وجوهُ الثّورة لمحمد أبو النّجا: الهويّةُ حينَ توغلُ في ألمِ وِلادة
- غالبًا ما حضرَتْ `مصرُ الهويّة` في أعمال الفنّان المصريّ محمد أبو النّجا، ففي أعماله الكولاجيّة ذات الطّبقات، حاول الفنّان دومًا صياغة هويّةٍ تشكيليّةٍ موازية لـ `المصريّة`، يقابلها أو ينتقدها، أو يحفر فيها ليبحثها ويعرّفها.
- عادة ما يقيم أبو النّجا أرضيّة أعماله، قماشَه، من موادّ من أرض مصر، طينها ونخيلها وأرزّها، بمهارةٍ أخضعت التّقنية للهويّة، والعكس أيضًا، وهو ما يناقشه فريد الزّاهي في مقاله عن أبو النّجا `بشرة الذات.. بشرة العالم`، فيقول: `إنّها مادّة بها بعضٌ من ذاكرة الجسد، والكثير من الاحتفاء بحركيّة اليديْن. وفي هذه التّمازجات تتجسّد تلك البشرة الّتي ينحتها الفنّان التّقنيّ (هذه المرّة) من صلب اليوميّ، ويحوّلها بفعلٍ خلّاقٍ إلى صفحةٍ لا تنتظر سوى الانطباعات الممكنة لجسد العالم عليها`.
- كثيرًا ما تداخلت النّصوص العربيّة أيضًا مع تكوينات أبي النّجا، معزّزًا هويّة أعماله، كعربيّ مصريّ، يقتطع الفنّان جملًا وكلماتٍ من الشّارع المصريّ، أو نصوصًا عربيّةً كلاسيكيّةً تحيل إلى الثّقافة الدّينيّة والشّعبيّة في المجتمع المصريّ.
- في عمله الأخير `الأسد`، تداخلت اللّغة والخطوط العربيّة مع عمله الترّكيبيّ المكوّن من الفيديو والصّور الفوتوغرافيّة، حيث دُوّنت على جدران المعرض 325 اسمًا عربيًّا للأسد، كُتبت بالخطوط العربيّة.
`وجوه الثّورة`: تتميّز عن أعمال أبو النّجا السّابقة في توجهها نحو البورتريه المختلف
- `وجوه الثّورة`، هي آخر أعمال أبو النّجا، وهي مجموعةٌ من لوحات `البورتريه`، تُعرض في الخامس من آذار / مارس القادم ، وجنبًا إلى جنبٍ مع أعمال أخرى من وحي الشّارع المصريّ وثورته ، في جاليري دار الفنون في الكويت، ولمدّة عشرة أيام .
- يسلّط هذا المقال الضّوء على مجموعة `وجوه الثّورة` ، كونها تتميّز عن أعمال أبو النّجا السّابقة في توجّهها نحو البورتريه، وأيضًا نحو البورتريه المختلف، `الثّوريّ` ، الّذي يختزل معانٍ ودلالاتٍ جديدةً، وهي أيضًا ترتبط بشكلٍ وثيقٍ بمصر الآن وبثورتها.
- يختصر أبو النّجا الأدوات في مجموعته تلك، فلا كثيرٌ من الطّبقات اللّونيّة ولا نصوصَ، ولا نعثر على ازدحامٍ في التّكوينات. يختزل أبو النّجا الأداةَ للفكرة الّتي يبدو جليًّا أنّ الفنّان قد امتلأ بها ففاضت أعمالًا موغلةً في التّحديق في الذاتِ الثّوريّة . ينعم الفنّان في وجه المصريّ الثّائر، يختصر أدواته وألوانه ليشكّل الوجوه المنتظِرة، للموت، بل الذّاهبة إليه بمحضِ إرادتها وبإصرارٍ عنيد.
