أحلام اليقظة
- العالم الذى تأتى منه الاحلام السعيدة ، والعالم الذى ترد منه الكوابيس المفزعة عالم واحد .. مستودع هائل ملئ بالأسرار . عميق عمق البحر . غامض غموض المحيطات ..
- الصور التى ترد إلينا من هذا العالم عندما تغمض اجفاننا ونستسلم للنوم ترق أحيانا فتمنحنا نوما هادئا ناعما لذيذا .. وتقسو أخرى وترسل إلينا زبانيتها لتقض مضاجعنا بأكف الغيلان والمردة إن هذه الصور المتناقضة هى ما يزودنا به ذلك الكائن الشقى العابث الرابض فى أعماق اللاشعور الذى يسميه علماء النفس ` العقل الباطن ` .. وهو الطاقة التى تنشط عندما يغفو العقل الواعى وتتسلل فى غفلة منه لتخرج من خزائنها أكداسا من الأشياء التى تختزنها وتدخرها فى جوفها بدون نظام ولا ترتيب لتجترها أو لتلهو بها ، وتصنع منها مهرجاناتها الطائشة الحمقاء ، وتؤلف مما يقع تحت أيديها من المفردات العشوائية صورا شتى عفوية الترابط ، لا منطقية العلاقات ، فوضوية النسيج ، وهذا هو سر الغموض الذى يستولى على مشاعرنا عندما نفيق ونستعيد ما رأيناه وكأننا عدنا لتونا من مدينة تسكنها الحوريات أو يسيطر عليها الغيلان!!
- ورحلة الأحلام والكوابيس من التجارب اليومية التى نخوضها عندما يضم الفراش أجسادنا المجهدة .. وقد فسرها علماء النفس تفسيرات شتى .. وكان لـ ` فرويد` رأيه الذى فتح الباب على مصراعيه لكشف مغاليق هذا العالم الغامض . الذى كان من نتائجه ظهور المدرسة ` السيريالية ` التى عثرت على كنزها الثمين مطمورا فى سراديب النفس . فاقتحم عدد من الفنانين هذا العالم المجهول ، وخرجوا علينا بكل ما هو غير معقول . وأصبحت كلمة ` لا معقول ` كناية عن كل فن يرفضه العقل الذى ظهر له منافس يقف له بالمرصاد . وعقل له منطقة الخاص .. هو العقل الباطن ، أو العقل اللا واعى ، أو اللاعقل ، أو اللاشعور .
- وكل عمل فنى فيه قدر من نفحات هذا اللاشعور . وما الخيال إلا شطحة من شطحات النفس ، أو جولة فى سراديب العقل الباطن .. ومن غير هذه النفحات يفقد الفن مذاقه السحرى .. ونكهته اللذيذة .
- واذا كانت المفاجأة تهزنا ونحن نجتاز عالم الفنان الشاب ` يسرى محمد حسن ` وهو يقودنا فى جولة بين دروبه السحرية الغامضة ، فذلك لأننا لم نتعرف عليه من قبل ، ولم نعرف شيئا عن ماضيه الفنى ، وكأنما انشقت الأرض فبرز منها هذا الفتى بمزماره السحرى حاملا فوق ظهره صندوق الدنيا ليطلعنا على أساطيره الممتعة بأسلوب شاعرى أخاذ .
وإذا عرفنا أن سبب اختفاء الفنان هو انشغاله بالأعمال البطولية التى قام بها طوال سنوات الحرب الأخيرة والتى استحق عليها وسام نجمة سيناء ، ووسام العبور ، فإن ذلك سيرفع الفنان فى نظرنا درجات كمقاتل ممتاز ..، وإذا عرفنا أيضا أنه لم يحصل على أى مؤهل فنى ، وأنه عصامى علم نفسه بنفسه لازداد اعجابنا بالفنان الذى يثبت أن الفن ليس جرعة تصب فى الأفواه بالإكراه ولا شهادة يغتصبها الحاصلون على المجاميع من غير الموهوبين ..
- والفنان ` يسرى محمد حسن ` لا يستسلم للأحلام ولا الكوابيس استسلاما كليا ، بل يقف بإحدى قدميه على شاطئ الأحلام ، وبالقدم الأخرى على شاطئ الواقع ومن هذا المزيج نستطيع أن نصف رؤيته بأنها نوع من أحلام اليقظة التى يختلط فيها الواقع بالحلم أو الحلم بالواقع .. فعناصر لوحاته عناصر حقيقية ، ولكنها مغلفة بغلاف يزحزحها عن الحقيقة ويدينها قليلا من الحلم . ويساعد على تأكيد هذا الاحساس المناخ الليلى الذى يضيفه على لوحاته بزرقتها الجوفية الداكنة وبنياتها الدافئة وسوادها الفحام وأضوائها الفضية التى تنساب انسياب الماء بين الصخور السمراء ..
- ويطغى الإحساس العميق على ما يشوب العناصر المرسومة من ركاكة وضعف نتيجة لعدم التمكن من قواعد الرسم كلغة تعبير ، ولكن هذا النقص الأكاديمى يذوب فى الإحساس الكبير كما تذوب الحصاه فى التيار المتدفق ..
- وهناك أربعة أركان يشيد الفنان فى رحابها عالمه الأسطورى الصورة الشخصية والطبيعة الصامتة .. والمنظر الخلوى .. والموضوع ..
- وهو لا يلصق شخصياته التى يصورها فوق الخلفيات التقليدية الصماء ولكنه يحيطها بخلفيات مكانية خلعت عنها رداء الواقعية ، فبدت كأنها قطاعات من عالم مجهول يخيم عليه غلالات رمادية ناعمة ، وأصداء غامضة تأتى من بعد سحيق كهمهمة ترددها لمساته المرهفة غير المنمقة، والمشبعة بسخاء لونى كثيف الإحساس بعمق وصدق .
بقلم : حسين بيكار
من كتاب أفاق الفن التشكيلى