يوسف محمد على سيده
يوسف سيدة الأبجدية والتجريد
ـ كان ينقل عدوى التامل والغوص فى أعماق المجهول إلى رفاقة وتلاميذه وزوار معارضه الشخصية الكثيرة ... سواء فى بدايته الشخصية وحوار ألوانه الساخنة والباردة التى تكسوها غلاله شفافه غير مرتبه أو حينما يدخل ضمن انتاجه بخامات وأشكال غير مطروقة بشكل ملحوظ .. نجده يشكل من أنواع الكولاج والحروف الأبجدية وقصاصات وأوراق الصحف ما يعكس فكره المتجدد وباطن شاعره .
ـ ذهب فى المره الأولى إلى الولايات المتحدة عام 1950 للدراسة لمدة سنة فى منحة `فولبرايت ` وهناك أثناء عروضه الشخصية العديدة... طلبت منه الحكومة المصرية الاستمرار لنيل درجة الماجستير فى التربية الفنية من جامعة `مينا سوتا`
ـ وعاود للمره الثانية الذهاب إلى الولايات المتحده عام 1961 للحصول على الدكتوراه من جامعة `أوهايو` وكانت رسالته بحثا شائقاً من الناحية الفنية مصاحبا لدراسته النظرية لمدة خمس سنوات عن الكتابه العربية وعلاقتها التشكيلية التى أثبت فيها بالنظرية والتطبيق أن الكلمة العربية المكتوبة بما لها من قدسية خاصة عند المسلمين منذ آلاف السنين يمكنها القيام بدور هام فى خلق ثقافة تشكيلية جديدة حول العالم العربى عن طريق بناء أشكال فنية تتداخل فيها الحروف الهجائية بين الخطوط والالوان مسايرة للغة العصر السائد مع الاحتفاظ بالحضارة والتقاليد الشرقية .
ـ لقد استحوذ على الفنان يوسف سيده اهتمامة بالحروف العربية الانسيابية بعد عودته عام 1966ونجده قد قام بمحاولات وتجارب فنية عميقة حولها وأخذ يصنعها بشكل جمالى فى لوحاته العديد بصورة تجريدية، وهنا تجدر ملاحظة هامة على تلك المغامرة التجريدية التى استهوت كثيرا من الفنانين العرب فى استخدام الاشكال المتعددة للحروف والكلمات والجمل المركبة والأبيات الشعرية أحيانا التى تسعى بمحتواها الادبى والفكرى إلى الولوج داخل العمل الفنى التشكيلى حيث ينقسم المتذوقون والمشاهدون لهذا الفن الى فريقين فريق يقرأ اللغة العربية ويعرف مدلول كل حرف ويفهم محتوى كل كلمة فى اللوحة وفريق آخر يجهل قراءة ومعرفة تلك الكلمات والحروف الغير مفهومة بالنسبة له .
الناقد / محمد حمزة
رحلة فى أعماق مبدع كبير يوسف سيده.. رائد مدرسة الحروفية
- كان الفنان الراحل يوسف سيده ( يوليو 1922ـ ديسمبر 1994 ) أحد رواد مدرسة الحروفية الذين استلهموا روح الإبداع من تلك الطاقة الموجودة فى لغة التشكيل بالحرف العربى وظل مخلصا لهذا الإبداع طيلة ثلاثة عقود، كان فارسا لهذا النوع من الفنون يقدم فيه إبداعاته وأفكاره وتنويعاته، فالحروف قادرة على القيام بدور بديل لكل العناصر التشخيصية والمعنوية فى الفن، فحروف اللغة تحمل بداخلها جوا روحيا فهى كيان حضارى وكونى .
- وكان يوسف سيده الرائد المفكر الذى استطاع - كما وصفه الناقد الفنان د. مصطفى عبيد - أن يسمو بصياغة واستلهام الخط العربى فى أشكاله المتعددة متميزا بالخصوبة والتنوع ليقدم حلولا تشكيلية جديدة ومتطورة بدءا من رحلته مع هذا النوع من الفن منذ مطلع الستينات وكان يوسف سيده أحد النماذج الفريدة فى الحركة التشكيلية المصرية فهو متفرد بأصالته وديناميكيته، وبمصريته، ويعد بحق مرجعا لشباب الحركة التشكيلية اليوم، فقد جاء من بلده بدمياط ليدرس القاهرة فى كلية الفنون التطبيقية التى حصل على دبلومها عام 1942، ولم يتوقف عن دراسة الفن فحصل عام 1945على دبلوم المعهد العالى للتربية ( قسم الرسم ) وفى عام 1946 درس فى متاحف القاهرة وكان اهتمامه يتركز فى رسم كل ما تقع عليه عيناه وكانت ملامح الوجوه وتعبيراتها كامنة بين أنامله فكان يرسم الشخصية برقة وعذوبة وقدرة فى البناء وتأكيد الملامح والمشاعر، وكانت له إسهامات فى تأسيس جماعة الفن الحديث التى تضم خريجى الفنون الجميلة والتطبيقية والدراسات الحرة وشارك فى معارضها كما شارك فى العديد من المعارض بمصر وفرنسا وأمريكا والبرازيل والسودان وحصل على العديد من الجوائز المصرية والدولية .