- لا شكّ أنّ ثورة 25 يناير لا تغيّر في تاريخ مصر والمنطقة ، أو على الصّعيد السّياسيّ، فحسب، بل هي إعلانٌ عن ولادة الشّخصيّة المصريّة الجديدة، الّتي امتلأت صمتًا على مدار عقود، وانحنت أكتافها من الحُمول، ولكنّها في هذا التّاريخ تصرخ رافضةً الاستمرار في تحمّل ما لا يُحتمل، ومعلنةً المواصلة في نهجٍ جديدٍ في الحياةِ والتّفكير.
- يكفي التّجوال قليلًا من الوقت في شوارع مصر، وقراءة ما رسم وما كتب الشّباب الثّائر على جدران الشوارع، لندرك هذا التّحوّل الكبير في الفكر والشّخصيّة المصريّتيْن.
يوثّق تشكيليًّا لحظةَ الولادة التّاريخيّة.. وتشكُّلَ الملامحِ المصريّةِ الجديدة
- يسجّل أبو النّجا لهذا التحوّل ، يوثّق تشكيليًّا لحظةَ الولادة التّاريخيّة تلك، وتشكُّلَ الملامحِ المصريةِ الجديدة. ونحن إذ نقول `يوثّق`، فإنّ هذا لا ينتقص من إبداع الفنّان بل يعليه، فمهمّة الفنّ تبقى مواكبة الحدث وتحوّلات التّاريخ والتّأثّر بها والتّأثير عليها؛ وأيضًا فإنّ معنى `التّوثيق` التّشكيليّ، يتضمّن بالضّرورة معالجةً إبداعيّةً من الفنّان لهذا التّحوّل، وهو ما يقدّمه أبو النّجا في تلك البورتريهات، وهو رؤيته لوجوه الثّورة.
- وجوه الثّورة في أعمال أبو النّجا مغطّاةٌ رؤوسها بقبّعات، أو تُخفي وجوهها بلثامٍ لا يُظهر سوى العينيْن، أو تحتمي أحيانًا بما يشبه حجابًا يغطّي جانبيّ الوجه، يبدو واحدًا منها في إحدى اللّوحات أزرقَ مخطّطًا، كذلك الّذي يميّز الزّيّ المصريّ القديم.
- لا يحيلُ اللّثام الّذي يكمّم الأفواه في `وجوه الثّورة` إلى سياقٍ من القهر والاضطّهاد، فتلك الوجوه في حالة ثورةٍ على الاضطّهاد، وهي كسرت أصلًا حاجز الخوف وتخطّت حالة الخنوع، ولثامها وغطاء وجوهها دلالةٌ على السّرّيّة الّتي تميّز العمل الثّوريّ، فالملثّم في الثّقافة العربيّة، هو المجاهد والمناضل الّذي يخرج لملاقاة العدوّ، يغطّى وجهه منعًا من أن يُعرف، وقد شاعت ظاهرة التّلثّم في التّاريخ العربيّ الحديث خلال الانتفاضتيْن الفلسطيّنيتيْن، حيث كانت قوّات الاحتلال تقوم بتصوير المتظاهرين، ثمّ تقوم بالتّعرّف إليهم والبحث عنهم واعتقالهم أو اغتيالهم. وترسّخت صورة الملثّم الفلسطينيّ في الثّقافة العربيّة، مردافًا للثّوريّ والمناضل الّذي قد يكون شهيدًا عمّا قريب.
- ما يؤكّد على تلك الصّورة للملثّم الفلسطينيّ في الثّقافة العربيّة هو انعكاسها في أعمال أبو النّجا ذاته ، حيث يظهر اللّثام في بعض اللّوحات مخطّطًا بشكلٍ كاملٍ أو جزئيّ، وهو ما يذكّرنا بخطوط الكوفيّة الفلسطينيّة الّتي يتلثّم بها الفلسطينيّ، لكن أبو النّجا يشير إلى هويّة الملثّم المصريّة بشكلٍ واضحٍ، فعدا عن السّياق الزّمنيّ الّذي يحيل إلى مصر وثورتها، يظهر غطاء الرّأس في إحدى اللّوحات متّصلًا بشريطٍ أزرقَ مخطّطٍ يشبه غطاء الرّأس لدى المصريين القدماء.
