منير داود كنعان
- بعد ان انتهيت من جولتى فى معرض صديقى الرسام منير كنعان سألنى .
- ايه رأيك ؟
- قلت : انت راجل مجنون .. وكنت أعلم أن هذا التعليق سيسره لأنه يدل على مدى انغماسه فى عالمه الخاص الذى خلقه لنفسه لوحات مربعة ومستطيلة ومستطيلة جداً مملوءة بالبقع الملونة التى تستطيع أن ترى مثلها فى ` معجنة ` أى نقاش عندما يعجن الأحمر بجوار الأبيض بجوار الأصفر إلى آخر ما فى الألوان على شرط أن يكون هذا النقاش قد ألقى معجنة النهاية بعد أن استهلكها تماماً ولم يعد يجد فيها مكاناً جديداً لعجنة أخرى .
- ثم هناك لوحات أخرى عبارة عن أشياء ملصقة بالصمغ أسلاك معقدة وأصداف مهشمة وجرائد ممزقة ونافذة خشبية مخلعة ومبقعة وغربال مهلهل وقد ألصقت بجوار كل هذه ` الأعمال ` قطعة صغيرة من الورق تحمل رقمها .
- إن مقدرة الفنان كنعان لا يشك فيها أحد وهو لم يلجأ إلى مثل هذه الشطحات لعجز أو قصور ولكن لأنه ` يريد ` ذلك وقد أعجبنى أنه يريد فيفعل ما يريد ولكن أحزننى أن أحداً لم يفهم ما يريد ولم يستطع أحد أن يدخل معه إلى عالمه الخاص الذى خلقه لنفسه .
صلاح جاهين
صباح الخير ـ الخميس 10- مارس 1960
- إن منير كنعان هذا الفنان المعروف بتجريديته له جذور عميقة فى الفن التشخيصى بسبب عمله كمصور منذ 1940 فى المجلات الكبرى التى تصدرها مؤسستا الهلال وأخبار اليوم أولا وثانيا لأنه مارس هذا الأسلوب طيلة عشر سنوات من حياته الفنية .
- من البداية دخل فى محاولات لإلغاء الموضوع والرواية من عمله واستطاع من هذا المنطلق أن يشيد لنفسه أسلوباً خاصاً وأن يطرح قضايا تشكيلية تشبه إلى حد كبير القضايا التى طرحها فى عالم التشكيل كل من asper Johns rauschenberg
- فى الولايات المتحدة فى نفس المرحلة الزمنية من هذا المنطلق تصبح المادة والعمل عليها العنصر الأساسى للأداء الفنى والكافى بذاته لخلق الجمال وإثارة الأحاسيس الفنية وقد تمخضت تجارب كنعان فى هذه المرحلة عن مجموعة من اللوحات الزيتية على القماش تحمل عنوان `الجدار ` وذلك فى الفترة من 1960 إلى 1964 .
- إلا أن كنعان لم يزل يحتاج إلى الحركة فى عالمه الفنى وهى العنصر الذى يرتكز عليه فى مجموعة أخرى من اللوحات بالزيت على القماش تحت عنوان إيقاعات ` وكذلك فى دفقات فى أعمال الكولاج وهو الاتجاه الذى تغلب على ساحة أعماله الفنية الفنية منذ نهاية الستينات .
- وإن كان منير كنعان قد استلهم هذه التقنية من مدرسته فى البصريات إلا أنه أتقنها إتقاناً كاملاً فى مجموعة من أعمال الكولاج يستخدم فيها القصاصت الملونة ليخطف عين المتفرج جاذباً إياه إلى دوامة الخيال البصرى إلا أنه لم يكن فى وسع كنعان ألا يعود إلى ` التصوير ` بمعنى الاستخدام المباشر للفرشاة والألوان إلا أنه فى هذه العودة كان يصطحب معه الكولاج فمنذ نهاية السبعينات وهو يخوض تجربة جديدة يزوج فيها الأسلوبين فى ميلاد لوحات تجريدية يمزقها ثم يعيد تركيبها فى صياغة جديدة تجعل من ساحة اللوحة لعبة انعكاسات وإشارة ذاتية .
كريستين روسيلون
كنعان والضوء المقصوص
- كنعان من مواليد القاهرة العام 1919 ورحل العام 1999، ومن الفنانين النوادر الذى تألقوا على المستوى الفكرى والإبداعى مواكبين لحركات التحول الفنى فى العالم وظهرت حداثته فى الفن مبكراً منذ بدايات الخمسينات مواكبة للفنان أنطونيو تابيس الفنان الإسبانى رائد التجريدية الحديثة فى العالم مما يضعنا أمام أسئلة هامة تحتاج إجابتها لأبحاث ميدانية للكشف عن البدايات لكل منهما وأى التجارب كانت سابقة عن الأخرى وكانت أولى تجريدياته خلال العام 1945 أى منذ ستين عاماً، يقول عنه الفنان / أحمد فؤاد سليم ` برغم كونه ظل على الدوام متسائلاً عما حوله، مفتقداً لشىء لا نراه ولا نعرفه ، وقد غمت عليه دهشة الطفل وروحه، فلو أنت جلست قبالته لجمعتك به أشجان فى الزمن وفى التاريخ وفى الفن وفى الإطاحة وفى الثورة، وفى الغضب، بل وفى التصوف، وفى كشف الغيب كذلك ولكنك ستظل بنفس القدر على يقين بأن كنعان الآخر كنعان الذى يفجر الطاقة ويشعلها حين يقف أمام قماشة الرسم `. وكنعان لا يهدأ فهو فكر ديناميكى وجسد حركى متوتر وقلق.. فالفنان الوحيد الذى أعرفه يرسم فى كل مكان فى مكتبه بجريدة الأخبار فى منزله فى منزلى.. دائم المبادرة لم أره مرة فى حياتى جالساً لأنى كنت أزوره كثيراً بحكم مجاورة منزلينا بالمهندسين، ومتواصل التعبير الحى عن أفكاره، لذلك فقد انعكست شخصيته وإيقاعها على فنه العظيم، فكان عاشقاً لورق الكرتون وورق علب الأفلام وجميع الأوراق التى تتصادف مع عينيه يحولها من مخلفات عديمة الفائدة إلى لوحات عظيمة الفائدة، ويذكرنا بالفنان بابلو بيكاسو.. فى رحلته التى مرت عبر مراحل فى منتهى الأهمية بدءاً من رسمه الأكاديمى الكلاسيكى مروراً بالتعبيرية والسيريالية والتجريد … الخ . ولم يتوقف عند هذا الحد، فيعتبر من الفنانين الذين اثروا فن الرسوم الصحفية على مدى عقود ، ومعرضه العبقرى الذى أقيم بقصر الفنون كان شاهداً على نموذج رمز غير متكرر فى حياتنا الفنية، رمز فى الإبداع والتألق ورمز فى الأخلاق وحبه للناس وتقديره لقيم البشر، من نوعية خاصة نادرة الشفافية، ونقية المشاعر والأحاسيس، الكتابة عن فن وحياة وشخص كنعان تحتاج إلى موسوعات وعقود للتوغل فى مصادرها، ومرجعياتها، والكشف عن أسرار تميزه وعبقريته، ودراسة البعد الفكرى السباق .
أ.د./ احمد نوار
جريدة الحياة - 2006
كنعان .. نصف قرن من الإبداع
- ارتبط اسم الفنان الكبير منير كنعان بمجلة `آخر ساعة ` التى قضى نصف قرن من عمره وعمرها مخرجا فنيا ورساما لأغلفتها ورسومها الداخلية ومطورا للإخراج الفنى لصفحاتها .. حتى أنه أسس مدرسة خاصة فى الإخراج الصحفى وأغلفة ` آخر ساعة ` المتفردة فى حجمها منذ الخمسينات .. وقد كان كنعان قفزة فنية كبرى فى تصميم أغلفة آخر ساعة منذ 32 عاما والذى أعتبر ثورة فى تصميم أغلفة المجلات العربية مازجا فيه بين المذاهب الفنية الحديثة وتصميم الغلاف كذلك تعد صفحات إخراجه لعدد من الحلقات المسلسلة نموذجا يدرس للإخراج الصحفى باعتماده على القيم التشكيلية والصحفية معا.. فكان مواكبا لحركة الفن العالمى ومطبقا لها على صفحات المجلة وأغلفتها بما يرقى بالذوق العام ..
- ومنذ بداية الخمسينات صمم الفنان كنعان اسم `آخر ساعة ` التى مازالت على رأس غلاف المجلة إلى اليوم منذ بدأت عمليات تطويرها والتى رسمها خطا كنمط فنى غير مكرر فى شكل ترابط الحرف العربى .
*قصة دخوله `آخر ساعة ` مرتين :
- ويعود دخول منير كنعان إلى دار أبار اليوم كما جاء على لسانه فى حوار معه فى مجلة `عين ` للفنون بقوله : `ذهبت إلى آخر ساعة لأنهم طلبوا منى عمل رأس المجلة خطا أى أن أكتب اسـم `آخر ساعة `عربيا وإنجليزيا.. وذهبت أسلمهم الاسم مرسوما.. وهناك قابلت حسنين هيكل وكان التابعى قد ضمه إلى `آخر ساعة ` وعرض على هيكل أن أعمل معهم.. ولكن التابعى كان يجدد المجلة كى يبيعها لعلى ومصطفى أمين بمحرريها وانتقل المحررون ومنهم حسنين هيكل وسعيد عبده وصاروخان إلى الأخبار وأصبحت أنا بلا عمل..وفتحت بعدها مكتبا صغيرا للاعلانات وكنت أرسم الدعاية المطلوبة وكسبت وقتها كثيرا.. ثم طلب منى إميل وشكرى زيدان أولاد جورجى زيدان العمل فى دار الهلال .. وبدأت معهم تجربة العمل بالصحافة لمدة ثمانى سنوات كنت أرسم فيها كل شئ .. ويكمل كنعان قصة مشواره إلى `آخر ساعة `قائلا : ` ثم استدعانى هيكل بعد ذلك لأعمل معهم فى الأخبار عام 1953 وبذلك أدخلنى هيكل عالم الصحافة مرتين.. الأولى أيام التابعى والثانية بعد أن اتجه هو لإصلاح وتطوير `آخر ساعة ` بعد أن فاجأنى بمكالمة تليفونية قال لى فيها : ` أنا هيكل عايز أشوفك `.. فذهبت إليه وقال لى : ` تعال اشتغل معايا ` .. فقلت : ` فين ؟ ` قال ` فى آخر ساعة وراتبك ثمانية جنيها ` وفى اليوم التالى كنت أفكر فى إميل زيدان وكيف سأترك دار الهلال ؟`..
* شاركت أحداث وطنى الكبرى بالرسم :
- ويقول كنعان حول دوره كرسام فى مواكبة أحداث الوطن بالرسم فى حوار أجراه معه الكاتب محمد همام قائلا : ` وفرت لى الصحافة.. و ` آخر ساعة ` تحديدا فرصة كى أشارك وطنى أحداثه الكبرى.. لم أتخلف أبدا وسجلت باللون والخط الكثير من ذلك وكنت شاهدا على العصر .. رسمت المئات بل الآلاف من اللوحات التى سجلت أحداث الوطن وأحلامه وتاريخه وعواطفه وطموحاته وفنونه ونبضاته وقد رسمت غلافا لـ `آخر ساعة ` عن الوحدة بين مصر وسوريا كان مثار إعجاب وتقدير عبد الناصر ` .
- ويضيف كنعان فى نفـس الحوار : ` حين عبر عبد الناصر عن إعجابه بغـلاف رسمته لمجـلة `آخر ساعة ` طلب مصطفى أمين من على أمين رفع راتبى سريعا وبالفعل ارتفع راتبى فى الشهر التالى ..
* بين ` آخر ساعة ` ومرسمه بالقلعة :
- طوال أكثر من نصف قرن مع إبداع لوحاته ونصف قرن من مسيرته فى ` آخر ساعة ` كان يوزع كنعان وقته بالتساوى ليستغرق موهبته مع لوحاته فى مكتبه بعد الظهر ومن مرسمه بدرب اللبانة طوال الليل لتخرج إبداعاته ملتحمة وثقافة المثقفين من كوكبة الطليعة الفكرية والصحافية والفنية بمصر وأيضا بالشارع المصـرى وأولاد البلد وكونت لـدية خبرة ثرية وعميقة بثها أغلفة
`آخر ساعة ` ورسوماتها الداخلية المصاحبة للموضوعات والروايات والتحقيقات والقصص القصيرة.. فرسم بألوان الباستيل والمائية والزيتية والفحم الحياة اليومية فى الأحياء الشعبية والمقاهى والمساجد وأولاد البلد فى احتفالاتهم بالأعياد والموالد وفى الأسواق والحارات والسجون وتميزت أبرز ملامح فترة الأربعينيات بإبداعاته لمجموعة `البواكى ` والمقاهى ` والبورترية النسائى ` .. وكان يسجل بفرشاته لـ ` آخر ساعة `فى جولاته الشهيرة فى مطلع سنوات الثورة رسوم المحاكمات حين لم يكن مسموحا لكاميرا الفوتوغرافيا الدخول لأماكن حساسة فرسم المحامين والقضاة والمتهمين والجمهور فى رسوم اسكتشية سريعة تذكرنا بأعمال العالمى الفرنسى ` دومييه` للقضاة والمحامين.
- وظل كنعان يقدم قيمه الفنية خلال رسوماته الصحفية مرتقيا بالذوق العام وأيضا مقدمها فى صورة سهلة شديدة التعبيرية والانسانية البليغة.. كما رسم كنعان أرض مصر وناسها فى الصعيد والوجه البحرى والصحراء .
- ثورة فى تصميم الأغلفة من آخر ساعة :
- والفنان كنعان استاذ ورائد فن الكولاج فى مصر واستاذ فن الإخراج الصحفى أسس كمستشار فنى لـ ` آخر ساعة ` ولمؤسسة أخبار اليوم مدرسة فى الإخراج وترك عددا من الأغلفة أكثرها يعد ثورة فى تصميم أغلفة المجلات العربية بدءا من العدد الصادر فى 21 ديسمبر 1977 منذ 32 عاما ربط فيه بين الـفن الـصحفى والمدارس الفنية الحديثة .. كما ربط الإخراج الفنى لـصفحات `آخـر ساعة `الداخلية أيضا بمدارس الفن الخاص فى إخراجه لأبرز الأعداد التى ضمت حلقـات `كنت صديقا لديان ` و `غواصة مصرية وراء جاسوس إسرائيلى ` التى نشرت عامى 1976-1977 والتى تعد درسا ومنهجا كاملا فى فن الأخراج الصحفى مستفيدا من المذاهب الفنية ` السيريالية ` و ` التجريدية ` و ` الرمزية ` و ` المفاهيمية ` فى عناصر تشكيلية بمزجه المادة المكتوبة والصورة الفوتوغرافية بين البوزتيف والنيجاتيف ليبدو الإخراج الصحفى مستخدما للرمز فى التعبير عن الرسالة الصحفية والصورة التشكيلية وتعامل معها بما يقرب من فكر الفن المفاهيمىart Conceptval كذلك نراه فى مقاطعه الجريئة المختزلة معتمدا على الرؤية الجمالية للمذهب التجريدى Abstract art بما يجرد الفكرة إلى صورة مجزأة فى متتالية ثم نراه يستخدم فن الكولاج Collage فى تركيب الصور بعد تقطيعها وإعادة تقديمها فى متتالية أو متداخلة رابطا فى تركيب نهائى بما يوحى بلوحة سيريالية - Surreal - ism جاعلا لكل عنصر مجاله الخاص وباجتماعها معا على مسطح واحد كان يوحى بأداء سيريالى مفرط لتلحق الكلمة المقروءة بما هو غير منظور تركيبيا ونفسيا وما يتركه لدى نفس القارئ من حس رفيع المستوى فنيا وبصريا وإعلاميا ..
-أما غلافه الثورة فى مجال تصميم أغلفة المجلات العربية فنراه اعتمد فيه على حلول جديدة بتقديم كولاج لعدة أوجه نيجاتيف لوجوه ملوك وباشاوات قدامى مستخدما فوق وجوههم علامة الرفض (x ) باللون الأحمر وهذه المرحلة ظهرت متزامنة مع لوحاته التشكيلية كولاجية التركيب والتى بها ظهر هذا الغلاف جرعة مكثفة صورة ودلالة من خلال الوجوه النيجاتيف والعلامة الرافضة ليؤكد قيم وفكر المدرسة المفاهيمية .
فاطمة على
آخر ساعة - 2009
كنعان .. مايك .. منير .. الأحمر القرمزى بكرة الناس تفهم
كنعان لغويا الأحمر القرمزي وتاريخيا لون بشرة واسم شعوب سكنت الشام (4000ق.م) نسبوا إلي كنعان بن حام بن نوح. وانتهت حضارتهم وبقي الاسم للأجداد في مناطقهم القديمة ومنها لبنان التي جاء منها داود نمر كنعان.. ليقيم في حي الظاهر ويتزوج مصرية أنجب منها طفلا 1919 م ومات بعد عامين وتركه لرعاية خاله .
حير الطفل (ميشيل) أمه بشخبطاته علي الحوائط ثم وهو في أولي سنواته بمدرسة الجمعية الخيرية رسم علي ظهر الكراسة وجه مدرس الإنجليزي الذي احتفظ بها وأعطاه كراسة جديدة ليجد الخال أن عمل الصبي بالفن يعين الأسرة فألحقه بورشة تصميم إعلانات لأجنبي بخمسة قروش يوميا 30 قرشاً في الأسبوع ويتعلم الصبي الدقة والالتزام مع حرية تجريب أفكاره البكر فاكتسب الخبرة مع الموهبة ليأخذ 25 قرشاً في اليوم ليشعر أنه رسام عالمي فحاول بيع صوره الخاصة ولم ينجح حتي رأي ضابط إنجليزي صورة له عن ملكة إنجلترا فعينه رساما للخرائط في الجيش الإنجليزي بعشرة جنيهات فتعلم الدقة من الحفر بقلم حديدي علي لوحه معدنية ثم جاء لمصر الرسام الأمريكي جون باك فتتلمذ علي يديه ثم سكن في بيت الفنانين بدرب اللبانة ليتعلم ويتناقش ويجرب فتأهل للعمل في دار الهلال يرسم أغلفة مطبوعاتها الشهيرة عربيا روايات وكتاب الهلال فاكتسب شهرة عند معجبات للفن يجمعن رسوماته في كشاكيل خاصة تضع الأقدار إحداهن في طريقه فتغير مسار نصف عمر نضج إبداعه بعد الأربعين.
الأربعاء 23 ديسمبر 1953 العدد (ألف) لمجلة آخر ساعة وعمرعشرين (52 عدداً سنويا) صدرت 1934 وبعد 12 عاما امتلكتها أخبار اليوم 1946 وتم تطويرها بعد 7 سنوات لكن رئيس تحريرها الشاب محمد حسنين هيكل رأي الاحتفال بتطوير شكل الاسم ورسومات الغلاف والتوضيب الداخلي، فاستدعي الفنان الشاب ميشيل كنعان من دار الهلال وعينه بثمانية جنيهات فرسم الاسم المستمر حتي الآن علي 3 أعمدة وجعل حرف الهاء بشكل ساعة مستديرة في تصميم هندسي بعيد عن قواعد الخط العربي وأعاد توضيب وتصميم الموضوعات ونفذ فراغات بيضاء لراحة عين القارئ وجعل للصور أشكالاً هندسية وترتيب الأخبار وصورها ونشر لوحاته الفنية علي صفحة كاملة لقصص وروايات وموضوعات وبدأ يجوب الأحياء الشعبية ليرسم أهلها ترافقه صورة فوتوغرافية له يؤدي عمله علي كرسيه الصغير وبكامل أناقته..
وظهر العدد الألف بغلاف بريشة رخا
في 30 ديسمبر ( 1001) ظهر أول غلاف لكنعان (علي باب حارتنا) فتاة تربط رأسها بمنديل شعبي (بأوية) بعيون زرقاء في معصمها غوايش ذهبية وخلفيتها حارة ضيقة بيوتها متهالكة تركن علي الحائط عربة كارو وسيدة تحمل مشنة خضار.
وفي 6 يناير يرسم (صور من الحياة في حارتنا) و (كيداهم) فتاة شعبية بالملاية اللف وتنشر الغسيل وتشتري خضار من عربة يد وتلتقي حبيبها حمودة القهوجي. وفي 13 يناير 1954 يرسم جمهور حفل أم كلثوم من مجلس قيادة ثورة يوليو عبد الناصر ومحمد نجيب وصلاح سالم والبغدادي مع نشر الصور الحية وتوالت رسومات عازفي الأوبرا وسوق السمك وحواري القاهرة.
وفي 24 فبراير يرسم غلافاً لفتاة في حالة شجن وكتب أسفلها.. أشكي لمين الهوي من أغنية محمد عبد الوهاب.
لا تنسي آخر ساعة نجمها الجديد فتقدمه في باب قلوب في البريد (قصة فنان) علي آخر عمود في الصفحة الأخيرة 43 بصورة لكنعان واقفاً ببذلته علي مكتبه يتابع لوحاته ليكتب إبراهيم المصري إذا رأيته ظننته في سن السادسة عشرة وإذا كلمته ظننت أنه في سن الستين لكنه في سن 34 ولد في حارة بالفجالة وتيتم في سن سنتين وتعلم في جمعية خيرية وكان لا يملك ثمن الورق فرسم علي حائط البيت وترك المدرسة ليعمل في محل تجاري للإعلانات مقابل خمسة قروش في اليوم ليقبض 30 قرشاً في نهاية الأسبوع فيشعر بأنه رجل مسئول يتقدم في عمله ليأخذ 25 قرشاً ليشعر أنه أصبح من الرسامين العالميين وحاول بيع صوره ولم ينجح حتي رأي ضابط إنجليزي صورة له عن ملكة إنجلترا فعينه رساماً للخرائط في الجيش الإنجليزي بمرتب عشرة جنيهات ثم جاء الرسام الأمريكي جون باك فتتلمذ علي يديه وبدأ يتجه للمجلات وعثر عليه الفنان الأرمني صاروخان فعينه في آخر ساعة.. يعمل 15 ساعة في اليوم وله مرسم خاص في القلعة. واستمرت آخر ساعة تقدم نجومها من حسن دياب عبقري التصوير والرسامين صاروخان وبيكار ونجوم الفن والفكر لتضعهم في مصاف العقاد وطه حسين علي مدي عامين( 104 شخصيات ).
في 12 مايو 1954 نشرت موضوعا عن محاكمة عسكرية إنجليزية أقيمت في سينما معسكر جاريسون بالإسماعيلية (معسكر الجلاء 1956) للجندي الإنجليزي المخمور الذي قتل الملازم فريد ندا من شرطة فايد ومنعت السلطات الإنجليزية التصوير فحضرها كنعان ورسمها وأفلت من ضابط المخابرات الإنجليزي ومعه المحرر مهدي صادق وكانت الحادثة في مساء 11مارس 1954 وتمت المحاكمة الثلاثاء 4 مارس وكان العدد السابق قد طبع لكن آخر ساعة عندها تمايز لتنشر بعد 10 أيام.
أغلفة آخر ساعة غلب عليها رسومات فنية ملونة لجميلات بيكار وصاروخان والحسين فوزي وجرجس ورسومات أغلفة وداخلية للفنان الفرنسي ديفيد رايت وظهرت الصور الفوتوغرافية الملونة منتصف 1954 بالاهتمام بإنجازات الثورة وجمال عبد الناصر وشارك كنعان برسومات عبد الناصر.
أول غلاف في 9 ديسمبر 1953 عدد خاص عن السينما بغلاف صورة للفنانة نعيمة عاكف.
في 8 ديسمبر 1954 غلاف فتاة مصرية وعارضة أزياء أو سائحة أمريكية في قلعة صلاح الدين.
وفي 20 ديسمبر 1954 غلاف لسيدة أرمنية تعشق القطط.
وصاحبت ريشة كنعان روايات فتحي غانم ورشاد رشدي وقصصاً عالمية مترجمة وتحقيقات صحفية ثم تحقيقاته الخاصة في مصانع الحديد والصلب والنوبة والسد العالي ليقرأها المثقف والمواطن العادي.