- وينتمى سيده إلى الموجه الثانية من جيل الأربعينات من الفنانين المصريين ( جيل الرواد ) الذى تمرد على أوضاع الواقع والفن المحافظ آنذاك .
- وعندما التحق بالدراسة بالولايات المتحدة ليحصل على الماجستير بجامعة يناسوتا عام 1951 اصطدام بتوجهات الفن الحديث وأساليب جديدة لم يكن يسمع عنها فى مصر، وعندما بدأ مرحلة الإعداد للدكتوراه اختار موضوع ( الخط العربى كعنصر تشكيلى فعال وكوسيلة لتحقيق الهوية العربية فى لوحات تحافظ على قيم التشكيل الأصيلة ) وهكذا بدأت رحلته مع الحرف العربى فى أوائل الستينات وكان فى طليعة الفنانين المصريين والعرب الذين استخدموا حروف الكتابة كعنصر موضوعى وحيد فى تشكيل اللوحة منطلقا إلى رؤية قومية حديثة للفن المصرى والعربى وحين عرض هذه الأعمال فى أمريكا أثارت ردود فعل متباينة تتراوح بين الاستحسان والاستهجان، لكنه واصل رحلته وتجربته بعد عودته لمصر دون أن يسقط أسيرا لأى من الاتجاهات السائدة فى الغرب وفى نفس الوقت استفاد منها بدرجة كبيرة بما يتلاقى ومنطلقاته الأصيلة ويساعده للوصول إلى صيغة قوية جديدة للفن فلم يتخذ ـ فى استلهامه الحروف العربية - النسق الكلاسيكى لتحديد مساحات لونية متقاطعة أو متداخلة مما يقرب أعماله من زخارف قماش الخيامية الذى يستخدم فى السرادقات .
- وقد كان سباقا فى توظيف الحروف توظيفا موضوعيا وليس فقط جماليا وقد وجد فى انتصارات حرب أكتوبر مادة غنية لتحقيق نزوعه الوطنى الجياش فلم يكتف باستخدام الحروف التى تكون جملا ترتبط بالحدث العظيم بل جعل البطولة فى هذه اللوحات لوجوه الجنود المليئة بالإصرار على رموز اللغة الفرعونية مثل رسوم الطيور واتخذت الحروف والكلمات الإطار الخارجى الذى يدور حول هؤلاء الأبطال فى ترديد كورالى احتفالى موحد القافية صاخب الأنغام كالنشيد الحماسى .
- جاءت إبداعات يوسف سيده مختلفة تماما عن حامد عبد الله فالحروف عند يوسف سيده هى عناصر تشكيلية تتناغم فى محيط ابتدعه يوسف سيده .. فالحروف عند يوسف هى تجسيد لنغم موسيقى برؤية جمالية وهى رموز تذكرنا بلعبة السيجة الشعبية أو هى الهامات تخضع لقوانين التوازن والتوزيع فى ألوان مباشرة مختزلة .
- لقد جسد يوسف سيده المجالات الجمالية التى تشكلها الحروف المفردة وهو يستوحى أحيانا الاحجبة والتعاويز فى السحر الشعبى .
- يوسف سيده وحامد عبد الله نماذج حاولت أبدعت ولكل منهما منهجه الفكرى وثقافته الخاصة .
نجوى العشرى
جريدة الأهرام 2005
فى 6 أكتوبر الـ 36 : لا تدوم الحياة إلا بما تدومه فكرة أو نصراً
- لوحة ` نصر مصر` رسمها الفنان نفس عام النصر فأتى الإحساس بها غاية فى الحيوية توثيقيا ليؤرخ بالكلمة والصورة نصرا مازجا بينهما موحيا بحركة داخلية متنامية تجعلهم متحولين مع الزمان عبر المكان فى تراكم للأحداث .
- الوجوه الأربعة للجنود هم رمز .. رغم أن هذه الوجوه قد تتماهى مع الزمن أو تصبح على وشك التلاشى من ذاكرتنا.. إلا أن تلك الاعتبارية والفخرية تظل حاضرة وبقوة حتى لة أنستنا تفاصيل وجود جرحى وشهداء أعطونا دفعات من الفخر أورثناه أولادنا.. ذلك الفخر الذى يتضاعف داخلنا مثل ذلك التراكم فى اللوحة للأحرف والكلمات وطيور الرمز المصرى القديم وجنود مجهولة أسماؤهم كأن الفنان جهزهم على هذا الحشد البصرى مهيئين للتضاعف مع الزمن كمتتالية زمنية الإحساس التراكمى بالنصر على إيقاع زمنى بصرى نراه فى أجزاء يتهادى أو يبطئ كى ندرك المعنى ونستوعب الفكرة .
- وقد جاءت كلمات من القرن الخامس صينية بعنوان `الطريق إلى النقاء ` تقول: `على وجه الدقة لا تدوم حياة كائن حى إلا ما تدومه فكرة.. ومثل عبرة تلمس الأرض فى نقطة واحدة عندما تدور فلا تدوم الحياة إلا ما تدومه فكرة واحدة ` .
