فاروق محمد بسيونى
- يحمل فاروق بسيونى خاصية من أهم مكونات الفنان الحق ، تلك هى خاصية ` التوحد ` .
- التوحد بين الفعل الذى هو العمل وبين صاحب الفعل الذى هو يساويه فى الاول وفى الاخر التوحد بين الصورة الفنية وبين ثقافة مبدعها بحيث لا يبدو من هنا أو من هناك ازدواج بين هذه الصورة وبين المدرك العقلى لمبدعها .
-التوحد بين الصقل الضوئى الواقع على شبكية العين وبين النموذج الثقافى لصاحب الفعل فكأننا حين نرى العمل، نرى الشخص بذاته، نراه بثقافته وحضوره وذبذبته، بل وحركته فى الهواء، وتردده الجسمى فى الفراغ .
توحد بين الكيفية المخيلة فى الصورة الفنية، وبين صانع الصورة، فليس ثمة مسافات بين الفعل وفاعله، وليس ثمة فواصل بين اللوازم فوق مسطح العمل، وبين اللوازم فى سلوك صاحب العمل بذاته أو بسلوكه الاحادى، أو الجمعى .
- ولقد غاب عن كثيرين هذا المعيار الحيوى فى فرز الفن،فلهثوا وراء ما اعتبروه قيمة بحد ذاتها،قيمة مستقلة بالفكر والجسد عن صاحبها، مفصولة فصلاً عصابياً، وعضوياً عن كيان الصانع المبدع حتى فقدت القيمة خطوطها المستقيمة بأعتبارها ( كيفاً ) موازياً للفعل الجمالى، بل وصارت هذه القيمة ذاتها ايقاعاً محفوظاً، ونموذجاً ميكانيكياً، تحكمه مشارطات الانتاج ( الكمى ) التى هى فى أصلها فعل سياقى لعالم المنفعة اليومية.
- ونحن حين نتأمل فاروق بسيونى نفسه، نجده جزءاً لا يتجزأ من صميم الصورة، فهو نموذج لفكرة التوحد التى نتحدث عنها، نموذج لفكرة الصدق من حيث نرى الصدق عنصراً معيارياً للعملية الجمالية .
ونحن حين نحاول البقاء قليلاً أمام العمل، فأننا نجده وقد تمثل فى مجمل عناصر الشبه التى عليها صانعه .
- فإن فى لوحاته الحديثة هذه، هدوء ميكانيكى مرير، وإيقاع منظوم الطابع، وأنساق ضوئية صريحة ومتواترة، وسخرية لاذعة فى مواجهة عالم `ملعون ` يذكرنا بالمأساة `الشكسبيرية `واتزان ` كلاسيكى` لفكرة البناء التتابعى لعناصر الصورة، ثم أخيراً مسحة مقيمة من الحزن المدفون فى رقائق اللون ، تكسب أعماله غلالة الجد والرصانة، حتى إذا أقتربنا قليلاً من السطح وجدنا المعالجات على أتمها ، مبنية بقالب من النسيج الضوئى ذا المسحة الصباحية، حتى صار عجينة خاصة لها ذلك القوام الذى يكون عليه فاروق بسيونى بذاته، وبزاده. فهو من ذلك النوع من الفنانين القادرين على تحويل `المحسوس الخام ` إلى ` محسوس جمالى ` وهى خاصية توضح لنا قدر الزاوية التى يقف عندها فاروق بسيونى عند انتخابه لصورته الفنية، ذلك أنه حين يطرح ` المحسوس الخام `هذا، فأن التفتيش عن العالم يبدأ، وآنئذ تمر المخيلة بعمليات التصفية والترشيح ، والتمثيل، حتى يتجسد المحسوس الجمالى على هيئته، وعلى صورته الكلية .
- أننا حين نستدعى الى ذاكرتنا فى التو فنانين مثل ` ليجيه ` ، ` جابو ` أو `إنسور ` أو ` يفريدو لام ` أو حتى نيفلسون، فإننا لن نجد عند هؤلاء صوراً بصرية حسية سابقة التجهيز ، وإنما هم يواجهون ذواتهم عندما تبدأ تلك الحالة التى يمكن ان نطلق عليها ` لحظة الوميض` أثناء التواتر العصابى للممارسة الفعلية، وهى نفس لحظة الوميض، هذه التى نحاول الاقتراب منها عند فاروق بسيونى .