فقام علي ومصطفي أمين بإنشاء قسم التوضيب والإخراج الصحفي لأول مرة في مصر و كنعان رئيسه ينطلق في طرقات الدورين الثاني والثالث وصالات المونتاج وجمع الرصاص.. يتردد اسم ماك (دلع ميشيل) حتي إسلامه 1962فأصبح كنعان ثم الأستاذ كنعان ثم الأستاذ.
وأسس مدرسة في الإخراج الصحفي والأغلفة مازجاً بين المذاهب الفنية والصحفية ليرتقي بالذوق العام.. ومزج العناصر الفنية والصور الفوتوغرافية بالمادة الصحفية ثم وصل إلى فن الكولاج فى تركيب الصور بعد تقطيعها وإعادة تقديمها . فقد كان يرى أن اللوحة كالكتاب تكتب التاريخ والسياسة فقراءة اللوحة عودة لعصر إبداعها وحياته.
وكان يوزع وقته بين لوحاته في مكتبه نهاراً ومرسمه بدرب اللبانة ليلاً ليمزج فكر المثقفين بتلقائية ولاد البلد..ثم فضل تمرس الصحافة بجمع المادة الصحفية برصاص سائل يصب في قوالب نحاسية بالأحرف لتتكون الكلمات وترص الموضوعات والصور في مستطيلات حديدية لا تسمح بزيادة أو نقصان ولها مواعيد صارمة (فالرصاص لا يرحم) فانعكس علي أدائه فهي تفرض سرعة التفكير والرسم وكتابة جمل سريعة بسيطة فتتعلم السرعة هنا لتأخذ وقتك في الفن لترسم لوحة في شهور وسنوات لكن كسكرتير التحرير ليس أمامه إلا أيام وساعات ودقائق لينتهي من الفكرة ويرسمها ويلونها وينفذها (زنكات) ليأخذ ما تعلمه للوحاته الخاصة فيستفيد هذا من ذاك كما يحدث في الأدب تعيد الكتابة مرات تضبط اللغة وموسيقاها وتبحث في القواميس وتلغي تكرار اللفظ بمرادفات جديدة لتأخذ هذه الخبرة لسرعة الصحافة .. كما أن الفنان أو الأديب قد ينفذ لوحة أو قصة في الوقت الذي يشاء لكن في الصحافة ليس أمامك إلا إنتاج أغزر عدد من اللوحات والموضوعات.
وحل كنعان بأغلفته معضلة وصول القارئ للوحة في المعارض والمتاحف فوفرها علي الأغلفة والموضوعات لترتقي بالذوق والثقافة.
في مكتبه بالدور الثاني بمبني أخبار اليوم الأصلي كانت `حكاية العمر كله`
`علشان ما هي سن 17`
`جلست والخوف في عينيها`
تتأمل الفارس الخارج من كشكولها لأغلفته في دار الهلال وغلاف رواية `الحجاج بن يوسف الثقفي` لإميل زيدان التي لم يجد الموديل المناسب فقام إلي المرآة ليرسم وجهه و أغلفة `آخر ساعة` كمحبة للرسم دون أن تراه وقد تخيلته فارس أحلام لم تتوقعه بهذه الوسامة ولا لقاؤه بهذه الأقدار وتكتشف صراحته كشرط حلم الزواج من أجنبي (لأنهم لا يعرفون الكذب) وقد يكون دفعها باهتماماته لقراءة مواصفات رجل برج الدلو صريح ودود وأمين ومخلص ولا يعجبه غير حبيبه الأساسي ومبتكر مستقلّ وروحاني وهو أفضل شريك لبرجها الأسد ويحتاج إلي علاقة مكملة تمنحه الحرية ويتفوق في الفلك والتصوير .
و أعاد قراءة برجها فالمرأة الأســد تفرض وجودها وكلما تقدمت بالعمر ازدادت إشراقا وليس من السهل أن تقع في الحب وزوجة مثالية, وقادرة علي خلق توازن بينها وبين زوجها.. وأولادها يعرفون أصول اللياقة والاحترام وتحب المغامرة الفكرية شديدة الإبداع، ولدت للقيادة وتقويها النكسات متمسكة بمعتقداتها عاشقة مخلصة ورفيقة رائعة فهو يري أن الأبراج كيمياء جسدية ثم يعترف عرفت صفات سناء من الأبراج..
وهي التي تربت علي الثقافة والفنون فوالدها مدير مصلحة الآثار العربية، وأقرب أصدقائه عالم الآثار الإسلامية حسن عبدالوهاب الذي سماها عند الميلاد وواسطة الخير بعد ذلك عند الأب لكنعان كأصلح شريك حياة كما كان يدعو الفنان الحسين فوزي ليطلعه علي استعداد بناته للرسم وتشجيعهن.
تلميذة بضفاير فاجأها بعد عدة زيارات ومحاورات ومعرفته لأبراجهن أنه يريد رسمها للغلاف.. جاءت بها محاضرة للعملاق مصطفي أمين لطلبة صحافة آداب القاهرة وطلب كتابة خبر عن محاضرته فاختار بعضاً ممن أرسلوا ليتدربوا في `أخبار اليوم` منهم سناء البيسي التي كتبت بوضوح وشجاعة يا أستاذ لم أفهم شيئاً بسبب دخان سيجارتك وجاء معها زميلتاها صافيناز كاظم وسناء فتح الباب نجمات الصحافة في `الأهرام` و`الأخبار` و`المصور`.. وبشقاوة الاستكشاف وفضول الصحفيين زرن مكاتب المشاهير
وبدأ شعاع أول شرارة حب ونظرة من بعيد لبعيد تقول حبيت ورمش يقول غلبني الحب غلبني.
يدندن يستغرقه الرسم (ياللي نويت تشغلني طاوعني وابعد عني إن حبيتك يبقي يا ويلك من حبي) كان من المتعصبين لصوت عبد الوهاب ونيس وقفاته الطويلة للرسم وأغنيته `جئت لا أعلم من أين` من شعر إيليا أبو ماضي وعشقه لموسيقي بيتهوفن ويحب الاستماع للشيخ محمد رفعت.
خاف من فارق السن (34 أمام 17) أي ضعف العمر
لكني حطيته في دماغي
فالحب عليك هو المكتوب يا ولدي
وكل الحكاية غلاف `آخر ساعة`
غلاف `آخر ساعة` هو حياة كنعان بسببه دخل دنيا أخبار اليوم وعليه قدم الإنسان المصري وعليه نفذ كل تجاربه الفنية وبسببه بدأ الحب.
بدأ يأتيني بالشيكولاتة من محل `الأمريكين` وتبادل النظرات عبر زجاج غرفة الأبحاث الصحفية وكنا وغيرنا قصص حب جميلة في شارع الصحافة
وتجاسرت وقدمت له رسوماتي وكنت متأثرة بخطوطه فمزقها وألقاها في سلة المهملات ليعلمني.. .لا تقلدي الآخرين ولكن هم من يقلدونك..
في 14 مارس 1956( 1116) الغلاف بأول رسم له لسناء (في حضن الزهر) تبدو فيه ببلوفر أسود في رقبتها إيشارب أصفر شعرها في شكل طاقية فاحمة السواد تحتضن فازة بنية اللون يخرج منها أفرع زهر المشمش ويداها متشابكتان بأصابع طويلة رفيعة في يمناها خاتم ذهبي به فص أسود يبرق.
أوراق زهر المشمش بشكل قلب تزهر في الربيع بلون أبيض وردي وموسمه قصير فضرب المثل للمستحيل (في المشمش) فهل المشمش رسالة أم حوار داخلي أم تردد. ولم يكن في العدد موضوعات عن الزهور سوي خبر صغير عن جمعية خيرية مسيحية أقامت سوقاً خيرياً لصالح الأيتام تباع فيه الوردة بمبلغ 25 قرشا .
في 13 فبراير 1959 احتفل كنعان بميلاده الأربعين وبقرار ناقشه طويلاً وقرأ له في الأديان.
في صباح الأحد 8 يونيو 1959 ، 2 ذي الحجة 1379هـ، في جريدة الأخبار وباب أبو نظارة في يسار الصفحة الخامسة ويكتبه نبيل عصمت بأخبار قصيرة تفصلها كور سوداء نشر خبر صغير من 4 أسطر في كل سطر كلمتين فقط.
`كنعان رسام `آخر ساعة` أشهر إسلامه في الشهر العقاري`
في العدد التالي10 يونيو لم أجد رسومات لكنعان ووجدت رسماً كاريكاتيرياً في صفحة 42 بإمضاء البيسي.. فقد مارست الرسم والكاريكاتير تأثراً بكنعان.
وبعد 6 أشهر و7 أيام
في صباح الأربعاء 16 مارس 1960-19 رمضان 1379هـ نشرت `الأخبار` في النصف الأسفل للصفحة الثامنة في الإعلانات المبوبة و عمود أخبار شخصية المسجل عليه 20 قرشا (ثمن الإعلان أو سعر السطر) وكان علي 9 أسطر.
(تعلن وزارة الصحة العمومية أن ميشيل بن داود نمر كنعان المقيم في 4 درب اللبان بالقلعة قسم الخليفة وحاليا بدائرة الموسكي يرغب في تغيير اسمه إلي منير داود كنعان لاعتناقه الدين الإسلامي فالمعترض يتقدم للوزارة خلال خمسة عشر يوماً من تاريخ النشر.. منير داود كنعان هو رسام `آخر ساعة` المعروف)
وفي العمود أسماء من يغيرون أسماءهم أو محال إقامتهم أو ديانتهم (في التسعينيات والإرهاب تم إلغاء تغيير اسم المسيحي الذي يعتنق الإسلام فتستمر بياناته علي كمبيوترالرقم القومي كما هي إلا خانة الديانة)
في ذلك الصباح صدرت `آخر ساعة` بغلاف لكنعان بالألوان لبنت في منطقة شعبية بملاية لف وخلفيتها بيت شعبي متهالك وعربة يد تبيع طماطم صاحبها بجوارها و طفلة تنتقي الحبات الحمراء مقدمة للموضوع الرئيسي علي 7 صفحات (1000 سنة تعيش في قلب القاهرة) وله إشارة بلون ذهبي أعلي يسار الغلاف ويسجل بريشته أجواء القاهرة في الأزهر والحسين وزحام الأسواق والشوارع والعطارين وسوق الكانتو وشي الذرة والمقاهي.
وفي صالة احتفال `أخبار اليوم` كان أول معرض للوحاته يشاغبه يوم 2 مارس الكاتب الساخر جليل البنداري في عموده - مايك المجنون
وفي 2مارس 1960 خبر تسجيل عبدالحليم حافظ لأغنية (بأمر الحب) من فيلم يوم من عمري وصور في أخبار اليوم في الدور الثاني حيث قسم التصوير ومكتب كنعان
د..أنا وعيونك الحلوة.. نعيش قصة غرام حلوة تعالي نحب ونسلم بأمر الحب
في مساء الخميس 11 ديسمبر 1962 توج الحب بالزواج ونشر أبو نظارة في (أخبار الناس) بالأخبار صباح الجمعة خبراً ومعه صورتان شخصيتان للعروسين.
) تم أمس عقد قران سناء البيسي المحررة بأخبار اليوم إلي الرسام كنعان وسافرا إلي بورسعيد لقضاء شهر العسل) .
لم يسافرا واختفيا في مرسم القلعة وزفت بفستانها العادي (دون فستان أبيض) وأجروا فيلا في المهندسين كمنتجع زراعي هادئ .
لم أجد في 10 أكتوبر 1962 أعمالا لكنعان أو سناء وفي 24 أكتوبر بعد أقل من أسبوعين لأن المجلة تطبع قبل يومين وتجهز قبل 4 أيام وجدت غلافاً لكنعان بالألوان لفتاة بعيون ملونة وشعر فاحم تستند علي ذراعها من شرفة بنظرة رومانسية تحتها و(ذهب الخريف) وفي صفحة داخلية عمود سناء البيسي (غير معقول) ترصد فيه الحياة والفن والفنون الشكيلية في باب (النصف الحلو) أساس اسم (نصف الدنيا) لمجلتها في الأهرام1990
رئيس التحرير أحمد بهاء الدين.
يناديها ماما وإذا قال يا سناء فهي الغضب والعقاب
في 11أكتوبر 1964 بعد عامين من الزواج رزق كنعان بوحيده هشام.. من برج الميزان كريم يقنع الآخرين بآرائه له سحر عظيم تلازمه الابتسامة مثل ظله وعادة التـفكير والتمحيص تضعه في مصاف القضاة ميسور الحال رغم كثرة إنفاقه يكره الأماكن المغلقة والضجيج والفوضي ويهوي التنسيق والترتيب والنظافة والهدوء والأماكن الفسيحة والهواء المنعش وتوافقه مع برج الدلو كل واحد يحاول تحقيق ذاته والعلاقة بينهما مستقرّة وهادئة ومع الأسد متساويان في حبهما للسيطرة والظهور والعلاقة متناغمة .
لم أجد في أعداد (فبراير ، أكتوبر وهي فترة الحمل) في باب النصف الحلو لسناء البيسي أي مادة صحفية عن الحمل أو الطفولة والأمومة ولم أجد حتي نهاية العام أي رسم لكنعان يعبر عن المناسبة أو عن السبوع وحتي بعد مرور أربعين يوماً كعادة الفراعنة ولم أجد لسناء في عدد 7 أكتوبر(أسبوع الولادة) إلا عمودها (غير معقول) استوقفتني فيه الفقرة الأخيرة إلي تطرح فيها سؤالاً عن الزوج الذي يطلب كوب ماء خمسين مرة وهو جالس ولماذا لا يذهب إلي الحنفية ويملأ جوفه ويريح ويستريح.
وتوقف العمود من بعد 14 أكتوبر لانتقالها إلي جريدة الأهرام
رئيس التحرير صلاح حافظ
لم تستغرب سناء يوم جاءها هشام من مدرسته في كنيسة شهيرة فرحاً فقد صلي بزملائه إماماً بثمار مسئولية جده ففي سن سنتين أعلن كنعان أنه لن يستطيع تلقين ابنه الدين الصحيح وتذكر وهويذاكر تاريخ الإسلام سألها هو صحيح بابا ما كانش في الأصل مسلم فردت من واقع مذاكرته وهل خالد بن الوليد وعمر بن الخطاب في الأصل مسلمين واستوعب الدرس.
كنعان هو أستاذ ورائد فن الكولاج في مصر ..
والكولاج هو مجموعة أشياء لا يربطها شيء تعتمد علي نظرية `القص واللصق` بأوراق مطبوعة أو ملونة، من الجرائد والمجلات والصور الفوتوغرافية وغيرها لخلق شكل معين وبه مساحة حرية للجديد والجميل من النفايات فهو `الفن الفقير`.
وفي وجهة نظر كنعان أن الكولاج هو (فن الدهشة).
وفي محاولاته الصبورة لعدم فهم المحيطين للوحاته `إنكم تنظرون للفن بشكل سطحي يجب أن تفهموه أكثر`، ثم كلمته المشحونة بالصبر والأمل (بكرة الناس تفهم).
عن لوحاته الكولاج قال منير عامر: `أحب أن أنظر إلي ما نهمله من أشياء، وأتساءل كيف صنع كنعان بها جمالاً.. لعله أراد أن يقول إننا لا نشعر بأرواح كل الكائنات علي الأرض حتي لو كان شيئاً مهملاً.
كنعان استخدم قطع خشب قديمة وورق كارتون وفوارغ مياه غازية فوصفه يوسف السباعي أنه من كراكيب المطبخ.
فتنبهت لنداء كنعان ليذكر آية من القرآن ويكرر شايف (الإعجاز اللغوي)
وأعود لسورة الكهف - 77.. (فَوَجَدَا فِيهَا جِداَراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ )
أتوقف عند (يريد) فقد تعلمنا أن الجماد ليس له إرادة فإذا القرآن يقول `يريد` في إعجاز لم نصل لمعناه حتي الآن : فهل رأي كنعان بالقرآن تلك الروح في الجماد؟
عن تجربته قال إن الصدق هو حبل نجاتي فبعد انتهاء اللوحة أتركها فترة لأعود ناقداً شديد القسوة فلا توجد عندي لوحة تتكرر هناك رابطة بين اللوحات لكن التكرار مستحيل.
تفتحت عيناه علي التجريد عندما سافر إلي بولندا أو النمسا 5591 (زملاء بنفس الاتجاه في أوروبا).
العجيب في مصر أن طفلاً نصفه لبناني يعجن في المناطق الشعبية ليخرج إنساناً وفناً مصرياً بموروث مصري إسلامي (علي الجداريات الفرعونية أقرأ تاريخهم فالرسم كان وسيلتهم لتسجيل منجزاتهم.. حتي الحرف الفرعوني نقش ورسوم فكان الرسم سيد الزمان الفرعوني وشريك في السياسة والدين والطب وهو أفضل وسيلة لترسيخ الحضارة.. والفن المصري القديم أرضية لكل الفنون التالية له) الفن الإسلامي قدم خدمة جليلة للفن بإلغاء التجسيد وركز علي التجريد فأطلق روح الإبداع وهناك مدرسة فنية اسمها مدرسة العشق الإلهي بالفن وأنا أنتمي إليها والفن الفرعوني الإسلامي فن بلا تعقيد وبه فراغ يشد الروح.
في 1966 واعتقال مصطفي أمين في قضيته السياسية وجد لوحتين أهداهما له يباعان في المزاد فاشتراهما.
حرم سفير إنجلترا في منزله لشراء لوحة أعجبتها يعلقها في صالونه يخفيها ليعتذر بأنها بيعت.
بعد 67 وضع علامة إكس علي لوحاته لرفض الهزيمة العسكرية.
في 18 يناير 1977 في مظاهرات الأسعار.
كانت سيارته الجديدة من 3 أيام أمام المؤسسة وأمامه لوحة يعمل فيها من 3 أيام وعندما أنهاها تنبه لضجيج الشارع والطرقات وحريق سيارته فعاد لمنزله بمصر الجديدة علي الأقدام لتأمل الإنسان في ثورة الغضب.
ساهم في معارض مصرية وعربية وعالمية :
أول لوحة تقتني (قهوة بلدة) 1944 وجداريتان لبلدية القاهرة 1962 ومعرضان مشتركان نحو المجهول 1956 المجهول لا يزال 1959و10 معارض خاصة في القاهرة أولها في أخبار اليوم 1960 و أتيليه القاهرة 66 قاعة باب اللوق 68 والمركز الثقافي الإيطالي 1977 وقاعة إخناتوت (79- 89 - 1992) جاردن سيتي 82 نادي هليوبوليس 86 المشربية القاهرة 1986 و4 بينالي.. ساوباولو 1953 فينيسيا 1970 أسبانيا 1979 ومشاركة في 10 معارض خارجية - متحف الشمع بألمانيا الشرقية 1970- جاليري باريس 71- جراند باليه باريس 76 - معرض الفنانين العرب قبرص 80 - هاواي 82 - نابولي 82- معهد العالم العربي 87 - جنوب فرنسا 91 الأكاديمية المصرية في روما(81 و1994).
داوم علي العلم في كتب الفن بالعربية والإنجليزية والفرنسية.. وفي عمر 66 حصل علي الماجستير من جامعة السوربون بدرجة جيد جداً 1985 وسن 68 حصل علي الدكتوراة 1987 بعنوان (قيمة الرسوم التحضيرية في التصوير المصري المعاصر).
قدمت الناقدة الفرنسية كريستين شامبي روسبون 1985رسالة ماجستير للسوربون عن فنه
حصل علي الجائزة الأولي في البينالي العربي الأول بالقاهرة 1984 .
حصل علي جائزة الدولة التقديرية 1997 في سن 78عاماً.
أعماله في المتحف الفني الحديث، والأكاديمية المصرية بروما، والجامعة الأمريكية بالقاهرة، ومؤسسة الأهرام ٍ، ودار الأوبرا المصرية، ومعهد العالم العربي بباريس و مؤسسات وأفراد مهتمين داخل مصر وخارجها.
توفي في 29 ديسمبر 1999 عن عمر 80 سنة.
تشرف سناء البيسي علي مسابقة سنوية باسمه في نقابة الصحفيين للرسم الصحفي.
محمد على السيد
أخر ساعة 2014
ينبع فن `كنعان` من احساس عميق بعالم محكم التنظيم، ولذلك تتصف أعماله بالبحث الدءوب، وطرح الأفكار المسبقة المتحكمة، ورفض الفن الذى يمثل قصة أو حكاية، أو يعكس أحلاماً أو عوامل نفسية ذات دلالات ورموز، ونبذ كل ماله صلة بمظهر الواقع المرئى مفضلاً الأعتماد على خلق اشكال تجريدية تكون شاهداً على شىء يعيشه القلب والعقل لا أن يكون تقليداً لشىء تراه العين.
بدأ الفنان `كنعان` عمله فى الأربعينات رساماً صحفياً بارعاً شأنه شأن بيكار `يتقن رسم البورتريه` وتسجيل مشاهد الناس والأسواق والمحاكم وسائر التجمعات، ولا ينمنم ولا يذوق، ولكنه يجيد استعمال ضربات الفرشاة فى لمسات حاسمة يتبين منها الوجه او الشخصية التى تولدت هكذا من ادائه الواثق المتمكن.
لكن هذا الفن - الصحفى- كان على `كنعان` أن يهرب منه حتى لا يقع فى فخه إلى الأبد فتبدد طاقاته الإبداعية، وقد كانت بداية انطلاقه اللامحدود فى استجلاء الحقائق وقيم الجمال فى اغوار التجديد فى سنة 1946، وهى الفترة التى اعتنق فيها الإسلام، وأنجز أول لوحة تجريدية، وهو ما يؤكده `كنعان` بقوله: `اعتقد إن شهادة التوحيد التى أعلنتها كانت مع أول لوحة تجريدية اتممتها...).
وتعد هذه المرحلة من (1946- 1970) هى مرحلة التعبير المطلق عن الأحاسيس والأفكار بأى خامة تقع تحت يده، متحدياً بذلك العرف التصويرى والمصطلحات الشكلية المعروفة.. `فقد استطاع `كنعان` أن يستفيد من مزايا إمكانات الأساليب الفنية `للدادا` و(البوب) و(التجريدية التعبيرية) ثم (الإنشائية) وأن يقدم أعمالاً من إنتاجه الفنى فى هذا الاتجاه، فنراه يعالج لوحاته (المونيمنتال) ذات المساحات الكبيرة بطبقات لونية متتالية من جرات وضربات عنيفة وقوية من فرشاته الكبيرة، دون أن يتقيد بالأشياء المحيطة به، ودون أن يهتم بموضوع ما، ودون أن يجبر أحاسيسه على التقاط حدود لأشكال حقيقية . وفى موقع آخر نراه يستخدم خليطا عجيباً من المواد فى تأليف أعماله وكلها عناصر محلية دارجة مثل الغربال، والقفة، والخيش وسلك النملية، وخشب الصناديق، وقصاصات الجرائد، وجميعها أشياء متداولة ومألوفة للعين لشيوع استعمالها فى الحياة اليومية، كذلك يستعين بوسائط غير الأصباغ العادية وألوان الزيت، وأنواع الطلاء التقليدية الأخرى، بل هو يلتقط بعض الفضلات التى تلقى فى سلة المهملات، وهى أشياء لا تخلو من شكل ولون وملمس يجمعها فى تأليف تصوغه عقلية واعية وإحساس مرهف وعلم تام بأصول الصنعة التشكيلية.
إذن الأمر بالنسبة لكنعان لا يعدو كونه اختلافات فى استعمال الخامة فقط بقدر ما هو بحث عن صيغة تعبير ووسيلة تخاطب.. إن لكل فنان مطلق الحرية فى اختيار الخامة التى تطيعه فى التعبير عن أحاسيسه ويحقق بها جديداً فى القيم التشكيلية.