- كذلك النصر وفكرة النصر ذاتها تتداخل وتتوارث من إنسان لآخر تدوم بهم الحياة التى لا تدوم إلا بما تدومه فكرة أو نصرا .
فاطمة على
مجلة آخر ساعة - 2009
يوسف سيده ورحلة الحرف وأكتوبر العظيم
- يوسف محمد سيده فنان كبير ومفكر وباحث.. محاضر وصاحب رسالة علمية وإبداعية وإنسانية ذات قيمة كبيرة..حفر عميقا فى نهر الإبداع المصرى ووصل الأصيل بالمعاصر .
- تمتد أعماله بطول رحلته الفنية التى اقتربت من الخمسين عاما.. بمراحل ثلاث ما بين التعبيرية الشعبية - والتى تلتقى مع سحر الإيقاع الشرقى لماتيس وطزاجة الألوان عند راؤول دوفى ` 1877 - 1953` كما تذكرنا خشونة سطوحه الارابيسكية خاصة فى أعماله الأولى بجورج رووه `1871 - 1957` - والحروفية العربية أو التشكيلية الحروفية التى حقق من خلالها نسقا فريدا خاصا يرتبط بمعنى الهوية والحداثة..هذا مع مرحلته الرقمية التى استشرف فيها المستقبل وعكس من خلال سطوحه التصويرية لما يحدث الآن من طغيان العصر الرقمى وما نشهده حاليا من أنظمة الديجيتال وقد جعل للرقم كيانا جديدا فى حواره مع كائناته وعناصره.
- كل هذا وقد نسيناه.. ربما عمدا وربما سهوا.
- فى أكتوبر العظيم ..نرد له جزءا من قيمته الفنية ونضئ على بعض فنه الغزير.. وقد ترك ثروة إبداعية تجاوزت 2000 عمل فى التصوير والنحت والخزف..خاصة وله لوحة من أجمل لوحاته حول نصر السادس من أكتوبر تهتف فيها الحروف والكلمات مع أبطال مصر من جنودنا البواسل .
* أبن دمياط :
- فى مدينة دمياط ولد يوسف سيده فى 19- 7 من عام 1922ونشأ وتربى على فرع النيل الذى حملت المدينة اسمه.. ومثل كل الاطفال كان يرسم ويشكل بالطين دنيا من الأشكال والمجسمات.. وعندما ظهر نبوغه وتفوقه بشهادة أساتذة التربية الفنية..جاء إلى القاهرة والتحق بالفنون التطبيقية وبعد تخرجه عام 1942 حصل على دبلوم المعهد العالى للتربية الفنية عام 1945 .
- العجيب والمدهش أن سيده كانت قد اكتملت ادواته الفنية وكان يمارس التصوير بقوة واقتدار وهو طالب بالفنون التطبيقية.. كما قدم أعماله التعبيرية الشهيرة والتى تشبه المطرزات وتنتمى للسحر الشعبى بعد منتصف الاربعينات.
- لقد انضم سيده إلى جماعة `الفن المصرى الحديث` التى أقامت أول معارضها عام 1946 وواصلت نشاطها حتى عام 1955 وكان من أبرز أعضائها معه: حامد عويس وعز الدين حموده وجمال السجينى ونبيه عثمان وجاذبية سرى وصلاح يسرى وزينب عبد الحميد.
- حملت تلك الجماعة تبنى وسائل التعبير الغربية كما يقول ايميه ازار واستخدامها فى تبيان رسالة مصرية آو تعبير مصرى وقد نجحت فى هذا بامتياز على حد تعبيره .
- ربما كانت لوحة يوسف `ماكينة الخياطة - 1948` والتى تعد واحدة من أعماله الشهيرة تأكيدا على ثراء إبداعه المبكر وهى لوحة أشبه بسجادة شرقية أو كليم شعبى.. جاءت بمنظور عين الطائر .. تطل فى مقدمتها ماكينة الخياطة على بساط سحرى مسكون بالنقوش وفى خلفية اللوحة تجلس الخياطة فى أقصى اليسار ويبدو الفرق واضحاً بين ضخامة الماكينة وبين ضآلة المرأة وفى هذا تأكيد على دور الآلة وقدرتها كأداة للتشهيل والتسهيل خاصة وقد احتفى بها من خلال تلك الأرضية من النقوش والألوان الصداحة المشرقة من الأحمر النارى والأخضر الداكن والأصفر الأوكر .
- بنفس المنطق التشكيلى من المنظور الفوقى نطل على لوحة ` فلايك النيل - 1949` تمتزج فيها النقوش بالبشر وحركة الشاطئ بالروح الشعبية فى جسارة وخشونة وتحديدات سوداء تتميز مع شرقيتها بطزاجة فطرية .
- مع فلايك النيل رسم يوسف مشاهد من دمياط والسنبلاوين ومناظر مأخوذة من سطوح البيوت بخطوط هندسية تميزت بتجريدية الالوان مع الخطوط التشخيصية.
- من بين أعمال يوسف سيدة فى فن البورتريه.. والذى يفرض نفسه ويقع فى مقدمة أعماله `بورتريه امرأة يابانية ` لفتاة الجيشا بالمروحة والذى يتعانق فيه الشرق القريب والبعيد بدنيا الارابيسك والروح اليابانية ذات المسحة الحزينة المتأملة رغم الشفاة الحمراء..هذا مع لوحات `عروسة المولد` و ` بائع الكنافة ` و `مراكب نوح ` و القلة ` .