أحمد فؤاد سليم
- لكل إنسان معركته الخاصة التى يخوضها ضد ظروفه .. ويقف ` فاروق بسيونى` فوق ربوة يطل منها على بقايا معركته وكأنه يحاسب ضميرا ما على ما يحدث ولكنه يأبى أن تتعدى لهجته طبقة الاعتدال .. وتظل مسحة الأدب تصقل ألوانه وتخلصها من الشطحات النابية الشرسة التى تصاحب المعارك عادة .. فهو لا يغمس فرشاته فى بوتقة الاكتئاب ، ولا يحاول أن يستفز المشاهد لدرجة القرف ، وإنما يحول معركته إلى ما يشبه العتاب الرقيق المهذب . وربما جمع ذلك إلى شاعرية الفنان الذى يغضب برفق ويحتج بأدب ، ويدافع عن نفسه بالمنطق المعتدل النبرات .. إن مأساة ` فاروق بسيونى` مأساة بيضاء رغم ما تنطوى عليه من تمزق واحتراق.
بقلم : مصطفى عبد المعطى
من كتاب أفاق الفن التشكيلى
تناسخ الكائنات
- عندما تنتهى من تصفح مجلتك المصورة ، تطوى صفاحاتها ، ثم تتركها لأصابع الزمن، فتتمزق المصفحات وتتحول إلى قصاصات تذروها الرياح أو تستقر فى سلة المهملات ركاما من ورق . كل قصاص تضم جزءا من حدث أو جزءا من كائن كان له وجود وماض : أنف ، جذع شجرة ، سحابة زجاج مهشم ، خصلة شعر ، عجلة سيارة ، عنوان بالخط العريض ، ترس فى الة ، جزء من مقال ..
- وتمتد يد الفنان إلى هذه الفضلات لتعيد إليها الحياة وتؤلف منها كيانات جديدة ترابطها علاقات شكلية لا تنتمى إلى أصولها الزمنية ولا المكانية .. وتتم عملية التناسخ أو البعث الجديد فى التجمعات المستحدثة بعد أن تتجاور القصاصات وتستقر فوق السطح المتماسك ، وتبدأ دورة جديدة فى سلسلة دورات الحياة فى دنيا التعبير الفنى ..
- وبلغة ` القص واللصق ` يعيد الفنان ` فاروق بسيونى` الحياة الى القصاصات المهلهلة، يؤلف من أشلائها المتهتكة نسيجا جميلاً يحكمه ذوق مرهف ووعى ونضج وفهم عميق..
بقلم : حسين بيكار
من كتاب أفاق الفن التشكيلى
فاروق بسيونى وقراءة فى بيكاسو ..مع الأراجوز وعائلته
- فنانون منسيون
- فاروق بسيونى `1951- 1998 ` ..ناقد وفنان ..بدات رحلته القصيرة مع الحياة بالكلمة المكتوبه ..ففى عام 1968 وعمره 17 سنة قبل ان يلتحق من بعد بالفنون الجميلة ..كانت ادواته قد اكتملت وبلغ وعيا نقديا تجاوز به المعتاد والمالوف فى هذه السن الصغيرة ..وتعددت كتاباته فى الصحف والمجلات ..بدءا من صحيفة المساء وامتدت فيما بعد الى صحيفة العالم اليوم ومجلات عديدة من الثقافة والكاتب والجديد والعربى وابداع والفيصل وغيرها ..وقد تخرج بسيونى من الفنون الجميلة جامعة حلوان ..وهنا غلب الفنان على الناقد والعكس بالعكس وكان حصوله على الدكتوراه فى فلسفىة الفن حول ` بناء العمل الفنى` عام 1986 ..تاكيدا على خطواته المتسعة باتجاهى الابداع النقدى والتشكيلى فى وقت واحد ..وله كتابان `الزمان والمكان - دراسة فى اعمال الفنانة جاذبية سرى ` الهيئة العامة للاستعلامات ..وكتاب ` قراءة اللوحة فى الفن الحديث` دارالشروق ....ويعد دراسة تطبيقية حول بناء العمل الفنى عند بيكاسو ..وهو يعكس من خلاله فلسفته النقدية .
- يقول فاروق بسيونى : يقوم بناء العمل الفنى على التوافق الدقيق بين الشكل بكل عناصره والمضمون الذى تحدده رؤية الفنان وثقافته و موقفه مما حوله ..ووعيه بكل من التراث الانسانى وملامح اللحظة الراهنة ..وحتى استشراف المستقبل ..وبالتالى فان اى اخلال بذلك التوافق من شانه جعل العمل الفنى اما ان يصبح شكليا وبالتالى يجنح نحو الزخرفية المسطحة ..او وسيطا سلبيا يحمل مضمونا تعبيريا وبالتالى يتحول الى نتاج خبرى ينتهى تاثيره بانتهاء مايعبر عنه ..واذا كان تاريخ الفن قد حفل بالكثير من الاعمال الفنية التى يرتفع فيها الشكل والمضمون الى مستوى واحد عالى القيمة ..فيعد بيكاسو واحدا من هؤلاء من خلال تجربته الطويلة وماقدمه من نتاج بدا واعيا بالبناء الاساسى للعمل الفنى وهو القائم على التوافق الدقيق المحكم بين الشكل والمضمون ..ويضيف بسيونى برؤيته الفصيحة : استطاع بيكاسو ان يصنع لنفسه على مدى سنوات انتاجه الفنى مايسمى بالموجز الشكلى ..اى تلخيص الخبرات البصرية فى رموز تجريدية يسهل اعادة استخدامها بل وصياغتها داخل بناءات متجددة باستمرار محققا نسقا تشكيليا خالصا وهو مانسميه بالاسلوب الخاص فى التناول او روح الفنان وتفرده .