- بالإضافة إلى السّرّية التي يشير إليها اللّثام والغطاء، هناك دلالةٌ أخرى وهي الضّرورة، حيث يلجأ المتظاهر المصريّ إلى تغطية ما يستطيع من رأسه ووجهه وعينيه كضرورةٍ لحمايته ما أمكن من الطّلقات والغاز.
- يأخذ لون بشرة `وجوه الثّورة` في أعمال أبو النّجا درجات البنيّ، لون التّراب، في دلالةٍ على ارتباط المقاوم بالأرض الّتي يقدّم لها دماءه قربانًا لتتحرّر وتُزهر وتزدهر بين الأمم. يتداخل الأحمر الدّمويّ مع البورتريه في بعض اللّوحات، أو الأصفر الّذي يشبه اليود الطّبيّ الّذي تُداوى به الجراح، فهي وجوهٌ مُصابةٌ، تتواجد في حيّز دفاعٍ وهجوم، في معركةٍ دمويّة.
عيون وجوه الثّورة
- تظهر عيون وجوه الثّورة مغطّاةً بشاشٍ طبيّ، أو بنظّارةٍ شمسيّةٍ ومن فوق إحدى عدستيْها شاشٌ طبّيّ. العيون في البورتريهات تبدو كأنّه أَريدَ لها أن تكون هي بؤرة اللّوحة وموضوعها، أحيانًا تتخفّى من وراء نطارة شمس، وأحيانًا أخرى موغلةً في العمق حدّ الحياد والموت.
- تبدو العيون المكشوفة في بعض الأعمال مرسومةً بطريقةٍ تشبه العيون في الفنّ القبطيّ، ما يؤكّد مصريّةَ وجوهِ الثّورة في أعمال أبو النّجا، ويضفي أيضًا هالةً من القداسة عليها.
- ومن الجدير التّوقّف عند تلك المسألة، وهي العيون واستهدافها في أحداث الثّورة المصريّة، وهو ما أعاد إلى الأذهان مقطعًا محدّدًا من قصيدة `لا تصالح` للشاعر أمل دنقل: مثلما ألهمَ بيتُ الشّعر الخالد لأبي القاسم الشّابي، `إذا الشعبُ يومًا أرادَ الحياة فلا بدّ أن يستجيب القدر`، ثورةَ تونس وما تلاها من ثوراتٍ عربيّة، حضرَ وبشكلٍ قويٍّ أيضًا أمل دنقل لتنبعثَ قصيدته `لا تصالح` في سياقٍ زمنيٍّ وتاريخيٍّ آخرَ غيرَ الّذي كُتبت فيه القصيدة، منتقدًا فيها دنقل الصّلحَ مع العدوّ الاسرائيليّ وناهيًا عنه بحسم. يفتّش الشّباب العربيّ الثّائر في مقاطعِ القصيدة ويتناقلها على المواقع الاجتماعيّة على الإنترنت، بل ويدوّنها على جدرانِ الشّوارعِ الثّائرة.
