فتحى أحمد محمود أحمد
الجرافيكى .. صياد النور فى ذاكرة الفن
- ` الفنان هو ذاكرة عصره وترمومتر الوعى والوجدان لأمته ` بهذه المقولة بدأ الفنان والناقد والاديب الدكتور عز الدين نجيب رئيس تحرير سلسلة ` ذاكرة الفن ` الصادرة عن الهيئة العامة للكتاب ، تقديمه للعدد الثالث من السلسة للناقد الفنان محمد كمال ، والذى قدم فيه دراسة متميزة عن الفنان الجرافيكى الراحل فتحى أحمد ( 1939-2006 ) وقد وصف عز الدين نجيب الفنان الكبير فتحى أحمد بأن ` حواسه المرهفة كانت مضبوطة على نبضات قلب الوطن ` فى أدق فترة مر بها فى تاريخه المعاصر ، إيجابا وسلبا ، انتصارا وارتدادا ، وكانت لوحاته معبرة عن المتتالية التراجيدية ` بين صعود المشروع الوطنى والنهوض فى أوائل الستينات ثم النكسة فالاستنزاف فحرب السادس من أكتوبر المجيدة وما بعدها من أحداث ، وكان أسلوبة الفنى بعيدا عن الوصفية والرمزية أيضا ، فكان أسلوبا مبطنا بالمشاعر الذاتية الصادقة وموصولا بالذاكرة الجمعية الممتدة للمصريين ، باحثا عن لغة جمالية جديدة تحمل تلك المعانى وتتكامل معها لنقل الشحنة التعبيرية الى الملتقى عبر تقنية الحفر ( الجرافيك ) بأسلوب ( الحفر بالطبعة الفنية الواحدة ) حيث يحصل الفنان على هذه المستنسخات بطريقة يدوية قطعة بعد أخرى ، وهو أسلوب صعب لكن الفنان الراحل أتقنه وأجاده حتى صار من رواده ، ولم يتنازل عنه رغم أنه لم يدر عليه عائداً ماديا يكافىء إبداعه أو على الأقل يكفى للاستمرار فى البحث والإنتاج . وفى تمهيده لهذه الدراسة القيمة يذكر المؤلف الناقد محمد كمال ، أن فتحى أحمد هو أحد ألمع نجوم حركة الحفر المصرى المعاصر ، ووصفه بأنه نموذج فذ للمبدع الذى جمع بين حبكة الصنعة وألق الإبداع ومتانة الجذور ، ويشير إلى انه انخرط فى معطيات المشروع القومى المصرى والعربى فى الخمسينيات والستينيات فى مراحله الفنية التى رتبها المؤلف من وجهة نظره النقدية لتبدأ بالواقعية الاجتماعية مرورا بالتعبيرية الرمزية والسورياليتين الروحية والصوفية ثم التجريدية الروحية ، علاوة على تصاويره الزيتية التى لم تخرج كثيرا عن نطاق نهجه الجرافيكى .
ينتقل المؤلف بعد ذلك لاستعراض تاريخ فن الحفر ( الرسومات المطبوعة المستنسخة يدويا وآليا من أسطح مختلفة ) ، وهو من الفنون العتيقة التى ربما تعود للعصور البدائية الأولى ، وكان الصينيون أول من مارس هذا الفن بشكل منهجى تطبيقى منذ بدايات النصف الثانى من القرن التاسع قبل الميلاد وتحديدا عام 868 ق.م ثم عرفته أوروبا فى العصور الوسطى ، بينما ظهر فى مصر إبان العهد الفاطمى عبر قوالب خشبية محفورة تستخدم لطباعة المنسوجات بنقوش من زهور وورود وزخارف حتى أقبلت الحملة الفرنسية على مصر عام 1798 ومعها أول مطبعة تعرفها مصر ، وفى عهد محمد على درس بعض المبعوثين فن الحفر والطباعة ، وتطور الأمر مع افتتاح مدرسة الفنون الجميلة فى 12مايو 1908 وفى 1934 أنشأ الفنان الإنجليزى برنارد رايس قسم الجرافيك بالمدرسة العليا للفنون الجميلة ، وكان من رواد هذا الفن نحميا سعد والحسين فوزى ، وكان من الجيل الثانى سعد كامل وكمال أمين وأحمد ماهر رائف وحسين الجبالى ومريم عبد العليم ، وتبعهم الجيل الثالث ومنهم فناننا فتحى أحمد الذى درس على أيدى سابقيه من الجيلين الأول والثانى ، وهضم تعاليمهم المعرفة والفكرية والتقنية ليخرج بمشروعه الإبداعى شديد الخصوصية النابع من المشروع القومى المصرى العربى فى الخمسينات والستينيات فكان مشروع تخرجه عن السد التعامل ، وقد تميز فتحى أحمد بمهارته اللافتة فى التعامل مع الحفر على الألواح الخشبية والجلدية بالحبر الطباعى الأسود دون رغبة فى الاتكاء على عنصر الإبهار اللونى إلى جانب مهاراته التصويرية اللافته. ينتقل المؤلف بعد ذلك الى استعراض تقنيات الحفر (الطباعة من سطح بارز ومن سطح غائر ومن سطح مستو) والتى انحاز الفنان فتحى أحمد الى ألواح الخشب واللينوليوم بالحذف النسبى من بشراتها بسكاكين الحفر متنوعة الثخانات ، لتتحول فى التصميم المطبوع على الورق إلى وحدات بيضاء مختلفة الاحجام والإيقاعات البصرية .
نجوى العشرى
الأهرام - 2015/11/11
فتحى أحمد .. فنان الحفر البارز
- من الواقعية إلى الدراما التعبيرية
- ` فتحى أحمد ` فنان قدير له سجل حافل بالأمجاد الفنية ، أتكلم الآن عنه كتلميذ من تلاميذه .. أرى أن من حقه علينا أن نذكره ونذكر مواقفه الفنية والإنسانية ، قام بعمل رسوم وإخراج للعديد من الكتب والمجلات بوزارة الثقافة على مدى 23 عاماً ، كما صدر له كتاب ( فن الجرافيك المصرى ) ، ونال الفنان العديد من الجوائز الدولية والمحلية أولها جائزة الجرافيك ببينالى الإسكندرية لدول البحر الأبيض المتوسط ` الدورة العاشرة ` عام 1974 ، وآخرها الجائزة الرابعة فى بينالى أساتذة فن الجرافيك بالمجر عام 1999 ، وجائزة لجنة التحكيم بترينالى النرويج.