الاراجوز عالم اخر
- واذا كان بسيونى قد بدا خطواته الفنية باحثا عن العلاقات اللونية بين الطبيعة الصامتة فى فن التصوير التى تحولت بلمسته الى مساحات تالقت بالتعبير الدرامى ..وكان له تجربة مع فن الخزف تالقت بالاوانى والاوعية غلب عليها رصانة الاسود جمعت بين الشكل والتعبير والجانب النفعى ..الا ان اوج اعماله بلغت ذروتها عام 1995 حين اقام معرضه الاراجوز بقاعة `اخناتون ` ..ومن الطريف انه كتب قراءة ذاتية او تحليلا لاعماله بوعى وموضوعية ..تقول كلماته :رسمت الاراجوز كعنصر رئيسى تصاحبه عائلته من عروسة المولد واسد الوشم وغراب البين والحصان الخشبى واضفت اليها جميعا مكبرات الصوت ..وهى تنتظم فى تراكيب وبناءات متعددة تعمدت فيها الجمع بين تعدد اللون وبهائه وسخونته من ناحية والتركيب الهندسى للعناصر ..حيث يختلط فيها الواقع بالخيال ويتداخل التسطيح مع الابهام بالبعد المنظورى من ناحية اخرى`.
- وفى الحقيقة واكمالا لوجهة نظره ..لقد انتقل بالاراجوز تلك الايقونة الشعبية المصرية الى حالة جديدة تضاف الى شخصيته التقليدية والمعتادة ..شخصية الاراجوز فقد جعل منه بطلا فى فضاء التصوير ..مع تلك الرموز الشعبية الموغلة فى التاريخ المصرى والوجدان الشعبى من عروسة المولد التى يرجع تاريخها الى العصر الفاطمى والتى مازالت تشع فى حياتنا اليومية المعاصرة وتتجدد سيرتها فى المولد النبوى .. وايضا الاسد الذى يعد صورة للبطولات الشعبية والذى ارتبط على وجه الخصوص بابى زيد الهلالى والغراب الذى يمثل صورة شعبية تداولت عبر الزمن مع الحصان الخشبى ..كل هذا بلمسة حديثة مع اضافة البعد الدرامى من خلال الاقتصاد اللونى من سيطرة الازرق الليلى مع لمسات من الاحمر والاخضروكاننا فى سهرة شعبية واحيانا الاكتفاء بالاسود والرماديات بلمسات وسطوح تكعيبية عندما جعل من الاراجوز بطلا بمفردة او فى ثنائية تكاد تدب فيها الروح من حيوية اللمسة ..وفى بعض الاحيان جمع بين الاراجوزبهيئة بطل يحمل درعا وسيفا وصديقه ومروده ومحاوره الشعبى المتوج بتاج ورداء من الازرق يحمله بروح انسانية وقد ارتبط به ارتباطا عضويا من خلال هذا الحوار الصوتى بينهما والذى يستحضر الحكايات والنوادر والمباهج والمساخر .
وربما يكمن السر وراء هذا العالم ماقاله الناقد الفنان احمد فؤاد سليم فى اعماله
يقول :`يحمل فاروق بسيونى خاصية من اهم مكونات الفنان الحق ..تلك هى خاصية التوحد ..التوحد بين الفعل الذى هو العمل وبين صاحب الفعل الذى هو يساويه فى الاول وفى الاخر ..التوحد بين الصورة الفنية وبين ثقافة مبدعها بحيث لايبدو من هنا او من هناك ازدواج بين هذه الصورة وبين المدرك العقلى لمبدعها .