- رغم سفر الفنان إلى أمريكا عام 1950 - 1951 فى منحة الفولبرايت الا انه عاد أكثر انتماء للبيئة المصرية مع عصرية اللمسة التى توهجت باللون والتلخيص والتسطيح خاصة تلك الأعمال التى عرضت ببينالى الإسكندرية فى دورته الثالثة 1959 والرابعة 1961 .
* أم سيد :
- من بين تلك الأعمال لوحة `أم سيد الغسالة ` والتى تجسد سحر البيئة وطرافة العناصر وتفاصيل الحياة اليومية.. كما نرى عند أم سيد التى تجلس بظهرها أمام الغسيل وخرطوم المياه يمتد بشكل عرضى بين الصنبور و`الدلو` مع فرشاة التنظيف و`القبقاب ` بينما ينام سيد حبيب أمه فى سلام..هادئاً فى مقدمة اللوحة فى جلباب مخطط بالأحمر والأصفر الاوكر ملفوفا فى ملاءتها.
- فى لوحة `الطلاق` يتناول يوسف سيده موضوعا يمثل صرخة اجتماعية بنفس اللغة التعبيرية : امرأة تحمل ورقة الطلاق وأخرى تمسك طفليها بيديها.. طفلة حزينة بينما أخوها يعلن صرخة الانفصال وفى الخلفية نطل على كل أدوات الشروع فى الطلاق ومن مبنى المحكمة والشرطى والكاتب والقاضى الشرعى.. واللوحة تتردد فيها المسطحات السوداء التى تجسد الملاءات اللف والتى تكبح بشكل طبيعى جماح الألوان تمشيا مع الموقف.
* أمريكا والحرف العربى :
- يسافر سيده إلى أمريكا عام 1961 للأعداد لرسالة الدكتوراه بجامعة اوهايو وتكون المفاجأة عام 1965 حين يقدمها بعنوان ` الخط العربى فى التصوير الجدارى المعاصر وعلاقته بالتراث والفن العربى` .
- وقد اثبت أن الكلمة المكتوبة بما لها من قدسية منذ آلاف السنين فى التراث المصرى ومنذ اكتشاف اللغة الهيروغليفية تستطيع أن تقوم بدور مهم فى خلق أشكال فنية جديدة تعبر عن ثقافتنا.. كما حاول أن يعطى لعمله الفنى قيمة عالمية بتناوله لموضوعات محلية وبكلمات عربية وذلك من خلال الربط بين الحرف العربى ومتذوق الفن التشكيلى فى العالم.
- لقد جاءت أعماله من خلال المزج بين الحروف والكلمات وبين أطياف وعناصر تشخيصية.. بلغة تشكيلية قائمة على الروح التلقائية التى يسمو فيها الحرف ويبتهل ويقف وينثنى معانقا الرموز والشخوص.. بالإضافة إلى هذا المزج الرمزى لعناصر من المصرى القديم وفى هذا تأكيد على تواصل الحضارة المصرية واتصال الثوابت والأصول باللحظة التى نعيشها وروح العصر .
- لاشك أن هذا يمثل اتجاها فى الحروفية العربية يحتفى بالحرف العربى كقيمة ومعنى ولغة بصرية وينتقل به من حالة تعبيرية إلى أخرى مع هذا المزيج التشخيصى .
*هو وأكتوبر العظيم :
- إذا كان انتصار أكتوبر العظيم والذى يعد من أيام مصر التاريخية قد ألهم العديد من فنانينا فقدموا ملاحم تشكيلية..فقد قدم يوسف سيده لوحة تعد واحدة من أجمل أعماله.. جعلها أغنية لروحه الوطنية واشتياقه للنصر فذابت الحروف والكلمات مع الجنود والطيور التى تعد رموزا للغة المصرى القديم وكأنها تجدد سيرة الانتصارات المصرية من أول التاريخ .
- قد جاءت فى ألوان صداحة جهيرة أشبه بدقات طبول النصر.. وإذا تأملنا الكتابات نطالع تلك المعانى التى توحى بقوة العزيمة والنصر وتوحى بالبسالة المصرية وبطولة جنود مصر.. وتتألق الخطوط على المسطح التصويرى ممتزجة مع الجنود فى بؤره اللوحة كما تمتد على الحواف أشبه بإطار يزين الانتصار .
- ولقد تحولت الحروف والكلمات فى أعمال سيدة إلى إيقاع ارابيسكى تتداخل فيه الحروف والكلمات مع عناصر ورموز وقد تصبح الهيمنة للحروف كما فى تشكيلة الذى ينساب بسحر الكلمات محفوفة بعين فقط تطل فى بؤرة اللوحة وكأنها شاهد أو حارس لتلك الدنيا التعبيرية التى تتحدث الينا بلغة الفن.