- ومن خلال معايشتنا له داخل الكلية رأيناه فنان فى تعاملاته ، بسيط ودقيق فى سرده للمادة العلمية التى يلقيها علينا، ومكتشف ماهر للموهبة الحقيقية التى يراها أمامه ، وحريص جداً على رعاية هذه الموهبة ومتابعتها ، له مكانة رفيعة داخل الكلية يمتلك شخصية قوية بحرصه على أن يكون فناناً بعيداً عن القيل والقال، يعيش لفنه ورسالته نحو هذا الفن، وعندما كنا نتابع معه ونسمع منه آراءه الفنية كان يتحدث من منطلق الرجل الصعيدى ابن عمدة البلد ومن داخل دوار العمدة ، وكان دائماً ما يعطينا أمثله عن أشياء وأماكن وعادات وتقاليد داخل البلد ، وأعتقد أن عبقرية ` فتحى أحمد ` تكمن فى ربطه بين فنه وأهله ووطنه المحلى ، وبهذا الربط والحب لمفردات بيئته لمع اسم الفنان إلى العالمية وأصبح فناناً له اسم عريق فى مجال الحفر البارز ، وارتبط اسمه بالحفر على الخشب .. ذلك المجال الذى عشقه وبحث من خلاله فى تراث القرية التى نبت فيها فى صعيد مصر ليذوب مع طين البيوت والفيضان والأساطير والحكايات الشعبية فى ليل القرية الطويل لتشرق شمس الإبداع لديه ليستحدث الشكل الخاص من خلال مسطح الخشب .
- تنقسم حياته الفنية إلى أربع مراحل .. المرحلة الأولى ، وبدأت فى عام 1960، حيث نجده يطالعنا بأعمال تسجيلية فى لوحات ذات نهج خاص عولجت باللونين الأبيض والأسود فقط .. وقد ظهرت فى لوحات ( السد العالى - البناء - العمال- اللاجئين الفلسطينيين - الثورة الفلسطينية )، وقد كانت انعاكاساته للحماس الوطنى والشعور القومى الذى فجرته ثورة يوليو فى ضمير هذا الشعب ، فظهر فى تلك الأعمال فى مشروع التخرج وكان عن العمل فى مواقع السد العالى حيث نجد صراع الإنسان المصرى والآله الضخمة من أجل البناء والتعمير ، والفلاح المصرى فى حماسه وتحديه للطبيعة ليحول وجه الأرض ، وسرد لنا الناقد ` فاروق بسيونى ` تحت عنوان ( فرسان الفن التشكيلى) فى مجلة الثقافة الأسبوعية قائلاً : نستطيع وبالتقريب أن نقسم أعمال الحفر لدى الفنان إلى أربع مراحل مختلفة ، فقد بدأ أولاً يقدم من خلال عين ` واقعية تسجيلية ` أعمالاً بدا فيها مهتماً إلى حد بعيد بكل دقائق وتفاصيل المنظر الذى يرسم مستخدماً فى ذلك تكنيكاً يذكرنا كثيراً بتداعيات لمساته ، كما كان يفعل ( فان جوخ) فى التصوير ، فهو تقريباً يستخدم العديد من اللمسات التى بتجاورها الشديد أو تباعدها ، والمرحلة الثانية اتسمت فيها أعماله بـ ` الرمزية التعبيرية ` ، وظهرت هذه الأعمال بعد نكسه 1967 ، حيث بدأت تلك تلك الأعمال القومية والوطنية تنهار وتتجلى لنا وتتكشف عن واقع مر شديد القسوة يدعو لليأس ، فظهرت أعمال كثيرة تعبر عن ذلك الواقع المر. مثل لوحة ( الصعود) التى تصور صفا واقفاً مترابطاً من البشر رافعى الهامات فى تحد كالقلاع رافضين الهزيمة . وبدأ الفنان بعد ذلك يدخل مرحلة جديدة اهتم فيها بالرموز بحوار اهتمامه بالتبسيط فى الشكل لكى يكسب العمل قيمة أعلى ويرتفع به من مباشرة التسجيل الذى لا يضيف كثيراً إلى بلاغة الرمز الذى لا يغرق فى الإعراب على حساب المعنى ، فوجدناه يصور خيولاً بالرغم من ضخامتها وقوتها فهى خاملة واقفة جاحظة العيون مطأطئة الرؤوس تهش بذيلها دون اهتمام ، ومن حولها تنتشر توابيت ومقابر وفرسان وهميون لهم رؤوس الكلاب، لقد تدفق لديه شعور بالخوف والتمزق بعد نكسة 1967 فانطلق يعبر عنه.
- أما المرحلة الثالثة ، فهى تتسم بـ ` العقلانية التجريدية ` والحس الميتافيزيقى المتأرجح بين السريالية والتعبيرية ، ففى أعمال تلك الفترة بدت الخطوط الهندسية العريضة تتناغم على سطوح اللوحات وتتحاور مع شخوصها لتصلنا بالمعنى الأدبى أو الهدف الموضوعى مباشرة الذى يتناول الشكل بإحكام ، ومن تلك الأعمال لوحة ( الموت فى الحدائق ). والمرحلة الرابعة عمد فيها الفنان إلى الرجوع إلى ` التراث القومى المصرى القديم والعربى ` وتأكيد الشخصية المصرية فى أعماله ، وتمثل ذلك التراث العظيم شكلياً مع التزامه الموضوعى وظهر هذا فى لوحة ( صرخة من لبنان ) ، وهى تصور مأساة الحرب الأهلية فى لبنان . وفى لوحات ( أبجدية مصرية ) ، ( ابن الحضارة القادم - نسر ونسور - دنشواى - خيول رقم 1 ،2 ) ، وهذه اللوحات تجسد أشواق الماضى وأحلام طفولته فى القرية المصرية ورصده لحاضر الأمة العربية ووطنه مصر وقضاياها ، ويقول عنه الفنان والناقد ` بيكار `: الفنان البارع هو الذى يعرف كيف يجرى مع الخامة حواراً فصيحاً خالياً من أى لكنة أعجمية ، وبهذا المنطق تتفاعل الأفكار التى يسقطها الفنان ` فتحى أحمد ` مع الخشب وتغوص فيه ، كما يغوص طرف المحراث فى التربة ليفسح الطريق للنبت الوليد لكى يطل برأسه ويحتضن النور ، ثم يختار الأشكال ذات المضمون يفرشها فوق اللوحة فى بناء شامخ ورصين ونسق متزن ومتوازٍ وينثرها فى رحاب الصفحة البيضاء مثل بقعة سوداء تخللتها أنهار النور وقنوات الضوء لتحيل اللوحة إلى مرئيات غنائية بطيئة الإيقاع عميقة الأثر فى جلال حزين ` .