وهناك - أى فى معرضه - وضع كنعان تحت منظار النقد المكبر، حيث يقول عنه الفنان `بيكار` إنه اجتاز التجربة بنجاح، فقد استطاع بسعة خياله وتعدد خبراته أن يجنب أعماله الملل الذى يحدثه التكرار الرتيب فى المضمون التشكيلى. فاختياره للعناصر المختلفة، وبراعته فى استخدامها استخداماً تتفق وطبيعتها سهل عليها الإفصاح عن مضامينها الجمالية والمعنوية المتعددة.. ويستشهد على ذلك بمثال من أعماله المصنعه من مواد وخامات مختلفة بقولة `.. عندما تتخطى العين نطاق الاسلاك الشائكة، لتستقر فوق تراكيب الخشب العتيق، فإنها تقوم بقفزة من المتاهات اللامحدودة، وما يصاحبها من شعور إلى عالم الابواب والنوافذ والأسوار وكأنك أمام حاجز يفصلها عن عالم ملىء بالأسرار تتشابك فيه الأخشاب فى نظام هندسى مرن، وغير متماثل، وتتناغم فيه الفراغات التى تصل من وراء أطراف الألواح المعمرة المتآكلة، فيتعاون زكاء التركيب مع غموض الموضوع فى إشاعة أحاسيس غامضة بالانطواء ونظرات التسلل التى تنتابنا ونحن نجتاز سوراً خشبياً أو بوابة كوخ عتيقة فى أحد الأحياء الشعبية، أو نافذة غرفة مغلقة فوق سطح قديم .
من الجدير بالذكر ان `كنعان` كان يمتلك مرسماً بدرب اللبانة بالقلعة، ولذا لا ندهش عندما نرى فى أعماله تلك العناصر الشعبية المألوفة وعلى سبيل المثال لوحة (الغربال) الذى يستقر فوق سطح ذهبى عريق، يمتد عمودياً لينتهى من الأسفل بلمسه عصبية ثائرة من فرشاة عريضة مغموسة بالطلاء الأسود كنغمة مضادة للدائرة المتزنة التى تستقر فى الجزء العلوى (الغربال)، والتى تعكس مسامها ضوءاً وظلالاً تتعانق وتتشابك فى تكوين متناغم.
المرحلة الثانية: من سنة (1970- 1986)
مما سبق نتبين ان المواد والخامات التى كانت شائعة الاستعمال فى فن الدادا والتجريد التعبيرى والبوب. والتى استطاع `كنعان` من خلال ابتكار أعمال فنية تتسم بمذاق طيب وطواعية وسهولة تثير الدهشة نجد أن مسلسل أعماله فى المرحلة التالية لم يتوقف قط عن حدود استخدام المواد والخامات الشائعة، ولم يحصر نفسه فى دائرة البحث عن خصائصها البصرية، وقيمها الملمسية، بل تراه يتجاوز ذلك محاولاً استثمار امكاناتها منطلقاً بها نحو آفاق رحبة محققاً بواسطتها أهدافاً تشكيلية تعبيرية.
وفى هذه الفترة من سنة 1970-1987، قدم أمثلة عديدة من الأعمال الفنية، شبيهة الطابع لنفس اتجاهاته الفنية السابقة فى (التجريد) وان كانت تدل معظمها على استثمار جيد وجديد وان لم يكن أكثر تميزاً - حيث استطاع تحقيق فكرة الملاءمة بين الموضوع والخامة بشكل متواز ومتناسق، وإثارة الخيال عند المشاهد وتوسيع دائرة رؤيته الفنية ولوحاته التى استخدم فيها (الكولاج) وعمل منها تنويعات على موضوع الأرابيسك او تشكيل من الموتيف الشعبى. هى لوحات مصممة كلياً أو جزئياً من قطع الورق أو قصاصات الجرائد والمجلات وبعض الإعلانات ذات الأحرف الطباعية الاجنبية أو صورة فوتوغرافية، أو أى مادة ذات امكانية تشكيلية، أو كما يراها الفنان، حيث يقوم بنشر وتوزيع مايراه مناسباً على سطح ورق الكرتون.. ثم اتمام الصورة بإضافة مساحات أو رسم أشكال أو تخطيطات بخامات أخرى تقليدية، مثل اقلام الفلوماستر أو الاصباغ أو استعمال الحبر الصينى الاسود، والألوان بشتى أنواعها.
وعندما نتأمل اللوحات تأملاً ذهنياً خالصاً نتبين أن الفنان الذى يعمل بأسلوب التوليف أو الحشد انسان من عاداته أن يتناول الاشياء أية أشياء سواء كانت ذات قيمة أو لاقيمة لها ويجعلها مصدراً للإحساس بالجمال ففور حشد تلك الأشياء ووضعها متوازية جنباً إلى جنب، أو متقابلة او متنافرة.. طبقاً لنسب هندسية أو فراغية فى تنسيق نموذجى متداخل ومتجاور يثير الإحساس بالمتعة البصرية، وهذه المتعة ليست وحدها القيمة او الوظيفة التى يتصف بها فن `كنعان` بل تراه يتخطاها الى ما هو ابعد من ذلك.. إلى ما هو حقيقى وجوهرى من وجهة نظر العقل الإسلامي، ومنطق تعامله مع الكون وأشيائه المرئية واللامرئية.
وقد أكد لى كنعان ذلك بقوله: `إن التجريد يعنى لى تصوير الحقيقة فى لبها مع إسقاط الظاهر المادى المخادع المعوق لرؤية لب الحقيقة واستشعارها ان ما حاولت البحث عنه طوال رحلتى الفنية منذ بداية الخمسينات وحتى الآن والتى بلغت أوجهها خلال الستينات حين افزع المشاهدين لمعرضى بمؤسسة `اخبار اليوم` من التشكيل بالخشب والمسامير، ولم يفهمنى أحد وقتها مع اننى كنت أريد أن أقول للمشاهد المصرى: عد إلى منهج عقلك التجريدى الذى دربك عليه الإسلام ولا تنظر الى الخامة بشكلها الظاهرى بل انظر الى دلالة موقعها فى هذا التكوين الجديد وحرر عينيك من دائرة التشخيص الضيقة`!!
`إن خطوات التطور عند `كنعان` ليست فجائية ولم تخضع لعامل المصادفة. ومحاولاته التجريبية المستمرة `تبين عن قلب ملىء بالرؤى وصور جياشه بالسعى نحو المجهول لاستكشاف القيمة الجمالية الخبيئة والتى تتجلى من تتابع عمليتى الهدم والبناء أثناء عملية الخلق الفنى. والكثير من الاعمال فى الرسم والتصوير والكولاج التى بدء وانتهى منها دون إعداد رسوم تخطيطية أو تحضيرية نتيجة لطبيعة الاسلوب الذى نهجه الفنان إلا أن فى حوزته مئات من الرسوم التخطيطية - التجريبية - والتحضيرية التى سجلها فى لحظات التجلى والتأمل تفيض خطوطها السريعة والمختزلة عن مزاج فنان عصبى وذهنية يقظة.
انظر إلى الرسوم التخطيطية ذات التصميمات الهندسية المجردة وما تتضمنه من تعليق وإيضاح وبخاصة مجموعاته عن (الكروس) و(المربع) وقارن بينهما وبين أعماله فى الكولاج. سوف تجد أنه فنان دائم البحث فى تجاربه وخاماته من اجل إيجاد لغة جديدة.. لغة يستحيل أن تقوم بوظيفتها مرتين على التعاقب.
د.رضا عبد السلام
من كتاب الرسم المصرى المعاصر
- ولد منير كنعان فى 13فبراير 1919 بحى الظاهر، ونتيجة لظروفه الاجتماعية القاسية، كان يعمل صبيا فى ورشة لأحد الأرمن لتنفيذ الملصقات الإعلانية، ثم واصل هذه المهمة فى مؤسسة إنجليزية لعمل اللافتات الدعائية المضادة للألمان، ثم فى شركة أمريكية لعمل الخرائط الجغرافية، وفى نفس الوقت يمارس الرسم، ومنذ عام 1945 يلتحق بمؤسسة دار الهلال كرسام ومخرج صحفى، ويقوم برسم العديد من أغلفة المجلات المصورة والرسوم التوضيحية، ثم يصبح مستشاراً لأخبار اليوم، ويقضى بعض الوقت فى منتصف الخمسينيات فى بولندا، ثم يزور النوبة قبل تحويل مجرى نهر النيل فى الستينيات.
- لم يلتحق كنعان بأى كلية أو معهد لدراسة الفن، ولكنه اكتسب خبرات تقنية فى الرسم والتلوين، وثقة وسرعة وإتقان فى الأداء من عمله فى تنفيذ الملصقات منذ صباه المبكر ، ثم كثف اهتمامه للرسم من المقهى والشارع فى المنطقة المحيطة به - الظاهر وشبرا بالقاهرة ويتخذ لنفسه مرسما (بدرب اللبانة) بالقرب من القلعة، ليرسم فى المساء لوحاته ودراساته التصويرية بينما يرسم أغلفة المجلات وماكيتاتها ورسومها الداخلية المهمة لمؤسسة أخبار اليوم، ويتزوج الكاتبة سناء البيسى وكانت الرسوم السريعة التى سجلها أبان زيارته للنوبة هى بداية التوجه ناحية التجريد، والخطوات التجريبية المتتابعة التى شهدها مشواره الفنى، حيث يتحول كلياً إلى التجريد اعتباراً من منتصف الخمسينيات وتلخص ` كريستين روسيون ` التى وضعت رسالة الماجستير فى تاريخ الفن بجامعة السوربون عن منير كنعان منهجة فى التجريد بكلمة (الطمس) حيث يسجل نسخة أولى من العمل على القماش، ثم يمحوها جزئيا بأضافة لمسات لا تسمح برؤية ما تحتها إلا جزئيا نتيجة المحو والتغطية ، ثم يدخل فى مرحلة المزج بين الكولاج والتلوين ثم الكولاج الخالص.
- استخدام كنعان فى المرحلة الاسمبلاجية الخيوط والحبال والأسلاك والمسامير ومصاريع الأبواب وألواح الخشب والغربال مع الخرق البالية والصبغات فى تكوينات عبثية تنطوى على قسوة وعناد، ثم لجأ إلى استخدام المطبوعات وصناديق التغليف المصنوعة من الورق المضلع كعماد لتشكيلاته التجريدية، وبمثل اتجاهة إلى الطمس فى لوحاته التصويرية التجريدية، لجأ إلى التمزيق وكشف الأضلاع الداخلية تحت غلاف الكرتون المطبوع مع الرسم وتسييل الألوان ونطرها إلى جانب ألوان صافية مطبوعة وحروف وأرقام لاتينية ورموز تجارية أو اتصالية، كل ذلك فى انساق هندسية ديناميكية، وتوازنات جسورة لعلاقات المساحات والخطوط والألوان والمستويات المتراكمة من الملصقات، مع اللعب بالاتجاهات المائلة التى تكثف حركة العموديات والإطارات الإيهامية التى تؤطر التكوين جزئياً أو كلياً.
- وفى كل الأحوال كان منير كنعان يعمل كالباحث التجريبى، فكان فى كل مرة يخوض بحثاً فى التشكيل يترجم فى سلسة من الأعمال يحقق فيها مرماه البحثى فى لغة التجريد الخالص.
بقلم : د. مصطفى الرزاز
من كتاب الفن المصرى الحديث
وتكلم الغربال الأخرس
- رأتنى أقف طويلاً أمام إحدى اللوحات فى معرض الزميل ` كنعان ` .. أتأملها بعمق .. أبتعد قليلاً لأحتويها كلها بنظرة شاملة .. ثم أقترب أكثر وأكثر لأدقق النظر فى دقائقها وتفاصيلها ، وأتأمل الطريقة التى تنساب بها اللمسات الصارخة تارة ، والهامسة تارة أخرى .. ثم أحاول أن أدس نظ رى بين الشقوق والأخاديد التى تتخلل المساحات الوعرة التى تفترش اللوحة فى تمرد عنيف ، وكأنها لطمات الزمن فوق جدار أنهكه الوقوف الدائم مستقبلاً ومودعاً كل ليل و نهار كل شتاء وصيف .
- رأتنى أقف صامتاً أمام هذا المحراب المتصدع الذى لم يعد قادراً على أن يصلب عوده ويستقبل مزيدا من المصلين . فاقتربت منى على استحياء وقالت :
- هل تسمح لى أن أسألك ماذا تعنى هذه اللوحة ؟
قلت لها : لا تعنى شيئاً على الإطلاق .. وهى لوحة بلا عنوان كما ترين ..
قالت : وما قيمة الشئ الذى لا معنى له ؟
قلت : قيمته فى ` لا معناه ` !!
- إن أوصالنا ترتعد تلقائياً إذا ما تعرضت للبرد الشديد .. وتتصبب عرقاً إذا لفحتها الشمس بأشعتها المحرقة .. إن فى داخلنا ترمومتراً يحدد درجات الحرارة فتتصرف أجسامنا تلقائياً وفقاً للتغييرات الجوية .. ونحن لا نحتاج إلى تقرير كتابى لكى نستشعر المؤثرات الخارجية ، وإنما نترك هذا لحواسنا لتنبئنا بذلك .
- هذا النوع من اللوحات يا ابنتى لايسأل عما يفعل ، وإنما المشاهد هو الذى يسأل نفسه عن الأثر الذى تتركه فى نفسه هذه اللوحات .. ولا شك أن هناك ما سوف ينفعل به المتلقى إذا لم يكبت حواسه أو يكمم مشاعره وسمح لها أن تستقبل وتعى وتستجيب لفيض المؤثرات الواردة باستسلام محايد وبدون مقاومة .. وتركتها لكى تمارس تجربتها الجديدة مع لوحات الزميل ` كنعان ` وتفتح قلبها لكى تستمع إلى صيحات لطماته الصاخبة . وطنين عجائنه الحرشة ، وضجيج لمساته الثائرة ، ووخزات مساميره الصدئة وتشنج أسلاكه الملتوية .. وأنين مسطحاته المطعونة ، وحشرجة أقمشته الممزقة .. وتنفعل بألوانه التى تعلو وتنخفض من البنيات المحترقة إلى الرماديات المستسلمة إلى الأبيضات الشديدة التوهج .
- ومضيت أنصت إلى ` كنعان ` من خلال ثرثرة أشكاله .. فهو يتحدث بطلاقة بعدة لغات . ويتكلم بعدة لهجات . يعبر بلسانه ويده وعينيه وشعيرات جلده . وبكل خلجات قلبه .. ويسخر الخيش والحرير والمسامير وقصاصات الجرائد والسلك والعجائن والرمل والغربال القديم وطعنات السكين وجدائل القفف المهترئة .. وكل ما يقع تحت يده .. ويعرف كيف وأين ومتى يوظف هذه المهملات ويحركها على مسرح لوحاته بجرأة ووعى وثقة وأستاذية .
- إنه ` سليمان ` الذى يفهم لغات جميع الأشياء .. ويعرف كيف يخاطبها بلسانها ، وكيف يسخرها تشكيلياً تنفصح بها يعجز عنه أبلغ الكلام .
- ولقد أحسن ` كنعان ` صنعا عندما مد يده إلى المخزون من لوحاته القديمة التى أنجزها منذ أكثر من عشرين عاماً ليعرضها على جمهوره للمرة الثالثة ويعيد بالتالى تقييمها وتذوقها .. والواقع أن القديم الذى يعرضه ` كنعان ` مازال جديدا وشابا ومحتفظاً بكل حيويته .. لم تفقده السنوت قيمته . بل ربما أكسبته مذاقاً جديداً مثلما تفعل السنون فى الخمر المعتقة .. فنحن نشاهد أعماله بعيون مدربة ومجربة بعد أن تخطت مرحلة التشكك والحذر والرفض التى تصاحب كل جديد .
- لقد أصبح الجديد الذى قدمه كنعان فى الستينيات ` كلاسيكياً ` بعد أن ألفته النفوس ، واستقرت قوانينه فى الوجدان ، ولذلك كان تقدير الجمهور لأعماله لا يعتمد على غرابة وطرافة التجربة ، وإنما على ما تحتويه من مضمون تشكيلى وما تثيره فى النفوس من مختلف الإيحاءات .
- إن الريادة والمغامرة ومتعة الكشف والتنقيب من خصائص ` كنعان ` الذى كان من أوائل الذين ارتادوا مجاهل ` التبقيعية ` ومتاهات ` البوب` و` الكولاج` .. وبسط أمامنا تجاربه على مذبح المعاناة عرقاً ودماء وتمزقاً . وحماساً تذوب أصداؤه فى صخب فرشاته المتمردة التى لا تعترف بالاستقرار .
بقلم : حسين بيكار
من كتاب أفاق الفن التشكيلى
كــولاج
- متابعة خطوات الفنان ` منير كنعان ` فيها الكثير من المتع البصرية والنفسية والعقلية معا .. إذا استعرضنا مراحل النمو المتدرج فى تاريخ إنتاجه .. وهو غزير وخصيب !!
- ونحن عندما نلتقى بآخر أعماله التى تعرض حاليا فى المركز الثقافى الإيطالى بالزمالك ، فإننا نواجه محصلة تجارب طويلة ومتعددة ومضنية .. تجارب وليدة صراع فكرى بين الفنان وعصره . والفنان وذاته ، والفنان ووسائل التعبير التى يترجم بها أفكاره.
- والفنان ` كنعان ` من ذلك النوع القلق المتمرد على القديم .. ومن أكثر الفنانين تحمسا لفكرة مواكبة الفن للعصر . ولذلك فهو يسرع الخطى ليلاحق التيار التقدمى السريع التغير .. وقد يبدو هذا العدو وراء الجديد فى نظر بعض المحافظين ضربا من التطرف .. وقد يكون الاقتناع به بطيئاً . وقد ينقطع الحوار بينه و بين جمهوره . وهذا أمر طبيعى يحدث لكل جديد .
- ولكن ما من أحد يستطيع أن ينكر أن ` كنعان ` فنان صادق استطاع أن يحطم حاجز الأزدواجية بينه وبين فنه . وأولى مظاهر هذا الصدق تلك الصلة الوثيقة بين فنه الإبداعى وفنه الصحفى .. وما اختياره للغة ` الكولاج ` أى ` طريقة القص واللصق ` إلا استمرار لعملية تنسيق المادة الصحفية ، ولكن من مستوى ` تصورى ` آخر أكثر ارتفاعا وعمقا ودرامية .
- إن وقفة متأنية أمام شخصية ` كنعان ` الإنسان قبل التعرض إلى تحليل فنه ، ربما تعيننا على تبين مدى الصدق فيما يبدعه ، وكل ممارس للفن يعرف مقدار المعاناة التى تصاحب مثل هذا النوع من التصوير الذى يتطلب قدراً هائلاً من الحرص واليقظة مثل السير فوق أرض يكسوها الشحم .
- وتكفى بضع لحظات تقضيها فى حوار مع ` كنعان ` لكى تستطيع أن تصل إلى أعماقه دون مشقة .. إنك لن تسمعه يتكلم إلا عن الفن . وستلمس مدى الاقتناع بكل كلمة تقال ومدى الإيمان بكل فكرة تطرح .. ولن تجد فرقا بين ` كنعان الفنان `، و ` كنعان ` الإنسان .. فبنظرة واحدة إلى لوحاته سترى كيف تتدفق الأشكال بغزارة دون أن تمنحك فرصة للراحة . إنها تلاحقك بثرثرتها الملحة فلا تستطيع التخلص من نفوذها وقوة تأثيرها . لأنها كما قلنا صدى للغط الفكرى ، وازدحام الخواطر التى تغور فى أعماقه .
- المرحلة الثانية
- وأسلوب ` كنعان ` الحالى الذى يطبقه ` بالقص واللصق ` لم ينبثق من فراغ .. بل هو حصيلة ذلك التحول ` التجريدى ` الذى طرأ على فنه فى الخمسينيات والذى بدأه ` بالتبقيعية العشوائية ` التى تطورت فيما بعد فى الستينيات إلى ` القص واللصق` غير المنتظم .. وهو أسلوب شبيه `بالتبقيعية `. غير أنه يستخدم خامات مختلفة من الأوراق وقصاصات الجرائد والأقمشة ذات الألوان والملامس المختلفة بدلا من الألوان والأصباغ .. وتجميعها فوق السطح بغير انتظام رياضى أو هندسى ، بحيث لا يحكمها سوى الإحساس بتوافق العلاقات وتوازنها توازنا محسا غير محسوب ، مع الحفاظ على الأثر الدرامى .
- ثم يتطور هذا الأسلوب إلى التكوين المنتظم الذى يحكمه نظام رياضى وهندسى صارم .. محسوب بدقة شديدة يذكرنا بهندسية ` موندريان ` أبى التجريدية الهندسية ، ولكن برؤية أكثر تعقيداً فى تركيبها .
- وإذا كان الفن الإسلامى هو مبدع التجريدية الهندسية ، فلا عجب أن ينتسب الفنان المصرى المعاصر إلى مدرسة أجداده ويجعلها منطلقاً لمواصلة السير فى موكب الفكر الحديث.
- ثم تتمخض التجريدية الهندسية كتيار فكرى عالمى عن التجريدية البصرية ، أو فن` الأوب ` الذى يتزعمه ` فاساريللى ` والذى يلعب فيه ` الإيهام ` دور الخداع البصرى فيوحى إلى المشاهد بأن عناصر اللوحة تتحرك رغم ثبوتها . ويتخللها ضوء مصطنع نابض يتلألأ فيكسب التكوين شحنة ديناميكية بالغة التأثير والإيحاء .. وهنا يتحرك ` كنعان ` ليصنع مناظرة - على حد قوله - مع ` فاساريللى `، ويبدع أسلوبا جديداً من التجريدية البصرية بطريقة القص واللصق ، يستخدم فيها قصاصات المجلات والملصقات الإعلانية الملونة ويعيد ترتيبها وتركيبها ونسجها من جديد وفق مخطط منهجى يخضع لإيقاع واحد يلتزم به فى جميع تكويناته .. ويتكون هذا الإيقاع من الوحدة ` الشريطية ` والوحدة ` المشطية ` المدببة الأطراف يؤلف منهما ` جملاً ` موسيقية على هيئة مربعات .. كل مربع على حدة عبارة عن كيان متكامل . تتجاور كما يتجاوز ` البلاط ` أو ` رقع الشطرنج `.. أو تتقاطع مثل علامة الضرب × لتؤلف عالماً كونيا بالغ التعقيد . ويقطع ` كنعان` شوطاً طويلاً رغم صعوبة التحرك داخل هذه ` التيمة ` الضيقة التى فرضها على نفسه ، والتى يعتصرها حتى آخر قطرة مستنزفاً آخر معطياتها .. دون أن يتورط فى الانحصار داخل طريق مسدود أو يصطدم بحائط الإفلاس .
- ويلعب هذا التضافر والتقاطع والتراكم الذى تحدثه عملية النسج والترقيع المنتظم دوراً بالغ الإثارة إذ تتجول العين داخل مغاور ودروب وممرات ذات بعد ثالث ورابع تفاجأ فيها بما يشبه دنيا العجائب .. وتكتشف أثناء تجولك عوالم تتعاطف معها تعاطفاً ودياً حميماً، إذ تلتقى بانعكاسات بلورية وإشاعات فلورستية ، وصروحٍ معمارية ، وومضات كريستالية ، وفضاءات كونية ، غير محددة المعالم ، ولكنها تترجم فى مجموعها ضجيج العصر ، وتعقيدات العصر وتوتر العصر ، ومعطيات العصر علمياً وتكنولوجياً وإنسانياً .. دون إفصاح أو شرح أو موعظة .. إنها عملية يتقمص فيها التشكيل روح وجوهر العصر ، ويعبر عنه بلغة تعجز عنها لغة الكلام .
- وقد تدخل الأرقام لتلعب دورا تشكيلياً ومعنوياً غاية فى الذكاء .. لتحكى قصة هذا القرن الذى أصبح فيه الإنسان رقماً فى آلة الزمان .. تحركه آلات الكمبيوتر . وتدفعه إلى مصيره المجهول .. إنه علامة الاستفهام الكبيرة التى يصطدم بها مشاهد أعمال` كنعان` وهو داخل إلى معرضه ، أو خارج منه ..
بقلم : حسين بيكار
من كتاب أفاق الفن التشكيلى
- أحببت منير كنعان .. وأحببت إبداعه الذى يصرح عبر مراحله أنه إبداع رائد سبق الكثيرين فى إدراك كنه التجريد .. ففى الوقت الذى كانت الحركة التشكيلية نتاج مدرسة فنية واحدة أو لنقل وجوه مختلفة لمذهب فنى سائد ، آثر كنعان المغايرة ، واستشرف فى التجريد آفاقاً تستوعب ذاته وتحتوى كيانه الفنى ورأى فيه أن الحقيقة المجردة يجب أن تقدم فى صيغ تتجاوز تصوير ملامحها إلى قراءة تلك الروح المجمعة من الضوء واللون . لقد كان فناناً ناقداً لإبداعه ، قاسياً فى ذلك على ذاته كما عبر بنفسه وكما عبرت أعماله عن ذلك أيضا ً.. لقد كان بحق فناناً رائعاً .