- ربما كانت لوحة سيدة `سالى - يوسف ` إيقاعا مختلفا ونسقاً خاصا حين نطالع حسناء بوجه اخضر تتصدر المشهد قد تكون ملهمته تطل على خلفية من الحروف والكلمات وجدائل شعرها تهتف باسم يوسف وسالى..أما ردائها الفاتح فيبدو موشوما أيضا بالحروف .
- وفى لوحة ` الله نور السموات والأرض` والتى تمتزج فيها الحروف بالمآذن والقباب فتمثل حالة من الابتهال الصوفى ودنيا من التشكيل والتعبير مرفأ حالم يتعانق فيه النغم المرئى والمسموع.
- فى لوحات يوسف سيده الأخيرة مزج بين الحروف والأرقام..كما جعل للأرقام إيقاعات خاصة.. وامتدت رحلته مع تلك الإيقاعات التى تسمو بأناقة التعبير من الحروف وشفرات العد والحساب لكن بألوان هامسة خاشعة مسكونة بالنور والصفاء.. إلى أن رحل عن عالمنا عام 1994 تحية إلى روح يوسف سيده الفنان الرائد بعمق لغته التشكيلية الفصيحة .
صلاح بيصار
جريدة القاهرة - 4 / 10 /2011
- ولد يوسف سيده فى دمياط 19 يوليو 1922 وتخرج فى معهد التربية للمعلمين عام 1945، وعمل بالتدريس ومواصلة مشواره العلمى إلى أن حصل على دكتوراه من جامعة ` أوهايو كولمبس` بأمريكا عام 965 ، وهو فنان متدفق صاحب مشوار ثرى وثقافة واسعة، وهو فى ذات الوقت فنان محرك فى تكوين الجماعات الفنية مثل جماعة صوت الفنان (1945) جماعة الفن الحديث (1948) ثم جماعة الفن الحديث من خريجى قسم الرسم بمعهد التربية ، وكان معلماً تقدمياً ومحاضراً ومحاوراً طليعيا، وقد مارس فنون التصوير والخزف والرسم والنحت وتوفى بالقاهرة عام 1994.
- عرف يوسف سيده فى الوسط الفنى مبكراً منذ النصف الثانى من الأربعينيات ، حيث انصب اهتمامه على تصوير الموضوعات الشعبية، بألوان مباشرة ومتباينة بقوة سطوح حوشيه، لنتحول إلى إيقاع صاخب من ومضات ضوئية ملونة ، ولتقترب من المفهوم الشرقى والشعبى الذى تمثله الأبسطة المنسوجه والسلال النوبية المجدولة بالألياف المصبوغة الأبسطة والسلال كانت بذاتها من عناصر رسومه الأثيرة تحيط بالريفيات المتلفحات بأغطية الرأس المزركشة.
- وأثناء بحثه للحصول على درجة الدكتوراه فى جامعة ` كولومبس أوهايو ` توصل سيده إلى تفكيك عناصر لوحاته الزخرفية عن عناصرها الإنسانية، وذلك بان استعار دراسته المتعمقة لجوهر التشكيل فى الفنون الإسلامية، الكتابات المرسمة خاصة، فصور فى البداية مجموعات من النسوة يكتنزن حروفيات طوعت لتصبح بمثابة الحشوات الزخرفية الملونة، ثم تدريجياً أزاح الحروفيات عن الأجساد فى طائفة أخرى من اللوحات، ثم نزع التشبيهات التشخيصية بصوره كلية فى أعماله الأخيرة التى احتفظت بوهج التباين اللونى واشتباك الخطوط والاتجاهات مع سيطرته على التكوينات الديناميكية وعلاقة الأشكال بالخلفيات التى تشرزمت وأصبحت أشكالاً بذاتها، ولعب بالخطوط المزدوجة للألف لام المعقودة والغين والعين والفاء والقاف والطاء والمجدولة كاللام الف، كما لعب بمقاسات الحروف المتفاوتة وبالأنظمة اللونية التى تنتظمها وبالاتجاهات الحلزونية الخفية لدوران الحروف والعبارات والنقاط، لعب بكل ذلك كوسائل لترويض إيقاع لوحاته واتزانها ووحدتها مع حرصه على استخدام الألوان الأساسية مع الأبيض والأسود ليحقق بتجاورها، ومستويات كثافتها وحدة من نوع بالغ الخصوصية، وتعد أعماله من فن `البوب` المصرى من حيث المباشرة والصراحة والعبارات المتألفة مع الحياة اليومية للناس من حوله ـ وكأنها مكبرات للأحراز والأحجبه الجالبه للخير والحاميه من الشر.
- وكان يوسف سيده أول من إستخدم الأبيض الصريح فى مساحات واسعة من لوحاته التصويرية.
بقلم : د. مصطفى الرزاز
من كتاب الفن المصرى الحديث
الفنان يوسف سِيده: من الواقعية إلى لغة الكمبيوتر!
- الفنان `يوسف سِيده` واحد ممن هضمت حقهم الأقلام والإعلام، منذ بدأ عطاءه الإبداعى النشط الذى لم يتوقف طوال أربعين عاماً، مضيفا، ومجدداً الحركة التشكيلية برؤاه الطليعية، مما فتح آفاقا جديدة لفنانين أصبحوا نجوماً لامعة فى سماء الحركة، بينما بقى هو فى الظل، مغتربا داخل وطنه أو خارجه، حين اضطر للسفر إلى إحدى الدول ليعمل أستاذا جامعياً للفن قرابة عشر سنوات.