بقلم : بدوى مبروك
مجلة الخيال : العدد ( 35) فبراير 2013
إحياء المصرية فى أعمال الفنان فتحى أحمد
- ربما يعتقد بعض القراء أن عنوان هذه الدراسة يحمل فى طياته قدرا من الغرابة ،إذ أن إحياء المصرية لدى فنان مصرى شىء طبيعى لا يستحق التنوية والإشادة ، ولكننا نود أن نلفت الأنظار إلى أن هذا الإحياء يبدو لنا فى هذه الفترة الراهنة جهدا محمودا بل ومطلوبا ، فالدعوة إلى المصرية فى عالم الفنون عامة ، وفى الفن التشكيلى على وجه الخصوص ما زالت تواجه الاتهامات بالتخلف والتقوقع والنمطية ، تلك الاتهامات التى يكيلها لها الدعوان إلى منهج التحديث وعالمية الفن ، عن طريق مسايرة الأساليب ، والطراز الفنية الغربية ، واتباع مواصفاتها ،فالمصرية بالنسبة لهؤلاء تعنى التوقف عن ماض ضاع واندثر ، ولا يساير عالمنا العصرى الذى تتعامل العقول فيه مع ` الكومبيوتر ` وتشكل التكنولوجيا المتقدمة أهم أركانه.
- ولقد انقسم الفنانون - فى سعيهم للحاق بركب الفن العالمى - إلى فريقين ، الأول منهما رأى فى اتباعه للأساليب الفنية السائدة فى الفن الغربى الطريق الأمثل لبلوغ فن لا يختلف عن الفنون العالمية ، والفريق الآخر آثر أن يرتبط بجذوره المصرية ، والتقاليد الفنية المتوارثة ، مؤمنا بأن تقديم إضافة فنية جديدة للطراز والأساليب العالمية المعروفة سيكون داعيا إلى تميز الفن المصرى عن بقية الفنون ، بسماته ، وعناصره المتفردة ، وإيقاعه الخاص ، وإلى هذا الفريق ينتمى فناننا فتحى أحمد .
- ومن منطلق إيماننا بأن إحياء المصرية ليس مجرد دعوة منشؤها العنجهية الوطنية ، والتعصب القومى ، لنؤكد فى نفس الوقت أنها دعوة مصيرية إذا قدر للفن التشكيلى المعاصر فى مصر الازدهار بل البقاء ، إذ أن المثقف العادى لا يستطيع إنكار العزلة التى أصيب بها هذا الفن ، ذلك لأنه ببساطة غير قادر على أن يؤثر فى المتلقى المصرى بمنطق الحداثة الأوربية ويفسر الفنانون التشكيليون هذه العزلة كمظهر من مظاهر الأمية الثقافية المتفشية ، وقد يكون ذلك التفسير صحيحا لكنه لا يعبر عن الحقيقة بأكملها .فبينما نجد أن المتذوق العادى - للأدب يسهل عليه تمييز الأسلوب الأدبى المتأصل فى المصرية ، والمتذوق للموسيقى يمكنه التقاط اللحن المصرى الشرقى والمفاضلة بين عناصره الأصيلة ، وما أقحم عليه من مؤثرات أجنبية ، فإن المتذوق العادى للفن التشكيلى لا يحظى بهذه القدرة على التمييز بين المزيف والأصيل ، أو حتى بين ما هو جيد وما هو ردىء ويرجع ذلك إلى سببين : أولهما قصر العهد بهذا الفن الذى أدت الفجوة بين ماضية الزاخر ، وحاضره القريب إلى اعتباره فن ترف ما زال ينظر إليه المجتمع كنشاط زائد وغير جاد . والسبب الثانى يعود إلى اتساع الفجوة بين الأعمال الفنية الحديثة وبين عالم المرئيات والأشكال لدى المتلقى الذى يتحرك مع الفنان فى محيط واحد من العناصر والألوان والمسطحات ،وعادة فإن عين الفنان تقوم بتحويل الموجودات المحيطة إلى خيال ملىء بالحيوية بواسطة التكامل الذى يسعى إلى تحقيقة فى عمله الفنى .بذلك يصبح الواقع المحيط من خلال صياغته الفنية وأشكاله وألوانه رمزا لعالم آخر يعمق مشاعرنا بالعالم الحقيقى .وبالتالى فإن الفنان حين يستعير أيا من الحلول التشكيلية الغربية على مجتمعه وواقعه فأنه من البديهى ألا يستقبلها المتلقى بنفس التوافق والاستحسان الذى قد يستقبل به مرئيات بيئته والحلول التشكيلية النابعة منها .
- وبهذا يصعب تحقيق التواصل المطلوب بين العمل الفنى وبين المتلقى ، ويتحول العمل إلى لغز معقد يحتاج إلى شرح وتفسير .حينئذ لا يجب أن يغضب الفنان التشكيلى إذا طلب منه توضيح عمله الفنى بواسطة الكلمات .فالفن التشكيلى فى النهاية هو لغة ، ولكل مجتمع من المجتمعات لغته التى يتواصل بها أفراده ، وبالرغم من أن المجتمع المصرى يجيد قراءة كثير من اللغات إلا أنه فى معظمه يفضل الكتابة والتحاكى باللغة العربية أو العامية المصرية، فلماذا إذن يكون الوضع مختلفا فى الفن التشكيلى ؟
- إن لغة هذا الفن تكمن فى التراكيب والحلول التشكيلية التى يستعملها الفنان ، وربما كان ذلك سببا فى صعوبة تحديد ماهية الأسلوب المصرى الصميم .وهناك على سبيل المثال بعض الفنانين الذين لجأوا إلى استخدام بعض المفردات التراثية ، مثل الحروف ، أو الوحدات الزخرفية العربية ، أو عناصر بعينها من الفن الفرعونى أو القبطى ، وأقحموها فى تركيبات هى أكثر انتماء إلى أساليب الفن الأوربى منها إلى الفن المصرى ، والمشكلة التى تطرح نفسها هنا هى أن مجرد استخدام المفردات التراثية ليس السبيل المؤدى لإبداع فن مصرى ، بل ربما يكون فى استخدامها إساءة للتراث نفسه ، والوقوع فى شرك التقولب والنمطية . ويبدو لنا أن المهمة من أجل خلق عالم جديد متفرد فى حلولة التشكيلية ، محققا بذلك صفتى الأصالة والمعاصرة التى تنقذه من حالة التبعية وتلحقه - عن جدارة - بركب العالمية.
- وفى هذه الدراسة ستعرض محاولة الفنان فتحى أحمد ونستكشف مدى فاعلية أسلوبة الفنى فى تحقيق أعمال ذات شخصية مصرية فريدة المعالم ، مرتبطة شكلا ومضمونا بالمتلقى المصرى المعاصر ، وغير منفصلة فى نفس الوقت عن جذورها المصرية الضاربة فى أعماق التاريخ .
