامة بل بجعل الرأس هو نفسه الرمز والعلامة.. فرؤوس ناجى هى هيئات مستلهمه من القديم حامله الهيئة الخارجية لروح عصرها لتعبر به اليوم عن روح عصرنا بما لها من وجود عيمق في الثقافة الفنية المصرية القديمة، مما اعطي لهذه الروح قوتها كامتداد بصرى لجيناتنا الثقافية..
- وبدءاً.. فإن الأنسان العادى فى عصرنا اليوم ليس لديه قدرات أكثر من تلك التي تلصقها المصادفة المخطط لها مُسبقاً أو المعلومة الساقطة على الجزء الخارجي المصقول من الرأس، ليتلقى حرفيا مؤثرات العصر من خلال إعلام ووسائل تواصل ومراقبة أقمار صناعيه تلقى بضوئها، لتعيد تشكيل الرؤوس لتبدو وثيقة الصلة بشكل مخيف بعصرنا.. وهذا التعامل لعصرنا مع رؤوسنا أدركته بما أصاب رؤوس شخوص `ناجى` من محو أولي وطمس للملامح، ثم اختراقات الرأس بقطع معدنيه تقتحمه.. وشرائح معدنيه كشرائح الإلكترونيات ملتصقه بالرأس تبرمجه.. وقطع مستعرضه ومكعبه تلتصق على سطحه الخارجى تشوه الرأس لتبدو كملصقات السيارات حديثاً لتتبع خط السير وبالأصح تتبع مسار التفكير..
- تحول العقل إلى `ريبوت`
- أعتقد `ناجى` يعمل على مفهوم الرأس بجديه والتزام فائق باعتباره مقر العقل وسكنه.. حتى يكشف لنا بفنه عن ان الرأس تتحكم بها قوى خارجية، طمست ملامح الوجه والروح وتدخلت خارجيا على تركيبته، ربما ليشير لما أصبح عليه العقل البشرى كريبوت مجرد مكون من مواد خام قاسيه.. وربما ليحذر `ناجى` كما حذر `راؤول هوسمان` بمنحوتته بأن روح عصره لم تكن في الحقيقة روحًا على الإطلاق..
- وهذا قد يفتح مجالاً للمشاهد للتفاعل عن ماهية الروح فى عالم ميكنة العقل وتوجيهه القصري؟ وأثر هذا العصر باختراقاته الحاده للرأس البشرى برمزية كرمزية الخامة القاسية وتحويله لآلة روبوتيه؟.. ربما يدفعنا `ناجى` ونحن نستمتع جمالياً ببلاغة ما وصل اليه بمنحوتاته إلى التفكر فيما يحدث من تحولات العقل البشرى..
- و`ناجى` ايضاً يدفع بوعينا البصري لجمال الأفكار المتعلقة بوجودية العقل البشرى رغم ما يتعرض له من انتهاكات بروح عصرنا.. فتبدو بعض رؤوس منحوتاته وكأنها تعبر عن الذهن اللامرئى وقد بلغت غايتها التعبيرية القصوى.. وقد تبدو رؤوسه فى حاله وجوديه سكونيه منعزلة.. وقد تبدو رؤوسه المطموسة الملامح تراقبنا دون عينين فى ازدواجية جذابه بين اللاموجود وتأثيره..
- إنها متغيرة وتجبرنا على التوقف وإلقاء نظرة عما يدور لنا وحولنا.. وهذا الغموض يصعب معه تحديد معنى فكرى واحد فقط للعمل الفنى إلا من خلال فكره الوجود الإنسانى..
-.. وأجساد بلا رؤوس
- وللفنان `ناجى` أجساد فى وضعية الواقف كهيئة منحوتة المصرى القديم بخامات وحلول السطح والملمس وبلا رؤوس.. وجاء هذا عكس أجساد `أجورا` البشرية الشهيرة البلا رؤوس للبولندية `ماجدالينا اباكانوفيتش` الذى يشير حرمانها لهم من الرؤوس إلى افتقارها الاستقلالية والهوية.. بينما جاءت شخوص ناجى بلا رؤوس بثقلها الفكرى لما تجسده وضعية المصري القديم من ثقل جيني `للشخصيه` التى رأيناها عند ماجدالينا تجسد اللاشخصية.. لتبدو شخوص `ناجى` كالمرابطة على ذات أرضها، رغم التحولات بذات الوضع الاستشرافى الواثق فى الخلود، لتقدم عمقاً وجودياً لا يمكن الهرب منه حتى وإن بدوا بلا رؤوس..
- لذلك رغم أن شخوص `ناجى` ليسوا على قيد الحياه وفى وضعية المومياء عاقدة الذراعين، إلا أنهم لا تبد ميتة بالكامل، رغم فقدان الرؤوس التى نستشعر وجودها كمصدر قوة خلود.. لقد خلق لغة بصرية جمالية تعبر عن ذلك الاتصال الجينى العضوى الفكرى المتزامن مع تتالى أزمنة المصرى القديم إلى المصري المعاصر على ذات الهيئة ليتمددوا معنا فى زمننا هذا بثقل صوفى أسطورى كان `ناجى فريد` الأكثر إخلاصاً له منذ بدأ مسيرته الفكرية فناً.
بقلم : فاطمة على
جريدة القاهرة 2-8-2022