التوحد بين الصقل الضوئى الواقع على شبكة العين وبين النموذج الثقافى لصاحب الفعل فكاننا حين نرى العمل نرى الشخص بذاته ..نراه بثقافته وحضوره وذبذبته ..بل وحركته فى الهواء وتردده الجسمى فى الفراغ .`
- اعتذار للراحلين
- العجيب والمدهش ان فناننا الراحل بسيونى كتب دراسة من جزئين بمجلة القاهرة الاسبوعية بعدديها الثالث والعشرين والرابع والعشرين 9و16 يونيو 1985 بعنوان `اعزائى الراحلين ..معذرة ` ..وكانه كان يستشعر مسبقا اهمالنا له بعد رحيله يقول فاروق بسيونى مستشهدا بمقطع من بيت الشاعر احمد عبد المعطى حجازى :` الموت مر ..وكل شىء يسرق الانسان من انسان ` ويضيف :` بداية اعتذر اليكم اعزائى الراحلين ..الصفوة من فنانينا ..قد كنا من فرط المثار من القضايا الجانبية فى الفن فى مصر ان ننسى الدور والتجربة واهمية ماقدمتموه ..وكانما لم يعد هناك مجال للحديث الا عن الفارق بين الفن الحقيقى وزيف نتاجات الموهوبين الموهومين فى امتطاء موجات الموضة والتقاليع دون سند من امتلاك الادوات والوعى باللغة البصرية وذلك بالطبع لايجىء هكذا عفوا ..وانما عن طريق البحث الجاد فى داب وبعيدا عن مغريات النجومية الذائفة ..عفوا اعزائى الراحلين فقد كدنا ننساكم برغم ماتعلمناه منكم وما قمتم به من دور ايجابى واضح ومؤثر فى حركتنا التشكيلية `.
- اختار فاروق بسيونى نخبة من فنانينا ممن غادروا الحياة وتركوا بصمه كبيرة وعميقة على وجه الحركة التشكيلية تالقت بلمستهم مع اختلاف النظرة والاداء وفلسفة التعبيروتنوع اتجاهات ومدارس الابداع ..يشير الى ذلك بقوله :` لانستطيع ان نتجاهل ماقام به كل من رمسيس يونان وفؤاد كامل من ثورة على الرؤية التقليدية التزيينية خلال الثلاثينيات من هذا القرن كذا ماقدمه سيف وانلى من تفرد فى الرؤية قامت على بلاغة الشكل الخالص رغم انتمائه للبيئة الساحلية السكندرية المصرية ..وكذلك ماقام به عبد العزيز درويش وكمال امين من دور هام فى ارساء منهج اكاديمى واع بلغة الفن ومتحرر من قيود التقليدية مما اخلف لهم تلاميذ جيدين الان ..وكذلك ماقام به عبد الهادى الجزار من تنبيه لاهمية البحث فى الجذور الفولكلورية الميثولوجية المصرية.. وماقدمه مصطفى الارناؤوطى من بلاغة فى الرؤية التجريدية الواعية ومهارة الاداء ..وكذلك ماقدمه جمال محمود من استلهام شديد الرقة والتعبير معا للفن القبطى ثم ماقدمه كل من كمال خليفة ومحمد شفيق وسعيد العدوى وعبد المنعم مطاوع من تفرد فى الرؤية بشكل منفتح على العصر ومرتبط بمصر الارض والواقع والتمنى ` .
- هكذا كانت رؤيته شمولية ونظرته ثاقبة اعتمد فى كل كتاباته على التحليل والتفسير بموضوعية ومنهج يعكس لمعنى الحداثة وفلسفة الجمال ..ومرتبطة ايضا بالتراث والتاريخ .
ولاشك اننا قد نسينا فاروق بسيونى ..ونحن لانقول له معذرة فقط ..بل نتمنى ان نعيد مختارات من كتاباته النقدية الغزيرة فى مطبوعة تليق بمكانته النقدية وتوهجه الذى انطفا فجاة راحلا عنا ..ومن بينها كتاب تحت الطبع بالغ الاهمية بعنوان تاريخ الفن المصرى الحديث ` ..خاصة ولدينا اكثر من هيئة ثقافية من الممكن ان تتبنى ذلك ..فهل نتذكره؟..سلام عليه وتحية الى روحه بعمق ماقدم من عالم يمتد فى حوارية لاتنتهى بين سحر الصورة وعذوبة الكلمة .
بقلم : صلاح بيصار
جريدة القاهرة : 9-10- 2018
التجربة التشكيلية فى أعمال الفنان فاروق بسيونى
- تتنوع مساهمات الفنان فاروق بسيونى فى مجال الفن التشكيلى فإلى جانب مشاركته بالتدريس فى كلية الفنون الجميلة بالقاهرة.. نقرأ له متابعاته وآراءه النقدية عن الابداع التشكيلى فى مصر بالاضافة إلى نشاطه فى تقديم وشرح الإتجاهات الفنية الحديثة فى الخارج ساعياً بإخلاص لتحقيق تلك الصلة التى مازالت واهية بين الأعمال التشكيلية والفنانين المبدعين وجمهور المتلقين كما كانت له ممارسة تطبيقية حاول فيها الإفادة من قيم التشكيل بتوظيفها فى عملية الإخراج الصحفى وذلك فى فترة إشرافه فنياً على مجلة الثقافة.
- وتأتى هذه الأنشطة موازية لاهتمامه الأساسى بأن يكون له إبداعه وبحثه الفنى كمصور له خصوصيته سواء فى الرؤية أو فى المعالجة التشكيلية.