- لقد بأت الرحلة الفنية لفتحى أحمد بلوحات مشروع تخرجه الذى قدمه عام 1964 بقسم الحفر بكلية الفنون الجميلة بالقاهرة ، واختار موضوعا له هو ` السد العالى ` ، وكان مكونا من حوالى خمسين لوحة حفر على اللينوليوم ( الجلد) .وكان بهذا أول طالب يقدم مشروع تخرجه مطبوعا ، حيث جرت العادة فى ذلك الحين على تقديم المشروعات منفذة بالقلم الرصاص فقط.
- وأهم ما نلاحظه فى هذه المجموعة من اللوحات مثل ` العمل فى أنفاق السد العالى` ، والبناء` ،` والعمل فى محطة كهرباء السد العالى ` .. أنها تخلو من أى تأثير لأساتذة الفنان ، فبالرغم من أنه يكن إعجابا بالفنانين الحسين فوزى ، وعبد الله جوهر ، وكمال أمين ، وماهر رائف ، إلا أنه لم يقتف أثر أيا منهم.
- ولقد كان لزيارته لموقع السد العالى بأسوان عام 1964- فى صحبة نخبة من أساتذة وطلبة الفنون الجميلة بدعوة من المسئولين لمعايشة الحدث القومى الكبير وتسجيله - سببا رئيسيا فى اختيار الموضوع .فقد فجرت فيه رؤيتة على أرض الواقع رغبته فى التعبير عنه مما جعله يعود إلى أسوان مرات أخرى فى فترات متقطعة لاستكمال دراساته واستكشاف جوانبه المتعددة.
- فى تلك الفترة - كما أحاطنا الفنان - كان قد اطلع على مفاتيح وأسرار استعمال الأبيض والأسود ، والاقتصار على إجراء حوار تشكيلي بواسطتهما ، وذلك بفضل توجيه أستاذه الفنان ماهر رائف ، كما قدم له الفنان عبد الله جوهر كتابا قيما عن فن الطباعة بالأبيض والأسود مما أتاح له فرصة طيبة للاطلاع على تجارب مختلفة بهذين اللونين تركت فى نفسه أثرا كبيرا. ولشدة انبهاره وإعجابه بإمكانيات هذين اللونين بدأ فى محاولات استعمالهما منذ مرحلة دراسته ، وما زال يذكر كيف كان يواجه مناظر الريف القريب من القاهرة بتلخيصات الأبيض والأسود ، وكيف استطاع بفضلهما أن يتحرر من التعاليم الأكاديمية التى تدفع الطالب إلى تسجيل الواقع تسجيلا حرفيا ، وتوجيه كل اهتمامه إلى إبراز التفاصيل وعدم الالتفات إلى القيم التشكيلية الجوهرية.
- لقد ركز الفنان فى أعمال تلك الفترة الدراسية على التلخيص والتكثيف والاهتمام بالملمس واستغلال الظل والنور لتحقيق أبعاد درامية فى لوحاته .كما كان الفن الغربى يحتل فى نظر فتحى أحمد المكانة العظمى ، إذ كان مأخوذا بأسلوب رمبرانت ، والمدرسة الهولندية فى استخدامها للتباين بين الظل والنور .كما أنه لا ينسى الأثر العميق الذى تركه فيه معرض للفنان التشيكى فانسانت هولو جونك والذى أقيم بقاعة عرض المركز الثقافى التشيكى بالقاهرة فى أوائل الستينيات ، حيث قدم فيه ذلك الفنان رؤية درامية للحرب والدمار بأسلوب واقعى ، مقتصرا على استعمال الأبيض والأسود.
- ولقد جسد مشروع تخرج فتحى أحمد العناصر الأولية التى سوف تشكل عالم الفنان فيما بعد ، وهى الاقتصار على استعمال الأبيض والأسود بدرجاتهما ، واللجوء إلى الواقع كمنهل يسقى منه أفكاره ومواضيعه وأشكاله واقتصار الفنان على استخدام الأبيض والأسود فى طباعته يعد بمثابة تحد وثقة فى إمكاناته الفنية وقدرته على امتاع المتلقى بما هو أكثر إيحاء من الألوان وهو يظل متمسكا باستعمال هذين اللونين حتى الآن على عكس غالبية الحفارين المصريين المعاصرين ، الذين أضافوا استخدام اللون فى أعمالهم المطبوعة .ونحن هنا لسنا بصدد المقارنة والتمييز بين الأسلوبين ، لكن الذى نريد تأكيده هو أن إصرار فتحى أحمد على استعمال الأبيض والأسود يدل على مدى احترامه للألوان الأصلية لفن الحفر ، ورغبته فى أن يقدم هذا الفن فى أنقى وأبسط صوره .وسوف نرى كيف نجح فى أن يجسد من خلال هذا الإقتصار واعتمادا على تفاوت درجات الظل والنور عالما ثرياً بالإيحاءات ، وقويا فى بنائه القائم على الخطوط الأفقية والرأسية وبلاغة الحوار التشكيلى بينهما .
- ويحدثنا الفنان القادم من صعيد مصر عن نشأته فى بيئة تختفى فيها الموجودات تحت أشعة شمس الجنوب الساطعة ، حيث تختفى الألوان فى الوهج ، وحيث لا يبدو من الأفق سوى خطوط صريحة تختزل الأشكال ، وتطفىء الزاهى من الألوان ، ولا يتراءى لعين الفنان فى النهاية سوى فراغ يسودة اللون الأبيض وتحدده الكائنات المتشحة بالسواد ، وربما يفسر لنا ذلك لماذا أصبح الأبيض والأسود بالنسبة لفتحى أحمد خير ما يمثل الواقع من الألوان ، بل إنهما فى الحقيقة أصبحا لدية أكثر واقعية من كل الألوان الأخرى ، وهذا ما يؤكده لنا أسلوب الفنان منذ بداية تجربته ، وحتى مرحلته الفنية الحالية.
- وفى لوحة ` العمل فى أنفاق السد العالى ` ( 1964) نجد أنها قد قسمت إلى أجزاء ، والفراغ تملأه مساحات عولجت بأسلوب يذكر بطابع الزخرفة الإسلامية بما يزيد الإحساس بالحركة والحياة ، فى نفس الوقت الذى يضفى الفنان على العمل ملمساً يوحى بالقدم والعراقة ، ويتخلل المساحات المموجة بعض الكتل والفراغات السوداء التى تكون نقطة الارتكاز ، وتخفف من حدة الحركة الدائبة وتمنح العمل قدراً من الثبات ، كما أفادت هذه المساحات السوداء فى إراحة عين المشاهد من الحركة الدائمة التى تجسدها الخطوط واللمسات المتقابلة .وعلى الرغم من اعتماد الفنان على درجتى الأبيض والأسود إلا أن مهارته فى ملء الفراغات بالتنويعات التشكيلية المختلفة قد ساعد على كسر حدة الرتابة الناتجة عن استخدام لونين لا يوحيان ببهجة الألوان الأخرى.