- ويوسف سِيده ينتمى إلى الموجة الثانية من جيل الأربعينات من الفنانين المصريين (الجيل الثانى للحركة الفنية المصرية بعد جيل الرواد)، وهو جيل الجماعات الفنية الشابة، التى جاءت متمردة على أوضاع الواقع والفن المحافظ آنذاك على السواء وشهد هذا الجيل ثورتين فنيتين:
كانت الثورة الأولى عام 1939 مع قيام جماعة `الفن والحرية`. وفرسانها المصورون: رمسيس يونان وكامل التلمسانى وفؤاد كامل، تحت الزعامة الفكرية للشاعر السريالى جورج حنين.
- كانت ثورة على الفن الكلاسيكى والأكاديمى ودعوة إلى ارتباط الفن بالعصر الحديث واتجاهاته الثورية فى الفكر والسياسة والفن، عندما شح نبع جيل الرواد ونضب ابتكاره، وتجميد فى قوالب أكاديمية أو محافظة، وبدا واضحا أنه قال كلمته ولم يعد لديه ما يضيفه، بعد ربع قرن من ريادته للحركة الفنية، من هنا اعتنق فرسان الجماعة الجديدة `السريالية` مذهبا و `الماركسية` طريقا... وهكذا اكتسبت ثورتهم مسحة `كوزموبوليتانية` مجردة وإن انغمست فى واقع السياسة المحلية ودعت إلى تغييره.
- وجاءت الثورة الثانية فى 1948 بقيام جماعتى` الفن المعاصر` و `الفن الحديث`، الأولى بقيادة حسين يوسف أمين، وكان ألمع فرسانها عبد الهادى الجزار وحامد ندا، والثانية بقيادة يوسف العفيفى، وكان ألمع فرسانها يوسف سِيده وحامد عويس وجمال السجينى وجاذبية سرى وداود عزيز، وقد جمع بين الجماعتين التمرد، ليس على الفن التقليدى المحافظ وحده، بل أيضا على اتجاه جامعة الفن والحرية، التى ولَّت وجهها جهة الغرب، مقتفية أثر الحضارة الأوروبية المأزومة بعد دمارها فى حربين عالميتين، فانعزلت بمفاهيمها الفوقية ولغتها الغربية المتعالية على جماهير الشعب، فكأن الجماعتين جاءتا `ثورة على الثورة`، جاءتا مناديتين بارتباط الفن بالواقع المصرى، وبالتعبير عن الطبقات المطحونه والمستغلة، لكن مع الاستفادة بمنجزات الفن الحديث عبر تياراته التعبيرية والسريالية والتكعيبية.
- وإن كان ثمة اختلاف بين فكر الجماعتين، فهو يكمن فى ميل الجماعة الأولى -الفن المعاصر- إلى منابع الفن البدائى أسلوبا، وإلى استلهام عالم الأسطورة الشعبية وانسحاق الشعب تحت نبر الاستبداد والخرافة مضمونا، فاقتصر فنهم بذلك على كونه شهادة مأساوية على عصر كامل، وتثبيتا له دون أن يدروا، على حين اتجه فرسان الجماعة الثانية- الفن الحديث- إلى التعبير عن الإنسان المصرى فى تفاعله وتلاحمه مع الواقع المرير وهو يسعى إلى تغييره، من هنا ظهرت فى أعمالهم بشاير الواقعية الإشتراكية، وتبوأ دور البطولة فيها: العامل الصناعى الجديد وهو يشق الطريق للطبقة العاملة، والفلاح الصابر وهو يتطلع بثقة إلى المستقبل، والمرأة المكافحة من أجل الحفاظ على الأسرة فى مواجهة الفقر المدقع، فكأنهم كانوا بذلك خمائر الوعى الاجتماعى الجديد، الذى نضج على نيران الهَّبة الشعبية العارمة للعمال والطلبة عام 1946، وبشارة بثورة يوليو، التى قامت بعد ذلك بسنوات قليلة.
- وإذا كانت السطور السابقة تحمل مظنَّة أن هذه الأعمال الفنية كانت أعمالا دعائية أو مباشرة، الأمر الذى يضعها فى مرتبة أدنى من الفن الخالص، فإن الحقيقة على عكس ذلك، إذ أن هذا المضمون الثورى تفتَّق عن لغة تشكيلية شديدة التميز والدينامية، أخذت الكثير عن `التعبيرية` و `الوحشية` فى أوروبا وإن لم تسقط فى أسرهما، عمادها هو `الشكل` وتحليله، وإقامة علاقات جمالية نابضة بين عناصره المختلفة، من ألوان وخطوط وسطوح متوترة، وهذا ما يجعل أعمالهم قادرة على أن تعيش برسوخ حتى اليوم، برغم تغير الظروف الاجتماعية التى عبرت عنها.