بقلم : فاروق حسنى ( وزير الثقافة )
من كتاب منير كنعان
إعادة إكتشاف منير كنعان
- عندما أتيحت لى الفرصة لأزور المعرض التذكارى الشامل لأعمال الصديق والزميل الفنان الراحل منير كنعان ، فاجأنى ما رأيته ، لأنه فاق ما تصورته ، ذلك أنه على اتصال وتقاطع ممرات وطوابق ، وعلى امتداد وارتفاع جدران وسواند ، وجدت نفسى وسط رحلة استكشاف جديدة لعالم ظننت أننى كنت أعرفه ، ثم أدركت أن الحقيقة تعدت وتجاوزت ، فهناك الآن أمام حواسى فيض أثار عندى ، ولابد أنه أثار عند غيرى ، سؤال عن متى استطاع هذا الفنان النادر أن ينجز ذلك كله وأين وكيف ؟
- كان الرجل فى حياته هادئ المظهر ، وإن أحس من عرفوه أنها النار تحت الرماد ، وكان يبدو منطوياً على نفسه خصوصاً فى سنواته الأخيرة ، لكن القريبين منه أدركوا أنه فرط كبرياء أكثر منه اعتزالاً للحياة والناس.
- ومع أننا ، منير كنعنان وأنا ، تزاملنا سنوات طويلة فى مطلع الصبا وأول الشباب خلال عمل حاول كلانا أن يقدم له ما عنده ، أحدنا بسن قلم والآخر بطرف فرشاة ، أحدنا بالكلمة والآخر بالضوء واللون ، إلا أن الطرق أخذت كلاً منا إلى شواغل متباعدة ، وكنت أحس فى القرب وفى البعد أن منير كنعان لديه دائماً مساحة صامته ، دليلها الظاهر أن هذا الفنان المعتز بما لديه ، لم يحاول أن يعرض نفسه أو يلفت النظر لدوره ، أو يلح على النفاذ إلى ساحة أوسع ، لموهبة منطلقة ، وفى بعض الأحيان مندفعة !
- وعلى نحو ما ، فإن منير كنعان أعطانى الإحساس دائماً بأنه رجل يقول لنفسه وللآخرين ربما أن زمانى لم يجئ بعد ، ومع ذلك فإننى أقبل دون تذمر ، منتظراً أن يجئ زمانى وسوف يجئ ، حتى لو كان مجيئه فى لحظة لا أكون فيها وسط الناس .
- وطفت بالمعرض وقد أفردت وزارة الثقافة له قصور متحف الفن الحديث كاملة ، ووقفت طويلاً أمام ذلك الفيض من عدد اللوحات معجباً.
- وطوال هذه الرحلة لاستكشاف منير كنعان من جديد ، كان معى سؤال واحد : ترى هل يعرف أنه الآن زمانه ؟، وأن زميلة عمر شاركته حياته ، واستثارت رؤياه ، رعت إلهامه ، كانت واقفة وسط الساحة الفنية العربية ، تفتح الباب لذلك الزمان الذى جاء بعد أن غاب صاحبه ، مطمئناً إلى أن الفن الرفيع ليس وقتاً أو عمراً ، وإنما معنى وقيمة ، وذلك مجال من الزمن غير محدود لا تستهلكه عقارب الساعة، طائرة فوق الدقائق وماشية عبر الأيام!
بقلم : محمد حسنين هيكل
من كتاب منير كنعان
فــن الـــخــــط الأمــــامــــى
- كان كاندنسكى فى عام 1912 قد بدأ يرسم بطاقة جامحة ، مثلما تخترق الطائرات السحب ، وتلامس القمم الجليدية ثم تحط ، شديدة الحرارة ، على أرض حافلة بالإمكانيات.
- ولقد بدأنا نفهم الآن أن الفن ما هو إلا نوع من الاستشعار يتخلل الحساسية ويجعلها عارية لاستقبال شتى المؤثرات. والتصوير ليس هو البحث عن لغة جديدة ، وإنما هو السعى وراء لغة يستحيل أن تقوم بوظيفتها مرتين على التعاقب . إنه يشكل ترف الاتصال الفريد ذلك الترف الذى تكف الرموز فيه - بعد أن تدرك مباشرة - عن أن تكون صالحة لحمل رسالة أخرى . والظاهرة الكبرى فى فن القرن العشرين هى استبعاد النموذج ، أى استبعاد وحدة القياس وعلاقة البعد القائم بين أولئك الذين يحددون شروط اللعب ويوجهونه وأولئك الذين يقبلون القيام به . وليس من المبالغة فى شئ - بهذا المعنى - التأكيد بأن الفن الحديث ما هو إلا محاولة لإيجاد فلسفة مطلقة تتحدى فى نفس الوقت التكرار والاستئناف. وإن مالرو لعلى خطأ إذ يبالغ فى الإيمان بمتحفه الوهمى . فللوهم أيضاً قوانينه ، والمصور لم يقتل النموذج لكى ينتهى به الأمر إلى أن يجعل نفسه عبداً للقوانين.
- وكنعان يزرع مسامير لكى يسقط المساحة . ويستعمل الخيط لكى يفك العقد، ويستخدم مصاريع الخشب لكى يرى خلال وإزاء كل شئ، وبخيوط الحديد يشيد أسواراً .
- هذا هو سيد المتناقضات وآمرها ، المصور الحصين الذى يجعل المادة تعبر عما هو خاص بالإنسان وحده . وفى هذا النوع من الجاذبية المقطوعة حيث تحمل مشكلة سقوط الأجساد ألف إجابة مختلفة ، تبدو اجتراءات كنعان أمارات للقناعة ، أو جراحاً أحدثها روبنسون بالمقلوب لكى يخلط نظام الزمن .
- وإذا كان حقيقياً أن هناك حالات استثناء هى لحظات إنذار أو فطنة ، فإن كنعان هو مصور ذو استثناء . وقد اكتسبت أعماله منذ عامين رحابة واتساعاً كافيين لجعلها تستأثر باهتمام الجمهور العالمى .
- وكنعان لم يكن عليه أن يرفض النزعة الفلكلورية العقلية التى تربك أحياناً مسيرة مصورينا فى بداياتهم الأولى . لقد أصبح بسرعة فى الخط الأمامى . وبدفعة واحدة إذ به يستقر فى اللا محدود.
بقلم : جورج حنين 1960
من كتاب منير كنعان
زهرة المشمش
- عندما اقتحمتنى باقة زهر المشمش تملأ فراغ نافذة السيارة أضاءت بداخلى فجأة جميع لمبات الذكرى بوهج مائة مليون فولت .. فى الحال والتو، لم تتداع حكايات الأمس ولقطاتها .. لم أستحضرها أو أنقب فى ثناياها فالأمر كان بمثابة مجرد رفع الستار عن المشهد المعروض على مسرحى الخاص سلفا وحاضرا ومستقبلا .. أيامه معى وأوقاتى معه .. خيوط نسيجى التى تشكلت تبعا لذوقه على نوله الخاص مضفرة فى جدائل غطائه وستائره وبساطه .. اكتشفت أن تأثيره وآثاره حاضرة دوما فى ساحة خلفيتى الحياتية ، وما أقوم به ، وما أنطلق به، وما أنظر إليه ، وما أفتقده ، وما أسعى إليه ، وما أتجنبه ، وما أحبه ، وما أهفو إليه .. كلها عائدة إليه عبر أنفاق موصلة وروافد سارية جارية آتية ومغادرة إلى مركزه ، إلى نقطة بدايته ، إلى منبع إرساله واستقباله .. وبديهى أن أكون تلك وطبيعى أن يدمغنى ببصمته ، ومن غير المعقول ألا أكون مرآته أردد قوله وأغدو بمثابة ظله الباقى على الأرض .. ألم .. ألم أذهب إليه وأنا فى السادسة عشرة ؟ ألم يشكل كيانى وكونى عند بداية تسلقى لجدار المعارف ؟ ألم يقدنى لتكشف آفاق المجهول فى الحب والحرب ؟ ألم يصحبنى لاقتحام شرنقات النقاش والجلسات والثرثرات وعالم الكبار ؟ ألم أتعرف معه على تضاريسى وسهولى وجبالى ورخات أمطارى وبرقى ورعدى ومواسم جفافى وربيعى ؟ ألم يكن الأول والبداية والإرهاصة والأسبق والواجهة والغلاف والبوابة والمستهل ؟ ألم يرسم على وجهى الإبتسامة والعبرة والغضة واللهفة وحمرة الخجل وتهويمة الشجن ؟ ألم يعلمنى قسوة الحدة بين الأبيض والأسود ، ويهدهدنى فى ألوان الباستيل ، ويلهو بى ومعى فوق أرجوحة قوس قزح ، ويجنبنى الأحمر الدامى ويذيقنى عصارة الكرز ورحيق الياقوت ، ويسافر بى فى حمرة الفجر والشفق وخدود الورد ؟
- كنعان .. الحبيب الفنان .. من التقيتة فى سنة أولى جامعة فيستشعر بداخلى جمالا التقطته عيناه فيطلب منى تسجيله فى لوحة غلاف ، فأطعت منساقة مبهورة منومة لأجلس أمامه موديلا أحتضن فروع زهر المشمش .. وظهرت اللوحة غلافا لمجلة ` آخر ساعة ` ومشيت أدب على الأرض مرحا وتفاخرا لظنى قد أصبحت الجيوكندة ، وأن آفاق شهرتى قد تعدت نطاق العائلة والصديقات والجامعة والوطن والبلاد الشقيقة التى يتم فيها توزيع النسخ القادمة إليها على متن الطائرات والسفن .. وبالتدريج خفت مؤشر التعالى عندما لم أجد أحدا البتة قد لاحظ أننى الأصل فى اللوحة ، بل لقد تمادى تجاهلى لينتقل للفنان نفسه لدرجة أن كنعان يتلقى التهانى على رائعته الجديدة بينما أجلس شخصيا فى مكتبه حيث لا أمثل له أو للمهنئ أكثر من مقعد جانبى مجرد واحدة قاعدة من اللاتى يقعدن ... وأدمنت الجلوس أمامه ليرسمنى ساعات تمضى فى تحجرى داخل وضع معين مرهق أعانى جاهدة ألا يهتز لى طرف أو أرعش عينى أو أستدير برقبتى أو أميل بوسطى أو أطرقع مفاصلى أو أطبق أصابعى أو أسند فقرات عمودى الفقرى المتيبس لظهر المقعد الجهنمى .. ويهون التعب كله فى لحظات تمضى كالبرق يشير لى فيها أن آخذ راحتى وأقوم أمشى أو أشرب أو أقول أى حاجة .. وحتى فى تلك اللحظات لم أكن أجد ما أتطلع إليه أو أصبو منذ قدومى ، فهو منصرف عنى تماما فى استكمال رتوش اللوحة والتطلع إليها وليس لى لكنى منساقة للتخشب أمامه مادام حبيبى يجد عندى شعاعا لإلهامه .. ما دام هناك بين لوحة وأخرى زمن متسع للحوار والوئام والتهافت والتراحم والحب والارتباط .. ومكثت أعطيه يدى لاستكمال لوحة لست بطلتها ، وبقيت أجلس فى أوضاع مؤلمة ليلتقط منى حركة كتف وثنية ذراع واستدارة ذقن وتقطيبة جبهة ، وكانت أصابعى بمثابة أدوات حية لعمله تنعكس حركتها على اللوحة بقدرة مذهلة تفصح عن بلاغة كنعان المتفردة فى رسم الأيدى ، ولا أنسى قول الفنان الراحل سيف وانلى فى تعليقه على البورتريه عند كنعان بأنه يرسم الأيدى بعبقرية يحسد عليها بينما غالبية الفنانين الآخرين تتمركز نقطة ضعفهم داخل اللوحة فى رسم اليد بالذات.
- يسألونى عن أسلوبه فى العمل فلا أجد أبلغ من أنه كان يأكل ويشرب وينام ويصحو ويحيا فنا .. اللوحة أقرب إليه من حبل الوريد ، ولست أنا وليس ابنه الوحيد هشام وليس أى مخلوق على وجه الأرض له منزلتها ، حتى باتت عقيدتى - والأعمار بيد الله ولكل أجل كتاب - أن كنعان قد توفى على مرحلتين خلال العام الأخير من حياته : 1999 أولاهما مع بدايات الوهن الذى دب فى أطرافه بالتدريج حتى بات يفكر فى تجميع أعماله وفهرستها وتصويرها وترقيمها وإمضاء ما كان منها بغير توقيع ، وأصبح من كان يعمل من السادسة صباحا حتى ما بعد منتصف الليل ويستغرق واقفا أربع وسبع وثمانى ساعات على التوالى دون توقف أو إبداء حركة خارجة عن إطار الرسم ، ويقول عندما أسأله عما إذا لم يكن يتعب من الوقوف : ` عندما أعمل يغدو جسدى أثيريا كأجساد الهنود فى ممارسة اليوجا لا أشعر به ` .. هذا المعطاء أخذ مع بدايات الوهن يقبع غالبية يومه فى مقعده أمام التليفزيون بل لقد أدمن المسلسلات وهو من كان يصف متابعيها بالتخلف .. ومات كنعان - والأعمار بيد الله - عندما انتقل إلى المستشفى بعيدا عن لوحاته التى كانت تحيط سريره الصغير كفراش طفل حتى لا يحتل حيزا يستقطعه من أحضان مرسمه المكدس باللوحات التى تحاوره وتناديه وتخاصمه وتثور عليه وتلهث نحوه ليتحسس أسطحها ويطمس ويجلو فيها ويقلبها رأسا على عقب وينئيها ويدنيها ويسافر فى زواياها .. فى غيابه عنها استوحشها وآلمه صباحه ومساؤه بدونها ، واستشعر من خلال دوائر الأجهزة والأسلاك والرعاية المركزة وتكثف زيارات الأطباء وهيئات التمريض ، وملاحظته اللوعة فى عيون المحيطين به ، استشعر دنو الأجل ، وعندما وجد أصابعه لا تطاوعه للتوقيع على بعض الأوراق الرسمية المطلوبة تأكد أن غيابه عن لوحاته أصبح فى حكم القرار المحتم وانها خلاص غابت هناك بعيدا عنه للأبد ، وأن نهاية العمر على وشك القدوم ، وأن الستار يقترب من هبوطه لأرض المسرح .. هنا أدار وجهه للجميع ومضى وحده مغادرا لوحاته وبيته وفنه ، سافر وحده ولم يعد معى .. كنعان من كان يخشى السفر ويتراجع عنه فى اللحظة الأخيرة ولا أذكر أنه اصطحبنا أنا وابنه خارج بوابات القاهرة أكثر من مرات لا تتعدى أصابع اليد الواحدة ودفاعه :` يا ماما أرجوك أنا ورايا هنا مليون حاجة وحاجة ` .. ولم يكن وراءه ولا أمامه سوى لوحاته التى لا يستطيع البعد عنها والتى عاش ومات وأمنية عمره لم يحققها ، وهى الحصول على مرسم واسع فى إحدى العمارات القديمة ذات الحوائط المرتفعة ليستطيع التجول بحرية بين اللوحات العملاقة .. مضى وكان فى صراع دائم مع الزمن يشعر - كما كان يشكو لى - بأن الوقت يمضى بسرعة متزايدة .. لم يعد لدى وقت .. الأفكار والألوان والأشكال والمساحات تتزاحم بداخلى تريد الانفلات واليوم 24 ساعة فقط .. ما لدى من وقت باق يتناقص ويتآكل باستمرار وما لدى لأعبر عنه يزداد بانهمار ...
- كنعان فى مراحله الفنية المتعددة تشعر وكأن فريقا كاملا من الفنانين قد قام بإنجازها لا فنان واحد قام بكل هذا الجهد وتميز فى كل مرحلة، وكان فى إمكانه التوقف عند إحداها ليغدو سيد موقفها وأفضل من رسمها ، لكنه أبدا يعشق التجربة ويرحل مستكشفا قارة جديدة يغزوها بأسطول مواهبه المتعددة وجوانبه الفنية الخلاقة التى ليس لها أول ولا آخر ..
- مراحله العديدة الانطباعية والسريالية والتجريدية ثم الكولاج بداياتها جميعا تمثل عنده نظرية هندسية أو مسألة حسابية عليه الوصول فيها إلى الحل الصحيح ، ولقد عايشت قمم بؤسه عندما يعود محبطا مهزوما مكسورا كأن جميع المصائب قد وقعت فوق رأسه ، أو أن مكيدة محبكة دبرت بمهارة ليقع فى فخها ولم يستطع الفكاك منها ، لهذا ساق عربته أوتوماتيكيا من شدة الإرهاق للبيت بعد أن هربت منه جميع الحلول .. أما أن يعود ظافرا مرحا مهللا عطوفا متفاعلا فالسبب ليس سوى أنه قد استطاع أن يضع يده على الحل واللوحة بين يديه قد انضبط إيقاعها وعزفت لحن النجاح قبل تركه لها ، وقد لا يكون الحل الذى توصل إليه وكان سبب سعده وسعدنا مجرد مثلث أسود صغير وضعه فى وسط اللوحة الحمراء ، أو بقعة جانبية قام بطمسها رغم تميزها لكن مساحتها لم تكن تجيد التفاعل مع سائر الهارمونى اللونى فى بقية المساحة .. ويستغرق كنعان فى العمل إلى حد التلاحم فكراً وأداء ، ولقد اعتدت الصمت الذى يلفه أثناء الاندماج لكنه فى بعض الأحيان المبهجة كانت النشوة تنقله للأعالى إلى حد ترديده لأغانى عبد الوهاب القديمة بصوت شجى حنون .. ` يا وابوور قول لى رايح على فين .. يا وابوور قول لى ..` و ` جئت لا أعلم من أين ولكنى أتيت .. لقد أبصرت أمامى طريقا فمشيت ` وكنت أشعر بأنه يبعث لى برسالة خاصة عندما يندمج فى غناء :
- ياللى نويت تشغلنى طاوعنى وابعد عنى / إن حبيتك يبقى يا ويلك من حبى / أغير عليك من اسمك لو يخطر على بال غير بالى وأخاف عليك لو رسمك لاح فى خيال غير خيالى عايزك تكون لى أنا وحدى ما يكونش قبلى ولا بعدى / اللى تشوفه عينى لازم تشوفه عينيك / وتحن دايما لى ساعة ما أحن إليك / تسعد هوايا والقلب إن شكا يوم تداويه وتعيش معايا فى الجو اللى أعيش أنا فيه/ راح أشغل فكرى وبالى عليك / وأحبك وأفضل أعيش فى هواك لحد ماييجى فى يوم وألاقيك / آمنت بحبى وجيت برضاك
- وذهبت إليه برضاى مع سبق الإصرار والترصد .. ويضج ضاحكا بصخب الأطفال ، ثم يعود للصمت مستغرقا وقد ركب البابور متجها إلى آفاق يعرفها .. ورغم ما يبدو عليه من سمات التجاوب العاطفى ظل حتى نهاية حياتنا يردد آراء كانت تعذبنى أول الأمر لكنها صارت مثل الأقوال المحفوظة أخرج وأدخل الغرفة التى يحادث ضيفه فيها فأسمعها وأطردها من أذنى بعدما لم تعد تدمينى ولا تجرحنى ولا حتى تخدشنى ومنها قوله ` لا أريد أن أنتمى لامرأة ، لزوجة أو أقيم فيها .. أخاف السعادة عندما تصبح إقامة جبرية .. هناك سجون لم تخلق للفنانين .. وعقد زواج الفنان يدفع ثمنه من حطامه ..`
- ومازلت أذكر يوم الغليان الذى أسماه الرئيس أنور السادات انتفاضة الحرامية عندما اتصلوا بى من الأهرام للاطمئنان فقلت لهم إن كنعان لم يزل يعمل فى مكتبه بأخبار اليوم فصرخوا محذرين لكى أستدعيه للبيت على الفور فالمظاهرات تقترب من شارع الصحافة ، وحادثته مرة وأخرى وعشرات وكانت ردوده ` خلاص حاضر فاضل حاجة بسيطة واقفلى وأنا جاى ` وانتظرته طويلا ، ودخل فى النهاية متسللا فى ساعة متأخرة من الليل بعد أن هد أعصابى ، وهرعت متسائلة عن كيفية عودته دون أن أسمع صوت الجراج يفتح ويغلق كما تعودت بعد دخول العربة فقال بهدوء ` جيت ماشى ` .. فاستفسرت عما إذا كان قد تركها حماية لها فى جراج أخبار اليوم - وكانت جديدة بشوكها لم تبلغ من العمر ثلاثة أيام ولم يؤمن عليها بعد - فأجابنى بالنفى .. فسألت ، وسألت ، ولم تجاوبنى على وجهه سوى ابتسامة مهدئة كنت أخافها عندما تحدث مصيبة كبيرة فتهبط عليه سكينة غريبة غير متوقعة .. وأخيرا أجاب بأنها أخذت الشر وراحت .. أى شر أكثر من أنها راحت ؟ احترقت عن آخرها فى مكانها أمام أخبار اليوم بينما كان منهمكا فى رسم لوحة بمكتبه بالدور الثانى ولم يعطى أذنه لأصوات الطريق .. وصدرت جميع صحف اليوم التالى وعربتنا البائسة تحتل صدارة الصفحة الأولى مقلوبة ومتفحمة ، وبقيت على هذا الحال كل صبى ميكانيكى له عوزة فى مسمار أو ولاعة أو أكرة شباك أو قلاووظ شكمان أو أى قطعة غيار لم يؤثر عليها الحريق يفوت ينهشها من الهيكل المسجى .. هذا الفنان عشت إلى جانبه يأخذه الرسم منى وأتفهمه ، ربما لأنه شكلنى صغيرة على رؤيته التى ارتضيتها عن حب وطيب خاطر وروح فدائية ، وانعكاسا للقول الذى ظننته فاصلا بأن وراء كل عظيم إمرأة ، وحقيقة كان هذا العظيم .. لقد وجدتنى معه ليس علينا سوى الاستمرار دون التساؤل إلى أين نمضى ، وربما أنى لم أكن أجادله فلم يكن بحاجة للدفاع عن نفسه .. يصرخ من بعيد ينادينى يا ماما تعالى بسرعة بسرعة بصى .. وأتطلع معه لتشكيلات السحاب على لوحة السماء .. لطابور من النمل ينوء بحمل فتفوتة .. انعكاس أوراق الشجر على الجدار .. قطة تغمض عينيها فى الضوء .. تهرؤات بقايا طلاء قديم يرى فيها طائرا محلقا .. نجمة خبت فى السماء ولم أستطع اللحاق بها معه .. و.. عندما تجتاحنى رياح كنعان أتذكر ولعه الشديد بالجدران المتهالكة ، حيث توقيع الزمان ببصماته الموحية عبر السنين ..