- أما فى لوحة ` البناء ` ( 1964) فإن الضوء يظهر فيها كعنصر من عناصر التكوين حين يتسلل مخففاً من حدة صرامة التكوين ، ويؤلف الفنان تنغيمات متعددة من الرماديات التى تقوم بدورها فى الإيحاء بمنظور وهمى ، معتمداً فى ذلك على تدرج اللون الواحد.
- فى تلك الفترة المبكرة لم يستسلم الفنان فى إنتاجه للواقعية الأكاديمية ، واستطاع بفضل التنويعات التشكيلية وإثراء السطح بالوحدات الزخرفية ، وإجراء الحوار بين العناصر عن طريق التضاد بين الضوء والظل ، أن يضفى على أعماله مذاقاً خاصاً يشى بأسلوب مستقل ورؤية تشكيلية متفردة .
- ومن ناحية أخرى أكدت هذه الأعمال الملتحمة بالواقع المصرى فى مرحلة البناء ، وتشييد السد العالى - أمل المستقبل - أنه يمكن للفنان أن يكون أكثر تعبيرا عن الحاضر ، حين يستكمل ملامح الصورة بإعادة اكتشاف الواقع الجمالى الذى خلفه له التاريخ فى صعيد مصر.
- ولم تنكشف للفنان الحقيقة بأكملها إلا بعد نكسة 1967 وما تبعها من إعادة النظر فى المسلمات والقواعد المستقرة ، فحتى ذلك الحين كان الفن الأوربى هو الصنم المعبود الذى كان الفنان - كأى خريج لكليات الفنون -يضعه موضع التأليه والتقديس ، وجاءت النكسة لتكون بمثابة ومضة نور فى الظلام أنارت الطريق، فقد أيقن فتحى أحمد أنه لن يستطيع ان يخلق لنفسه فنا مصريا حقيقيا على هدى الأنماط الأوربية ، كما وجد أن إبداعه الفنى لا يجب أن يكون تابعا فى أسلوبه ومنهجه لمن هم أكثر تقدما فى العدة والعت، وإنما يكون إرتباطه بمن هم أقرب إلى نفسه فى الرؤيا ونمط الحياة . واكتملت أبعاد الرؤيا عند الفنان بعد أن اهتدى إلى النبع الذى سيسقى منه إلهامه، وتأكدة بأنه لكى يخلق فنا مصريا ومعاصرا فإن عليه أن يكمل المسار الذى بدأه أجداده منذ الحضارة الفرعونية وحتى عصرنا الراهن.
- والارتباط بتاريخ الأجداد لم يكن يعنى بالنسبة لفتحى أحمد استعارة بعض ( التيمات ) المستنفذة فى الفن التجارى لإضفاء مسحة مصرية على العمل ، كما أنه لم يكن يعنى قولبة عناصره فى نمط فرعونى أو إسلامى دون أى تجديد .وإنما كانت المشاكل الحيوية التى يعيشها الفنان كفرد من أفراد المجتمع غير منفصلة عن رؤيته الفنية التشكيلية .ونستطيع القول بأنه قد تكونت لدى الفنان بصيرة فنية مصرية للأفكار والقضايا .بحيث أصبح يرى الأحداث المعاصرة متمثلة فى علاقات تشكيلية ممتزجة فى كيان واحد لا يمكن فصل أحد عناصرها عن الأخر.
والفنان التشكيلى فى نظر فتحى أحمد ليس مجرد مزخرف هدفه الإبهار الشكلى والمتعة البصرية فقط ، ذلك لأن الفن التشكيلى هو أيضا - كغيره من الفنون - رؤيا إنسانية ولغة راقية للاتصال بين مجموعة من البشر تعيش مناخا وظروفا اجتماعية واحدة .وهو إذ يستلهم من الفن الفرعونى أو غيره من الفنون التراثية بعض سماتها فإن ذلك لا يعنى بالنسبة له تقليدا للقديم ، وإنما هو اتصال بالجذور الممتدة فى تاريخنا الفنى العريق.
- وكان اشتغال فتحى أحمد فى مجال الإخراج الفنى لمجموعة من أهم المجلات الثقافية التى صدرت فى مصر خلال الستينيات داعيا إلى التنبه للعلاقة الوطيدة بين الشكل والمضمون فى العمل الفنى .وقد عمل الفنان بمجلات الفكر المعاصر، والشعر، والسينما، و المجلة، وفصول ، وإبداع ، واختلط بعدين من الأدباء والمفكرين والشعراء أمثال د. زكى نجيب محمود ، و د.عبد الحميد يونس ،د. فؤاد زكريا ، ويحيى حقى ، وصلاح عبد الصبور ، وسعد الدين وهبه ود . عز الدين إسماعيل ، وغيرهم ممن كان يحضر ندواتهم ، ويشارك فى مناقشاتهم ومنتدياتهم الأدبية التى أثرت فيه كثيرا من الأفكار ،وأتاحت له الإلمام بقضايا مصر الخارجية فى الفترة الراهنة .كما كان عمله فى مجال تصميم أغلفة الكتب ، ,وإعداد الرسوم التوضيحية لدواوين كثير من الشعراء فرصة طيبة لمعايشة النصوص الأدبية ، ومحاولة الوصول إلى تجارب تشكيلية توازى تلك النصوص ، ولعل أفضل نموذج يوضح ذلك تلك اللوحة التى استوحاها من قصيدة شنق زهران لصلاح عبد الصبور ( 1981) من ديوان الناس فى بلادى .ولقد دفعته ثقافته الفنية والأدبية إلى المساهمة فى مجال النقد الفنى بمجلة الثقافة حيث شارك بمقالاته فى باب الفنون متتبعا فيها النشاط الفنى التشكيلى بالنقد والتحليل والتقديم.