- وفى محاولة لتقديم أعمال الفنان فاروق بسيونى فى فن التصوير عبر نماذج مختارة من ثلاث مراحل لإنتاجه يظهر واضحاً الاختلاف بينها سواء من ناحية مشكلة البحث أو طريقة المعالجة.
- فى أول تلك المراحل شغله التعبير عن موضوعات معبرة عن حيرة الانسان وضياعه فى مواجهة الحياة وذلك بإسلوب نلحظ فيه تأثيرات قوية لدراسته الأكاديمية سواء أكان من ناحية تركيب الصورة ونظام بنائها أو طريقة تسجيله لعناصرها، وذلك من خلال جو يشع منه إحساس بالغموض.
-أما من ناحية الحلول التشكيلية فهناك سيطرة الرؤية المباشرة للواقع. بتدقيقه فى حسابات أبعاد وترتيب العناصر فى العمل واهتمامه بواقعية حساباته للضوء والظل لتجسيم عناصر العمل، وكذلك لتأثيرهما على الألوان وتدريجاتها بالشكل الذى يفيد منه فى خلق إحساس درامى فى عمله الفنى. وقد يسلبه استغراقه فى هذه الحسابات انطلاقة الفنان الحرة ومعايشته لروح الموضوع الذى يعبر عنه وتنحسر جهوده فى إطار تلك المعالجات التى تحدها مواصفات الواقع والطبيعة.
- ولكننا فى اللوحة رقم (1) نستطيع أن نلحظ حرية أكثر تتجاوز مطابقة الواقع - ولو بقدر محدود - سعياً لتحقيق التعبير عن رؤية فنية وحالة شعورية خاصة تتعاون كل عناصر لغة التشكيل فى تحقيقها. فى تركيبة عامة للوحة تتجه إلى التطور نحو التعبير عن روح الموضوع.
- وعلى الرغم من ما يظهر فى هذا العمل من الأخذ عن الواقع سواء أكان من ناحية جلسة الشخصية المحورية فى اللوحة، أو من ناحية الالتزام بشكل كبير بالتفاصيل التشريحية وطبيعية كل العناصر المكونة للعمل.... إلا أننا نجد هنا تحرراً من مطابقة نسب تلك العناصر للنسب الطبيعية، بل نجد مبالغات فى تلك النِسب فى سبيل تأكيد الجانب التعبيرى والإحساس الجمالى فى بناء العمل ككل... كما نجد انطلاقة حرة فى اختيار زوايا تسجيل بعض العناصر المكونة للعمل... فمثلاً يتعمد أن يقود حركة رؤيتنا للعمل بتلك المساحة التى لا يمكن تغافلها، وهى منطلقة فى شكل يؤكد اتجاه الحركة إلى الداخل، وتكاد تكون صلة بين الواقع الذى نعيشه وعالم اللوحة الذى يفيد من هذا الشكل للتوصيل إلى عمق اللوحة، حيث يسلمنا إلى تلك الإيقاعات المتحركة فى عناصر من الأبيض والأسود تقود إلى كتف الشخصية الرئيسية فى العمل, حيث نرى ذلك الوجه الإنسانى، وما يحمله من تعبير شارد، ويتجه بصرنا بعد ذلك إلى الكتف الآخر، وعبر الاتجاه الذى تحركنا فيه اليد المنثنية حيث نلتقى من جديد مع خطوط تلك المساحة المندفعة إلى العمق فنعاود من جديد حركتنا فى دائرة الرؤية للعمل، وإن كان النظر ينحصر بشكل أساسى فى تلك الدائرة، التى يصعب الخلاص منها إلا لاتجاهات ضعيفة ثانوية ويرجع من جديد للدوران فى الدائرة الأساسية الأولى ليتعمق الإحساس الذى قصده الفنان وحصر دائرة رؤيتنا فى معايشته.
- ويحرص فاروق بسيونى أن تكون معالجته للتفاصيل والجزئيات فى العمل مؤكدة لذلك الإحساس بالشجن والانكسار الذى قصده؛ مثلما نراه فى طريقة تصويره لثنايا الملابس وما فيها من تهدل وانثناءات وفى تعبيره بتلك اليد العاجزة المتدلية فى استكانة. ويأتى كل هذا فى ذلك الجو اللونى الذى يسيطر عليه الأزرق والأسود من خلال معالجة لونية تعطى إحساساً ضبابياً ورؤية غائمة تذهب ببعض تحديدات عناصر اللوحة وتؤكد قصد الفنان إلى ترجمة الإحساس بالضياع والحزن والعجز.
-أما تلك العناصر البيضاء والسوداء المتحركة نستشعر كما لو كانت منهارة ومتساقطة إلى نهاية غير محددة مكانياً...