- في مصر، تصبح `لا تصالح` شعارًا من شعارات الثّورة، ولم يكن دنقل يدري بالتّأكيد أنّ مقطعًا منها بالذّات سيتداوله الشّباب المصريّ في زمنٍ آخر وعلى جبهةٍ أخرى، شبابٌ فقدوا أعينهم حقًّا خلال التّظاهرات، أو مهدَّدين بفقدها:
أترى حين أفقأُ عينيْكَ
ثم أثبّتُ جوهرتيْن مكانهما
هل ترى؟
هي أشياءٌ لا تُشترى
- لم يكن استهداف عيون الشّباب الثّائر في مصر أقلّ إيلامًا من القتل، بل رأى فيه الشّباب رسالةَ إرهابٍ قاسيةٍ ومُتعَمَّدةٍ من أنظمةِ الطّغيان، تستهدفُ التّراجعَ عن الخروجِ للتّظاهر، بالتّهديد بالحبيبتيْن، العينيْن، لتعطي هذه الرّسائل نتائجَ عكس ما يرغب النّظام، ثورةٌ تجدّدُ نفسها وغضبٌ يشتعلُ ويتراكم، فانطلق الشبّانُ يبحثون عن أشعارِ دنقل، يتناقلون المقطعَ السّابق بالتّحديد، يسجّلون مفارقات التّاريخ، يتساءلون عمّا إذا كان دنقل قد كتبهم حقًّا من قبل أن يولدوا وتُبصر أعينهم، يتركونَ التّساؤل، يواصلون، لا يصالحون ولا يتراجعون عن الخطّ الّذي رسمته الشّرارةُ الأولى للثّورة، وهو العيشُ بكرامةٍ وحرّيّة.
- إنّ العينين تسمّيان حقًّا في اللّغة العربيّة `حبيبتيْن`، كما وردَ في حديثٍ قدسيٍّ يُظهر قيمتهما عند الله والإنسان وعلوّ مكانةِ وأجْرِ من صبرَ على فقدهما، يقول الحديثُ القدسيّ: `إذا ابتليتُ عبدي بحبيبتيْه (يريد عينيْه) ثمّ صبرَ عوّضتهُ منهما الجنّة`.
- وجوهُ الثّورةِ مستبشرةٌ وإن بدا عليها التّعب، واضحةٌ كشمسٍ وإن تخفّتْ وتلثّمت، مُبصرةٌ تتوّجها البصيرةُ وإن فقدت أعينَها، صابرةٌ وإن غضِبت، مثابرةٌ على الدّربِ مواصلة، محدّقةٌ في النّصر، تراه صبرَ ساعة، وفي عينِ القنّاصِ تضعُ جمراتِ غضبها، فتهزمهُ وما فعل، وتركلُهُ وبندقيّتَه، مردّدةً حناجرُها: هي أشياءُ لا تُشترى. هكذا يشكّلُ الفنّان محمد أبو النّجا وجوهَ الثّورة، موغلًا في ألمِ فتًى فقدَ إحدى عينيه، أو كليْهما، مثل المصريّ أحمد حرارة الّذي فقد كلتا عينيه، الأولى في يوم الغضب 28 يناير 2011، والثّانية بعد حوالي عامٍ من هذا التّاريخ خلالَ الأحداث الأخيرة في القاهرة.
وجه `أحمد العربيّ`
- يستغرق أبو النّجا في قلبِ أحمدَ وإخوتَه، ليبرزَ لنا تشكيليًّا وجهَ `أحمد العربيّ`، ليطلّ علينا أحمد من قصيدة محمود درويش في لوحاتٍ حيّة، تقول بحقّ، وبلونٍ وصورة، وبعلوّ صوت ما كتبه درويش في رائعته `أحمد الزّعتر` المشهورة بـ `أحمد العربيّ`:
لم تأتِ أُغنيتي لترسمَ أحمدَ المحروقَ بالأزرق
هو أحمدُ الكَوَنيُّ في هذا الصّفيحِ الضّيِّق
المتمزِّق الحالمْ
وهو الرّصاصُ البرتقاليُّ.. البنفسجةُ الرّصاصيّة
وهو اندلاعُ ظهيرةٍ حاسمْ
في يومِ حريّة
يا أيّها الولدُ المكرَّسُ للنّدى
قاوِمْ
يا أيّها البلد - المسَدَّس في دمي
قاوِمْ
الآن أكملُ فيكَ أُغْنيتِي
وأذهب في حصاركْ
والآن أكملُ فيك أسئلتي
وأُولدُ من غبارك
فاذهبْ إلى قلبي تجدْ شعبي
شعوبًا في انفجارك
د. مليحة مسلماني
جريدة عرب 48 - 6 مارس 2012
إعادة تدوير مفهوم `الكانوبيه` من طقس قديم إلى فن أدائى فى زمن العنف الجسدى
- فى معرض `أبو النجا` غدا من مشروعه `إعادة تدوير الآلهة القديم`
- آنية `الكانوبيه` لحفظ أحشاء المصرى القديم..