- وهذا ما نجده بوضوح فى لوحات يوسف سِيده الزيتية فى أواخر الأربعينيات، قبل أن يذهب إلى الولايات المتحدة الأمريكية فى منحته الدراسية الأولى للتخصص فى التربية الفنية (منحة فولبرايت 1950- 1951) ثم تحولت إلى بعثة من الحكومة المصرية إلى (مينا بوليس 51- 1952). ومن أهم لوحات هذه المرحلة `الخياطة` و `الغسالة`، وفيهما يعمد الفنان إلى استخدام المنظور الفوقى، مما أتاح للمرأتين الكادحين، ولأدوات العمل حولهما، أن تسيطر على الفراغ فى معمار متين ذى ألوان طاغية.
- لكن بقدر ما بدأ حياته الفنية بالعمل على تجاوز الواقع الفنى والاجتماعى القائم آنذاك، كانت حياته الفنية بعد ذلك تجاوزا متصلا للاتجاهات السائدة، حتى لما يمارسه هو نفسه، إذا ما استشعر تحوله إلى نمط مكرر، أو شيوع أسلوبه بين زملائه فى فتره معينه، مهتما دائما بأن يظل فنانا طليعيا، وكاشفا لآفاق غير مطروقة.
- هكذا نلاحظ فى أعماله طوال الخمسينيات بعد عودته من الولايات المتحدة تبلور رؤية جمالية جديدة لديه، تخففت إلى حد بعيد من أثقال التعبير الموضوعى المباشر والفكرة الصارخة واهتمت بالدرجة الأولى - ببنائية العمل الفنى القائمة على أشكال مستوحاة من الفنون الفلكورية، التى راح يتتبعها فى الأحياء الشعبية فى المدن أو القرى النائية بصعيد مصر، لكنه -إذ فعل ذلك- كان بعيدا عن فن `الحلية البرجوازية أو السياحية`، بل يمكن القول إنه كان يتطلع إلى أسلوب تعبيرى ذى روح شعبية، مستقاه من تراث يرتبط بالحياة اليومية للشعب، ولا يرتبط بالعبادة مثل فنون الحضارات المصرية الثلاث، وهو فى ذلك كان فنا كاشفا لأصول اجتماعية فقيرة، وإن كان ينضح بسمات طقوسية بدائية، ونلاحظ أن اللون كان يلعب دور البطوله فى هذه الأعمال، بقوته وصراحته وتحديد مساحاته فى ايقاع زخرفى، بما يشابه أعمال `ماتيس` و `راوده` وغيرهما من التعبيريين والضوارى، بما لديهم أيضا من ميل إلى تأكيد الخط الخارجى القائم وإلغاء البعد الثالث وتسطيح الأشكال ونلاحظ فى هذه المرحلة كثيرا من أوجه الشبه بين أعماله وأعمال معظم زملائه فى تلك الفترة من فنانى الجماعة.
- ثم بدأ -مع أوائل الستينات- رحلته مع الحرف العربى، لقد كان فى طليعة الفنانين المصريين والعرب الذين استخدموا حروف الكتابه كعنصر موضوعى وحيد فى تشكيل اللوحة، منطلقا منه إلى رؤية قومية حديثة للفن المصرى والعربى، بل لعل محاولته الأولى فى هذا المجال سبقت محاولات الفنان المصرى حامد عبد الله والفنان العراقى شاكر حسن آل سعيد، وأقرانه.
- والغريب أننا نكتشف أن إنجازه لأعمال هذه المرحلة `الحروفية` قد تم وهو فى بعثته الثانية إلى الولايات المتحدة الأمريكية (1961- 1966) إبَّان تحضيره لرسالة الدكتوراه بجامعة أوهايو كولمبس. وحين عرضها هناك أثارت ردود فعل متناقضة بين الاستحسان والاستهجان، لكنه واصل تجربته حتى بعد عودته إلى الوطن، دون أن يسقط أسيراً لأى من الاتجاهات الفنية الحديثة السائدة فى الغرب، وإن كان قد استفاد منها بدرجة كبيرة، بما يتلاقى ومنطلقاته الأصيلة، ويساعده للوصول إلى صيغة قومية جديدة لفنه.
- وليس من الصعب أن نلاحظ - فى هذه المرحلة أيضا- استلهامه للتراث الشعبى، فعلى عكس معظم الفنانين الحروفيين، لم يهتم يوسف سِيده بنقل الأنماط التقليدية والكلاسيكية للخط العربى، بل استوحى أقرب الخطوط إلى الكتابات الشعبية الساذجة على جدران البيوت فى مناسبات الحج وغيرها. وبالغ بشكل خاص فى مد حرفى الألف واللام إلى أعلى ارتفاع ممكن عن بقية الحروف، ليستخدمها فاصلا ايقاعيا متكررا فى جملة موسيقية، وكذلك فى تحديد مساحات لونية متقاطعة أو متداخله، مما يقربها من زخارف قماش `الخيامية` الذى يستخدم فى السرادقات. ولعله أيضا كان السبَّاق إلى توظيف هذه الحروف توظيفا موضوعيا -وليس جماليا فقط- حين سعى إلى تكوين بعض الجمل المفيدة من مجمل الحروف والكلمات المتناثرة، ترمز إلى معنى وطنى وقومى، وهى إن بدت أقرب إلى الفوضى والتجريد، أبعد ما تكون عن ذلك، إنما يحكمها نظام بنائى يشابه نسق الزخرفة الاسلامية، كما تحمل رسالة وطنية، لمن شاء البحث عن موضوع للعمل الفنى.