- ويجانب ملاحظتنا محاولة لخلق جو موحش معبراً عن الشجن والحزن العميق من خلال الاستخدام اللونى للأزرق والأسود يمكن ملاحظة ما للون الأبيض من دور يسعى أن يحقق به إحساساً بالنور والوضوح والأمل... وإن كان مازال ضبابياً خافتاً.
- وفى مرحلة ثانية لإنتاج الفنان يركز جهده لبحث العلاقة ما بين الكتلة وما حولها من فراغ فتتبادلان التأثير والتأثر ويدخل الضوء كعامل ثالث له تأثيراته بتعامله مع عنصرى المحاورة.
- وهو يختار مجموعة من الأوانى متنوعة الأشكال والأحجام اعتبرها ممثلة لعنصر الكتلة واستخدمها فى بعض الأعمال مجمعة بشكل أو بآخر وأحياناً يستخدم واحدة منها ليقيم حواراً تشكيلياً بينها وبين الخلفية أو الفراغ من حولها.
- وهو لا يكتفى بتقديم الفراغ دائماً فى حالة بسيطة بل أحياناً يشغل أجزاء منه بظلال تشغل جزءاً من مساحته حيث بنغم فيه وتنشأ حيرة لاختلافه عن الجزء الباقى من الفراغ.
- أما الضوء فقد نوع وتلاعب بدرجة شدته التى أخذت فى الغالب مظهراً مسرحياً مبالغاً فيه، كذلك تلاعب بزوايا إسقاطه من أجل تحقيق ظروف مختلفة تثرى حسابات البحث. وكل هذا عالجه غالباً بمجموعة من الألوان المحدودة (الأزرق - الأسود - الأبيض) بدرجاتها كما يضيف أحياناً ألواناً أخرى تحتاجها عملية التشكيل كلون منفرد له خصوصيته.
- وفى هذه المجموعة من الأعمال حقق الفنان دراسة جانبية لمدى إمكانية إقامة حوار ثرى معبراً بشكل درامى مؤثر بتلك المجموعة اللونية المحدودة.
- وفى غالبية هذه الأعمال نستشعر احساساً بأن تلك الأوانى قد اكتسبت صفات أشكال إنسانية أو شخوص وحيدة ضائعة وإن كانت متجمعة فى صراع دائب ومستمر وما يتحلق حولها من فراغ قد يتخللها أحياناً.. فهى فى وقفة تسعى للصمود ومقاومة الضياع، أو هى متجمعة فى ترقب لمواجهة أحداث سترتطم بها.
- كنموذج من هذه المجموعة من الأعمال اللوحة رقم (2) فمن خلال تكوين قد يبدو بسيطاً فى ظاهره استخدم فيه إناءً واحداً ووضعه فى موقع محدد اختاره على سطح اللوحة أما الفراغ من حول الإناء فقد أخضعه أيضاً لمعالجته التشكيلية فقسمه إلى ثلاث مساحات عرضية مختلفة غير موازية للخط الأفقى للعمل. وجاهد لتحقيق اختلافات تبعدها عن أن تكون متماثلة سواء من ناحية اللون أو فى طريقة معالجة السطوح والعجينة اللونية وذلك بالاختلافات الملحوظة فى اتجاه وحركة لمسات الفرشاة ودرجة الانفعال التى تحركها.
- وفى معالجته التشكيلية للإناء يبالغ فى حجمه وشكل فتحته العليا بدون حرص على مطابقتها للواقع ولقواعد المنظور هذا سعياً لتأكيد شكل بيضاوى يحتاجه فى عملية تشكيل العمل... كذلك عند تصويره لقاعدة الإناء يتجاوز الشكل الواقعى بل يعبر عنه بشكل أقرب للخط المستقيم مما يؤكد الإحساس باستقرار كتلة الإناء.
- وفى اللوحة رقم (3) يميل إلى إقامة الحوار مستخدماً عدداً أكبر من العناصر, فنجد فى منطقة الضوء عنصرين... وتتجمع مجموعة كبيرة تحت سيطرة درجات الأزرق فى منطقة الظل... ويقيم حواره اللونى بين الأبيض والأسود والأزرق ودرجاتها مع تعمد إسقاط الضوء بشكل مسرحى يؤدى أن تكون درجات النور والظل ملخصة للغاية ومركزة وحادة معطية تأثيراً درامياً قوياً، وبجانب ما فى هذا العمل من اختلافات وتنغيمات ثرية فى الخطوط والمساحات يلاحظ ان ذلك النغم الموسيقى الذى يؤديه ذلك الخط المتموج الثري الذي يقسم خلفية اللوحة إلى جزئين الأعلى الأزرق والأسفل الأبيض ما بين الزحام والتكدس فى الظل وما بين الحوار بين عنصرين فى الفراغ والنور، بجانب هذا التنوع الثرى فى إيقاعات توزيع اللون الأسود سواء أكان فى الجزء السفلى للعمل أو ترديداته المتلاحقة الإيقاع فى الجزء الأعلى من اللوحة.