- كل تلك العوامل والمؤثرات انعكست على أعمال الفنان فتحى أحمد ، وأضفت عليها تلك النكهة الخاصة التى لا يخطئها الحس .ولقد كانت لوحته ` الموت فى الحدائق ` ( 1967 ) من أوائل الأعمال التى جذبت الأنظار إلى فنه المتميز ، وقد حصل بها على جائزة فى البينالى العاشر بالإسكندرية (1973) ، والتى ربما يرى البعض فيها إنتماء إلى الاتجاة الرمزى ، إلا أننا نجد فيها واقع الفنان وقد أصبح رمزا لذاته .فهو لا يقحم الرموز على التشكيل ، ولكنه يقوم ببناء عالم متكامل يستمد معناه من خلال علاقاته التشكيلية .فالمعنى الكلى يستمد من إيحاءات الشكل ولا يفرض عليه ، ومن هنا فلا يوجد رمز محدد يمكن استنباطه ، وإنما مجموعة تركيبات توحى بعدة مدلولات قد تختلف من شخص لأخر ، ولكنها فى النهاية تكون عالم ورؤية الفنان .ففى اللوحة لا نرى من الأشجار سوى جذوعها الضخمة ، أما الأغصان فقد تحولت إلى تصميمات مربعة الشكل ذات خطوط حادة تبدو كبناء معمارى فى خلفية العمل .ويردد هذه الخلفية ذات البنيان الصلب بعض الأشجار فى مقدمة اللوحة وهم مشتغلون بجمع بعض الرؤوس الواقعة على الأرض والتى تتخذ شكل المربعات أيضا مرددة نفس الشكل لرؤوس الأشجار مع تنويع فى التنفيذ النهائى للشكل والإيحاء بالعنصر الإنسانى والازدواج هنا واضح بين الرؤوس البشرية وفروع الاشجار فالموت قد أصاب كل ما يحمل معنى الحياة وإن كنا لا نعتقد أن اللوحة تمثل رؤية قاتمة للحياة ، فبالرغم من شيوع اللون الأسود الداكن فى المستطيلات التى تمثل جذوع الأشجار المصطفة فى نظام صارم ، إلا أن الأشكال المربعة تخفف بتشكيلها الأفقى حدة الخطوط الرأسية للجذوع ، وهى بفراغها الأبيض تبدو كمنافذ يتسرب منها الضوء إلى اللوحة ليمنح هذه المجردات الممثلة لعناصر الحياة بريقا من الأمل.
- وتلح فكرة الحصار على الفنان فى عدد من أعمال هذه المرحلة .ففى لوحتة ` إيزيس خلف الأسوار ` ( 1968 ) يبحث العاشق عن ضالته إيزيس عبر أسوار كثيرة متمثلة فى خطوط أفقية سوداء لا يظهر منها سوى طرق ضيقة بيضاء تكاد تكون مغلقة ، إلا أنها فى بعض الأحيان تخلق ممرات رأسية تكفى للعاشق ( بالكاد ) أن يصل من خلالها إلى ايزيس إذا تمكن من اكتشافها ، وإيزيس ترقد هناك فى نهاية اللوحة فى وضع أفقى تنتظر العاشق المخلص الذى سوف يصل إليها حتما حين يتمكن من اجتياز المعوقات.
- وقد ترددت فكرة إيزيس ، أو أرض مصر الحنون ، أو نساء مصر البسيطات فى أعمال فتحى أحمد بصور مختلفة ، ونجدها بدرجة أكثر وضوحا فى أعمال مثل ` أشواق القرية القديمة` ( 1978) ` وأبجدية مصرية ` ( 1978) ` ودنشواى ` ( 1983).
- ففى ` أشواق القرية القديمة ` نجد شخوصا ضخمة تمثل الأمومة ، وتنحنى تلك الشخوص التى تشكل هيكل العمل لتوحد الأرض بالأفق ، محتضنة أشخاصا أقل حجما لأطفال أو صبية .وشكل النساء فى حد ذاته يوحى بالبيوت الريفية التى تظهر من خلال فتحاتها المضيئة الشخوص الضئيلة الأخرى يحميها هذا الصرح الواقى الذى يمثله عالم النساء ، وتلاحظ التشابه فى طريقه انحناء النساء لدعاية هذه الكائنات الصغيرة بالانحناء عند جنى الثمار والحصاد .وبهذا تتمثل لنا بوضوح فكرة الجمع بين المأوى والأم والأرض ، وبين الطفل والبرعم النامى وشعاع الضوء ، وبين الحب والاحتضان والحصاد فكلها أشواق إلى عالم قديم يتحد فيه الإنسان مع الكون ، والقاهرى النائى بقريته الأم ، والمصرى المعاصر بالتراث الفنى الفرعونى الذى يتجلى تأثيره فى أسلوب بناء اللوحة وتوزيع عناصرها ، وفى أوضاع وإيماءات شخوصها.
- وتتجدد الإشارة إلى تلك المعانى فى لوحة ` دنشواى ` ولكن بمفهوم مختلف فى الأسلوب فالبناء الفنى هنا- مثلما يظهر فى كل أعمال هذه المرحلة - يخلو من الإبهام بالبعد الثالث ، وتتوحد فيه الأشكال الأمامية والخلفية فتبدو مرصوصة الواحد منها فوق الأخر ، وبحيث لا نستطيع تحديد نقطة بداية محددة للتكوين . وتتصدر مقدمة اللوحة ثلاث شخصيات نسائية متشحة بالسواد لا يظهر منها سوى فتحات الأعين ، والجديد فى الأسلوب هنا هو تكوين الأشكال النسائية من الأبيض والأسود فى خطوط حلزونية تضم الطفل الراقد الذى يحمل فى يده شكلا أبيض ذا استداره .وتتكرر هذه الأخاديد المتباينة فى الفراغ - الذى يمثل الأرض - بين النسوة التى تشغل مقدمة اللوحة وبين أبراج الحمام فى خلفيتها ، وتبدو تلك الأخاديد الحلزونية فى أردية النسوة كما لو كانت امتدادا للأرض التى تطوى الطفل الملفوف بما يشبه قماط الميلاد أو كفن الموت ، كما تذكرنا تلك الأخاديد الممتدة بالأرض المحروثة .وفى أعلى اللوحة تبدو البيوت الريفية وقد تناثر حولها الحمام بعضه أبيض اللون باعثا جوا من الأمل والطمأنينة ومهدئا لحدة الحوائط الصماء للبيوت، والبعض الآخر رابض فوق الأسطح موحيا - بلونه الداكن - بالقدر المحتوم .لقد تناول الفنان فى لوحته بعض العناصر المعروفة عن حادثة دنشواى الشهيرة وصاغ منها أغنية درامية فى تكوين تشكيلى متماسك ، يجمع بين الأم الحزينة والطفل المولود / المدفون ، والحمام الوديع / المنقض ) والطفل الراقد ممسكا بيدية شكلا قريبا من شكل الحمام الأبيض ، أو ما يذكرنا بالخبز الأبيض رمز الحياة .