- جدران البشر بآثارها المطموسة ومساحاتها اللونية المتصدعة وحفائرها الخربة وتضاريسها المتكلسة وكلماتها الناقصة وإعلاناتها المنتزعة وأيديها الدامية وعيونها المثقوبة ووجوهها المشوهة وأجسادها المبتورة وثنياتها المهترئة .. وسطور المطر القديم والتراب القديم و الفارس القديم والسياسى القديم .. تروى حياة عشناها يعكسها الجدار فيقتطعه كنعان فى لوحة يرسمها بنظرة خاصة ليحيطه بالإطار ويحمله إلى أحضان مرسمه وصدارة معرضه التجريدى .. وهنا أعترف لأول مرة - خاصة لأنه لم يعد أمامى ليقطب جبينه ويخاصمنى وينعتنى بضيق التفكير كأى واحدة من جنسى لا فائدة معها ولابد لها من تنظيف مخها من الغيرة المدمرة التى تقيد أى زوج وحبيب- أعترف بأنى فضلت المرحلة التجريدية فى أعمال كنعان لغرض فى نفس يعقوب ، وهذا لأنها لم تكن فى حاجة إلى الموديل لتجلس أمامه يدقق فى ملامحها النظر وربما يقول لها فى لحظات انسجامه مع عبد الوهاب ما كان يردده فى مسامعى من سحر .. النساء لا مكان لهن فى عالم التجريد المحتشم ، حيث الجودة فقط لعلاقات الألوان والمساحات ، وحتى لو كان فى إلهامه تسكن هيئة أنثوية فالتجريد كفيل بطمسها وتبديدها داخل مربع أو لطشة لونية فيذهب كل من فردتى ثدييها لناحية وينهزم أنفها المشرئب بضربة سكين حادة وتتعرى ساقها داخل الأسود الداكن المظلم ولا تعود هناك ملامح بذاتها ، ولا شفاه بذاتها ، ولا أنثى بذاتها .. كنت قد اكتفيت من لوحات كنعان النارية الضخمة الموحية للموديل العارى التى تعكس فحولة ريشته وضراوة رؤيته وتجاوب ألوانه الساخنة مع أوضاع نسائه المسترخيات بإغراء يذيب الحجر.. حيث أشار لإحداها ذات مرة راويا كنكتة عابرة بأن الموديل اسغرقت فى النوم اثناء انهماكه فى رسمها ، وكان فى براعة كنعان المذهلة فى رسم البورتريه ما يؤهله لثراء ملايينى فاحش ، فالجميع من حولنا خاصة من سيدات الصالونات يطالبن وبإلحاح أن يجلسن أمامه مثلما يجلسن أمام الفنان ` بيكار ` والفنان ` عز الدين حمودة ` لكنى بخباثة عندما كنت أجده منساقا لتيار الموافقة سرعان ما أرافقه . بنعومة اكتسبتها درعا ضد المعجبات - لعالم التجريد لنتقشف معا فى بوتقة الفن المتحرر من قيود الجسد .. والفن الدنيوى والمعتاد والمطروح والمتوارث ..
- و.. حقيقة أصبحنا نفتقد فى هذا الزمن الجدب روح المعلم المعطاء الذى لا يبخل بكل ما عنده ، ولا بإسداء نصائحه وخلاصة تجاربه لأصدقائه وتلاميذه ، يزكيها بنفس رضية سمحة لا تخفى شيئا يحتفظ به لنفسه ليتميز به وحده .. كنعان كان من هذه النخبة الإنسانية التى أوشكت على الانقراض .. كل شئ .. كل شئ مفيد وله عائد فنى يفصح عنه وينصح به ويوجه إليه ، ويقود نحوه المتلقى بهدوء أو قسرا .. ويشعر الأخير بكم الصدق الهائل فى نصيحة كنعان فتغدو لديه القناعة بالتدريج كأنها بمثابة جواز المرور أو المنع لعمله .. وقد كنت شخصيا إحدى الموجهات بريموته الخاص ، عندما يجيز لوحة أنتهى منها أحلق بأجنحة الفرحة ، أما إذا لم تلق لديه استحسانا فلا مجال أو وقت أو تردد فى الإلقاء بها فى غياهب الإلغاء ، بل يصل الأمر إلى تمزيقها على الفور .. وقد لمست تلك الثقة البالغة فى رأيه عند كبار الفنانين من أصدقاء جيله ، حتى إن الفنان الكبير الراحل ` حسين بيكار ` كثيرا ما كان يستدعيه على جناح السرعة ليقول له رأيه فيما يعمل وكان من زوار الفنانة ` تحية حليم ` الدائمين لمشاهدة لوحتها الجديدة والتحدث معها فى أمرها ، وكم كان من عمق الصداقة والثقة بينه وبين الفنان فؤاد كامل ما يعطيه الحق فى الدخول معه فى مناقشات عارمة أنسحب من متناول قذائفها التى تنتهى بقهقهات مرتفعة والتوصل إلى حلول تنقذ مصير لوحة كامل الجديدة ، وكنت أخشى على الفنانين الشباب من قسوة أحكام كنعان وصراحته الدامية عندما يواجههم برأيه فى أعمالهم ، وكم من مرة ثار فى وجهى فى الطريق بعد حضورنا افتتاح معرض جديد لأحد الفنانين ، حيث دخل من الباب ليجرنى من خلفه إلى الباب الثانى دون التوقف لإلقاء كلمة مجاملة لصاحب العرض ، وعندما كنت أنبهه إلى مدى قسوته يهدر ` بالله عليك أخرج أحسن ولا أقوله يروح يشتغل طعمجى وبلاش حكاية الفن اللى مالوش فيها ` .. وقد يتمادى فى أن يأخذ الفنان من يده وسط معرضه ليشير إلى لوحة معينة ليقول له ` من هنا سكتك ، أو عليك أن تمسك بهذا الخيط الذى يقودك للتفرد أما بقية أعمالك فغالبيتها تقوم بدور التشويش على إبداعك الأصلى ` .. وكان فجأة يتغيب عن البيت بلا سبب أو إنذار ويعود مبتهجا لا يجيب عن أسئلة احتجاجى ، وأعرف من ضجته الصاخبة أنه ذهب إلى مرسم فنان شاب واعد يناقشه فى أعماله ويشجعه على المواجهة والتحدى والصمود بأسلوبه الجديد .. وكنعان لم يكن قاسيا وباترا فى أحكامه على الغير فقط بل كان أكثر ضراوة مع نفسه وعمله ، حتى لقد أصدر حكمه الذاتى بألا يكرر عطاء اللوحة مرتين ، وأن تكون جميع اللوحات طازجة لكل منها شخصية مستقلة حتى ولو كانت تدخل فى إحدى المراحل داخل الإطار العام لها حيث ظل فى مرحلة ما بين التكعيبية والدخول فى التجريدية يميل إلى الألوان الفرعونية التى يرتفع فيها صوت الأزرق الزهرى والأحمر الفرميليون الطوبى وكان يسميها مرحلة النوبة ، ثم طغى اللون الأسود والأحمر متجاورين، وأذكر معرضا كاملا من أعماله عن الجداريات . فى مرحلته البيضاء لم يكن يقاوم النداء الملح الموجع للون الأبيض واستدراجه له كلما وقف أو تطلع إلى مساحة بيضاء تنادى يده وفرشاته .. لم يكن يستطيع صمودا او تجنبا لسحر الأبيض وتحديه له وإغراء الجدران واللوحات التى تشهر بياضها فى وجهه كأنها حبيب ينادى ، ومازلت أذكر عندما شاهد فى طريقنا جدارا أبيض بطول العمارة الشاهقة فى الدقى فلم يقاوم نداءه أثناء قيادته للسيارة ولم يوقف اندفاعنا لارتطام المأساة اللهم إلا هزة اعترضتنا كانت بسبب الرصيف الذى صعدته العجلات ليركع أمامنا عمود نور المنتصف .. لقد تمددت مساحاته الجدارية الضخمة البيضاء فى أكثر من معرض كبير لتخدع العين للوهلة الأولى ببياضها وتعكس رؤية كنعان عندما كان يقول عنها إنه يرسم الأبيض على الأبيض .. لكنه أبدا لم يكن الأبيض الباهت الأصم وإنما المتكلم الحى الثرى بالتجاعيد والظلال والسهول والهضاب والبحيرات ، المتزاحم بالأذرع والسيقان والحوافر والمخالب والأنياب والنخاع والريش والأسود والجمال ـ إضافة إلى الاعتدالين الربيعى والخريفى وحركات المد والجزر وتعاقب الشمس والقمر والبدر والمحاق والسحاب ومجرات الكواكب وهذيان المحموم ومجاميع النجوم ، مع أقواس قزح والأهلة والنيازك والكسوفات والخسوفات والبقع الشمسية وأعمدة التلغراف وسيل العربات والقطط السمان وكرسى العرش وبنت البلد والسواقى والنخيل وابن خلدون وسيزان وزقاق المدق ومنديل أم كلثوم ووقع الخلخال ورائحة البخور وقمائن الطوب وصفصاف الترع ودلتا الوادى وشموع السبوع والعيش البتاو وبحيرة البجع والبرقع والملاءة اللف وسيدنا الحسين وقطر الندى ومآذن الآذان ودراهم السلطان ودولار الخواجة وأنصاف الرجال وأبو رجل مسلوخة ودقة الزار والقلل القناوى وسيجموند فرويد وفرقة حسب الله والخيار اللوبيا وسوق غزة ونطة الإنجليز وصدر مارلين مونرو وأبطال الفالوجا والنارجيلة وعنب الشام وحرير أخميم ..
- وحتى مع الحب لم يكن كنعان مجاملا ولا خالطا بين العاطفة والعقل حتى إننى كنت أخاف من رسم كفه التى ينفصل فيها تماما خط العقل عن خط القلب .. كان يصدر أحكامه بلا مواراة أو دبلوماسية أو ألوان رمادية .. يا أبيض يا أسود .. وعندما كنت أتسلل لتلك النقطة بعد حديث أتعمد أن يكون ناعما طليا ذا شجون كانت الجدية تعود فورية إلى ملامحه ومقاطع كلماته متهما لى بأننى شخصيا لا أرحب بالنقد وأكره التوجيه وسوف يقف كل ذلك عقبة مزمنة فى سبيل تقدمى ..و.. كيف أنسى له عندما توجهنا إلى مكتبه ونحن طالبات ندق أبواب سنة أولى صحافة لنجلس إلى الفنان الشهير نسمع نصائحه فقال الكثير عن الموهبة والشخصية والهواية و.. وأراد اختبار قدراتنا الفنية بإعطاء كل واحد منا فازة فخارية صغيرة لنرسمها ونعود بها له فى اليوم التالى .. ومكثت لا أنام منكبة فوقها أرسم حول وجوهها الدائرية المختلفة منظر للنيل والنخيل وشمس الأصيل ، وجئته واثقة من الالتقاء بمديحه ثم إعجابه الذى تمنيته من أول نظرة ، لكنى فوجئت بأعمالنا جميعا تلقى جانبا باستياء بينما يأخذ زلعة صغيرة من يد إحدانا بعناية فائقة وكأنها حجر كريم ليثنى عليها بقصائد المديح شارحا أنها الوحيدة المجددة بيننا التى فكرت بمخ نظيف فقلبت الزلعة رأسا على عقب لتجعل منها تمثالا نصفيا لوجه فتاة بأذنين على الجانبين .. وعلى الفور وضعت تلك الزميلة فى مخى لأبعدها عن سكة من أعجبت به ، وعدت إليه أحمل مفاجأتى الكبرى التى لابد أن تمهد إليه طريقا مفروشا بالورد .. ألبوما لجميع رسوماته المنشورة فى المجلات والصحف التى كنت أقتلعها على مدى سنوات نموى تباعا من شدة إعجابى بها رغم أننى لم أكن قد التقيته من قبل ، فأتانى رده الفاتر وكأن ما تخيلته عملا خرافيا كان بالنسبة إليه أمراً عادياً مفروغاً منه . وذهبت لأقلد رسومه فى لوحات أتيت له بها فما كان منه إلا أن ألقاها بقسوة بالغة على الفور فى سلة القمامة .. وحبست دموع كرامتى وإصرارى الفورى على التبخر من حياته ولعنت إعجابى بمتحجر القول ، فعاد يواجهنى بنصيحته التى وجدت فيها رغم أشواكها المسننة الدامية دفئا ومودة واحتضان ` لا تقلدى أحدا .. لابد من بصمتك الشخصية .. رؤيتك الذاتية .. من أنت .. لست سعيدا بتقليدك لى فسوف يقولون كنعان بيرسم لها ..` ورسمت بعيدا عنه حتى وأنا جالسة إليه ..
- وكثيرا ما سرحت فى سر العلاقة بين ثلاثتهم .. كنعان وبيتهوفن وبيكاسو .. الأخيران كانا مثار اهتمامه وتتبعه ودراسته وغرامه الشديد .. أصحوا من النوم على السيمفونية السابعة وخلفية حياتنا هدير العبقرى الذى كتب موسيقاه دون أن يسمعها ، ليغدو نكد يومى من فجرى سماعها أنا .. ` حاولى يا ماما .. حاولى تعيشى مع بيتهوفن .. تتفهمى موسيقاه .. حسى بقى .. اشعرى .. اندمجى ` وأبدا لم يستطيع السيد بيتهوفن التغلغل فى وجدانى ، وكنت ألوذ منه فرارا لا شعوريا باصطناع طنين داخلى فى أذنى يرتفع ليغطى على الضجيج الخارجى فتتبدد السوناتات والسيمفونيات .. والغريب أنه من بعد كنعان استمر بيتهوفن فى بيتى فأنغامه تستدعى من حولى إطارا حميما كان كنعان يعمل بداخله ويهز فرشاته مع تصاعد الدقات كعصا المايسترو .. أما السيد بابلو بيكاسو فكان محور حديثنا ونقاشنا وخبزنا اليومى.. لاشئ عنه لايعرفه كنعان .. لوحاته .. بداياته .. ريادته .. اقتباساته .. شطحاته .. غرامياته .. أنانيته .. نظرة عيونه الثاقبة .. أخلاقيات برج العقرب الذى يمثله، وكثيرا ما احتوتنى قناعة بأنى قد تزوجت يا إما ببيتهوفن أو بيكاسو إذا لم أكن قد اقترنت فى الحقيقة بضلعهما الثالث كنعان ، من نلت قسمتى ووعدى ونصيبى معه ..
- كان الزمن بالنسبة لكنعان يقاس باللوحات التى أنجزها لا بأوراق النتيجة التى يقلبها .. يأتينى مثل سارية اقتلعتها الريح العاتية على حين غرة ليقول ما يدور بخلده والكلمات تسيل من فمه ، يتطرق إلى كل شئ ، وكل شئ بالنسبة له هو الفن .. ثم يمضى إلى مرسمه فى الغرفة التى مات فيها ألف ميتة وعاش ملايين الحيوات ، حيث كان فيها بالذات يمتلك أحلامه ورؤاه متمردا على الشيخوخة وهذا التمرد هو الذى يبقيه فيها مستيقظا لا ينام .. يتكلم بيديه ويومئ بذراعه وكتفيه ويهدر منفعلا ويريد الانتباه بل يطالبنى بتسجيل آرائه لأنها ستعينه شخصيا فيما بعد أكثر من أى مخلوق آخر .. ويقول .. ويسير أمامى جيئة وذهابا بعواطف محمومة النشاط ينظر فى عينى ليتعرف على وقع كلماته ويكمل عندما يدرك أن كلى آذان مصغية متفهمة أستوعب كل ما يريد قوله ، وحقيقة كان الشغف يبقى بداخلى دوما والاستعداد لسماع المزيد منه مضاعفا ، متفهمة طول الوقت مؤهلة كالشريط الفارغ المستقبل لتلقى فيض نفسه الذى يعجز عن اختزانه .. ويرن وقع صوته فى كهوف الذاكرة : أحب المدارس الحديثة فى الفن التى تطرح أسئلة من خلال أعمالها .. أحب الفن الذى يضعنى فى مواجهة مع نفسى .. فى الرسم اللوحات لا تتطابق وإن تشابهت .. هنالك أرقام سرية تفتح لغز كل لوحة .. الفن ينبغى أن يكون معنيا بالأشكال المجردة كاللون والتشكيل والدرجة اللونية وليس من شأنه أن يستخدم لتحسين الأحوال الاجتماعية .. الرسم يجب أن يكون كالموسيقى مقطوع الصلة بعالم الحياة اليومية .. لى الحق فى الرسم ولدى المبرر للرسم .. الفن انضباط واتزان والتزام .. الفوضى الفنية تكون داخل إطار العمل الفنى فقط للتعبير عن الدفقة الفنية ، أما أن تكون الفوضى فى حياة ومظهر الفنان خارج عمله فهذا كله زيف لا يخدم الفن وإنما يقضى عليه ويثير التهكم والسخرية .. ليس الفنان هو الشخص المنكوش الشعر الغريب الثياب الزائغ النظرات العصبى المزاج .. إنها صورة كاريكاتيرية للفنان ...
- لا يحدث الإلهام بأعجوبة فجائية ، وإنما هو رأس مال يتجمع تدريجيا وحصيلة ثقافية تنمو مع الرؤية والاطلاع والمقارنة ، وأى عمل فنى لا يمكن أن يرى النور إلا إذا مسته عصا العقل وخضع للتأمل والرؤية والإرادة والإصرار .
- الألوان موسيقى صوتية غير مرئية وغير مسموعة بالأذن ، لكنها مسموعة ومرئية بالعين التى ترى وتتعرف على الحركات اللونية والشكلية والضوئية وتستعبد الأنغام الصادرة عن هذه الحركات .
- اللعنة تلاحق الرسامين دون غيرهم .. كلما زاد عذابهم زاد ثمن لوحاتهم .. عليهم أن يموتوا أولا .. عليهم أن ينسحبوا لكى تحتل لوحاتهم مكانهم لتصل أسعارها للخيال . هناك علاقة عشق وهيام ما بين الرسام ولوحته الأخيرة .. نوع من التواطؤ العاطفى الصامت .. حبل وريد متصل لا يقطعه سوى دخول لوحة عذراء أخرى إلى دائرة الضوء أو بذرة جنين جديدة تزرع فى رحم الإلهام .
- إبداع لوحة جديدة جيدة ليس بأهون ولا أشق على الفنان من العثور على جوهرة أو لؤلؤة فى أغوار محيط النفس .
- الفن عملية إنجاب ، وليس هناك ولادة دون آلام المخاض، وآلامها ذروة الآلام جميعا ، لكن ما أعذبها معاناة لأنها آلام من أجل صياغة جديدة فى عالم الجمال . الاستمتاع الجمالى للعمل الفنى لا يتم دفعة واحدة وإنما هى عملية نامية ومتدرجة وخلاقة .
- لا يوجد نقد تشكيلى نتعرف من خلاله على العمل بقدر ما يصل إلينا من خواطر الناقد الشخصية الخاصة وتداعياته الذاتية وتأملاته ومهاراته الأدبية واللغوية التى تستخدم زهور عمرنا ونبض أعصابنا استخداما انتهازيا أنانيا لتقول ما تشاء من عندها لا ما تقوله اللوحة بالفعل .. على الناقد عندما يحلل العمل الفنى ألا يقوم بدور الناصح الأمين والمرشد المتعالى بل بدور المتبتل المتواضع الذى يتحرى الحقائق المطلقة فى الشكل واللون ..
- ليست وظيفة الفنان على الإطلاق أن يسلى هؤلاء الذين لا يملكون حسا فهو ليس بالبهلوان الذى يؤدى دورا لخدمة التسكع الذهنى . لم يكن يعذب كنعان قدر ما يسأله مشاهد فى معرض له عما يريد أن يقوله من خلال اللوحة المعروضة .. كان يرى فى ذلك غاية الصعوبة بل فى حكم المستحيل ، فكان إما أن يرتفع صوته سائلا المشاهد بدوره سؤاله الخالد ` إنت شايف إيه ؟ ` أو يعيد قول بيتهوفن عندما طلب منه أن يشرح ما تمثله قطعة موسيقية انتهى توا من عزفها فأجاب بعزفها مرة أخرى .. لم يكن يحبذ الكلام عن لوحته بل كان هتاف كنعان الدائم ` دعوا اللوحة تعبر عن ذاتها ` ..
- ظلت أعمال كنعان فى غالبيتها بلا عنوان ولا أسماء لكنه فى لحظات تجل مرحه كان يطلق سيلا من العناوين وإن كان فى غالبيتها - خاصة إذا ما كان العمل سوف يعرض خارج مصر - يسميها ` تكوين ` .. وكان رأيه أن العنوان فى الفن التشكيلى للوحة ثانوى جدا لا يمت بصلة لصلب العملية التشكيلية ، بدليل أن الفنان فى معظم الأحيان يضع العنوان فى نهاية عمله وكأنه توقيع بالانتهاء من العمل ليس إلا ، وفى أحيان لا يكون هناك عنوان على الإطلاق ..
- ومن الطريف أن هناك نوعية من المشاهدين عندما يطرقون باب المعرض ينظرون أولا إلى الكتالوج ثم يتوجهون إلى اللوحة التى تحمل اسما لموضوع يستهويهم تبعا لأرقام اللوحات المدرجة بغض النظر عن أهميتها فى العرض .. هذا على الرغم من أن الموضوع لدى الفنان مجرد حيلة أو حجة أو متكأ أو خدعة للتحليق فى الفضاء التشكيلى الذى يسمو بنا إلى سماوات لا علاقة لها بالمكان أو الزمان أو الحدود أو الأرقام ...
- كنعان .. كلما خلوت بنفسى خلوت به .. انتصارته معلقة على جدران بيتى .. أتذكره قادرا على أن يرسم بيده اليمنى ويده اليسرى بالإتقان نفسه .. شهية جنونية للرسم تسرق ساعات نومه .. الألوان تأخذ فجأة لون ذاكرته وتغدو نزيفا يصعب إيقافه ، وما كاد ينتهى من لوحة حتى تتولد أخرى .. يرسم بملء يده بملء أصابعه .. وأتساءل لماذا تلك السرعة والعجلة فى أمره .. لماذا كان يدفع نفسه ويحثها على رسم عشرات اللوحات التى تتكدس من حوله .. وآخذ بقناعة أنه كان يعمل لأنه لابد له من العمل .. رجل يستطيع أن يحيا بلا راحة وبلا طعام وبلا مجتمع ، لكنه عاجز عن الحياة دون شئ أعظم من حياته نفسها وهو قوة الإبداع وقدرة الإبداع .. أبدا لم يستشعر الإحساس بكينونته الحية إلا وهو مستغرق فى عمله ، فهو رجل لا يملك شيئا من الحياة الشخصية ولا يريد شيئا ، وما هو إلا نظام فنى آلى وآلة خصبة يصب فيها طعاما وشرابا وألوانا فى كل صباح فتنتج لوحة .. لا للبيع .. لكن ليوسع لها ثغرة فى حضنه الكبير الزاخر .. كان منطلقا كقاطرة السكة الحديد وكانت أفكار لوحات جديدة تتدفق عليه دون توقف .. وكانت لديه حساسية خاصة نحو الإطار الذى ستوضع بداخله أعماله محددا نوع الخشب وسمكه ويقوم بنفسه بصنع الإطار الداخلى مما تدمى أصابعة من جراء القطع وفقا للمقاييس التى يريدها ويدهنها بألوان تتماشى مع اللوحة ، وهكذا كان يرسم ويحتضن رسمه ولم يعد يبقى كما كان يقول ضاحكا إلا ` أن أشترى لوحاتى بنفسى فيتحقق لى الاكتفاء الذاتى المطلق ` .. وهذا ما قام به بالفعل عندما وجدنا أنا وهو فى أحد المزادات عدة لوحات كان قد اقتناها منه مصطفى أمين قبل اعتقاله 1966 وطرحت فى المزاد مع منقولاته الأخرى فما كان من كنعان إلا أن زايد عليها وأعدناها سويا للوطن الأم .. ولا أنسى عندما قامت بزيارة لنا فى المنزل زوجة سفير إنجلترا لشراء لوحة تجريدية له عرفت مكانها فى الصالون وكانت قد شاهدتها من قبل فى معرضه ، وقبل موعد قدومها بدقائق قام الزوج العزيز - ونحن فى أشد الحاجة لثمنها - بتخبئتها ووضع أخرى مكانها معتذرا لها بأنه قد تم بيعها قبل أيام .. وربما كانت إحدى المرات التى لم أستمع أو أستمتع فيها لأى مبررات جمالية .. تعبيره عن الحب أن يمسك فرشاته إشارة إلى أن حبه يمتد طولا وعرضا ، وأنه يتضمن نصل السكين ورقة الفراشة وعضلات مصارع مفتول .. يرسم أرض مصر بمشرقها ومغربها وشمالها وجنوبها وناس الصعيد وناس وجه بحرى .. مصر فى الأسواق .. فى الحارات .. فى السجون .. فى برج الحمام .. فى الصحراء .. جوال يحمل ريشته على ظهره يسجل الحياة اليومية بكل شخوصها وفنونها وتاريخها ونجومها وصناعاتها فى جولات تشهد بأنه ابن بطوطة الفنان.. عاشق مصر يقبل ترابها وأحجارها وأشجارها ووديانها وصحراواتها ويوزع عشقه على دلتاها ونجوعها وواحاتها قبلات ملونة يمطرها شوقا وجنونا وحبا .. يصور المعابد الفرعونية والكهوف البدائية ومغاور منحوتة ورسوماً جدارية وخضرة التربة وأمجاد الفراعنة فى ثنايا الجرانيت .. ينقل بفرشاته الأعمدة المخرمة بآلاف الصور لآلهة لا حصر لها ونساء ورجال وملوك وملكات وكهنة ووحوش ضارية ترتع على الواجهات المحمصة بالشمس .. من الشرارة الأولى والإحساس المبكر بضراوة اليتم إلى فن يراه نوعا من العبادة .. كان ينادينى بلقب` ماما ` واعتدت دلال وحنو اللقب، لكنه عندما كان اسم ` سناء ` وحده يهبط كالسوط ليلدغ كيانى اعرف أن هناك أمرا جللا لابد أن أحسب له ألف حساب وحساب .. لكنه أبدا كان عاجزا عن فعل أى سوء .. أن يكون قاسيا أو أن يظل ظالما ، فالاعتذار أقرب إليه من الإدانة .. كان رجل قلب ، بل كان قلبا خالصا .. فى كل سمة من سماته كان يشع نبلا وحنانا ورحمة وإن بدت قسماته تحمل عنفا لكنه عنف الرجال الرحيم .. تركت أوقاتى معه تمر دون التفاصيل .. لم يكن لدى رغبة فى مناقشة الهوامش أو الوقوف عند التفاصيل الصغيرة التى يمقتها .. أتدحرج يوما بعد آخر فى مشوار حبى الطويل معه أصطدم بالحجارة والصخور والمستحيلات ولا أنتبه إلى آثار الجراح على قدمى ولا آثار الخدوش فى يدى .. كنت أحلم أن يحبنى الفنان.. الرسام بالذات فالرسامون هم الأكثر تأججا بين كل المبدعين .. شهرتهم لا تعنينى بقدر ما يعنينى خروجهم عن المنطق .. عن الرتابة .. عن السأم .. جذبتنى إليه الابتسامة الحزينة التى تفضح كالبللور الصافى ما يدور فى رأسه .. لم يكن يستطيع الكذب وكنت لا أحاصره لأسأله حتى لا يضطر للكذب أمامى فيغدو طفلا مذنبا يتهرب من عقاب أمه .. وأنا زوجته وأمه وحبيبته ..