- أما فى اللوحة رقم (4) فإن خطة البحث فى العمل تأخذ شكلاً آخر فهى تلجأ إلى تقديم تكوين يعتمد فى أساسه على عمل علاقة وموازنة بين كتلتين إحداهما كبيرة والأخرى صغيرة وما حولهما من فراغ..
- وقد حقق الفنان تناغما بين الهدوء والانسياب فى شكل الآنية السفلى وبين الإيقاعات القوية المتلاحقة فى الجزء العلوى من اللوحة. وحرص أن يخلق حركة رؤية العين لعناصر العمل ابتداء من حصرها فى الشكل البيضاوى فى أسفل اللوحة حيث استطاعت الإفلات من إساره لتتجه متحركة تتجول فى ذلك المثلث الرمادى أعلى اللوحة تطربها ايقاعات تلك الدوائر المتتالية لفوهات الآنية ثم تتحرك فى اتجاه فوهة الإبريق الأمامى الذى يسلم الرؤية من جديد إلى الشكل البيضاوى... ولتأكيد الأهمية التشكيلية لهذا الإبريق نجد تلك البقع الحمراء الملتهبة التى تميزه وتؤكد كيانه عن غيره من عناصر العمل المستقرة فى جو ضبابى بارد.
-أما فى اللوحة رقم (5) فهو يواصل البحث ذاته ولكن مجموعة الأوانى متجمعة فى شكل جديد يفرض وجوده على الفراغ ويُضاد اللون الأزرق البارد السائد فى كل اللوحة بتلك المساحة الحمراء الساخنة والتى يلون بها واحدة من أوانيه الموضوعة بحساب دقيق بالنسبة لمكانها من اللوحة وتفيد أيضاَ فى خلق مدخل لرؤية العمل.
- والعمل يقدم تجريبا لخلق اتزان ما بين الأزرق والأسود والنور والظل - وموازنة ما بين اللون البارد واللون الساخن رغم الاختلاف فى المساحة التى يشغلها كل منهما كذلك ما بين الأجزاء المشغولة والأجزاء المنبسطة (الفراغ) وتنويع فى الإيقاعات البصرية سواء لأشكال المساحات أو للخطوط ونلحظ عناية خاصة بتنغيمات فى لمسات واتجاهات حركة الفرشاة وهى تنشر عجينة اللون مما يعطى إحساساً بحركة دائبة نشطة.
- أما فى اللوحة رقم (6) فيتعمد أن يعطى ثراء أكبر فى الأشكال الداخلة فى الحوار فى أشكال الأوانى وفى خلق مستويات وتقسيمات وأشكال فى الخلفية فضلاً عن إضافة ألوان جديدة على المجموعة اللونية المستعملة فى الأعمال السابقة.
-أما عن مجموعة أعماله الأخيرة فقد خرج الفنان فاروق بسيونى بخطة بحث جديدة حيث غير عناصره التى يجرى من خلالها حواراته التشكيلية فاستبدل الأوانى بعنصرين ركز عليهما فى بحثه وهى الأراجوز والملك؛ كما لو كان يقصد إضافة بُعد اجتماعى فى مضامين أعماله بجانب بحثه فى التشكيل وهو ما يوحى به الحوار والصراع المتصل ما بين الأراجوز والملك على سطح اللوحة.
-فى هذه المجموعة من الأعمال نلحظ بشكل قوى الاهتمام بعنصر الحركة المندفعة بانطلاقة وحرية وتنوع كما نحس بشكل قوى بتلك الحيوية المحاورة ما بين الأشكال وما يحيط بها من فراغ.
- فى هذه الأعمال تكون عناصره ملخصة غالباً فى أشكال ما بين المثلث والمستطيل والدائرة ولضرورات فى التشكيل يتدخل فى مواصفاتها الهندسية ويكسر أحياناً قوانينها المتعارف عليها ويحرف فيها... وكثيراً ما يلجأ إلى استخدام نفس الشكل مكرراً فى اللوحة ذاتها وبمعالجات مختلفة تنفى عنه صفة التكرار بما فيه من ملل وقد يمازج بين هذه الأشكال مخلقاً لأشكال جديدة.
- وللخط الأسود دور ظاهر فى هذه الأعمال فهو يحدد به عناصر لوحته مدعماً من خلاله بناء الأشكال وهو يأتى بتأثير قوى موحياً بالاندفاع والحركة والانطلاق كما أنه فى صراع متصل ضد الضوء وفى حوار مع الخلفية يكسبه تنغيماً وتوتراً وثراء.