- ويوسف سِيده فنان صرحى التكوينات، صنعت لوحاته لتغطى جدرانا هائلة، جهير الألوان، صريح المساحات والنبرة، فنه لا يعرف الهمس أو المواربة، ولا ينفصل عن حياة العصر وواقع المجتمع، يعبر عنهما وينقدهما إن لزم الأمر، لكنه -فى النهاية- لغة مستقلة عن الواقع، لغة بصرية تستمد مفرداتها وبلاغتها من `الشكل` وجمالياته، إيقاعها الموسيقى يجمع بين التوقيع الشرقى المنتظم، وبين الهارمونية المركبة فى تصاعد دراماتيكى.
- وقد وجد فى انتصار أكتوبر 1973 مادة غنية لتحقيق نزوعه الوطنى الجياش، فلم يكتف باستخدام الحروف التى تكون جملا ترتبط بالحدث العظيم، بل جعل البطولة فى لوحات هذه الفترة لوجود الجنود المليئة بالإصرار، مع رموز من اللغة الفرعونية مثل الطيور، واتخذت الحروف والكلمات مكان الإطار الخارجى، الذى يدور حول هؤلاء الأبطال، فى ترديد كورالى احتفالى موحد القافية صاخب الأنغام، كالنشيد الحماسى.
- وعلى مدار السبعينات لعب `سِيده` على هذا السلم الموسيقى بإيقاعات مختلفة بين الصخب والرقة، بين الموضوعية والتجريدية، بين الاقتصار على الحروف وبين مزاوجتها بالمشخصات، وكثيرا ما كانت تستهويه اللعبة لذاتها، فيدندن بالالوان على القماش الأبيض بإيقاعات رتيبة كأنغام العود، دون التزام `بميلوديه` أوجملة موسيقية.
- فى مرحلته الأخيرة - من أواخر السبعينات حتى الآن - تحول يوسف سِيده عن الحروف إلى الأرقام العربية. وقد خفتت حدة ألوانه، وأصبحت أقرب إلى الرقة والصفاء، وصارت الأرقام دالة ورمزا لعصر هو عصر الكمبيوتر، واختناق الانسان وسط حصار الأرقام، وبزغ من خضم اللغة الرقمية الجديدة وجه الانسان بين الحين والآخر، بعيون ساكنه أو حائرة أو مستنجدة، وبدا التكوين العام للوحة -التى صغر حجمها عن ذى قبل بدرجة كبيرة - محكما إحكاما هندسيا صارما، فى متواليات عديدة معقدة، تدور فى مسارات منتظمة حتى تقترب شيئا فشيئاً وتحكم الخناق حول مركز اللوحة، الذى تبزغ منه العينان، لكن ما يخفف من وطأة هذا الشعور بالاختناق هو البهجة التى تضفيها الألوان، والطابع الزخرفى الشرقى للتكوين.
- على أن حنينه الذى لا يفتر لتأكيد هويته المصرية والعربية، جعلة يزاوج بين الأرقام الجديدة وبين حروف الكتابة حينا، وحينا آخر يكون من خلالها وجوها واشخاص تذكرنا -بصورة مباشرة أو غير مباشرة- بعروسة المولد الفاطمية ذات الجذور الشعبية، أو بالملكة نفرتيتى، أو بطابع الفن المصرى القديم على وجه العموم، لكن أشخاصه تبدوا أطيافا شفافة، لا تسطتيع أن تستخلصها من بين زحام الحروف والأرقام إلا عين حساسة مدربة. ونلاحظ أن هذه المرحلة هى نتاج سنوات غربته الطويلة بالمملكة العربية السعودية وتأثيرها النفسى عليه، سلبيا أو إيجابيا.
- وسواء فى المرحلة التعبيرية الشعبية، أو المرحلة الحروفية القومية، أو المرحلة الرمزية الأخيرة بالأرقام، فإن الهم الأساسى ليوسف سِيده كان دائما هو انتماؤه إلى حضارة مصرية وعربية، والعثور على صيغة فنية تجسد هذا الانتماء، وتضيف إلى تيار الفن الحديث فى الخارج بقدر ما تأخذ منه، متحررة من مركب النقص الثقافى تجاه الغرب، ومتحررة كذلك من مركب الاستعلاء على بنى وطنه، ومن الرغبة فى تملق ذوقهم الفنى غير المدرب فى نفس الوقت.
- ويوسف سِيده، الذى ولد بمدينة دمياط فى 19 يوليو 1922، ونال دبلوم المعهد العالى للتربية الفنية عام 1945، والماجستير فى التربية الفنية من أمريكا عام 1952، والدكتوراه منها أيضا عام 1965، يعمل الآن أستاذا محاضراً بكلية التربية الفنية بالقاهرة، وقد أقيم آخر معرض لأعماله فى أكتوبر الماضى بمجمع الفنون بالقاهرة.
بقلم : عز الدين نجيب
مجلة : إبداع (العدد 12 ) ديسمبر 1988
|