رسالة إلى الفنان فاروق حسنى : .. أحمد عبد الفتاح الفنان المنسى
- تلك الريشة` التى تسبح فوق سطح الورق أو التوال ، لتمر برهافة على وجه أم مصرية تجلس جوار النافذة لتنسج بخيوط التريكو كنزة تدفئ صدر وليدها ، أو تحيك لطفلتها فستان العيد .تلك الريشة التى تنغمس فى باليته الأزرق الزهرى ، وأحمر الياقوت، لتنسج ثوبى فلاحتين مصريتين رشيقتين تسرعان الخطو نحو السوق ، تحمل إحداهما ، فوق طرحة سوداء تغطى شعرها جوال قمح ، وتحمل صاحبتها جوال شعير .تلك الريشة التى تنساب انسياب الماء من ` الكوز ` فى يد امرأة تجلس القرفصاء لتغسل شعر صغيرتها المنكفئة برأسها فوق ` طشت ` الغسيل .تلك الريشة التى سجلت تفاصيل حياة البيت المصرى ، وأرخت كفاح الفلاح وحبه للحياة ، وقبضت على الفرح فى عيون الأطفال ، حزينة .تجرب الحزن الآن ، الريشة التى نهلت من بهجة الأكواريل والجواش والزيت والباستيل .لأن صاحبها طار عن الدنيا، تاركا وراءه علب ألوان مطرقة ،وخمسمائة لوحة ، فى حدادها ، تهدد بالفناء .
- فى أبريل الماضى ، كتبت بعمودى بالمصري اليوم مقالاً عنوانه ` قبل أن يطويه النسيان ` حول الفنان التشكيلى المصرى الراحل أحمد عبد الفتاح .ذاك الذى دفعه كبرياؤه ومحبته العزلة ،إلى الزهد فى الأضواء ، فمضى ` العملاق الصامت ` ، كما سماه الفنان حامد عويس ، عن عالمنا دون أن يقيم معارض ، تقريباً .أقام أبناؤه معرضاً فى متحف ` محمود سعيد ` حقق نجاحا مدهشا ، أوصى ، على إثره ، د.أحمد نوار ، ولجنة متخصصة ، بالحفاظ على اللوحات الخمسمائة تحتضر يوما بعد يوم .فلا أحد تحرك لإنقاذ ذاك التراث الثمين .لكن ابنه الأستاذ ماجد عبد الفتاح ،بالمعاش ، لم يكف عن محاولة رد الاعتبار إلى أبيه الراحل ، الذى بعد لم ينل حقه فى حركة التشكيل المصرى ، رغم أنه من الرعيل الأول الذى دشن جماليات جديدة للفن المصرى الحديث .وصلته ثلاث دعوات من بينالى فلورنسا بعدما فحصت لجنته العلمية لوحات الأب .
- اخرها كانت للمشاركة فى بينالى ديسمبر 2011 راسل السيد ماجد مكتب الفنان فاروق حسنى ، فاتصل به فوراً سكرتيره وأخبره أن الوزير مهتم بالأمر ، وينتظر سيرة الوالد الذاتية واسطوانة اللوحات وبدأ الحلم ينتعش فى قلب الابن بعد مهاتفة سكرتير الوزير ، فأخيرا ` سيأخذ الفنان حقه!` لكن شيئا لم يحدث ! وبعد شهور من تكرار المراسلة وعدم الرد ملأه اليأس فصرخ قائلا: ` لو كنت أصغر سنا لحملت اللوحات إلى كورنيش الإسكندرية فى وقفة احتجاجية !
- أحلام بسيطة ومشروعة يحلمها أبناء الفنان الراحل .يحلمون ، وأحلم معهم ، أن ينال فنان مصرى طار عن دنيانا بعض حق لم ينله فى حياته .يحلمون ، وأحلم معهم ، أن يحتل اسمه موقعه الذى يليق به مثل معاصريه الذين حصلوا على مكانتهم فى وطنهم يحلمون ، وأحلم معهم ، أن يهتم قطاع الفنون التشكيلية بإنقاذ تراث فنان مصرى .تلك اللوحات المكدسة فى منزل قديم متصدع آيل للسقوط فى حى محرم بك بالإسكندرية ، قبل أن تنال منها أنياب الزمن الشرسة يحلمون ، وأحلم معهم ، أن يدرج د. أحمد زكى بدر فى مناهج التعليم الابتدائى والإعدادى والثانوى مادة ` الفن التشكيلى `. يضم كتابها المدرسى لوحات لفنانين مصريين وعالميين ، مع قراءة نقدية مبسطة لكل لوحة ، حتى تنشئ جيلا مصريا جديدا غير جاهل بهذا الفن الرفيع ، الذى يهذب الروح وينظف الدماغ من غيوم الظلام .
- فى لحظة يأس من تحقيق ما سبق من أحلام بسيطة وطيبة ، فكر الأبناء فى بيع لوحات أبيهم ، ليس طلباً للمال ، بل ربما ، حسب ظنى ، لكى يتخففوا من وطأة مطاردة اللوحات .فللوحة عيون معاتبة ، وألسن تنطق باللوم ، تقول : ` مات من رسمنا ، بريشته ودمه وأعصابه ، فغدونا يتامى! وأنتم ، أبناؤه ، ماذا قدمتم له ، ولنا ؟ هل تتركوننا نزوى وتمحو ألواننا ممحاة الشيخوخة ؟ ` فكروا فى التخلص من هذا الميراث الضخم المعذب اللوام، بأن يلقوه عن كواهلهم ، فيستريحوا! لكن كلمة حامد عويس أعادتهم إلى صوابهم .
- إذ قال : ` متبعوش أبوكم ببلاش! ` أسر لى الأستاذ ماجد بأنه على استعداد لأن يهدى لوحة لكل متحف فنون تشكيلية بمصر، على الأقل سيضمن لها مكاناً آمنا يستودعها فيه ، فيفيد منها الناس ، مثلما تزين لوحته ` أمومة ` ، إحدى قاعات متحف الفن الحديث .
- أناشد الفنان التشكيلى فاروق حسنى ، وأنا أعلم ماذا يعنى لدى الفنان هلاك لوحة تشكيلية ، أن ينقذ إرثا مصريا مهما مكوناً من 500 لوحة توشك أن تهلك فى مخزونها المعتم بشقة مهجورة فى عمارة تهدد بالسقوط .
فاطمة ناعوت
جريدة المصرى اليوم - أكتوبر 2010