- كنعان .. هناك أشياء لم أقلها لك بعد .. وصايا العشر .. الألف .. طبقتها وفى انتظار الوصية الحادية عشرة .. أحمل اسمك وأتبعك .. أقسم أننى سأتبعك .. دعنى .. وكفاك بشظايا الذاكرة .. رغم الرحيل أعيد زمانك إلى الوراء دون حزن فقد أصبحت عندى قناعة بانعدام الأمل .. أترك قطارى يسير فى الاتجاه المعاكس وبسرعة بلا إنتظار لكارثة الاصطدام .. غدوت أتصالح مع الأشياء .. لن أكسر فى إيابى مزهرية .. مات مانيه ومونيه ومن بعدها ديجا ولوتريك وجوجان ، وأتى بيكاسو وماتيس ، ثم جاكسون بولوك وبول كلى .. و.. و.. وكنعان.. الفنان الذى عشق لوحاته بتطرف وقدم لها قرابين أعصابه وأعصابى .. الفنان الذى كان يتركنى غارقة فى استقبال ضيوف معرضه بينما يتسلل هو إلى سكون مرسمه ليبدأ لوحة جديدة .. فى طريق الذكريات فى كل منعطف يتربص بى جرح .. حسبتنى نسيت معايشة الفنان ، لكن دائما هناك عودة عارمة مفحمة له من الأبواب الخلفية ومن ثقوب الذاكرة وفى ثنايا الأحلام المطوية وفى شبابيك العواصف الليلية .. أرجوك لا تطرق الباب كل هذا الطرق فلم يعد لى باب ، وقد تخلت الجدران عنى يوم رحلت ولملمت الحديقة أشجارها وأخرست طيورها وحبست أريجها ولفظت صبارها .. أستحلفك .. ألا تدور حول بيت كان يوما بيتنا .. لا تبحث عن نافذتى فقد سكن الغول ساحتى ولم أعد ذات الضفائر الطوال لتتسلق عليها من حر الجبال ، ولم يعد هناك ما يستحق المغامرة .. فجوة السنين .. تمهل .. متعبة أنا .. تعبت ولم أعد أسكن لوحاته فهى التى غدت تسكننى .. لم تعد سوى لوحاتك .. وباقة من زهر المشمش اقتحمتنى فاحتضنتها ..
بقلم : سناء البيسى
من كتاب منير كنعان
كنعان وإعادة ترتيب العالم
- الإنسان
- قابلت ` كنعان ` منذ ما يزيد على خمسة وثلاثين عاماً . كان متوقداً ، قلقاً ، يدور حول الأشياء ، يلمس الكلمات لمساً واقفاً أو جالساً ، أو ماشياً جيئة وذهاباً . كان ذو صوت له رنين شجى كمثل الطرق على المعادن النفيسة فى جوف الجبل . وكان حريصاً على بدايات الجمل ونهاياتها ، برغم كونه ظل على الدوام متسائلاً عما حوله ، مفتقداً لشئ لا نراه ولا نعرفه . وقد غمت عليه دهشة الطفل وروحه .
- فلو أنت جلست قبالته لجمعتك به أشجان فى الزمن وفى التاريخ وفى الفن وفى الإطاحة وفى الثورة ، وفى الغضب ، بل وفى التصوف ، وفى كشف الغيب كذلك ، ولكنك ستظل بنفس القدر على يقين بأن ` كنعان ` الآخر ، كنعان الذى يفجر الطاقة ويشعلها حين يقف أمام قماشة الرسم ، هو جوهر كامن عصى على الإفصاح لك بما يشق عليه، ويعذبه ، وإنما هو حين يرسم فهو آنذاك يحادث العالم ، ويصبح فيه ، ويضمه حتى يصيرا واحداً .
- وفى تلك الشهور التى سبقت رحيله ، التقيت ` كنعان` ، فإذا به يباغتنى بقوله وقد هب واقفاً للرحيل .. ` أنت يا أحمد اللى حتكتب عنى ` ، فنظرت إلى وجهه محاولاً قراءة الأشياء الخفية ، وبينما أنا كذلك ذاهلاً ، إذ به يضيف وقد رفع يده محذراً ` خد بالك ` ... كانت العواطف مختزلة ، وعيناه مليئتان بضراعة الواثق ، ومحنة الغريب . فتذكرت أبا حيان التوحيدى وهو مهتبل القلب ، مطلق السراح فى الصحراء ، يهجو الناس لنكرانهم وغيلتهم .
- تركنى كنعان وكان يشكو آلاماًا فى جسده ، وكان يمشى ضجراً من فرط البداهة التى لا تجد برهاناً بين الناس ` أنا خلاص تعبت `، على أنى ما فكرت أبداً وأنا ألتقى كنعان أنه يكبرنى بسبعة عشر عاماً ، وما أظن أن أحداً فى حركة الفن المصرى من أؤلئك الذين عرفوا فضله ، قد هجس فارق العمر بهم حين التقوه ، إذ كان كنعان دائماً هو ذلك الحاضر الذى ما إن يصير ماضياً حتى يكون حاضراً فى التو ، باحثاً عن الآنات فى المستقبل . فثمة إذن ما جعله صديقاً محبوباً للشباب ، يفتقدونه فى الذهاب وفى الإياب حين ينصبون معارضهم فى قاعات الفن، ويرهنون اللوحات على الحوائط فى انتظار قدومه . فقد كان أنيساً سخياً وهو يحادثهم كمن يبحث عن ضالته فى حنايا أفكارهم ، وخطوطهم .
- لم يكن كنعان معلماً بقدر ما كان ` معطفاً ` ، و ` مظلة ` للباحثين عن الجديد ، والمبتكر والصادق . بل لعله كان ونساً ونصيراً لبعض أولئك الموهوبين من شباب الفنانين الذين كانو يراهنون على الحداثة أمام وحشية الجهل، وكان كنعان يمضى بينهم مؤرقاً وخائفاً خشية أن يمضى الزمن وتطوى الصفحات طياً .
- كنعان وسنة الميلاد
- فى نفس عام ميلاد كنعان، ولدت ثورت 1919 الشعبية التى غيرت آليات التلقى عند الناس ، وشحذت فيهم إرادة التغيير ، وولد معه أيضاً ` فؤاد كامل ` السوريالى ، التجريدى العاصف ، وواحد من رواد الفن المباغت ` أكشن بينتنج ` ، و ` تحية حليم ` ، إحدى رواد الحركة التعبيرية ، وهى الشجية بتصاويرها التى تفوح منها رائحة أشجار الجميز ، وحليب الصبح ، ورغوة الطمى النيلى ، و ` حامد عويس ` رائد الواقعية الاجتماعية ، الذى ظل وفياً لمعتقده الفنى منذ الخمسينيات وحتى اليوم ، و`عز الدين حمودة ` رائد الواقعية الأكاديمية فى فن الوجه الإنسانى ، و` زينب عبد الحميد ` بلوحاتها الوصيفة الحكائية التى تكشف بنياتها عن الحياة الضائعة فى مدن الفقراء ، ثم أخيراً ` حمدى خميس ` المعلم الفنان المتمرد الذى فتح الأبواب أمام جيل الدارسين فى التربية الفنية على عالم الحداثة الذى كان موصداً أمام وجوههم فى جنبات الدرس ، وفى الحبس الأكاديمى .
- نعم ، ولدت مع كنعان جوقة بكاملها بدت كما لو كانت هى الأخرى شاهدة عليه ، وعلى برهانه فى الفن ، بل وعلى تجاربه الفجائية فى إعادة ترتيب الجمال ، وكسر الخوف وإسقاط الحياد ، والاتحاد مع الغامض الذى يعيد صنع العالم وفق ملكات العقل .
- بدأ كنعان الانخراط فى الفن متسلحاً بفطرته الفريدة فى التقاط اللحظة الزمنية ، وبقدرته على تشرب الضوء حتى تتشبع به شبكية العين ، وبتلك الخاصية التى لازمته حتى النهاية تلك التى تتمثل فى ` حركيته ` الجسدية التى لا تهدأ ، فأنت حين تراه يسير يبدو لك كما لو أنه يدور حول نفسه دوراناً حتى لا تضيع منه اللقطة التى قد تكون مختفية وراء حائط أو باب ، أو جناح فراشة ، أو لحاء شجرة فى القيظ ، فإن جسده جميعه يحظى بتلك الموهبة المسامية التى تمتص الأشياء من حوله ، وتظل فى مكمنها تحت الجلد المشدود المتوتر، وتختزلها فى رصيد المعرفة ، ثم بعدئذ تأتى اللحظة المبدعة التى تجعل الأشياء تمضى فى سبيلها وتتــشيئ فوق مساحة الرسم .
- البداية والنبوءة
- كانت الأربعينيات هى نبوءته الأولى بين ` الواقعية الأكاديمية ` ، و` لتشخيصية الاجتماعية `، و` التجريدية التعبيرية `. إذا كان ` كنعان ` يؤمن بأن صدق اللحظة هو برهان الذات الفنية . لم يكن يعنيه أن يظل ملتزماً بسياق واحد ، وبنمط محفوظ الوزن كمثل التقليديين الذين يملأهم الروع حين يغيرون من أساليب ممارساتهم الفنية . بل كان هو ضد النمط ، وضد تطويع الأسلوب بدعوى الوفاء للنمط . فهذا الوفاء عنده هو اللصيق باللحظة المبدعة وبصدقها وكمالها . ولعله من أجل ذلك لم يلق الترحيب الذى كان يستحقه من قبل أولئك الذين أخذوا يتناولون أعمال الفن بالشرح وبالتفسير ، فتاهت منهم المعانى وقد حبستهم جدران الأكاديمية حبساً .
- كان كنعان رساماً قديراً عالماً بأصول صنعة الفن ، وقد اجتاز الطريق من البعدية ، إلى المنظور، إلى التجسيم الوهمى ، إلى النسب الفضائية ، إلى النسيج المساحى لبنيات العناصر، مستخدماً كافة خامات التلوين ، حتى بلغ قدراً جاوز فيه الأكاديميين أنفسهم فى رحلته تلك التى نطلق عليها وصف ` الواقعية الأكاديمية ` ، فقد أنتج كنعان مجموعات فى فنون الوجه الإنسانى تكشف عن مهارة فائقة اجتاز بها مناطق المصاعب فى التجسيم ، والنسب من الأذن إلى الشفتين، ومن تجويف الأنف إلى الشفة العليا، إلى العلاقات التشريحية الرشيقة بين الوجنات ومحاجر العينين. وكانت وجوهه الجالبة للدهشة بما فى ذلك معالجته للجسد العارى مليئة بتلك السلاسة والبلاغة التى نراها فى أعمال الرسامين العظام .
- وحين انخرط فى عالم ` التشخيصة الاجتماعية ` فى أول الأربعينيات بلوحاته الشهيرة للجالسين على المقاهى البلدية كانت خطوطه الظلية ومواقع التباين منفلتة ، متمردة ، تحمل خواصه الذاتية التى ترفض الحلول الجاهزة . وما كان له أن يشكل بعداً ظلياً من درجة لونية أقتم إلى جوار الدرجة الأفتح ، حتى يحصل على تجسيم العنصر ، وإنما هو أطاح بدرجات المواءمات التقليدية ، وقدم لنا تجسيماً من نوع جديد يدفع إليه المتلقى دفعاً كى يكون هذا المتلقى فاعلاً حين يتلقى العمل وحين يتأمله فى جميع الأزمنة .
- سبقت صياغات كنعان فى تيار` التشخيصية الإجتماعية ` تلك الصياغات التى اشتغلت عليها جماعة الفن المعاصر` الجزار` ، ` ندا ` ، ` سمير رافع ` ، ` ماهر رائف ` ، ` إبراهيم مسعودة ` ، ` حسين يوسف أمين ` ، بثلاث سنوات كاملة . إذ بدأها كنعان بين الأعوام 1942 ، 1943 ، 1944 .. بينما بدأتها جماعة الفن المعاصر أعوام 1945 ، 1946 ، 1947 ، 1948 والمثير للدهشة أن أحداً لم يتوقف ليدق الجرس ، ويطلب إلينا أن نعيد قراءة حركة الفن المصرى ، أو بمعنى أدق ، أن نعيد ` نقد العقل الفنى المصرى`، حتى نضع الأشياء فى صفوفها ، ودرجاتها وتراتبها ... يعنى أن نعرف من ذاك الذى وضع العلامات ، وكيف وضعها وصاغها فى الوقت الذى كان يشتغل فيه بالأربعينيات على عرضها وطولها، تلك المجموعة المؤثرة التى كانت تحظى بقيادة الفنان الرائد حسين يوسف أمين . بين تلك ` التشخيصية الاجتماعية ` ` الرمزية`، وتلك `الواقعية الأكاديمية` سوف نتلقى برافد كنعان الثالث الذى يمثل مجموعة لوحات صغيرة الحجم فى تيار` التجريدية التعبيرية ` ، وقد غطاها طابع مونو كرومى سائد ، واعترضت فضاءها خطوطه مشحونة متعرجة تدور حول مركز منحرف فى مساحة اللوحة ، حتى يكرس الفنان حركية ذاتية ، متتابعة ، ضد الثابت فى مواقع السطح الأخرى من العمل . وتلك بديهية جديرة بالنظر، ما أظن أن فناناً يلتقيها دون أن يكون ذو عين خبيرة ، وسليمة سخية بفضاء الحرفة وصنوفها وتقنياتها .غير أن المثير للدهشة أن كنعان كان قد أنجز مجموعته فى ` التجريدية التعبيرية ` بين الأعوام 1943 ، 1944 أى قبل مدرسة نيويورك الشهيرة التى بدأت عملها تحت نفس المصطلح ` التجريدية التعبيرية ` سنة 1945 وكانت تضم بولوك / ودى كوننج ، وروثـكو ، وجوركى ، وكلاين ، ومزرول وآخرين من شوامخ فنانى القرن العشرين وكان يعود الفضل فى طرح هذا المصطلح إلى الناقد الأمريكى روبرت كوتيس Robert Coates الذى صكها فى العام نفسه بنيويورك . إن تلك التيارات الثلاثة التى تمثل بدورها ثلاثة أساليب فى تناول موضوعات الفن ، هى التى تكشف لنا النقاب عن الشخصية الفنية عند فنان رفيع القدر مثل كنعان ، بل هى التى تلقى ضوءاً ساطعاً على حجم صدامه مع ذاته هو ، وعلى حجم تمرده على يقينه هو ، وعلى حجم اختياره لحريته فى الصراع ضد كل ما هو بديهى بين الكافة.
- الانقلاب
- ما إن عرض كنعان فى أواخر الخمسينات الأخشاب المحترقة ، وحلوق النوافذ القديمة ، وقطع من الزجاج ، والزلط ، والخيش ، ورءوس المسامير ، بما فى ذلك ` غرباله ` الشهير على حوائط قاعة العرض ، حتى قلب الموازين جميعاً رأساً على عقب ، وترك الناس حيارى بين مصدق ومكذب ، ووقف الفنانون والمثقفون مشدوهون أمام ذلك الغامض الغاصب لخيالهم . كان كنعان صامداً ، وقد شمخت قامته ، وكان حزنه ضئيلاً بقدر فهمه لملكات الآخر الذى شق عليه الأمر .
- كيف يرى الناس الأشياء عارية فى دلالاتها ، وأزمنتها، وتواريخها ؟ نافذة قديمة نزعت من مكانها فى البيت ، باب محترق استند على حائط العرض، غربال قديم اهتز جيئة وذهاباً لتنقية الحبوب . ماذا حين تسقط تلك الوظائف وتتفتت عناصرها وتضيع . ما الذى يطاردنا حين نعيد النظر إليها فى قاعة العرض ، أهو التاريخ ، أم الزمن ، أم العادات ، أم الجمال ، أم أننا نراها وقد فقدت دلالاتها كلها ، وصارت وعاءاً فارغاً يحتاج لخيالنا احتياجاً ؟ نعم يحتاج لجمال لا نعرفه ، ولتاريخ آخر يبدأ ، ولزمن جديد قادم ، ولعادات غير مكبلة . نعم ، كان ذلك هو سؤال كنعان ، وجوابه .
- كانت ستينات كنعان عملاقة حقاً، وكانت جدارياته التجريدية التى عرضها منتصف الستينيات تمثل تحدياً لم يسبق له مثيل فى مواجهة أقرانه من أبناء جيله. كان متدفقاً، شجياً، طموحا،ً ملهماً، إلى حد جعل الآخرين يراقبونه بعد أن عجز حلمهم عن اللحاق به .
- فلم يكن كنعان يأبه لشئ سوى لقناعته هو ذاته ، إذ ذاك ، كان نموذجاً للشباب الذين التفوا حوله ، وجعلوه واحداً من رموزهم وونسهم ، وكان لديه من السخاء والطيبة والتأجج ما جعله قريباً إليهم ، محبباً إلى قلوبهم ، بل وواحداً من رفقائهم الذين يلذ لهم مجالسته كما لو كان كنعان فى مثل عمرهم وتجربتهم وخبرتهم وخفتهم كذلك . فيما بعد انخراط كنعان فى رحلته الطويلة المينيماليزمية الكولاجية Minimalism وكان كعادته متزامناً تماماً مع تفجير التيار المينيماليزمى فى العالم ، وهو الذى بدأ معها أواخر الستينيات وبداية السبعينيات .
- أنتج كنعان مئات اللوحات التى فجرت عجينته الأخاذة الغنية بالتنوع ، والتضاد وبإعادة صياغة جماليات السطح .
- كانت تجربته الهامة تلك هى إجابة جديدة فى مواجهة ` التجريدية التعبيرية ` التى عشقها فى الأربعينيات ، فكلما مضى الزمن بكنعان أخذه الروع خشية الوقوع فى نموذج النمط . كان ذاك الشعور يعطل عليه نومه وقعاده . كان حريصاً ألا يفقد خاصية التأمل والتفرد اللتين انفرد بهما طوال العمر . فما من ورقة أو شقفة ، أو وردة ، أو مقرنصة أو طائر ، لا يثير فيه عوالج النفس المتخيلة وكانت معه يوماً حين أخذ يدفعنى دفعاً إلى تأمل لون أخذ يثيره ويستفزه فى حجرته بدار أخبار اليوم .
- الصناديق
- فى الثمانينيات وحتى التسعينيات أخذ كنعان يتأمل الصناديق الآتية والراحلة ، كيف تفتح وتخرج منها لفافات الورق الخشنة المتعرجة . كان يلمسها ويضغطها باحثاً عن
أسرارها الحسية الدفينة ، بينما أصابعه تغوص فى فراغها الداخلى ، فتذكره التكسيرات وصوتها المدغدغ ، بلذة الخبز المحمص .
- إن ` الحسى` عند كنعان هو حالة متصوفة ، مليئة بكل سماوات اللحظة ، وهى هكذا سرعان ما تلقى بغيتها حين تنتج فى ثناياها متعة العقل ، وأثر المعرفة .
- وهو هنا يتساءل حين أخذ يشهر الورقة من غموضها الأخاذ ، لماذا نرسم فقط على قماش الرسم وعلى الخشب وعلى الورق المعد الممهد السطح . وماذا لو لم يكن الورق معداً أو ذو سطح ممهد ؟ إن الفن هو الاكتشاف، هو تعرية لحالة بصرية ، هو ذلك الملتبس فى الغامض ، وهو ذاك الغائب الحاضر، وهو ذاك الهاجس الذى لا يمكن لمسه ، وهو ذاك المحتشد فى الخيال وفى المحتمل.
- هكذا أخذ كنعان أوراق ` اللف ` من صناديق الشحن كما لو أنه عثر على اكتشافه الأول. ثبتها على الأسطح وكأنه يعيد ترتيب العالم . إنما فضل كنعان الأول يعود إلى عناده الذى لم يتوقف فى تحرير الفن من حالة الماضى، وفى بث الجسارة والإطاحة والطموح ، وكسر الدوائر المغلقة ، ونبذ الخوف . وبذلك فتح الباب على مصراعيه لتلك المواهب المؤهلة لدورها فى حركة الفن المصرى ، حتى تأخذ أهبتها ، وتبدأ مشقة الصراع بحثاً عن المستقبل .
بقلم :أحمد فؤاد سليم
من كتاب منير كنعان
- كنعان هو واحد من الفنانين النادرين الذين لم يتلقوا العلم فى أى من الكليات الثلاث فى مصر والتى يتم فيها إعداد الفنانين سواء فى كلية الفنون الجميلة ، كلية التربية الفنية أو كلية الفنون التطبيقية ولا فى مرسم تابع للفنانين الأجانب مثل مارجو فيلون أو المصريين مثل حامد عبدالله ، كما أنه لم يشترك فى أى معهد يجمع الفنانين مثل معهد ليوناردو دافنشى متأثراً فى ذلك بشخصية الفنان حسن سليمان .. كنعان علم نفسه بنفسه ، بدأ أول تعامله مع الرسم وهو فى سن السادسة عشرة من عمره عندما عمل لدى رجل يملك وكالة صغيرة تخصصت فى عمل لوحات الدعاية والإعلانات أو ديكورات واجهات المحلات .وفى ذلك العصر فى نهاية الثلاثينيات كانت مثل هذه الأعمال الفنية شبه محتكرة من الحرفيين الأجانب.
- لم يخجل أبداً من هذه التجربة كما لم تصغر أبداً فى عينيه بل على العكس رفع من شأنها وزادها قيمة . لقد عرف فى هذه الفترة كيف يتعامل مع الخامات المختلفة وواجه أساليب فنية عديدة مثل الرسم على الزجاج وحتى اليوم لايزال يذكر هذه التجربة. وفى عام 1940 التحق بشركة إنجليزية ليرسم وينفذ لوحات للدعاية ضد الألمان ثم انتقل عام 1942 لشركة أمريكية ليرسم خرائط جغرافية وهنا بدأ يتدرب على الرسم . فى عام 1945 التحق بمؤسسة أخبار اليوم الصحفية كرسام ومسئول عن إخراج مجلات عديدة ثم تم اختياره مشرفاً فنياً للمؤسسة ومنذ عام 1942 قرر كنعان أن يلحق نفسه فى ` جامعاتة ` الخاصة .. فتدرب على رسم البورتريهات ومشاهد من الحياة العامة فى الشارع ولم يرض أبداً عن النتائج التى كان يتوصل إليها .. فكان يمضى ساعات طويلة وهو يرسم ، خاصة سائقى عربات الكارو الذين يشاهدهم كل يوم أحد فى مقهى يتجمعون فيه فى منطقة من حى شبرا وهى أكثر المناطق شعبية فى القاهرة . وفى عام 1944 اشترى منه متحف الفن الحديث فى القاهرة إحدى لوحاته ` المقهى الشعبى ` وهى بالألوان المائية وكان كنعان يتدبر شيئاً آخر فى ذهنه.