- ويتضح فى هذه المجموعة من الأعمال اهتمام واضح بقيمة الألوان فى تجاورها وما يقوم به من معالجات يعامل بها اللون فى حد ذاته. وألوانه فى هذه الأعمال حية مشرقة يشع الضوء من عمقها متجاوزاً ذلك الإحساس بالحزن الداخلى العميق الذى وجدناه فى أعمال المرحلة السابقة. ورغم ثبات العنصرين المستخدمين فى هذه المجموعة من الأعمال إلا أننا نلحظ التنوع فى معالجتها الشكيلية - حسب متطلبات العمل - من عمل لآخر.
- فى اللوحة رقم (7) ينطلق من شكلين كادا أن يكونا متماثلين سواء فى المساحة أو الصفات البصرية... ويحاول أن يحقق تكويناً ملهماً لا يلحظ فيه ملل التماثل، ويلجأ فى تحقيق ذلك إلى عملية تركيب لهذين الشكلين حيث يتداخل أحدهما خلف الآخر. وكذلك يعمل مخالفة للاتجاه بين الوجهين ويستبدل المثلث الكبير على رأس أحدهما بثلاث مثلثات صغيرة على رأس الآخر - كذلك يعمد إلى تغيير شكل المساحة الحمراء الموجودة على جانب كل منهما... ونجده كذلك يميز أحدهما بمستطيلين يشكلان زاوية أو ذراعاً مثنية تحمل سيفاً مما يقضى على أى ملل أو تماثل فى شكل الأرضية على جانبى الشكل الأساسى. ويرسم دائرة تقاطع المستطيل الأمامى الذى يمثل جسم أحد العنصرين فيخلق هذا التقاطع أشكالاً ومساحات جديدة، تذهب بالبقية الباقية من احتمالات الإحساس بالتماثل أو التكرار.
- وهنا يجب ملاحظة أن الدائرة تصنع مركزاً للالتقاء ببصر الملتقى يتحرك بصره بعدها إلى الكتف ثم إلى الذراع المرفوع الذى يحمل ذلك الخط المنحنى حيث يخلق حركة لعين المشاهد تقوده إلى المثلثات على رأس العنصر الآخر وتسلمه به الخطوط النازلة من جديد إلى الدائرة نقطة الابتداء وتأتى بعد ذلك بقية أجزاء العمل فى رؤية ثانوية.
-أما فى اللوحة رقم (8) فأبرز ما يميزها ذلك الاحساس القوى بتأثير الضوء الساطع الذى يشع من كل أجزاء العمل وتأتى من فوقه الألوان بحساسية ورقة تؤكد رؤية جديدة فى أعمال الفنان حيث نستشعر احساساً متوحداً يسود كل أجزاء العمل ما بين عناصر أساسية أو خلفية مخالفاً ما رأيناه كثيراً فى أعماله من تقسيمات وتحديدات قوية تفصل ما بين الأشكال وما بين الأرضية من حولها. حيث أنه فى هذا العمل يقدم معالجة تشكيلية يمازج فيها بين كل عناصر العمل فى وحدة مترابطة غنية الملامس كما أن النسيج اللونى لسطح العمل كثيف وثرى. كذلك نعايش تلك الشحنة الانفعالية الديناميكية التى تطلقها لمسات الفرشاة المندفعة المتلاحقة السريعة.
- أما فى اللوحة رقم (9) يبدأ عمله باستخدام شكلين متماثلين سواء من ناحية الحجم أو الشكل والاتجاه والثبات فى خلفية العمل. ويسعى لأن يخلق تشويهاً لهذا التماثل الثابت المستقر من خلال شكل ثالث له صفات مغايرة سواء فى اللون أو المساحة أو الحركة يلغى هذا الشكل بما يستحدثه من أشكال مساحات جديدة وبتقاطعه مع عناصر الخلفية أى إحساس بالتماثل أو التكرار - وبمعالجته المتنوعة فى الثلاث مساحات العرضية فى خلفية العمل استطاع أن يضفى على كل منها شخصيتها وحسها المتميز.
- وبعد هذا العرض السريع لبعض أعمال الفنان الباحث الناقد فاروق بسيونى عبر نماذج لثلاث مراحل من إنتاجه لا نستطيع إلا أن نقدر جهده المتأنى المتصل الذى يبذله فى سبيل تحقيق نتائج من خلال قضية تشكيلية يحددها ويحصر نفسه فيها ويحاول أن يكشف أبعادها فى مجموعة من المحاولات والأعمال المختلفة جاهداً لأن يقدم اقتراحات لحلها متنقلاً من قضية لأخرى ومن مرحلة لأخرى بجدية وإصرار.. يسعى من خلالهما أن يحقق مكاناً متميزاً فى حركتنا التشكيلية المعاصرة.
بقلم : سعيد المسيرى
مجلة: إبداع ( العدد 12،11) نوفمبر 1990
|