- إستحضار العنف الجسدى.. و`بيرفورمانس` غير مرئى
- فى عرضه الخاص الذى يبدأ غداً الأربعاء بـ `التاون هاوس` وسط القاهرة.. يقدم الفنان `محمد أبو النجا` الجزء الثانى من مشروعه المفاهيمى` إعادة تدوير الآلهة القديمة` الذى يعمل عليه منذ 2019.. العرض يقتصر على أربعة من أوانى `الكانوبية` فى حجم ضخم.. وهى فى أصلها صغيرة الحجم خُصصت لحفظ أحشاء موتى قدامى المصريين بحراسة أبناء حورس الأربعة كما فى الديانة المصرية القديمة ..
- الفنان أبو النجا يقول:` إنه يقدم معالجه عصريه لـ`الكانوبيه` وإعادة تدوير الفكرة بما لها من إسقاط مهم على واقعنا المعاصر..`
- ولإرتباط الكانوبيه وظيفياً بالموت.. تأملت إن كان قصد الفنان إعادة تدوير لفكرة الموت بمعالجه معاصره ؟ وهل فكرة الموت قابله لإعادة تدوير؟.. أرى أنه قد تبدو إحتمالية إعادة تدوير الجسد الميت نفسه بتجميده أو حرقه أو أن تتم إعادة تدويره بفعل عوامل الطبيعة إلى شكل جديد بتطفل البكتريا وإقتتات الحشرات والديدان والقوارض على الجسد الميت وتدويره فى حياه جديده داخلهم ممكنه.. أما أنه فى مجال العمل الفنى ربما قد تصلح فكرة إعادة تدوير الموت فى ارتباطها المباشر فقط بمفهوم التواجد الجسدى فيزيائياً وليس فى معزل عنه؟.. هذا رغم أن الفنان `أبو النجا` لم يصرح أبداً بقصده إعادة تدوير الموت.. بل صرح بطرحه إعادة تدوير فكرة `الكانوبيه` نفسها الحافظه لأحشاء الموتى بمعالجه معاصره لها إسقاطاتها على واقعنا المُعاش..
- الأسد مُحنطاً كأيقونه
- أبو النجا` عمل مبكراً جداً داخل محيط مفاهيمية الفكرة.. وأيضاً حول المرئى واللامرئى.. وحول إعادة تدوير الخامه.. وقد شاهدت منذ أكثر من ربع قرن فى معرض الصالون [الثالث أو الخامس] بقصر الفنون مشاركته برؤية فلسفيه وبمفرداته التى أراها ممتدة إلى اليوم بصياغة هيئة `أسد قصر` النيل فوتوغرافياً وقد غلفه بلفافات قماش ككفن أبيض.. فتم تغليفه بصريا محولاً المرئى للامرئى.. ليجعل منه أيقونه إرتبطت دلالتها بالكلمات التى صاحبت عرضه لعشرات من أسماء الأسد جعلها فى حالة تقابل بين الكلمه الصريحة والصوره المخفاه بالأقمشه.. لتنفرد الكلمة كدلالة ووصف لمحاسن صفاته التى أختفت وراء الأقمشه لتبدو الكلمة عنده اكثر صبرًا من الصورة فى تحمل إدراك المشاهد للربط الذهنى بالتداعى بين حصر الكلمات لصفات ذلك `الأسد الأبوهولى` الهيئة داخل كفنه القماشى المشدود.. ولم يقدم أبو النجا أسده وكلماته بشكل أدائى.. مثلما قدم `جوزيف كوسيث` مؤكداً على الوجود المادى المحقق لـ`كرسيه` بالكلمة وتأكيدها رغم عرضه للكرسى نفسه كأوبجكت وصوره وكلمات مركزاً مفاهيمياً على الافكار عبر الشكل البصري. وأيضاً كما سبق أبو النجاً فى مفهوم تغليف الأوبجيكت `كريستو وجين كلود` من أجل إعادة صياغة رؤية الواقع المعتاد لتنشيط رؤيته بمفهوم أكثر إثاره.. ويبدو أن الإحتمال الأكبر لتأثر أبو النجا بفكرة التغليف هو الإرتباط الميراثى بتحنيط قدمائه.. ومفاهيمياً فى محاوله منه للإخفاء ولتحويل المرئى إلى لا مرئى بصرياً ليكون أكثر حضور ذهنياً.