- ففى عام 1945 نفذ عشرات اللوحات التجريدية بالألوان المائية . وعرضها وقتها على صديق أمريكى كان يعمل معه فشجعه على المضى فى هذا الاتجاه وأطلعه بدوره على تجارب التعبير التجريدى الأمريكى لذلك العصر . ويقول كنعان إنه مع هذه اللوحات أحس لأول مرة بمتعة الرسم ولكنه كان فى نفس الوقت يرتعب من الاتجاه ` التجريدى ` فى بعض ما نفذه وخاصة بالنسبة لوسط فنى يشن عداءه على كل ما هو غير تصويرى وعلى مدى تسع سنوات ظل يحاول إبعاد هذه ` النزعة ` نحو التجريدية متمسكاً بالرسم التصويرى .
- أصبح له مرسم فى درب اللبانة بجوار قلعة صلاح الدين وهو حى مملوكى أصبح شعبياً واستقر فيه كثير من الفنانين . ومنذ ذلك الوقت أصبحت حياته موزعة بين عملين .. فى الصباح يرسم وينفذ ماكيتات لمجلات مؤسسة أخبار اليوم وبعد الظهر وفى المساء يكرس كل وقته للرسم . ومن عام 1946 وحتى 1956 كان يقوم برسم موديل ومن الذاكرة رسم عرايا وطبيعة صامتة ومشاهد من الشارع وبورتريهات .
- وسواء فى رسمه للمؤسسة الصحفية أو لوحاته فقد ترك جانباً الخط الأكاديمى ليحاول آلاف التجارب على الألوان والتكوين وخطوط الرسم . لم يخرج كنعان من مصر ولكنه كان شغوفاً بالكتب الفنية . من خلال الكتب شاهد أعمال مشاهير الفنانين وهكذا التقط كل مكاسب ` سيزان ` ودرس أيضاً أعمال بيكاسو وحاول أن ينقل حصاده المتعدد إالى عالمه الخاص . وقدم فى هذه الفترة أعمالاً تحس فيها تأثير سيزان والمدرسة التكعيبية والتعبيرية أيضاً . وهذه السنوات العشر التصويرية انتهت برحلتين .. الأولى إلى بولندا والثانية إلى النوبة . وكثير من الفنانين سافروا إلى النوبة قبل بناء السد العالى فى أسوان بتشجيع من الدولة ، مقدمة لهم منحا مالية ليسجلوا فى لوحاتهم ما سيغرق تحت مياه بحيرة ناصر. وسجل كنعان مجموعة اسكتشات عن النوبة وأعاد رسمها فى مرسمه فى درب اللبانة وهى التى ستقوده سريعاً إلى التجريد معلنة بداية مرحلة غنية بالتجارب على العناصر التشكيلية التى تتكون منها اللوحة .
- لفظ الموضوع
- وبالابتعاد عن الرسم التصويرى اتجه كنعان لاختيار ما سيميزه الآخرين فى الوسط الفنى بالقاهرة . وعلى عكس ما حدث فى عام 1946 حيث انتقل فجأة من التصويرى إلى التجريدى فإن المرحلة ما بين 1956 و 1959 هى المرحلة التى ابتعد فيها الرسم التصويرى تدريجياً عن اللوحة. ونقطة البداية لهذا التطور هى مجموعة الاسكتشات التى سجلها فى النوبة . وفى خطوة أولى كان يحدد خلفية وفوقها يتضح الموضوع مثل ` المرأة التى تنسج السجاد` و` اللمبة المقلوبة`. ولا تزال الخطوة تقليدية حيث يكون التصوير هو الهدف الرئيسى من عملية الرسم . وللخروج من هذا المنطق بدأ كنعان التعرض للموضوع المجسد ثم حاول تفتيته بمحاولة إبراز فقط قيمة العناصر الأساسية المكونة للشخصية أو الشئ عن طريق اللعب بلمسات الألوان أكثر من اللعب بالملامح أو الخطوط . ولوحة ` المرأة والسجاد ` مثلاً هى التى أوجدت التبرير لغزو التجريد . إن نسج ألوان السجادة لا يترجم انعكاسات الألوان فقط ولكن أيضاً تكوين النسيج حيث الرسومات الهندسية تبدو متغيرة الشكل من خلال الطيات أو الحركة وهذا بفضل المرأة السائرة . ولكن كنعان أدرك حينئذ أنه حتى مع تفتيتة للموضوع وسواء استخدمه كمبرر للاتجاه نحو التجريدية فإن الموضوع لا يزال يشير دائما إلى منطق التصوير.
- وأراد كنعان التخلص من هذا المنطق بالذات. وتوصل إلى مثل هذه النتيجة فى لوحة عنوانها ` تكوين` وهنا أيضاً كانت نقطة البداية اسكتشا نوبيا . والموضوع فى حد ذاته كمادة للتصوير لا يزال باقياً ، العنصر المبرر للوحة ولكن بدلاً عن أن يكون مجرد تعبير للوصول للتجريدية أصبح ملغياً إلى حد كبير وكأن المادة طغت عليه ولم تترك سوى أثر من التكوين القديم .
- وفى عام 1959 اختفى الموضوع تماماً وبدت المادة هى المسيطرة واللوحات المستوحاه من النوبة لم تعد تتميز إلا باستخدام نفس مجموعة الألوان أو بمعنى آخر نفس المهارة فى التلوين. لقد اكتشف كنعان أسلوباً فنياً سيرجع إليه دوماً بإثرائه بعناصر هامة متغيرة فى كل مرحلة من مراحل عمله مع الحفاظ على الفكرة الأساسية ، وهذا الأسلوب يمكن التعبير عنه بكلمة واحدة وهى ` اللوح الممسوح ` Palimpeste ويعتمد أساساً على مسح الرسم الأصلى أو الكتابة الأصلية والرسم فوقه من جديد . ويقوم الفنان برسم اللوحة ثم يمسحها جزئياً مع إضافة لمسات لا تترك سوى أثر يظهر من تحتها وهكذا تولد اللوحة . فى البداية كان لدى كنعان الوسيلة لإزالة الموضوع والسمو بالتعبير ، وأذكر هنا كلمة ` رولاند بارسز Roland Barthes عن تومبلى Twombly ` تصف بالضبط ما يريد كنعان أن يصل إليه . تقول الكلمات ` ينبغى على الفن إظهار الأشياء ليس التى يصورها ` وهذه قضية أخرى ولكن التى يتعامل معها `.
- أثناء هذه المرحلة النوبية سيبقى دائماً شئ ما - وهو كثير فى البداية - فى الموضوع أوالتكوين . فى النهاية فإن الرجوع للشئ المصور لن يكون مجسداً إلا ببعض المناطق الملونة فى عمل يتحدد ببعدين فقط مع الهدف بتأكيد اللوحة على أنها رقعة مسطحة وليست كمكان يجب بالضرورة أن يسجل فيه موضوع وأن يصور ليبرز معنى أو يؤثر على الأحاسيس . لقد حدثت نقلة كبيرة و الحس هنا لم يعد حيث نتوقعه بل لم يعد فى التصوير كله.
- الحوائط 1960 : 1964
- والمرحلة التى تمتد من 1959 حتى 1964 لها بداية تتميز بوضوح من خلال لوحة اسمها ` الحائط ` والتى تحدد الانفصال عن المرحلة النوبية .
- ومثل ما حدث فى المرحلة الأولى فإن كنعان احتاج لنقطة بداية وفى هذه المرة لن تكون خارج ما سيصبح موضوع لوحته التى ستتحول إلى رقعة ذات بعدين وفيها تسجل مكونات اللوحة . وهذه اللوحة تشهد استقلاليتة عن كل موضوع وعن كل شئ خارج عنه . إنها تنغلق على نفسها متضمنة فى نفس الوقت بدايتها ونهايتها ، وسائلها وغايتها ومكونة بذلك لوحة فنية . وإذا كان كنعان قد انطلق من موضوع تصويرى وهو النوبة فإنه تخلص من` الموضوع ` وعثر على غايته المطالبة بالاعتراف بالسطح المرسوم كما هو عليه بدون اللجوء إلى ما توحى إليه الصورة . وهو لم يفرض هذا الأسلوب مرة واحدة ، إنما توصل إلى اكتشاف بإسقاط من لوحته ما يريد أن يتخطاه أى التصوير والرسم التشخيصى . إن اللوحات الأخيرة للمرحلة النوبية توصلت تقريباً لهذه الاستقلالية وسيتحكم كنعان فيها تماماً برفضه فى أعماله التالية . أى رجوع لاسكتشات النوبة مهما كانت بالنسبة للمشاهد بعيدة أو دقيقة.
- وفى اللوحة الأولى لبداية هذه المرحلة فإن الرجوع للحائط لا يعنى بالنسبة لكنعان الوقوع فى منطق التصوير إذ ليس له أى معنى رمزى أوغيره يتعلق بالزمن أو الوقت أو بؤس المكان. إن العلاقة المتواجدة بين اللوحة وبين أى حائط متداع ومتعفن للقاهرة هو من وحى الحس والانفعال المتولد من الخامة نفسها على أنها ` نسيج ` ولون . وهذا البعد لا وجود له فى تعريف ` كاثرين جودين ديرينج ` ولكنه قاطع عند كنعان . إنه يبرهن على أن الشعور يمكن أن يولد من الخامة نفسها بنفس الحيوية التى يولدها الرسم التصويرى . - إن العنصر الأساسى الذى يبنى المسطح المرسوم ينحصر فى الخامة التى تتكون أصلاً من عنصرين وتبقى الصلة وهى التركيب أكثر من الشكل واللون . وكنعان يعرض الخامة ` كواقع ` ` كمذهب` .
- وفى بداية المرحلة فإن التركيب هو المهم ليبرز طريقة التعامل مع ` العجينة ` . وهو يهدف إلى أن يجعل خامة الرسم بالزيت محسوسة ولا يستخدم لذلك ` لزوجة المعجون ` على طريقة Feutrier على العكس أن الخامة عند كنعان تلتصق بالأساس وتشغل كل التصميم وهى لا تنطوى على أى إيحاء . إن التركيب إما ` بارز` فى بعض الأحيان وكأن كنعان يخلط بالزيت قليلاً من الجبس أو خفيف وشفاف وفى هاتين اللوحتين واللتين يصفهما كنعان بإنهما ` مرحلته البيضاء ` فإن الخامة تزداد سمكاً مشكلة بذلك ` النص` الأول الذى يعبر عنه . ولكن لتمسكه بأسلوب المسح وإعادة الرسم فهو يمسح بخامة أكثر خفة وأكثر شفافية فيتراءى من تحتها التعبير الأول بتغطية المساحة جزئياً أو باستغلال الشفافية فيها.
- وهكذا يولد ` الشكل` وهو إن كان متعدداً فى التعبير فهو ليس مدققاً ، ووظيفته قبل كل شئ تحديد المسطح المرسوم كمسطح فقط . إن الشكل لا يولد من النقطة أو الخط أو المفردات الهندسية وإنما يولد من أسلوب المسح وإعادة الرسم . إن كنعان لا يقدم الشكل على ما هو عليه وإنما يظهر رغماً عنه منبثقاً من لعبة الفنان بالخامة واللون .
- اللون هنا على العكس له دور أساسى فى اللوحة .. ` إن السطح لا يعتبر هكذا إلا من اللحظة التى يتعامل فيها مع ما يخالف حدود نظامه أى اللون فى تعدد علاقاته مع الشكل حتى ولو لم يزد تعدد الألوان عن اثنين فقط`. وفيما يخص كنعان يمكن أن نقول إن اللون يبرز الخامة أكثر من الشكل عن طريق تخطى حدودها . وإذا وضعنا جانبا الأسود والأبيض نرى أن كنعان لا يستخدم فى هذه المجموعة سوى ثلاثة ألوان وهى الأوكر والأزرق والأحمر بالدرجة التى نجدها فى النقوش الفرعونية . والفنان لا يلجأ إلى المبالغة فى استخدام الألوان ، فلا نشاهد اللمسات الصارخة . وبدلاً من التضاد يلجأ للتناسق ، وبذلك نبعد كثيراً جداً عن أسلوب التعبيريين التجريديين الأمريكان. وفى الواقع وعلى الرغم من اختلاف الأسلوب إلا أن عمل كنعان أقرب للفنان ` جون كاسبر` .. فى عام 1955 يشترك معه فى نفس الاهتمام بالبعد عن ثنائية التنفيذ والحركة أى التنفيذ وتلقائية التعبير. - تمسك كنعان بالعلاقة بين الخامة واللون والتى تقدم السطح الملون كما هو عليه . وهو يريد أيضاً أن يخلق عن طريق الأسلوب طريقة تنفيذ تعيدنا إلى ما بعد الفن التجريدى. فى هذه المجموعة ينتج كنعان لوحات تغيب عنها الحركة والإيقاع . إنها لوحات تحركها فقط لعبة المعجون واللون بحثاً عن توازن بين هذه العناصر مما يخلق شيئا من التشبث بالأساس وهو السطح المرسوم والذى يعرض كما هو بكامل استقلاليتة بالنسبة لكل ما هو خارجى عنه .. والعمل الذى يطوره كنعان منذ عام 1959 بجانب المجموعات ` النوبية ` و ` الحائط ` يؤكد أنه لم يعد له موقع فى منطق التصوير . حيث أن رفض الموضوع يمضى بالتساوى مع التعامل على أساليب فنية جديدة التى تعطى الأولوية للخامة والأسلوب نفسه .
- ولكنعان كما لــ` روشنبرج ` فإن ` أى شئ يستخدمه الفنان يساوى الاستخدام التقليدى للون` وانطلاقاً من هذه الأسس يقدم كنعان مجموعة من اللوحات يصبح فيها اللون أى الرسم الزيتى دائم الوجود حتى ولو ببعض اللمسات . واللون يمزج دائماً بخامات عديدة وسيتمسك بأن يبرز فيها الخواص الفنية المتميزة .
- وهكذا يستخدم الخطوط المتقاطعة بالتداخل مع الألوان الزيتية . وانطلاقاً أيضاً من أسلوب المسح وإعادة الرسم يستخدم كنعان الخطوط المتقاطعة فى اللوحة ليستغل فيها خاصية ` الشفافية ` عند تغطية المسطح المرسوم . وبنفس الطريقة سيقدم لوحات توحى بأنها ذات نسيج عريض باللعب بالتقطيع واللصق والألوان ويتعامل كنعان مع خامات بسيطة طبيعية وهى نفسها التى يجب أن يتعامل معها اليوم وبكثرة فنانى` الفن الفقير` Art Povera وخاصة الخشب الذى استعان به كنعان لعمل تراكيب تبدو أقل ` برودة ` بكثير من تراكيب ` لويس نيفلسون` وقد نجح فى إعطاء اللوحة شحنة عاطفية قوية باستخدام اللوحات الخشبية أو لوحات التجريد التى كلما حملت فوقها آثار الاستخدام و القدم كلما كشفت أكثر عن ` خلاصة الخامة ` وجوهرها . وبتجميعها هكذا تبدو قطع الخشب كدعامة وخامة فى نفس الوقت . ومن هنا يتوصل كنعان إلى اختصار ` إلى أكبر حد ` العناصر المكونة للوحة التى تنتمى بذلك إلى طبيعة الرسم على الحائط بفضل المزج بين المساحات التى تشغلها قطع الخشب والمساحات الفارغة التى تمتلئ بالحائط المعلق فوقها التكوين .
- وكل هذه الأبحاث نحو استخدام خامة جديدة ولأول مرة على الأقل فى مصر تكمل الأبحاث التى أجريت على مجموعة ` الحائط ` وهى من ناحية حدثت فى نفس الفترة ومن ناحية أخرى لها قاسم مشترك وهو تأكيد ` فن رسم الخامات المكونة للوحة ` وفى اللحظة التى يواصل فيها كنعان تجربة وبناء إغلاق الحيز التصويرى فى مجموعة ` الحائط ` فإنه يبحث كيف يهرب من إغلاق هذا الحيز مع الاستمرار على تأكيد أولوية الخامة والمسطح الملون كعمل فنى فى حد ذاته . وسيقدم على عدة حلول مع الإدراك أنه يجب من خلالها خلق ظاهرة ` التدخل الصريح ` الذى يساعد على عدم الوقوع فى مذهب اللوحة المغلقة على أنها نتيجة لتداخل العناصر التى تكونها .
- إن ` التمزيق ` الذى نفذ فى إحدى رسومات مجموعة الحائط نجح تماماً فى انفتاح الحيز التصويرى . والملاحظ من هذا الأسلوب أن الحيز المبتكر حديثاً باستخدام ` التمزقات ` يعود بنا إلى تصور الانفتاح كما هو عليه .
- وبالطبع فإن كنعان يهدف إلى فتح الحيز التصويرى ولكنه يأمل أيضاً تحميل هذا الانفتاح بمعنى مزدوج . إنه يدخل على المساحة المرسومة المنغلقة على نفسها عنصراً يكفى وجوده إلى خلق الانفتاح الفضائى ولكنه فى نفس الوقت يحمل معه قليلاً من العالم الذى يأتى منه محدثاً بذلك فجوة تعبيرية. وهذا ينطبق على لوحات سأطلق عليها عناوين` القناع` و` رموز لمعانى الكلمات ` والقناع كما أعتقد ليس سوى وجه الفنان المرتبط أبدياً وعاطفياً بعمله إنه بمثابة توقيع أكثر منه محاولة ما لإدخال تصور مرسوم .
- ومما لا شك فيه أن كنعان سيستخدم اللصق كأسلوب متميز لتدخلاته القاطعة والتى يمكن أن تكون ` رمزية ` بأشياء أو قصاصات ورق ممزقة عادة باليد وملونة ومسجل فوقها بعض العناوين . وفى الواقع فإن من الثوابت فى عمل كنعان استخدام الحروف كعناصر ` تجريدية ` للتدخل . وكانت فى البداية حروفاً عربية من صحف يومية . وفيما بعد ستصبح دائماً حروفاً لا تينية مثل توقيع اسم كنعان الذى يدخل بهذا عنصراً يميزه ويبعده أكثر بالنسبة للوسط الفنى المصرى . فهل قراره بعدم إدخال الكتابة العربية فى لوحاته هو نوع من الاستفزاز .. ؟ وأخيراً فهو يستخدم البطاقات والعلب الكرتون وورق التغليف . والعالم الذى يدنو إليه هو عالم الوجه الآخر من الديكور أو عكس الديكور .. أى ما لم يتعود أحد على إظهاره .
- ` تعرض الفنان نفسه بالرد على هذه النقطة فى حواره مع الكاتب عادل السيوى `
- الإيقاع كانفتاح للحيز التصويرى
- على مدى 3 سنوات تقريباً من 1964 وحتى 1967 يقلل كنعان من نشاطه الفنى . وعندما يستعيد فرشاته فإنما ليحدد بوضوح انفصاله عن المجموعات السابقة بتطوير أبحاثه عن انفتاح الحيز التصويرى التى بدأها عام 1959 على هامش مجموعات النوبة والحائط ومع هذه المجموعة الجديدة التى سأطلق عليها إسم ` الإيقاعات ` يمر كنعان من منطق إلى آخر .. من منطق انغلاق الحيز التصويرى إلى منطق انفتاح الحيز التصويرى .
- وإذا كانت مجموعة الحائط تتميز بأسلوب اللاحركة لتبرز أكثر قيمة الخامة والمسطح المرسوم فإن مجموعة الإيقاعات تدخل الحركة وهى بعيدة عن مفهوم الحركة عند التعبيريين التجريديين الأمريكان. لأن كنعان عندما حرم التعبير التصويرى من اللوحة فهو ألغى فى نفس الوقت ونهائياً أى رجوع لأصلها وعلى الأقل فيما لا يتعلق بطريقة مباشرة لمجال الأحاسيس و ` الإدراك ` .
- وعلى عكس التعبيريين التجريديين الأمريكان مثل ` بولوك وماذرول ` فإن كنعان يعبر عن استخدام أسلوب يتعلق بالسريالية حيث تقوم حركة الكتابة الذاتية بترجمتها إلى رسم هدفه التعبير عما ` يحرك ` اللاشعور.
- والحركة التى ينفذها كنعان هنا هى أقرب للإيطاليين أو الروس مع الفارق أن كنعان كان يسير فى الطريق بالعكس متنقلاً من فكرة المجال الذى يعبر عنه بالمساحة المرسومة فى مجموعة النوبة والحائط إلى فكرة الوحدة القاطعة التى تظهر فى مجموعة ` الإيقاعات ` لتعلن ولادة الحركة ولعبة الديناميكية التى تخلق الإيقاع . وحينئذ يعدل كنعان عن` المادية` التى تغلق الحيز التصويرى ليصل إلى الانفتاح باستخدام وسائل أخرى غير التدخل القاطع . ولن تعد اللوحة تلك المساحة المرسومة وعناصرها المكونة لها والتى تحقق انغلاق الحيز المرسوم وإنما هدف اللوحة هو الإيقاع الذى يولد من وحدات قاطعة ومحققاً بذلك انفتاحا كاملا للحيز المرسوم وتجريد المساحة المرسومة من مادياتها . وفى هذه المجموعة الجديدة يلجأ كنعان لأسلوب المسح والرسم من جديد الذى سبق أن استخدمه عندما كان يبحث عن إلغاء الفكرة التصويرية من اللوحة. ولا يمكن للواحد أن يفترق عن الآخر . ومن أسلوب المسح مع التغطية من جديد ومن ` إعادة الكتابة ` تولد التجريدية ومادية المسطح المرسوم ، وفيما بعد أيضاً الإيقاع واللامادية لهذا المسطح .
- فى مجموعات النوبة والحائط نجد أن مادية المسطح المرسوم والعناصر المكونة له تزداد قوة بغياب أى أثر لأداة الرسم . وعلى العكس فإن أثر الفرشاة يخلق فى مجموعة الإيقاعات الوحدة القاطعة التى تولد الحركة وبالتالى اللامادية الجزئية للعناصر . وهى جزئية لأن كنعان يستمر فى اللعب بشفافية ونسيج المادة . ولكن هذا ` اللعب ` لم يعد العنصر المسيطر فى إخراج اللوحة .
- والوحدة القاطعة تعتمد على أسلوبين للتعبير فى هذه المجموعة : الخط الموروب والزاوية القائمة . والخط الموروب يوحى بالحركة ولكنه لا يخلق الإيقاع . أما الزاوية القائمة فهى تولد لعبة فقد التوازن والتضاد للوحدات القاطعة . ومن التكرار المتعدد لأسلوب المسح والرسم من جديد ولعبة تضاد الحركات التى تجسمها الوحدات القاطعة يولد الإيقاع . ويشارك اللون فى لعبة تضاد الحركات ويضاعف الإيقاع بتضاد الأحمر والأزرق مع الأبيض . ويبقى كنعان وفياً لألوانه . وفى المجموعات الأولى فإن اللون يصاحب المادة ولا يسطير عليها .. وعلى الإيقاع واللامادية يسيطر اللون على المادة وإن كان فى نفس الوقت واقعاً تحت سيطرة الإيقاع يفتح حيز اللوحة إلى الفضاء اللانهائى، ويمكن أن نقول إلى الفضاء الكونى . وهذه الكلمة لا تعنى أى فكرة روحانية عند كنعان .
الحركة الظاهرية أو الحقيقية كانفتاح فضائى إن مجموعة الإيقاعات هى آخر مجموعة يرسمها كنعان فى لوحاته . فمنذ السبعينيات يتخذ أسلوباً جديداً وهو أسلوب اللصق مع استمرار اهتمامه بانفتاح الحيز المرسوم . ومع ذلك فهو لا يتابع التجربة التى حققها مع مجموعة الإيقاعات . إنه يبحث الآن فى السيطرة على ` التفتيت ` للحيز المرسوم وهو نتيجة الحركة والإيقاع . كما يسعى إلى إعادة الانفتاح إلى نسب أكثر إنسانية حتى لا يتوه الفنان ولا المشاهد فى لا نهائية الحيز المفتوح .