- ولقد برع فتحى أحمد فى تنويع أسلوبه البنائى الذى يرتكز على الترتيب الأفقى والرأسى للأشكال والعناصر . وفى لوحته ` أبجدية مصرية ` التى تحمل أيضا ` التيمة ` السابقة للأرض الأم ، لا نجد أفقا محدد المعالم ، وإنما امتداد شاسع الضوء يحتوى أشكالا إنسانية متعددة باللون الأسود ، مرصوصة فى نظام أفقى ، حيث تجلس فى المقدمة نساء بدينات تحمل ملامح مصرية صميمة وتبدو فى أوضاع تقليدية ، وفى ذراع كل واحدة منهن طفل رضيع لا يكاد ينفصل عن جسدها سوى باختلاف درجة اللون حيث يمثل فراغا أبيض فى أحضان الأم .أما الصفوف التى تلى الصف الأمامى فهى مكونة من خيول وفرسان وثيران تتناطح فى خفة ورشاقة ، فى تشكيل يقارب فى تصميمه شكل الشخصيات النسائية .ونلاحظ أن التشابه فى ملامح الشخوص والحيوانات يكاد يختفى عند الصف الخلفى ، ليشترك الجميع فى ترديد حركات واحدة لا نميز فيها سوى تقابل الخطوط المتمايلة فى عذوبة محببة للعين التى تسعد بالحوار التشكيلى الصميم ، دون اهتمام بتمييز عناصر الأبجدية ، مثلما تسعد الأذن بسماع النغمات ، دون محاولة التعرف على مدلولها فى عالم الواقع.
- وفى تجربة فتحى أحمد تبدو الخيول كعنصر من العناصر المسيطرة ، فهو يعود إليها من حين لآخر / فقد أنجز لوحات خيول الحرب ( 1972) و ` الخيول رقم 1` ( 1983) ` و الخيول رقم 2 ` ( 1983) . وفى الخيول رقم 1 نجد قطيعا من الخيول السوداء متجهة ناحية اليسار بينما يوقف حركتها من ناحية اليمين فارس يمتطى حصانا أبيض ، وبصحبته مجموعة أخرى من الخيول، وبين الفريقين طريق ضيق ينتهى بتجويف تبرز منه رأس تنين أسود تماثل فى وضعها واتجاهها رأس الحصان الأبيض . ويظهر فى الأفق خلف ذلك الحيوان الخزافى شريط من الضوء تكاد تخفيه السحب الداكنة المتجمعة فى خطوط متموجة توحى بحركة دائبة ربما أراد الفنان التعبير من خلالها عن مكنونات الخيول الساكنة فى ترقب ورغبتها فى الانطلاق .وتعكس اللوحة مهارة فى الحوار التشكيلى بين الحركة المتموجة لخطوط السحب المقوسة فى خلفية اللوحة وبين الخطوط المائلة لظهور الخيول التى تشغل المقدمة وبينما تتجه الخطوط فى المقدمة نحو جهه واحدة فى كل مجموعة الخيول على حدة لتعطى الإحساس بالسكون والتوقف ، نجد أن الأقواس فى الخلفية متضادة فى الاتجاة مما يزيد إحساسنا بالحركة .
- أما فى لوحة الخيول رقم ( 2) فإن العناصر وإيحاءاتها تختلف عن اللوحة السابقة ، حيث نجد حصانين فى حالة تواجه ، يتناطحان كالثيران ، وقد رسما بدون أعين ، ونلاحظ حركة جذبهما للجام فى رعونة ، بينما يقف شخص فى هيئة فارس محارب متربصا فى يسار اللوحة ، وعلى اليمين ثلاثة مثلثات توحى بالأهرامات ربما أراد الفنان الإشارة بها إلى مسرح الأحداث ، وفى الخلفية تصطف شخوص عديدة غير واضحة المعالم ـ وأيديهم مرفوعة فى حالة استسلام أو تضرع ، وذلك كله فى بناء يقوم على التوافق بين الخطوط الأفقية والرأسية ، واحترام للشكل دون إغفال المضمون.
- ونخلص من هذه الدراسة إلى أن الفنان فتحى أحمد يجسد فى أعماله حلم الفنان المؤمن بأن طريق الهداية الوحيد هو الرجوع إلى المنبع أو الأصل أو الأم أو الأرض أو مصر أو ماضينا العريق فكما رأيتا فى أوائل أعمال هذه المرحلة الوصول إلى إيزيس كيف يحاول الفارس أن يصل إلى محبوبته بالرغم من الصعاب التى يجسدها لنا الفنان تشكيليا .ويتكرر هذا الصراع وهذه المحاولة فى لوحاته بشكل أو بأخر حتى عندما يعالج الفنان موضوعا تقليديا مثلما فعل فى لوحته الخماسين ( 1984) ، حيث نرى الرياح الخماسينية العاصفة تموج بخطوطها الحلزونية التى تلتف بأغطية رأس النسوة ، فلا نعرف أين تنتهى تلك الأغطية ، ولا من أين تبدأ تيارات الرياح ، ومن ناحية أخرى تجسد اللوحة كفاح النسوة من أجل الوصول إلى آخر الطريق فى خلفية اللوحة حيث توجد الأطلال أو المعابد القديمة أو البيوت ، ومرة أخرى نجد أن الهدف الأسمى هو المأوى أو الماضى البعيد الذى تتطلع إلى بلوغه الشخصيات.
- هذا هو عالم فتحى أحمد ، عالم تتحد فيه الأرض مع الأفق والحاضر مع الماضى ، والحياة مع الموت مثلما رأينا فى ` دنشواى` و` الموت فى الحدائق ` .والصراع الذى تواجهه شخوصه وعناصر لوحاته للوصول إلى المأوى أو المحبوبة لا يجسد لنا سوى الصراع الكامن داخل نفس الفنان لتحقيق هويته ، وطريق الخلاص الذى يربط عناصر أعماله فى بناء تشكيل محكم ما هو إلا الأسلوب الفنى الذى استلهمه الفنان من تراثه المصرى القديم بعد أن أضفى عليه من ذاته ومن واقع حياته المعاصرة.
- وفى النهاية فإن أعمال الفنان فتحى أحمد المصرية القلب والقالب معا، لتمنحنا الأمل والثقة فى إمكانية تجسيد الروح المصرية فى فنوننا التشكيلية المعاصرة .
بقلم : د.مارى تريز عبد المسيح
مجلة إبداع ( العدد 2 ) فبراير 1985.
الفنان فتحى أحمد ( 1939 - 2006 ) من رموز الحضارة إلى شواهد الموت
- ليس باللون وحده يحيا الفنان ! ..