- هذا حققه أبو النجا فى سن مبكره.. وقد بدى منذ البداية أن عين أبو النجا لها قدرة إختراق الجسد كاسره تعويذة السطح المحدود فى محاوله لتهبه لا محدوديه بذلك التناول الميتافيزيقى ليُعيد تدوير الرؤية لتتلاءم وعناصره التى يعيد تشكيلها دوماً مثلما يفعل مع خامته الأثيرة بتدوير الورق وتصنيعه عجائن.. ثم جاءت كتبه الورقية بعجائن الورق المحكم وربطها بحبال للعرض كأنها هى الأخرى بما تحوى من كلمات مكفنه ومحنطه وقد أحكم الإغلاق على الكلمه داخل الكتب تعسفاً وإماتتها خنقاً بأوراقها المحترقه والتى فاز عنها بالجائزة الثانية للبينالى.. وواصل `ابو النجا` رحلته لسنوات طويله داخل مفهوم العمل وأدائه مخلصاً له بشغف وجديه شديدين.. ليبدأ هذا العام تنفيذ مشروعه الأكبر ` إعادة تدوير الآلهة القديمة` والذى لازال يعرض بالفعل مبحثه الأول منه فى جاليرى`إيزل آند كاميرا` بالجونه.. وأنهى الآن مبحثه الثانى الذى سنشاهده غداً بتنسيق من `آرت دى إيجيبت` لمعرضه حول إعادة تدوير معاصره لدلالة فكرة `الكانوبية`.
- أوانى `الكانوبيه`
- سيعرض أبو النجا أربعة `كانوبيات` ضخمة بعنوان `نحن بالداخل` بإرتفاع 180 سم وقطر 60 سم مستلهمها شكلاً وعدداً من`الكانوب`المصرى القديم.. وقد نفذ جسم العمل بالبوليستر والفيبرجلاس وعمل بالتشكيل عليه بالورق اليدوى من البردى والكتان والقطن.. فمثلما غلف المصرى القديم جثث مومياواته وإحكم رباطها فى دوران حول الجسد بأشرطة من الكتان كذلك غلف أبو النجا أوانيه الأربعه بعجائن الورق فى دوران حول بدنها وليوحى بتهشيراته لما تحويه رمزا من رفات رغم الأصباغ الملونه.. أما تماثيل أعلى أغطية `الكانوبيات` فنفذها من حجر وبوليستر.
- وبخاماته المُخلقه لنباتات عضوية من بردى وكتان وغيرها التى كانت يوما نبات يتنفس أعاد تدوير وجودها الحى ممتزجاً بفطرة زمنها الأول.. ورغم تلوين `أبو النجا` لسطح بدن `الكانوبيات` إلا أنه بدى إناءاً مجعداً ليبدو عجوزا من كثرة ما حوى بداخله من أحشاء موتى.