- ومن هنا ينتقل إلى ابتكار مجموعة من اللصق التى استوحاها من فن الحركة الظاهرية أو الحقيقية ( وهو فن يعتمد على الخصائص المتغيرة للوحة ) . والانفتاح الفضائى الذى توصل إليه يتوقف قبل كل شئ على المشاهد الذى يعيد خلق الأشكال والألوان كلما تحرك أمام اللوحة وبتحرك شبكة العين ، وخداع النظر ينسج علاقة غير مرئية بين اللوحة وعين المشاهد الذى يقع فى شرك هذا الخداع البصرى .
- ويستخدم كنعان فى هذه المجموعة الجديدة صورا من مجلات أو لافتات دعاية فقط . وسيستخدم بصفة خاصة غلاف مجلة سبق له أن قام بتصميمها وطبع منها مئات النسخ ليحصل على أكبر لصق أزرق وأحمر .
- فى بداية هذه المجموعة يحاول إدخال الحركة بخداع البصر واللعب بتضاد الألوان ولكن جاءت النتيجة استاتيكية ولذلك يعود للحركة المنبعثة من الخطوط الموروبة والحركة التى تولد من تكرار العناصر المكتوبة أو الملونة . والتأثير الذى حصل عليه من الخطوط الموروبة المتقاطعة هو لكنعان رمز لديناميكية عالمية ويتغير بإيحاء التكرار الذى يصنع المشاهد فى قلب ` تأمله ` . الشخص . إنها حلزونية الرؤية التى تلتقطها الحركة .
- مسطحات لانفتاح الحيز التصويرى
- فى عام 1980 بدأ كنعان عملاً على أسس جديدة وهى المسطح أو بالأحرى لعب التضاد بين المسطحات كوسيلة للانفتاح الفضائى .
- فى عام 1959 كان قد نفذ فى مجموعة النوبة لوحة تتداخل فيها فكرة اللعب بالمسطحات. وفى عام 1980 سيطور ما قد بدأه فى هذه اللوحة.
- ومن المجموعات السابقة سيحتفظ بالشكل التجريدى ومبدأ التدخل القاطع والإيقاع . وسيستمر فى العمل بهدف أنه يجب تأكيد فكرة الانفتاح الفضائى فى اللوحة . ولكن هذا الانفتاح لن يعيد إلى الفضاء اللانهائى كما فى مجموعة الإيقاعات ولا إلى مشاهد مجموعة الحركة الظاهرية والحقيقية .
- ويقوم كنعان برسم أكثر من عمل بالحبر الشينى مع تشبعه بالألوان وإن كان فى معظم الأحيان باللونين الأسود والأبيض. ويتفرغ كنعان بعض الوقت للعمل بالحبر، وهذه الرسومات ` الأصلية ` تستخدم فيما بعد وتقطع أو تترك كما هى وتبدأ لعبة جديدة بين هذه القصاصات التى يزودها كنعان ببعض عناصر ملونة. ولأول مرة يستخدم اللون الصارخ كعنصر دخيل على اللوحة ولكنه لن يأخذ مكان الصدارة فى لوحات اللصق إنه مجرد عنصر لإيجاد التوازن أو الانفصال أو الانفتاح الخاضع للشكل العام للوحة والذى تمليه لعبة التضاد بين المسطحات .
- والمسطحات المختلفة تتكون من رسومات لكنعان نفسه . وبالإضافة للون المستخدم كانفتاح للفضاء فهو يخلق مجموعة متناقضة من مسطحات يتم تجزئتها لتزيد من مساحة اللوحة الأصلية . وتكتسب اللوحة حيزاً أكبر كما فى اللعب بالمرايا . والحيز المنفتح بهذا الشكل أصبح لا نهائياً فى لعبة الانعكاسات الذاتية.
- النهاية
- قام كنعان بتطوير بحث فى اتجاهات عديدة ومتعمقة عن العناصر المكونة للوحة . وهذا البحث الفنى التشكيلى أراد أن يؤكده كأساس فى عمله كفنان . وفى رأيى يعتبر كنعان فى القمة فهو أكمل التجريديين .
بقلم : كريستين روسيون
من كتاب منير كنعان
دنيا كنعان...
- قبل أن نسارع بالحكم على `كنعان` بأنه فنان عبثى، كما يستسهل بعض المعلقين والنقاد الحكم عليه، أبادر فأقول أنه فنان جاد، متمكن من تقنياته الأساسية كرسام ومصورماهر، أثبت منذ الأربعينيات حضوره المتميز فى المعارض كرسام تشخيصى، وأعماله حتى الخمسينيات تملك أستاذية فى هذا المجال، خاصة فى الرسوم التوضيحية بالصحف، حيث عمل منذ شبابه المبكر رساماً بمجلات مؤسسة دار الهلال ثم بمؤسسة أخبار اليوم - خاصة بمجلة آخر ساعة- وكم رسم مشاهد الحياة اليومية فى الشارع المصرى وقاعات المحاكم وما إلى ذلك، لكن ذلك تزامن مع مشاركته فى معارض الفن والحرية بفكرها المتعارض مع الواقعية، وربما كان أسبق من فرسانها فى التمرد على التشخيصية والسريالية، ورفض الانضواء تحت أية مسلمات أيديولوجية أومواقف سياسية أو ثورية. وبينما نجد أن التحول الجذرى قد حدث للجماعة بعد تفككها أواسط الأربعينيات، بالتخلى عن السريالية والمعانى الأدبية والمشخصات الإنسانية، والإبحار - بدلاً من ذلك- فى مطلقات الشكل واللون، دون قيد من الفكرة أو الرمز أبعد من ذلك، فقد كان أول فنان مصرى يستخدم أسلوب الكولاج، مبهوراً بقيمة `الملمس` فى الأشياء والنفايات.. وبمنتهى الجدية كان يستخدم نسيج الخيش الخام مثلاً فى تشكيل لوحاته دون أن يضع عليه أى لون، بل يثبت فوقه غربالاً قديماً أو قطعة من خشب الصناديق أو ما شابه ذلك...
- وتقتضى الأمانة أن نذكر أن ثمة تجارب مبكرة أخرى قد تمت فى هذا الطريق لفنانين وفنانات أخرين متزامنة مع تجربة كنعان، خاصة تجارب الزوجين سعد الخادم وعفت ناجى أوائل الستينيات، لكن الغاية من وراء التجربتين كانت مختلفة تماماً.. فبينما كانت لدى سعد وعفت تهدف إلى استلهام جماليات الرموز السحرية للجماعات البدائية وإعادة صياغة للموروثات الشعبية فى فنون النوبة والريف والصحراء برؤية عصرية، تدخل أيضاً ضمن منظومة المد القومى فى مصر أنذاك، فإن تجربة كنعان كانت تستهدف - مباشرة- اللحاق بتجربة الفن الحديث فى الغرب، ابتداء من `الراعية` التى بدأت قبل العشرينيات فى أوروبا كثورة على المجتمع البرجوازى ورد فعل للحرب العالمية الأولى.. حتى صيحات `الفن الإدراكى` و`الفن الفقير` و`فن الفعل` و`الحدث`..
- وإذا كانت الشرارات الأولى لتلك الحركات جاءت تعبيراً عن موقف سياسى، سواء برفض الحرب، أو السخرية من مشعليها، أو من قيم النظام الرأسمالى، أو أنعكاساً لحالة `التشيؤ` فى المجتمعات الأوروبية والغربية.. إلى غير ذلك، فإنها قد انتهت إلى نوع من التكيف مع طبيعة العصر فى تلك المجتمعات وإيقاع الحياة بها وتقلبات الذوق و`الموضة` فيها، حتى أسلوب الصدمات وخرق العادة والمألوف، هو أيضاً جزء من آلية هذا العصر ومزاجه.
- أما بالنسبة لكنعان فإن مشكلته -على العكس- هى عدم التوافق مع الواقع المصرى، ومن ثم فإن لوحته تمثل صداماً متبادلاً بينه وبين مجتمعه، وقد يمكن القول بأن لديه أهدافاً معينة، مثل هدم الشكل الأكاديمى البرجوازى للفن، أو هدم `الصالونية المتأنقة`. أو صدم المشاهد لتنبيه حواسه إلى قيم تشكيلية جديدة يمر عليها فيما يقابله فى حياته اليومية من أشياء مهملة دون أن يدرك ما بها من جمال.. فى الشكل والملمس واللون والحركة والإيقاع. لكن لعل الأقرب إلى الحقيقة أن كنعان يحقق بلوحته أقصى قدر من الحرية، بإطلاق سراح الطفل بداخله ليمارس اللعب بغير قيود، وإطلاق الخيال السجين والشطحات المكبلة، ويريد أن ينقل عدوى ذلك أيضاً إلى المشاهد.
- وقد بلغ أقصى درجة فى ممارسته للحرية واللعب فى أخر معرض له قبل وفاته، الذى ضم ما يقرب من خمسين لوحة نفذت بأسلوب الكولاج، وامتلأت بالشرائط والنفايات الملونة (المأخوذة من صناديق التغليف الفارغة) مما التقطه من مخلفات المحال وقد انهال عليها تمزيقاً وراح يجتزئ منها سُلَخَا حسبما يستهويه شكل القطع الكرتونية بعد سلخ أجزاء من قشرتها الخارجية بطريقة تبدو عشوائية، لكنها موجهة بوعى، مستفيداً مما تحدثه الصدفة من تعرجات فى مسار التمزيق أو السلخ على سطح الورق المقوى، ومما تحدثه أيضاً من تباين لونى بين لون السطح الخارجى للورق وبين بطانته البيضاء المسلوخة، وما يتبقى عليها من كتابات بحروف لاتينية عن السلعة واسم الشركة المنتجة.
- والحق أنه لا يمكن تقييم تجربة كنعان إلا باعتبارها جزءاً عضوياً من حركة الفن الغربى الحديث، ويرى بعض دعاة الحداثة (بمفهومها الغربى) أنه لو كان يعيش فى أى دولة غربية لأصبح فناناً شهيراً وغنياً، وفى اعتقادى الشخصى أن تميزه يرجع بالدرجة الأولى إلى اختلافه داخل محيط مجتمعنا وثقافتنا، وما يحدثه من صدمة تفجر الدهشة وتشد الانتباه وتكسر المسلَّمات، ونلاحظ أنه - فى محاولته للخروج من العزلة عن الجماهير العادية التى كان يدرك أنها لن تتواصل مع إبداعه التجريدى كان يلجأ إلى الرسم الصحفى بنزعة واقعية مفرطة.
- لكن ينبغى الاعتراف بأنه فى اتباعه للنسق الجمالى الغربى له أسلوبه الخاص وليس مقلداً لفنان بعينه.. وبأنه يملك قدراً هائلاً من الشجاعة ليخوض النهر قرابة نصف القرن عكس التيار، دون أن يفقد الإيمان باختياره، أو أن يتردد فى الاستمرار فيه، برغم الاستهجان الذى قوبل به والتجاهل الرسمى له عشرات السنين، إلى أن حظى فى السنوات الأخيرة ببعض الاعتراف والتكريم، فمثل مصر فى عدة `بيناليهات` دولية، وحصل على الجائزة الأولى فى بينالى القاهرة الدولى الأول عام 1984. حتى كرمته الدولة بجائزتها التقديرية فى الفنون قبل رحيله بقليل.
- إنما تبقى المشكلة هى: ما قضيته؟ وهل يكفى `الشكل` وحده ليكون رسالة العمر من فنان إلى مجتمعه؟
- وكيف يمكن -مثلاً- لموسيقى إلكترونية صاخبة أن تتواصل مع جمهور تربى ذوقه على الموسيقى الشرقية أو حتى الموسيقى الكلاسيكية؟..
- لقد كان مشروعه التشكيلى طموحاً ومبرراً، حين جعل رسالته هدم `الصالونية البرجوازية`. مثلما حدث الاتجاهات فيه `ما بعد الحداثة` فى الغرب، التى استهدفت التمرد على الفن البرجوازى الذى تم استغلاله كجزء من الية العصر، وعملت على ألا تنتج فناً يصلح للاقتناء، مولية وجهها شطر الفنون الهامشية والطبقات الشعبية، فإذا بالبرجوازية تلتف على إبداع `ما بعد الحداثة` وتسعى لاقتنائه وتهجينه فى مفارخ أنماطها الثقافية، فانعزلت الحركة عن اهدافها المبدئية.
- ومع ذلك يظل لكنعان شجاعة التحدى للخوض فى الطريق المخالف، دون التفات إلى ما يتعرض له من نكران وتهميش، حتى جاءه الاعتراف والتقدير من أوسع الأبواب، وإن يكن قبل رحيله بقليل، وبعد أن هبت عاصفته الإبداعية على أجيال الفنانين وأخصبت تربتهم بثمار من كل نوع ولون.
بقلم : عز الدين نجيب
مجلة : إبداع (العدد 7) 1-7 -2002
منير كنعان رائد (الكولاج) فى مصر
- ولد الفنان منير كنعان بالقاهرة عام 1919 ورحل عن عالمنا عام 1999 والمفاجأة ان الفنان لم يدرس الفن فى احدى كليات الفنون المتخصصة والمعروفة لكنه هوى الفن واتقن مناحيه من خلال عملة فى ورشة لأحد الأرمن لتنفيذ الملصقات الإعلانية، ثم واصل هذه المهمة فى مؤسسة إنجليزية لعمل اللافتات الدعائية المناهضة للألمان، ثم فى شركة أمريكية لعمل الخرائط الجغرافية، وفى نفس الوقت كان يمارس الرسم منذ منتصف الاربعينيات حتى امتهن مهنته كرسام صحفى لنفاجئ بأعمال فنية ثرية ليترك للحركة التشكيلية نوعا خالصا من الفن يتسم بالخصوصية والفرادة فى الاسلوب والاتجاه من حيث الفكر والبناء التقنية والموضوع ليبداء كنعان الانخراط فى الفن متسلحاً بفطرته الفريدة والمميزة فى القبض على اللحظة الزمنية والطقاتها ، وبقدرته على الاحساس بالضوء وتجسيده فى اعماله و نشاطه الفنى من مرسمه بالقلعة بيت الفنانين حيث أحدث الفنان كثيراً من الصدمات للمتلقى فى ميدان الفن المصرى فقد تبنى إنشاء علاقة تصادمية مع مسطح اللوحة الفنية محدثا كثيراً من الحوارات والتساؤلات حول أعماله الفنية من خلال معارضه فى فترة الستينات، ويعتبر كنعان أحد رواد الحركة الفنية المعاصرة فى مصر كما يعد أحد فرسان جماعة نحو المجهول والتى أقامت معرضها التاريخى الشهير بقاعة متحف هدى شعراوى وكان من أعضاء هذه الجماعة الفنان الراحل رمسيس يونان وفؤاد كامل وقد جمع كنعان بين متناقضات عدة فى أعماله حيث انه يضع خامات ويبنى تقنيات مستغربة من قبل المتلقى كالمسامير والخيوط ليجسد تكوين فنى مختلف فوق مسطح اللوحة وبذلك يجمع كثيرا من المتناقضات والخامات وتوليفها فوق مسطح لوحاته ليجعل المادة تعبر عما هو خاص بالإنسان وتجسده وتبرز المفاهيم البينية للعمل مستخدما التجريب والتركيب لينتج أعمالا تتسم بالابتكار والاستحداث بواسطه تقنيات الكولاج وقد مر كنعان بمجموعة مراحل اثناء مسيرته الفنية المرحلة الأولى فى الأربعينات وهى مرحلة التكوين التى اكتسب فيها الخبرة التكنيكية كرسام يجيد الرسم والتلوين وهى المرحلة التى سلك طريقا نحو المدرسة الواقعية والمرحلة الثانية فى الخمسينيات كان بحثه إرهاصاً بما سيكون ونقد فيها بعض الأعمال التجريدية مع متابعة الإنتاج العالمى والمرحلة الثالثة فى الستينيات انطلق نحو التجريدية الهندسية وتحولت فيها الى التقسيمات الهندسية والمرحلة الرابعة انتقل من التجريدية الهندسية واستخدام الألوان الزيتية مع بعض الخامات والمرحلة الخامسة أواخر الستينات وبداية السبعينيات وهى مرحلة الكولاج الحر مستعينا بالتغيير كأحد فروع البوب أرت والمرحلة السادسة للبوب أرت حيث يرى كريستين روسيلون إن منير كنعان هذا الفنان المعروف بتجريديته التى لها جذور عميقة فى الفن التشخيصى بسبب عمله كمصور فى المجلات الكبرى الى جانب كونه قد مارس هذا الأسلوب طيلة عشر سنوات من حياته الفنية من البداية دخل فى محاولات لإلغاء الموضوع والرواية من عمله واستطاع من هذا المنطلق أن يشيد لنفسه أسلوباً خاصاً وأن يطرح قضايا تشكيلية تشبه إلى حد كبير القضايا التى طرحها فى عالم التشكيل بعض من فنانى الولايات المتحدة فى نفس المرحلة الزمنية التى تزامنت مع نفس مرحله كنعان وقد تمخضت تجارب كنعان فى هذه المرحلة عن مجموعة من اللوحات الزيتية على القماش تحمل عنوان الجدار إلا أن كنعان لم يزل يحتاج إلى الحركة فى عالمه الفنى وهى العنصر الذى يرتكز عليه فى مجموعة أخرى من اللوحات بالزيت على القماش تحت عنوان إيقاعات وكذلك فى دفقات فى أعمال الكولاج وهو الاتجاه الذى تغلب على ساحة أعماله الفنية منذ نهاية الستينات.
- وقد استلهم كنعان هذه التقنية من مدرسته فى البصريات إلا أنه أتقنها إتقاناً كاملاً فى مجموعة من أعمال الكولاج يستخدم فيها القصاصة الملونة ليخطف عين المتفرج جاذباً إياه إلى دوامة الخيال البصرى إلا أنه لم يكن فى وسع كنعان ألا يعود إلى ` التصوير ` بمعنى الاستخدام المباشر للفرشاة والألوان إلا أنه فى هذه العودة كان يصطحب معه الكولاج فمنذ نهاية السبعينات وهو يخوض تجربة جديدة يزوج فيها الأسلوبين فى ميلاد لوحات تجريدية يمزقها ثم يعيد تركيبها فى صياغة جديدة تجعل من ساحة اللوحة لعبة انعكاسات وإشارة ذاتية ويعتبر كنعان من الفنانين النوادر الذى تألقوا على المستوى الفكرى والإبداعى مواكبين لحركات التحول الفنى فى العالم وظهرت حداثته فى الفن مبكراً منذ بدايات الخمسينات مواكبة للفنان أنطونيو تأبيس الفنان الإسبانى رائد التجريدية الحديثة فى العالم على الرغم كونه ظل على الدوام متسائلاً عما حوله، مفتقداً لشيء لا نراه ولا نعرفه ، وقد طغت على اعماله دهشة الطفل وروحه، لتلحظ أشجان فى الزمن وفى التاريخ وفى الفن وفى الإطاحة وفى الثورة، وفى الغضب، بل وفى التصوف، الذى يفجر الطاقة ويشعلها حين يقف أمام لوحته البيضاء الخالية من اى شيئ ليولد من خلال تفاعله مع مسطح لوحاته فكرا ديناميكى وحركى فهو الفنان الوحيد الذى عرف عنه انه يرسم فى كل مكان فى مكتبه بجريدة الأخبار فى منزله فى منزل اصدقائه دائم المبادرة لم يرى مرة جالساً دون ان يرسم بل كان متواصل التعبير الحى عن أفكاره، لذلك فقد انعكست شخصيته وإيقاعها على فنه العظيم، فكان عاشقاً لورق الكرتون وورق علب الأفلام وجميع الأوراق التى تتصادف مع عينيه يحولها من مخلفات عديمة الفائدة إلى لوحات عظيمة الفائدة، ومن خلال رحلته فى عالم الفن التشكيلى نجدة مر بمراحل فى منتهى الأهمية بدءاً من رسمه الأكاديمى الكلاسيكى مروراً بالتعبيرية والواقعية والتجريد كما انه لم يتوقف عند هذا الحد، فيعتبر من الفنانين الذين اثروا فن الرسوم الصحفية على مدى عقود زمنية طويله ، ينبع فن `كنعان` من احساس عميق بعالم محكم التنظيم، ولذلك تتصف أعماله بالبحث الدؤوب ، وطرح الأفكار المسبقة المحكمة، ورفض الفن الذى يمثل قصة أو حكاية، أو يعكس أحلاماً أو عوامل نفسية ذات دلالات ورموز، ونبذ كل ماله صلة بمظهر الواقع .
- المرئى مفضلاً الاعتماد على خلق اشكال تجريدية تكون شاهداً على شيء يعيشه القلب والعقل لا أن يكون تقليداً لشيء تراه العين كما انه يجبر أحاسيسه على التقاط حدود لأشكال حقيقية، وفى موقع آخر نراه يستخدم حزمه مختلفة على عين متذوقي الفن من الخامات والأدوات فى تشكيل أعماله وكلها عناصر محلية دارجة مثل الغربال والقفة والخيش وسلك النملية وخشب الصناديق وقصاصات الجرائد والكراتين وجميعها أشياء متداولة ومألوفة للعين لشيوع ونابعه من البيئة المصرية ليقوم بإعادة تدويرها وتوظيفها فى بناء مناحي عدة من أعماله الفنية، كذلك يستعين بوسائط غير الأصباغ العادية وألوان الزيت، وأنواع الطلاء التقليدية الأخرى، بل هو يلتقط بعض البقايا والمهملات التى تلقى فى سلة المهملات، وهى أشياء لا تخلو من شكل ولون وملمس يجمعها فى تأليف تصوغه عقلية واعية وإحساس مرهف وعلم تام بأصول الصنعة التشكيلية.
- فالأمر بالنسبة لكنعان يعد حسن توظيف وايضا اختلاف فى استعمال الخامة وايضا بحث عن صيغة تعبير ووسيلة تخاطب مع الجمهور فقد وظف الحرية فى شكلها المطلق فى اختيار الخامة التى تطيعه وتعينه فى التعبير عن أحاسيسه ويحقق بها جديداً فى القيم التشكيليه لينتج لوحة تخضع للتجريب والتركيب البنائى منتجا عملا فنيا مصاغ بأسلوب الكولاج القائم على دمج مجموعه عناصر متعددة ومتنوعه لتحقق ثراء فنى مميز وجديد وبصمه فنية خاصه بالفنان دون غيرة والمتابع لفن كنعان يرى إن التجريد يعنى له تصوير الحقيقة فى لبها مع إسقاط الظاهر المادى المخادع المعوق لرؤية لب الحقيقة واستشعارها ومحاولات البحث عنده طوال رحلته الفنية منذ بداية فى الكولاج، وبمطالعه لوحات كنعان تكشف أنه فنان دائم البحث فى تجاربه وخاماته من أجل إيجاد لغة جديدة تتسم بالريادة والمغامرة ومتعة الكشف والتنقيب ومن خصائص فن ` كنعان ` الذى كان من أوائل اللذين ارتادوا مناحى و `جنبات` و `البوب` و` الكولاج`، حيث لخص وبسط للمتلقى تجاربه وأسس ايضا مدرسة في الإخراج الصحفي والأغلفة مازجاً بين المذاهب الفنية والصحفية ليرتقي بالذوق العام، ومزج العناصر الفنية والصور الفوتوغرافية بالمادة الصحفية ثم وصل إلى فن الكولاج فى تركيب الصور بعد تقطيعها وإعادة تقديمها، فقد كان يرى أن اللوحة كالكتاب وكان يوزع وقته بين لوحاته في مكتبه نهاراً ومرسمه بدرب اللبانة ليلاً ليكتسب السرعة فى إنتاج أغزر عدد من اللوحات والموضوعات مستخدما موضوعات ترتقي بالذوق والثقافة لذا يعد كنعان رائد فن الكولاج فى مصر.
د. امجد عبد السلام عيد
مجلة الثقافة الجديدة يوليو 2022
|