الفنان أحمد عبد الجواد ( 1959 - 2021 ) وكائناته المشتاقة للنور
- كانت رؤيته الفنية فى فن التصوير تنضج وتتبلور فى خطى حثيثة ومتسارعة خلال السنوات التى سبقت وفاته ( 2021 ) فى اتجاه البناء المحكم للتكوين .
- وتحقيق الهارمونى المتناغم للألوان فى اللوحة ، وخلق رؤية فنية مستلهمة من الواقع البيئى لحياته فى أسوان تبدو أقرب إلى الرؤى الحلمية والروحانية بعيدا عن الطابع التسجيلى لمظاهر الحياة فى الجنوب، أو الطابع الفلكلورى بزخارفه وأنماطه الشعبية المكررة، اللذين غلبا على أعماله فى السنوات السابقة قبل عام 2015 ، فقد وقع فى غوايتها مثل كثيرين من فنانى الجنوب نظرا لسطوة تأثيرهما على الفنانين لكثرة شيوعها على زخارف الجدران ومظاهر العادات والتقاليد الممتدة عبر العصور بين النوبه وقرى الصعيد، وقليلون من الفنانين من أبناء الجنوب - والدلتا كذلك - من تحرر من أسرارها وتطوعها تطويعا فنيا حداثيا، يخرج بفنه من مظهر الزينة الخارجية إلى جوهر الشكل الجمالى بحس تحليلى مبتكر لهذه القوالب الفنية المتوازنة أو شائعة الاستخدام .
- لقد أسس أحمد عبد الجواد فى معارضه الأخيرة شخصيته الفنية المستقلة عن الطبيعة الخارجية ، رغم أن لوحاته من صميمها فصارت تحمل نكهته ورائحته وأبعاده الرمزية والروحانية، قبل صورته المباشرة المنطبقة على عدسة العين أو الكاميرا، وصارت المبانى المعمارية الطبيعية تتجاوز الوظيفة الواقعية للبيت والجامع والضريح ، إلى معنى السكن والخلوة والسلام والحس المتواصل بين الإنسان والجماد حتى يتأنس الأخير ويتنفس كما يتنفس البشر، ومن ناحية أخرى تنطلق اللوحة إلى أبعاد ميتافيزيقية كعلاقة بين الإنسان والمجهول أو بينه وبين الكون، وأصبح البشر المتزاحمون جماعات نحو الأبواب المواربة متجهين نحو استكنان أسرار مجهولة لكن من المؤكد انها تملك خيوط مصائرهم، وأصبحت طقوس الذكر أو المولد أو الحج تبدو فى لوحاته مثل تضرعات الفقراء و الفقراء إلى الملكوت الأعلى، أو كسعى الحجيج نحو الكعبة حيث تشف النفوس وتنسلخ عن أغراضها الدنيوية فى رحاب هذا الملكوت، كما أصبحت المناظر الطبيعية فى لوحاته على شاطىء النيل أو فوق مجراه سياحة روحية بقوارب ذات أشرعه بيضاء تهيم وتسرى مع التيار مدفوعه بنسائم مجهولة المصدر نسائم النفوس المشتاقة للنور، كذلك أصبحت تجمعات الصعايدة فى ساحات الموالد وفوق كراسى المقاهى والمصاطب الطينية أمام الدور، نوعا من الإستدفاء النفسى ببعضهم البعض ، أو توقعا لمجهول طار انتظاره أو الخوف منه .. ذلك الخوف الجمعى المتوارث مما يخبئه القدر .. وتلك جميعا من ملامح الشخصية المصرية والعقلية الجمعية للمصريين عبر العصور .
- وفى نفس الوقت الذى توهجت فيه موهبة احمد عبد الجواد فى السنوات الأخيرة وأشعت بالوعود، كانت تتوهج أيضاً روحه الإنسانية بمودة جارفة لكل من عرفهم، وبقدر من الحب والتعاطف الإنسانى والتصالح مع الحياة ، والطموح لتحقيق النجاح وقطف ثمار الإبداع التى حرم منها طويلا خلال غيابه القسرى عن مركز صناعة النجوم واقتناص الفرص ، وهو بعيد فى أقصى جنوب الوادى، حتى إذا وصل أخيراً إلى هذا المركز بعصامية لاتكل عن بلوغ غايتها، وبدأت الدنيا تبتسم له وتدنو ثمارها من يده .. حتى اغتاله الموت فجأة وبغير مقدمات فى الواحد والعشرين من شهر أكتوبر 2021 .. لكن أعماله ستظل حية تعيد ذكراه مهما طال الغياب.
بقلم : عز الدين نجيب
من كتاب ( الفن المصرى وسؤال الهوية بين الحداثة والتبعية )