- وهذا التداعى الذهنى بين `الكانوبيات` و`أحشاء الموتى` هو إرتباط وظيفى قديم منذ كانت تُصنع لحفظ أربعة من أحشاء الموتى بعد نزعها من الجسد عند تحنيطه وهى `المعدة`.. `الأمعاء`.. `الرئتين`.. و`الكبد` لتُحفظ داخل أربعة أوانى `كانوبية` إلى يوم البعث وتقفل بغطاء يعتليه نحتاً رمز لأربعه من أبناء حورس كحراس لما بالآنيه وهم `إمستى`..`حابى`..`دواموتف` و`قبحسنوف`.
- الجسدية`.
- و` بيرفورمانس` إستحضار تمزيق الجسد
- أبو النجا عادة ما يخفى بأدواته ما هو مرئى ليصدم ألفتنا للأشياء ومفاهيمنا الثابته.. وفى هذا العرض كانت أداته للإخفاء هى `كانوبيات` حفظ أحشاء من يتم تحنيطهم.. ليوحى رمزاً بما خفى داخلها من أجزاء جسديه.. هذه الأحشاء لا نراها ولكن نرى الأوانى حاويتها المرتبطه بها وظيفيأ منذ آلاف سنين مصريه قديمه.. ليبدو المشهد وقد بدت واجهة العرض تنبئ عما بالداخل.. وبوجود الأوانى الأربعة العملاقة داخل قاعة العرض يعمد الفنان أن نستحضر ذهنياً عملية تمزيق الجسد حتى ولو كان لميت لإنتزاع ما بداخله.. ليبدو مفهوم العرض فنياً وأدائياً خاص بالجسد.. وأراه إعادة تدوير فكرى للذهن من فعل تمزيق إلى مفهوم أدائى فنى.
- وربما ما قصده أبو النجا بقوله أنه يعمل على تقديم معالجه معاصرة `للكانوبيه` وعمل إسقاط على واقعنا المعاصر.. ليبدو أن ألإسقاط قد أتى حاداً ليتحول التمزيق للجسد الميت قديماً بالتداعى الذهنى لتمزيق الجسد الحى فى عالمنا اليوم وما نشهده من عنف بدنى لأجل العنف بتمزيق الجسد لمجرد التمزيق أو البيع أو الإهانه أو لمجرد إشباع شهوة عدوانية تسود عصرنا.
- أبو النجا فنياً ونفسياً ومفاهيمياً بأوانيه الأربعه وضع المشاهد فى إختبار حاد وقاس للحدس وللنفس بإستحضار أربع `كانوبيات` ضخمه ترتفع قامة وجودها مهيمنه على قامة المشاهد الواقف أمامها.. ليجعلهما فى مواجهة حادة داخل المكان وببعدين زمنيين مختلفين.. خالقاً بيئه فنيه عدوانيه تستحضر بالذاكرة امام عينى مشاهديه ذاكرتنا القديمه لتصور أننا أمام فن أدائى `بيرفورمانس` بأثر رجعى.. جئنا بعد إنتهاء أدائه.. وما بقى من شواهد إقامته إلا أوانيه الأربعه المُحمله داخلها بالغنيمه البشريه.
- شغف حول اللامرئى
- أعتقد مع هذا الإستحضار الذهنى لفن أدائى مُفترض.. أن `أبو النجا` سينجح غداً مع إفتتاح معرضه فى صنع دائرة من المتفرجين يلتفون بشغف حول غير المرئى من أحشائهم الساكنه إفتراضاً بداخل `كانوبياته` الضخمة رغم أنها لا زالت آمنه داخل اجسادهم.. ولدفعهم تجاه فكرة الإنتزاع الجسدى بدون إشاره مباشره من الفنان للمشهد ولا حتى بأى رسوم أو رموز حول بدن أوانيه الضخمة تشير لعملية الإنتزاع أو العنف.. إلا أن المشهد سيبدو حاضراً بقوه.. فمجرد وجود أوانيه الأربعه بذاكرتهم القديمة كحواه لأحشاء أجدادنا لجعلهم يشغلون معنا حيزنا المكانى داخل قاعة العرض فى إستحضار ذهنى فورى حاد بقوة.. بينما الأوانى الأربعه ذاتها يتصدرون المشهد وصالة العرض فى حاله واثقة من السكونيه والصمت المترقب كإختبار لحدود الفن الأدائى وحدود الذات المتفاعله حتى مع اللامرئى.