- يبدو وكأن الفنان فتحى أحمد يجعل من هذا المعنى شعاراً لفنه .. فعلى مدار رحلته الفنية التى امتدت لأكثر من ثلاثين عاماً جعل من اللون الأسود بطله الأوحد ، فى لوحاته المطبوعة يدوياً بالحفر على ألواح الخشب ، وهو أحد فروع فن الجرافيك التى يعمل أستاذا لها بكلية الفنون الجميلة بالمنيا ، هذا بالرغم من أن بوسعه استخدم أى عدد من الألوان على ألواح الحفر وبنفس التقنية إن أراد، لكنه كان يفضل اللون الأسود وحده، وكأنه يخوض تحدياً محسوباً وهو أن يجعل منه معزوفة بصرية تحتوى بداخلها طاقة تعبيرية عالية، تنسينا صخب الألوان المختلفة ، أو ربما تجغلنا نشعر بوجودها بالإيحاء .. وماأشبهه بعازف السوناته على آلة موسيقية واحدة تقوم مقام أوركسترا بكامله !
- بعد قليل من التجوال بين لوحات فتحى أحمد، ومن التأمل فى مفردات عالمه ننسى تماما هذه القضية .. قضية اللون الأسود والأبيض .. إنه حوار يجعل من الخط أداة درامية بالغة الحيوية ، فى علاقة ديناميكية مع السطح الأبيض ، حوار يقوم على محاور رأسية وأفقية متعامدة ، وعلى مسارات متصلة ومتقاطعة ومتداخلة ، قد تقودنا إلى متاهات مليئة بالغموض ... ويضاعف من إحساسنا بذلك : أسلوبه الفنى المختزل من أية تفاصيل واقعية ، والأقرب إلى التجريد .
- هكذا ننتقل - ونحن نتأمل لوحاته - من مستوى اللغة البصرية إلى مستوى التعبير الدرامى والرمزى ، وهو المستوى الذى يتميز به فتحى أحمد ويكسب لوحاته قيمة معنوية مضاعفة ...
- فى هذه التكوينات ذات البناء الهندسى المحكم ، والإيقاع الضوئى المتصاعد ، يقودنا الفنان داخل كهوف والزمن والتاريخ ، محاطين برموز الأساطير، وبإيحاءات الحضارة لنتعرف - من خلال ذلك كله - على بواطن النفس البشرية ، بما فيها من خوف من المجهول ، وشوق إلى تجاوزه ، وانطلاق إلى اللانهائية.
- يأخذنا الفنان - عبر أبنية صرحية وبوابات شاهقة وممرات أشبه بدهاليز المعابد الفرعونية - لنجوس وسط الأعمدة والمسلات والجدران الشامخة والظلال الغامضة ، نتحسس الخطى ونحبس الأنفاس ، ويخيم علينا الصمت المذهول ، وكأننا نقترب من قدس الأقداس، أو نتوغل داخل مقبرة ملكية أو لأحد الأشراف.
- وتفاجئنا فى لوحاته - بين الحين والآخر - برموز من مصر القديمة ، وقد اختلطت برموز شعبية ، تذكرنا برسوم الوشم ، أو الرسوم التسجيلية للأحداث على جدران المعابد وبيوت القرية قبل أن تتغير ملامحها العريقة ...
- هكذا تبدو لنا أشكال من الكتابات التى تشبه الرموز السحرية أو الحروف الهيروغليفية وأشكال أخرى ترمز إلى الثعبان أو القارب أو نهر النيل بخطوطه الزجزاجية المتكررة موحية بفكرة العبور والخلود .
- إن شغف فتحى أحمد بالتعبير عن عالم الأبدية كثيرا مايجتذبه إلى رسم شواهد القبور، خاصة تلك التى تتميز بها بعض قرى الصعيد مثل قرية ` الهو` حيث ولد وعاش طفولته وصباه فى مثل هذه البيئة ، قبل أن يأتى إلى القاهرة للدراسة بكلية الفنون الجميلة أواخر الخمسينيات .
- غير أن شواهد القبور فى لوحاته ليست مجرد رمز للموت ، وهى لا تدعونا إلى الحزن ولاتبث فينا الكآبة ، فقد تحولت لديه إلى شخوص تدب فيها الحياة ، تتحاور بلغة الصمت ، متجاوزة شئون البشر إلى شئون عالم مجهول يحفه السحر والغموض.
- وبالرغم من هذا الجو الأسطورى المخيم على عالمه، فمن السهل اكتشاف ارتباطه الحميم بالواقع المعاصر، وتعبيره عن الإنسان المصرى ، ورسوخه على أرض أجداده وثقافته ، وصموده أمام تيارات الاغتراب والإذابة فى ثقافات الآخرين ، بعيدا عن هويته الحضارية.
- ونستطيع أن نلاحظ أيضاً اهتمامه بالتعبير عن بعض الأحداث الوطنية ، مثل حرب أكتوبر المجيدة ، وتلاحم قوى الشعب وصمودها الباسل ، كما نلاحظ انشغاله بالتعبير عن بعض الكوارث القومية ، مثل الزلزال الذى وقع بمصر عام 1992 م ، أو السيول التى اجتاحت جنوب الوادى عام 1994 م .
- ولم يقتصر تعبيره على قضايا وأحداث محلية ، بل عنى بقضايا إنسانية شاملة ، منحازا إلى جانب الإنسان وحقوقه العادلة ، مثل قضية البوسنة والهرسك ، فى إسقاط رمزى على قوى العدوان والمقاومة فى كل زمان ومكان .
- وسواء فى هذا أو ذلك ، لاينهج الفنان أسلوب التسجيل الوقتى أو التصوير الواقعى ، بل يعطى الإيحاء الرمزى غير المباشر، بما يسمح للمشاهد بإطلاق خياله الكامن ، مشاركا فى البحث عن المعنى ، والوصول إلى دلالات متعددة تختلف من مشاهد إلى آخر .
- وبالرغم من قناعة فتحى أحمد باستخدام اللون الأسود وحده فى لوحاته الطباعية ، فإن حنينه لم يتوقف لرسم لوحات تصويرية بألوان الباستل أو الزيت أو بغيرهما من الخامات، وقد عرض مجموعة منها لأول مرة ضمن أحد معارضه بقاعة اخناتون بالزمالك، مستوحيا إياها من مناظر الطبيعة المصرية بالريف ، لكنها تضمنت أغلب ملامح أسلوبه الفنى، وإن تخففت من أبعاده الأسطورية والرمزية.
بقلم : عز الدين نجيب
من كتاب ( الفن المصرى وسؤال الهوية بين الحداثة والتبعية )
|