- وهذا التعامل القاس مع مادية الجسد الإنسانى القابله لتفريغها من الداخل وكشف ما داخل الجسد قدمه فنانين فى العالم كثيرين مصحوباً بمشهد الدم ورائحته دون إخفاء فعل العنف وبإفصاح بصرى وهو ما لم يلجأ اليه `أبو النجا`.. بل قدموا أدائهم `البيرفورمانس` حياً لحظياً من داخل الجسد.. فالبريطانى `مارك كوين` أفرغ من داخله كتل دمويه على مراحل ليُرينا ما بداخل أوردة وشرايين جسده لوناً ورائحه.. والأمريكية `جينا بان` شقت امام المشاهدين جرحاً عرضياً فى بطنها بحد الموسى كمنفذ لترينا احشاءها بالداخل.. والألمانى `هيرمان نيتش` مزق بقره وأفرغ ما بداخل جوفها وأسكن مكان احشاءها أحد مساعديه.. والكوبيه `تانيا بروجيرا` ألصقت بجسدها ذبيحة خروف افرغتها من الداخل ليبدوان معاً كجسد واحد أخذت فى التهامه لتصبح هى حاويته الجديدة.. والبريطانى `داميان هيرست` فى لوحته `الولاده` أرانا أولا فوتوغرافياً ثم رسمها للحظة خروج وليد قيصرياً من بين طيات لحم بطن الأم الممزق كجسد حاوى وتفريغه والفنان ابو النجا حين صنع أربعة حاويات للأحشاء اقام بهما إيحاءاً ما يقرب من فن الأداء - بيرفورمانس ذهنى - حول عملية تمزيق لأحشاء ميت دون ان نراها واكتفى بأن أرانا حاوياتها.. فبدا عمله أقرب لفن أدائى نراه بعد إنتهاء أداءه.. فهو يُرينا أثر اللامرئى حين كان مرئيا فى عدم حضورنا.. وهذا التعامل مع اللامرئى يُجيده أبو النجا إستحضاراً.. أو إخفاءاً إن كان مرئياً ليكون هذا العرض استمرار لتوهجه الفكرى بالعمل على الجسدية اللامرئية داخل `كانوبياتة` وسيلته الجديدة لمفهوم الاخفاء منذ اخفاءه القديم لجسد أسده بأقمشة التحنيط.. ولكتبه الملفوفة كفناً بأوراق محترقه.
- `الكانوبيات`.. الزمن والفراغ والموت
- ` الكانوبيات` كشكل بدنى جمالى ضخم وليس كحاويه.. أستشعر بما بداخل باطنها وكأنه كالخلاء بين السماء والارض أو كصندوق معبأ بالهواء.. فهو فارغ وممتلئ معا.. وبصمتها المترقب وفضائها الداخلى من الصعب تقبلهما كمجرد مفهوم لكتله فنيه أكثر من مجرد كونها آنيه.. فوجودها يُشعر المشاهد بعلاقة عميقة بين الفراغ والموت والزمن.. حتى أصبح يبدو لى الاناء منهوك القوى لطول ما تحمل من إنتظار مروراً بالزمن وبفراغه الداخلى.. حتى يكاد تبدو لى أوانيه العملاقه كنصب تذكارى للصمت.. لندركها كجمال ومفهوم مجرد رغم إلحاح ذاكرتنا الجسدية التى تدفعنا فيزيائياً لإحتمالية أننا كنا قبلا من ساكنى `كانوبيات` أبو النجا الأربع.
بقلم : فاطمة على
جريدة : القاهرة( 12-9-2023 )